|
الجريمة والعقال 4 - العصا لمن عصى
سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي
(Saoud Salem)
الحوار المتمدن-العدد: 4228 - 2013 / 9 / 27 - 13:20
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
بعد هذا الوصف السريع لكل هذا العنف والمجازر والدماء والرؤوس التي تتطاير والجثث المتناثرة في شوارع العالم أو المكومة في المقابر الجماعية، لابد من القول، حتى لا يسيء فهمنا بعض القراء، بأن القتل والإغتيال والعنف عموما هي ظواهر ثقافية مكتسبة من المجتمع ومن الإختيارات الشخصية لكل فرد ولكل جماعة، وليست "طبيعة" أو "فطرة" إنسانية تتوارثها الأجيال. إنها إختيارات مؤقتة تمليها الظروف والمصالح السياسية والإقتصادية لكل فرد. ولا يجب أن ننسى أن البشر الذين يلجأون إلى القتل هم قلة قليلة قد لا تتجاوز الواحد في المئة من مجموع سكان الكرة الأرضية بما في ذلك القتلة المحترفين كالجيوش والفرق العسكرية بكل أطيافها. وذلك يعني أننا نتعلم القتل والعنف ونتدرب عليه تدريجيا حتى يكاد يصبح طبيعيا. ولا شك أن أحد الأسباب الرئيسية في تعود الإنسان على العنف يرجع بكل تأكيد للمجتمع ذاته والطريقة التي يمارسها في التربية وفي تشكيل سلوك المواطن. فسياسة "العصا لمن عصى" التي نمارسها في مجتمعاتنا المتخلفة، هي ذاتها سياسة التوراة والأديان السماوية " السن بالسن والعين بالعين"، بمعنى "العقاب" لمن انحرف عن الصراط المستقيم، وما أدراك ما هو الصراط المستقيم؟ إنه الصراط الذي رسمه أصحاب الجاه والسلطة وأولياء الأمور الذين يعرفون ما يصلح للآخرين أكثر من الآخرين أنفسهم .. إن معاقبة الطفل بالضرب أو بحرمانه من قطعة الحلوى هي الخطوة الأولى في رحلة العنف والإرهاب التي توصلنا في نهاية المطاف إلى مملكة الجماجم و الجزيرة المحاطة ببحار من الدماء. فالعقاب الذي يمارسه البعض كوسيلة عامة للتوجيه وفبركة الإنسان المستقيم اثر ظهور سلوك غير مرغوب لتقليل احتمال حدوث السلوك في المستقبل في المواقف المماثلة، هي سياسة تقود مباشرة إلى هاوية العنف، وتعتبر الحجر الأساسي لبناء عقلية مرتبكة قائمة على الخوف من الآخر ومن السلطة ومن الذات. بالإضافة إلى عدم فعالية هذه السياسة التقويمية حيث يؤدي العقاب عادة إلى تنمية إستراتيجيات متعددة لتجنب العقاب مثل الكذب والخداع وغيرها من حيل التجنب والهروب. ويؤدي العقاب كذلك إلى خمود وضمور عام في سلوكيات المعاقب عموما وتنمي فيه ظاهرة السلبية وعدم الإهتمام وينتقل إنتفاءالسلوك غير المرغوب وإختفاءه إلى إختفاء النشاط السلوكي عموما وغياب روح المبادرة التي هي مفتاح العلاقات الإجتماعية، بالإضافة إلى أن نتائج العقاب تكون مؤقتة ووهمية وغير مضمونة النتائج ولذلك يجب مواصلة العقاب مرة وثانية وثالثة .. إلى ما لا نهاية. ورغم تطور المجتمعات الحديثة والتقدم العلمي الهائل، إلا أن فكرة العقاب ما تزال متعمقة ومتجذرة في المجتمع "فلم تعد العقوبة لدى المدارس العقابية الحديثة مجرّد وسيلة انتقام أو تكفير، بل أصبحت أداة اجتماعية، لتحقيق أمن المجتمع واستقراره والمحافظة على نظمه السياسية، ودفاعاً عن قيمه المعنوية. بالإضافة إلى إصلاح، وتأهيل الجاني، أو المنحرف عن النظم القانونية والاجتماعية لإعادته إلى المجتمع فرداً صالحاً ومنسجماً مع متطلبات المواطنة كما يحددها القانون". ولا بد هنا من التأكيد على أن العقاب في حد ذاته هو نتيجة لفكرة أخرى أكثر خطورة وأكثر ضراوة، وهي فكرة "الإنحراف" و"الشذوذ" عن القيم والمباديء الإجتماعية المتعارف عليها. ولذلك تتكاثف جميع مؤسسات المجتمع بداية من الأسرة والمدرسة والمسجد وأجهزة الإعلام المختلفة وكل مؤسسات الدولة لتلقين المواطن هذه المباديء وحقنها في عروقه ليل نهار ليصبح فرداً صالحاً ومنسجماً مع متطلبات المواطنة كما يحددها المجتمع والقانون، و"العقاب" هو الوصفة السحرية المستوحاة من الخرافات الدينية القادرة على تقويم كل إعوجاج أو إنحراف عن الخط المستقيم. ويشترك في هذه المهزلة العديد من المؤسسات العلمية ومراكز البحوث النفسية والإجتماعية التي لا تكف عن توليد النظريات والتجارب المختلفة لإيجاد أحسن وأنسب وسيلة لخلق الإنسان المعتدل والمناسب للقالب الفكري والإجتماعي والسلوكي الجاهز منذ عدة قرون والذي لا يخالف ولا ينحرف قيد شعرة عما تعود عليه الآباء والأجداد. فهم يعتقدون بأن الإنسان مثل حيوان السيرك يمكن ترويضه وتدريبه ليقفز من خلال العجلة النارية الملتهبة متى شاء المدرب، ويقف على قدمين أو يتمرغ في تراب الحلبة متى سمع طرقعة السوط. والمقولة الأخرى التي يستند عليها مروجوا فكرة العقاب هي هذه "القيم المعنوية والنظم القانونية والاجتماعية" التي لا يجب الإنحراف عنها أو نسيانها. وهذه القيم المعنوية والأخلاقية هي منظومات فكرية وأخلاقية وقانونية، تتطور وتتغير من زمن لآخر في المجتمعات "المفتوحة" والقابلة لمثل هذه التحولات التي يمليها تطور البنية الإقتصادية والفكرية والثقافية للمجتمع. كما تم أخيرا في فرنسا وفي بعض المجتمعات الأوربية قبلها بقبول فكرة المثلية الجنسية قبولا كاملا، وأصبح للمثليين الحق في الزواج مثل غيرهم من المواطنين والمواطنات، رغم وجود شريحة واسعة من المواطنين المتديينين وذوي الأفكار الرجعية الذين وقفوا ضد هذه الحقوق، مدافعين عن قيم توراتية من زمن آخر. بينما في المجتمعات "المغلقة" أي المجتمعات الدينية، فإن عدم التغيير والدوام والإستمرار في اجترار قيم السالفين وتقليدهم حتى في اللباس وحلاقة اللحية، هو الأساس الذي قامت عليه هذه الأديان، وبالتالي استحالة تغيير قيم ومباديء هذه المجتمعات، لأنها قيم إلهيه ثابثة ومثبتة في النصوص الإلهية التي لاتتغير ولا تتبدل حتى يوم القيامة، إلا بالخروج من دائرة الله وفصل الدين فصلا نهائيا وكاملا عن الحياة الإجتماعية والسياسية.
#سعود_سالم (هاشتاغ)
Saoud_Salem#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الجريمة والعقال 3- الإسلام .. رسالة ملغمة
-
الجريمة والعقال 2- البحث عن الجنة
-
الجريمة والعقال 1- الحشاشون
-
الإنسان حيوان قاتل 11 - ماكبث .. القاتل والمقتول
-
الإنسان حيوان قاتل 10 - لماذا لا يحدث إنقلاب عسكري في أمريكا
...
-
الإنسان حيوان قاتل 9 - المظلة البلغارية
-
الإنسان حيوان قاتل 8 - أسطورة اوزيريس
-
الإنسان حيوان قاتل 7 - القاتل بالجملة
-
الإنسان حيوان قاتل 6 - القتلة الجياع
-
الإنسان حيوان قاتل 5 - السن بالسن والرقبة بالرقبة
-
الإنسان حيوان قاتل 4 - لاتغضب بدلا من لا تقتل
-
الإنسان حيوان قاتل 3- دمشق .. مسرح الجريمة
-
الإنسان حيوان قاتل .. 2 - الجثة رقم 1
-
الإنسان حيوان قاتل 1 - الغاية والوسيلة
-
توكل على الله والدولة
-
ملل ..
-
ليبيا .. في إنتظار الكارثة
-
خرائب الوعي .. 26 - تحت ظل الشجرة
-
الفقر عدو الوطن ..
-
الجهل
المزيد.....
-
فوضى في كوريا الجنوبية بعد فرض الأحكام العرفية.. ومراسل CNN
...
-
فرض الأحكام العرفية في كوريا الجنوبية.. من هو يون سوك يول صا
...
-
لقطات مثيرة لاطلاق صاروخ -أونيكس- من ساحل البحر الأبيض المتو
...
-
المينا الهندي: الطائر الرومنسي الشرير، يهدد الجزائر ولبنان و
...
-
الشرطة تشتبك مع المحتجين عقب الإعلان عن فرض الأحكام العرفية
...
-
أمريكا تدعم بحثا يكشف عن ترحيل روسيا للأطفال الأوكرانيين قسر
...
-
-هي الدنيا سايبة-؟.. مسلسل تلفزيوني يتناول قصة نيرة أشرف الت
...
-
رئيس كوريا الجنوبية يفرض الأحكام العرفية: -سأقضي على القوى ا
...
-
يوتيوبر عربي ينهي حياته -شنقا- في الأردن
-
نائب أمين عام الجامعة العربية يلتقي بمسؤولين رفيعي المستوى ف
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|