|
المجتمعات العربية وظاهرة الاغتيال الثقافي
سعيد الكحل
الحوار المتمدن-العدد: 1208 - 2005 / 5 / 25 - 12:05
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
تتميز المجتمعات العربية المعاصرة بكل الصفات السلبية التي ذمها الإسلام وحرض على نبذها . ويهمنا في هذه اللحظة أن نتأمل وضعية الثقافة في مجتمعاتنا العربية ، ومدى الإهمال الرسمي والمقصود لدعم الثقافة وإنتاج وترويج المنتوج الفكري بكل تنوعاته . وتظهر البيانات الرسمية خطورة التقلص الشديد في مجال الصناعة الثقافية . ولنضرب مثلا على ذلك مجال النشر . فعلى امتداد الوطن العربي ، بطاقاته ومقدراته ، لا يتجاوز عدد الإصدارات 19 ألف عنوان في السنة ، بما فيها الكتب المدرسية التي تشكل النسبة العظمى من تلك الإصدارات . وتظهر حقيقة هذا الرقم إذا استحضرنا بعض المعطيات لتسهيل المقارنة . وسيكون مهما للغاية استحضار مثال إسرائيل لطبيعة العلاقة مع هذا الكيان الدخيل على الجسم العربي . فرغم محدودية الموارد البشرية لهذا الكيان ( 7 ملايين نسمة ) ، ورغم انعدام مصادره في الطاقة والثروة الطبيعية ، إذ يعتبر الماء أخطر مشكل يواجهه هذا الكيان ، فإن إسرائيل تنتج ما يقارب مجموع الكتب التي ينتجها العالم العربي . بحيث يصل معدل الإصدارات 17 ألف عنوان سنويا . وفي مقابل الإنتاج الثقافي في إسرائيل ، تسير دولة مصر التي تمثل القلب الثقافي للعالم العربي ، في خط تراجعي عما كانت عليه في عهد جمال عبد الناصر ، أي عهد الصدام والمواجهة بما يتطلبه من إنفاق عسكري يثقل كاهل ميزانية الدولة . إذ لا يتجاوز مجموع إصداراتها 9 آلاف كتاب في السنة في عهد التطبيع . ولا يمثل هذا العدد سوى 30 في المائة من مجموع الإصدارات العربية . مع العلم أن مصر كانت تنتج في عهد جمال عبد الناصر 70 في المائة ، ثم انخفضت هذه النسبة في عهد أنور السادات إلى 50 في المائة . هنا يظهر الفارق بين سياسة إسرائيل التي تعتمد الثقافة رأسمالا وسلاحا وواجهة للصراع ضد " الخطر" العربي ، وبين السياسة الرسمية للدول العربية التي تتجاهل العامل الثقافي وأهميته في تحقيق التنمية والتفوق على الخصم الحضاري . ذلك أن الدول العربية لا تعتمد سياسة استثمار الموارد البشرية وتنميتها . فالعنصر البشري لا يمثل أدنى قيمة في مخططات هذه الدول . وتدل على ذلك مستويات الفقر والتهميش والأمية والأمراض التي تضع دولنا في مؤخرة الترتيب العالمي . في الوقت الذي تتعرض فيه الأموال العمومية لكل أشكال النهب والتبذير دون أن تهتدي حكومات الدول ، النفطية خاصة ، إلى توظيف الفائض على الأقل في دعم الثقافة . وهذا حال العربية السعودية مثلا ، التي لا يزيد عدد سكانها عن 24 مليون نسمة بمن فيهم الخمسة ملايين من المهاجرين . لم تعمل هذه الدولة على توظيف جزء من عائدات النفط في تنمية العنصر البشري . إذ لا زالت الدولة تعتمد على اليد العاملة الأجنبية في إدارة اقتصادها . لقد استوقفتني كثيرا الأرقام التي ذكرها روبير بايير في مؤلفه " ذهب أسود وبيت أبيض" الذي عملت جريدة " الأحداث المغربية" على نشر مضامينه . ومن شأن هذه الأرقام والحقائق أن تشعر القارئ بمرارة الانتماء إلى هذا الواقع الآسن . ومن بين ما ذكره الكتاب أن ربع سكان السعودية وما يفوق ثلث سكانها النشطين هم من الأجانب يعملون في المجمعات البترولية ، وفي برمجة الحواسيب وتسيير مصافي البترول ، بحيث يشغل الأجانب 70 في المائة من المناصب المتوفرة . علما أن نسبة البطالة في السعودية وصلت إلى 26 في المائة . وهي نسبة جد كارثية . ورغم ما كانت تحققه الدولة من فائض مالي ضخم قبل حرب عاصفة الصحراء ، إذ ذكر روبير بايير أن الفائض بلغ في بداية الثمانينات 120 مليار دولار ، إلا أنها لم تفلح في القضاء على الأمية التي ما يزال المجتمع السعودي يعاني منها . كما لم تفلح الدولة في نشر العلم والمعرفة في معظم التخصصات إن لم يكن كلها . لقد أفلحت السعودية للأسف الشديد في أن تتحول إلى منتج للتطرف الديني ومروج له بلا منازع . وكيف لا وثلثا الحاصلين على شهادة الدكتوراه متخصصون في الدراسات الإسلامية بتأطير وإشراف حملة الفكر الوهابي ومؤدلجوه . أما حاملو الدكتوراه في المعلوميات والهندسة ، فوجودهم جد نادر . وهذا ما جعل روبير بايير يلخص المسار التعليمي الذي تنهجه السعودية بقوله ( إن الشباب السعودي يكَون من أجل إدماجه في عالم لن يوجد إلا إذا نجح الجهاديون الوهابيون وحلفاؤهم الإخوان المسلمون في العودة بالبلاد إلى بعض القرون الخوالي . فبينما العالم يسير نحو الانفتاح أكثر فأكثر ، لا يتمكن السعوديون من حل شفرات الأحداث إلا من خلال كوة ضوء ضيقة ، في حال لم تقفل هذه الكوة كليا ) . ذلك هو واقع دولة تملك أكبر احتياطي عالمي في مجال النفط والغاز الطبيعي . كل ثروتها لم تستثمر في بناء الإنسان ، بقدر ما كانت مصدر خنق حرياته وسد آفاق تطلعه وأبعاد انفتاحه على الإنجازات الحضارية والقيم الكونية . حتى أصبح شراء الأسلحة هو الشغل الشاغل للدولة ، إذ تمثل النفقات العسكرية للسعودية ، حسب الأرقام الرسمية ، 13 في المائة من الناتج الخام . علما أن السعودية ليست دولة مواجهة ولا في حالة حرب . خلافا لذلك ، ورغم الوضعية التي توجد عليها إسرائيل ، وحالة الحرب الدائمة التي تشنها ضد دول المنطقة ، فإن النفقات العسكرية لا تزيد عن 9 في المائة من الميزانية العامة لدولة إسرائيل ذات الموارد المحدودة . وما ينطبق على دولة السعودية يسري على كل البلدان العربية التي تحتل ميزانية الثقافة آخر القائمة . الأمر الذي ينعكس مباشرة على المستوى الحضاري والثقافي للإنسان العربي . وتُظهر المعايير الدولية المسافة العميقة التي تفصل مجتمعاتنا عن الانخراط في ثقافة عصرها . ذلك أن هذه المعايير تقتضي أن تتوفر مكتبة عامة بالمواصفات المعروفة عالميا لكل ستة آلاف نسمة . وبناء عليه سيكون من المفروض في مصر مثلا التي تعد " أم الدنيا" ، أن تتوفر على ما لا يقل عن عشرين ألف مكتبة . في حين أنها ـ مصر ـ تتوفر بالكاد على خمسين مكتبة وفق المعايير الدولية . أكيد أن أمر البؤس الثقافي الذي تعم بلواه عالمنا العربي ، يعود أساسا إلى طبيعة السياسات الحكومية المتبعة ، والتي تستبعد من دائرة اهتمامها نشر الثقافة ودعم بنياتها . وهذا ما أكده السيد عمرو موسى الأمين العام لجامعة الدول العربية في الجلسة الأولى للمؤتمر الثاني لمؤسسة الفكر العربي ، المنعقد بلبنان في الأسبوع الأول من دجنبر 2003 ، لما أحاط الحاضرين علما بالاتفاق مع معهد فرانكفورت ليكون الكتاب العربي ضيفا على المعهد ، مما يفتح المجال لعرض الإنتاج الثقافي العربي طيلة السنة ، والتعريف بالثقافة العربية . ولإنجاز هذا النشاط الثقافي على الجامعة العربية أن توفر مبلغ ثلاثة ملايين دولار . ولما عرض المشروع على الدول العربية وافقت عليه ولم تلتزم بتسديد حصصها سوى أربعة دول . وبسبب هذا البخل الثقافي ، تفتقر دولنا إلى المراكز ومعاهد الدراسات المتخصصة ، رغم الحاجة الملحة إليها ، ورغم الإمكانيات المادية المتوفرة . إذ لا تمثل المراكز الموجودة في الدول العربية مجتمعة سوى نسبة الخمس ( 5/1 ) مما تتوفر عليه إسرائيل . إنها مفارقة صارخة تعيشها مجتمعاتنا ودولنا . وتظهر هذه المفارقة على مستويين هما : أ / المستوى الدولتي : وهو الذي أثاره الشاعر الفلسطيني سميح القاسم في حوار مع جريدة " القاهرة" أعادت نشره جريدة " الأحداث المغربية" يوم 19 أكتوبر 2003 ، بقوله : ( أقول بصراحة إن الإسرائيليين أشطر منا في التعامل مع الثقافة والأدب ، فقد أنجزوا أطروحات جامعية في الدكتوراه عن قصص " يوسف إدريس" و " طه حسين" وغيرهما كما ترجموا نماذج لا تحصى من الأدب العربي .. هم لديهم معاهد ومراكز دراسات متخصصة ويعرفون تفاصيل الحياة في الأردن والسودان وكل الدول العربية ، ويعرفون الكتاب ونتاجهم .. وهناك أيضا منح تفرغ تعطى للكتَّاب [ في إسرائيل ] قيمتها 14 ألف دولار لكل كاتب لمدة سنة ، وهو تفرغ غير مشروط .. أعترف بالحقيقة وهي أنهم أكثر ذكاء منا في التعامل مع الصراع الثقافي ، فوزارة الثقافة الإسرائيلية تترجم الأدب العبري إلى جميع لغات العالم ، ولكن ما الذي تفعله جامعة الدول العربية من أجل نشر الأدب العربي ونشره مثلا ) . إن المقارنة مع إسرائيل يتوخى منها الوقوف عند حجم الكارثة التي تقودنا إليها سياسات دولنا بإمكانياتها الهائلة وإنتاجها الثقافي الهزيل ، في مقابل إسرائيل التي تقلنا إمكانات وطاقات وتفوقنا وتتفوق علينا في كل المجالات ، وأخطرها مجال الصناعة الثقافية . ب / المستوى الديني : الذي تجسده إرادة الله تعالى التي جعلت فعل القراءة مضمون أول آية قرآنية نزلت على نبي هذه الأمة محمد (ص) في قوله تعالى ( اقرأ باسم ربك الذي خلق ) . كما جعلت طلب العلم والمعرفة فريضة على كل مسلم ومسلمة ، كما جاء في الحديث النبوي الشريف ، بل اختص الله تعالى عباده العلماء بمنزلة وحظوة جزاء لهم كما في قوله تعالى ( يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ) المجادلة : 11 ، وقوله تعالى ( قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ) الزمر : 9 . إن واقعنا يشهد أن أمة " اقرأ" التي جعلها الله خير أمة أخرجت للناس ، لم تعد تقرأ ، بل تصر على اغتيال القراءة والتحريض ضدها بكل الأساليب ، أدناها نشر الأمية والجهل عبر حرمان فئات واسعة من الأطفال من حقهم في التمدرس ، وخاصة فئة الإناث ، وأخطرها التخطيط الممنهج لمحاصرة الفكر وخنق حرية التفكير والتعبير عبر محاكمة المفكرين ومصادرة ومنع أعمالهم الفكرية والأدبية والفنية . الأمر الذي يحرض أعداء الفكر والحرية على إصدار فتاوى التكفير ومن ثم شرعنة القتل والاغتيال . إنه توجه عام يطبع كل المجتمعات العربية ، وإن كان يخص دولة مصر التي حولت مؤسسة القضاء إلى محكمة تفتيش الضمائر بتحريض وتزكية من مؤسسة الأزهر . لقد كتب على الفكر أن يظل طريدا بين الاغتيال والمصادرة منذ عصور الانحطاط إلى يومنا هذا . ولم تدرك مجتمعاتنا أن خلاصها وتحررها من خلاص الفكر وتحرره . إن وضعية الاغتيال الثقافي أنتجت ظاهرة خطيرة تتمثل في انخفاض المستوى الحضاري لدى غالبية المواطنين ، وخاصة منهم ذوي الدخول المتوسطة والمرتفعة . ويؤشر على ذلك الغياب التام للمكتبات المنزلية ، إذ لم يعد المواطن العربي يشعر بالحاجة إلى الغذاء الفكري قدر شعوره بالحاجة إلى المقتنيات الكمالية والترفيهية . وفي هذا الصدد تظهر الإحصائيات الرسمية مثلا في مصر أن دور السينما تحقق في فصل الصيف مداخيل هامة تبلغ 65 مليون جنيه مصري في الصيف الواحد ، أما في الأعياد فتحقق 16 مليون جنيه . بينما الكتاب لا يحقق هذا الرقم على مدار السنة . لهذا السبب ـ انخفاض المستوى الحضاري ـ لجأ معظم الكتبيين إلى إغلاق مكتباتهم والتعاطي لأنشطة أخرى . وللسبب ذاته يعيش معظم المثقفين أوضاعا اجتماعية صعبة تعجزهم حتى عن مواجهة متطلبات الحياة البسيطة .
#سعيد_الكحل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الأزمة السياسية في إيران تؤكد أن الديمقراطية لا تكون إلا كون
...
-
عبد الكبير العلوي المدغري والشرخ الغائر بين الروائي المتحرر
...
-
الإرهاب يتقوى وخطره يزداد
-
منتدى المستقبل- أو الغريب الذي تحالف ضده أبناء العم
-
العنف لدى الجماعات الإسلامية بين الشرعنة والإدانة 2
-
العنف لدى الجماعات الإسلامية بين الشرعنة والإدانة -1
-
الإرهاب إن لم يكن له وطن فله دين
-
هل أدركت السعودية أن وضعية المرأة تحكمها الأعراف والتقاليد و
...
-
عمر خالد وخلفيات الانتقال بالمرأة من صانعة الفتنة إلى صانعة
...
-
هل السعودية جادة في أن تصير مقبرة للإرهابيين بعد أن كانت حاض
...
-
ليس في الإسلام ما يحرم على المرأة إمامة المصلين رجالا ونساء
-
العلمانية في الوطن العربي
-
حزب العدالة والتنمية المغربي مواقفه وقناعاته تناقض شعاراته
-
ليس في الإسلام ما يحرم على المرأة المشي في الجنازة
-
الإسلاميون يصرون على بدْوَنة الإسلام ومناهضة الحداثة - 3
-
الإسلاميون يصرون على َبـْدوَنَـة الإسلام ومناهضة الحداثة - 2
-
الإسلاميون يصرون على بَدْوَنَة الإسلام ومناهضة الحداثة
-
الإسلاميون والدولة الديمقراطية
-
السعودية بين مطالب الإصلاحيين ومخالب الإرهابيين
-
ليس في الإسلام ما يحرم ولاية المرأة
المزيد.....
-
فيديو يكشف ما عُثر عليه بداخل صاروخ روسي جديد استهدف أوكراني
...
-
إلى ما يُشير اشتداد الصراع بين حزب الله وإسرائيل؟ شاهد ما كش
...
-
تركيا.. عاصفة قوية تضرب ولايات هاطاي وكهرمان مرعش ومرسين وأن
...
-
الجيش الاسرائيلي: الفرقة 36 داهمت أكثر من 150 هدفا في جنوب ل
...
-
تحطم طائرة شحن تابعة لشركة DHL في ليتوانيا (فيديو+صورة)
-
بـ99 دولارا.. ترامب يطرح للبيع رؤيته لإنقاذ أمريكا
-
تفاصيل اقتحام شاب سوري معسكرا اسرائيليا في -ليلة الطائرات ال
...
-
-التايمز-: مرسوم مرتقب من ترامب يتعلق بمصير الجنود المتحولين
...
-
مباشر - لبنان: تعليق الدراسة الحضورية في بيروت وضواحيها بسبب
...
-
كاتس.. -بوق- نتنياهو وأداته الحادة
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|