|
النقد العلمى لأسطورة هيكل
طلعت رضوان
الحوار المتمدن-العدد: 4228 - 2013 / 9 / 27 - 12:12
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
قبل أنْ يُصدر هيكل كتابه (خريف الغضب) نشره على حلقات فى صحيفة الوطن الكويتية. ولأنّ المفكر الراحل د. فؤاد زكريا كان يربط إهتمامه بالفلسفة بالواقع السياسى ، ويرى أنّ أى مبدع يجب أنْ يهتم بقضايا شعبه ، وبالتالى لا يعزل السياسة عن انتاجه الفكرى أو الأدبى أو العلمى . لذا انتظر حتى انتهتْ سلسة مقالات هيكل ، فكتب عشرة مقالات نشرها فى صحيفتىْ الوطن الكويتية والرأى الأردنية ردّ فيها على مقالات هيكل. ورغم أنّ (الوطن الكويتية) نشرتْ مقالاته ، فإنّ تعقيباتها كانت معارضة لأفكاره ومنحازة لهيكل بسبب نفوذه على أغلب الصحف العربية. لأنّ الأفكار التى طرحها د. زكريا زلزلتْ الكثير من المعانى والسياسات الراسخة فى عقولهم. ووصل الأمر لدرجة حذف الجزء الأساسى من المقال التاسع وعنوانه (عمنا سام) الذى تناول فيه علاقة هيكل بأمريكا ، فكان تعليق د. زكريا ((المُضحك المُبكى فى عملية الحذف هو أنّ الجزء المحذوف كان فى معظمه اقتباسًا طويلا من كتاب سابق لهيكل نفسه. وهو اقتباس يستطيع القارىء أنْ يستنتج منه بسهولة أنّ أمريكا تتوقع من هذا الصحفى الكبير أنْ يُلبى لها طلبات غير عادية لا هدف لها سوى المصالح الأمريكية الخاصة. ولم أكن فى هذا الجزء إلاّ ناقلا لكلام هيكل ذاته ، مع بعض التعليقات البسيطة. ومع ذلك فإنّ الصحيفة الناشرة كانت تخشى على هيكل من هيكل نفسه. فأدى بها حرصها على أرضائه إلى الامتناع عن نشر كلماته ذاتها)) (كم عمر الغضب؟ هيكل وأزمة العقل العربى- مطبوعات القاهرة- عام 84- ص 6) وهذا المثال أثبتَ أنّ المشكلة ليست مشكلة هيكل ، وإنما هى مشكلة ((التضاد بين هيكل والقوى التى وقفتْ تحتج وتعرض عليه. كما أنها أوسع وأخطر، فقد تشوّهتْ أشياء كثيرة فى عقولنا بفعل فترة القمع الطويلة التى لم تسمح لفكرنا بأنْ ينمو ويتطور بحرية ، نتيجة العقلية الشمولية فى النصف الثانى من القرن العشرين. فى تلك الفترة سادتْ ظاهرة مؤسفة فى حياتنا السياسية : فيكفى أنْ يكون المرء قد احتلّ يومًا ما موقعًا فى الاتحاد الاشتراكى أو منظمة الشباب أو التنظيم الطليعى ، حتى يهب لمهاجمة كل من يتصدى بالنقد لممارسات (ثورة) يوليو، وكأنّ هذا الناقد يُوجّه هجومًا شخصيًا يتعيّن أنْ يُرد عليه بهجوم مضاد . وهكذا اعتقد الناصريون أننى لم أقصد سوى عبد الناصر. وأغمضوا عيونهم عن جميع الشواهد القاطعة التى تدل على أننى تصديتُ لأسلوب فى الحكم لا لأشخاص . وكان الوجه الآخر لهذه الرؤية الضيقة هو تصدى بعض الناصريين للدفاع عن هيكل بوصفه رمزًا للناصرية ، ناسين تمامًا تلك المعركة التى خاضها (هيكل) بكل ضراوة جنبًا إلى جنب مع السادات. عام 71ضد الكتلة الرئيسية من الناصريين الذين أطلق عليهم تعبير (مراكز القوى) وتلك الخلافات الحادة التى نشبتْ بين هيكل وبين أشد العناصر الناصرية اخلاصًا لمبادئها. وذلك الدور الحاسم الذى لعبه هيكل فى سنوات السادات الأولى من أجل تهيئة عقول الناس للتحول الحاسم الذى كان يُخطط له من أجل هدم دعائم أساسية للناصرية)) (ص 9) يرى د. زكريا أنّ استقطاب الجماهير بين ناصريين وساداتيين ما هو الاّ مظهر خطير لضيق الأفق السياسى للاختيار بين عهديْن مع تجاهل لظلال الشك التى تشمل العهديْن معًا. فهيكل تحدّث عن الاختلاف بين الاتجاهات السياسية عند السادات وعبد الناصر، ولكنه أغفل الحديث عن أسلوب الحكم فى كلا العهديْن ، وفى هذا الجانب يُعد السادات امتدادًا لمنهج فى الحكم أرستْ قواعده (ثورة) يوليو. وهو أنّ جوهر الأسلوب واحد من البداية إلى النهاية ، أى الحكم الفردى الذى يؤمن بحقيقة واحدة هى ما يُعبّر عنه الحاكم ويقمع كل ما عداها.. ومجمل القول أنّ هيكل كان على حق عندما كشف العيوب الخطيرة لنظام السادات ، ولكنه كان مقصرًا تقصيرًا مخلا حين عزل هذا النظام عن سياقه. ولم ينظر إليه على أنه جزء من ظاهرة أوسع منه بكثير. أما الخطأ الرئيسى الثانى الذى اتسم به موقف هيكل ، فهو أنه استثنى نفسه تمامًا من اللوم وصبّ إتهاماته على الغير. وكأنه كان طوال الوقت مشاهدًا محايدًا أو ناصحًا أمينـًا . ولقد بحثتُ طوال الصفحات التى قاربتْ الستمائة فى كتاب هيكل عن سطر واحد من النقد الذاتى فلم أجد. وكل من عايش هذه الفترة ولم يفقد ذاكرته يعلم أنّ هيكل كان جزءًا لا يتجزأ من معظم الأخطاء التى يعيبها على السادات)) وكشف هيكل عن نفسه عندما قال أنه لم يكن يتصوّر أنّ السادات سيعتقله. فلماذا تصوّر هيكل ذلك ؟ لثقته فى سلاحه الجبار: الأرشيف . لقد كان هذا السلاح منذ البداية نتاجًا لظاهرة الحكم الفردى الذى ازدهر هيكل فى ظلها. فمن خلال صلته بعبد الناصر، كانت الأسرار والوثائق الخطيرة تأتيه لوحده دون غيره ، كنتيجة لانعدام الديمقراطية. لقد سخر هيكل من الضباط الذين قلبوا بيته وقت اعتقاله. بحثـًا عن أوراقه السياسية. مؤكدًا لهم أنّ الرئيس نفسه يعلم أنّ هيكل لا يحتفظ بشىء من أوراقه فى بيته. وأنه يُسلها أولا بأول إلى خارج البلاد ((وكلما أمعنتُ الفكر فى هذه الظاهرة بدا لى أنها أعقد من امكانات أى فرد. بل من امكانات أى جهاز فى دولة متخلفة. وخيل إلىّ أننا هنا على مستوى أجهزة المخابرات فى الدول الكبرى)) (ص 18) وهكذا فإنّ هيكل عندما وجد نفسه معتقلا ، والسادات تجاوز الحدود معه ، سلط عليه أرشيفه الجبار. وحقق لنفسه انتقامه الشخصى من حاكم كان بيته بالفعل من زجاج . وكان متهورًا عندما اختار هيكل ليرميه بالحجارة. ولكن سلاح الأرشيف الذى استخدمه هيكل استخدمه غيره ليُصيب هيكل فى مقتل. فقد تجاسر أ. محمد على أبو طالب فكتب مقالا فى صحيفة الأخبار(30/4/83) بعنوان (إنى أتهم) قال فيه ((إنّ تاريخ الأستاذ محمد حسنين هيكل صفحة سوداء فى تاريخ مصر. لقد إتهمه الرئيس محمد نجيب بالخيانة لحساب دولة أجنبية. وكتب ذلك فى كتابه (كلمتى للتاريخ) وقال عنه مايلز كوبلاند فى كتابه (بغير عباءة أو خنجر) بأنه كان عميلا مخلصًا. وأكد ذلك خروشوف وذكر له قيمة المبالغ والشيكات التى تسلمها من وكالة المخابرات الأمريكية. وذلك عندما سافر سيده (عبدالناصر) إلى روسيا واصطحبه معه. فلما واجهه خروشوف بهذه الفضيحة اضطر أنْ يسافر فى اليوم التالى عائدًا إلى مصر(ص 18، 19) وكان من بين المُدافعين عن السادات الكاتب اليسارى عبدالرحمن الشرقاوى الذى كتب ((لقد اغتالوا حياته فى 6 أكتوبر. وفى 25 إبريل عيد انتصاره يُحاولون اغتيال سُمعته. إنّ ما كتبه هيكل ليس تحليلا إنما هو التشهير بعينه. هو الاعتداء على حرمة رئيس مات وعلى سُمعة وطن بأسره)) (أهرام 27/4/83) وهكذا دمج الكاتب اليسارى شخص الرئيس فى (الوطن) فيكون الرئيس هو الوطن والوطن هو الرئيس. ويكتب أحد الأطباء فى صحيفة الأخبار(26/4/83) أنّ ((السادات حين أعلن عداءه للشيوعية إنما اتخذ موقف الصدق مع شعبه)) ولم يخجل ذلك الطبيب المشهور من أنْ ينسب اللوعة والحزن إلى المصريين جميعًا فى جنازة السادات التى شهد الأمريكان أنفسهم بأنها قوبلتْ من الشعب المصرى بعدم اكتراث كامل. ويدخل موسى صبرى المعركة بسلاح التضليل الذى حاول به ترسيخ نوع من الفساد الثقافى عندما روّج لمقولة أنه لا يجوز نقد الشخصية العامة (خاصة رئيس الدولة) بعد وفاته بحجة (حرمة الموت والموتى) و(نبش القبور) و(انتهاك الحرمات) (الأخبار19/4/83) وهو ذات الاتجاه الذى سلكه بيان نقابة الصحفيين تعقيبًا على كتاب هيكل ((إنّ ما نـُشر يُعد اعتداءً على حرمة الموتى وتعرضًا لحياتهم الخاصة ومخالفـًا لتقاليد المجتمع الدينية والأخلاقية)) وكان هيكل على حق عندما ردّ عليهم قائلا إنّ هذا الاتجاه الذى يمنع نقد الشخصية العامة يُرسّخ لشىء خطير، وبالتالى ((فالنقد أثناء الحياة ممنوع وبعد الموت عيب وحرام)) ولكن الكارثة أنّ هيكل نفسه استخدم نفس السلاح. وانتقد بشدة من يُهاجمون الحكام بعد موتهم. فنشر مقالا فى جريدة الوطن الكويتية (3/10/79) إتهم فيه ((من ينقدون الأموات بالجـُبن لأنهم لم يُمارسوا شجاعتهم إلاّ على الغائبين. ما أكثر الشجاعة هذه الأيام على الغائبين . الفئران كلها تـُعربد فى غياب القطط ، ولم يكن عبدالناصر قطـًا وإنما كان أسدًا)) وهكذا يرى هيكل أنّ نقد الحاكم بعد موته عربدة فئران فى غياب القطط ، ثم إذا به بعد أعوام قليلة مارس شجاعته على حاكم غائب. والمفارقة الساخرة أنّ هيكل قال بعد ذلك هل من المعقول ((أنْ يفعل الحاكم ما يشاء فلا نناقشه فى حياته ولا بعد موته؟)) فى الموقف الأول كان الدافع اختلاف هيكل مع توفيق الحكيم بسبب كتابه (عودة الوعى) الذى انتقد فيه عبدالناصر، وبالتالى فإنّ نقد الأموات جُبن . ولكن عندما يكون الهجوم على السادات تغير موقفه. ولذا فإنّ هيكل وخصومه يقفون على أرضية واحدة. ويؤمنون بالأفكار الباطلة التى تـُركز على نزعة أخلاقية زائفة تـُخاطب عواطف الناس لا عقولهم . لأنها تخلط بين الموت من حيث هو قدر يُصيب الإنسان ، وبين التقييم السياسى من حيث هو ممارسة لا صلة لها بالموتى أو الأحياء . ولذا فإنّ هيكل وخصومه فى الضحالة الفكرية سواء. وكلهم نشأوا فى مناخ سياسى لا يسمح بالموضوعية. وإذا قال هيكل أنه نقد السادات فى حياته فهل كان يستطيع أنْ يكتب أثناء حياته عن (ست البرين) وعن (المجعراتى المتسول) وعن (كأس الفودكا الذى يؤخذ بعد كل غداء) وما قيمة التعرض للأصل المتواضع لأسرة السادات ثم أغرق نفسه فى البذخ بصورة مبتذلة ؟ ولماذا لم تؤد عقدة الفقر بهوشى منه أو لومومبا مثلا إلى اختيار حياة القصور؟ ألم يكن عبدالناصر نفسه فقيرًا. لقد فسّر ضحايا التأميمات والمصادرة تفسيرًا يوازى تفسير هيكل لسلوك السادات ، فذكروا أنها تعبير عن حقد عبد الناصر على الأغنياء بسبب أصوله الفقيرة. وهذا التفسير ممكن أنْ يُستخدم ضد هيكل نفسه. وقد أشار موسى صبرى بوضوح مقزز إلى أصول هيكل العائلية. وألمح إلى ما يُسميه ((خوفه من أنْ يظهر أبوه فى الأماكن العامة)) وأنّ فتحى غانم فى روايته (الرجل الذى فقد ظله) كتب عن شخصية من شخصيات الرواية رأى كثير من النقاد أنها كانت تعبيرًا عن شخصية هيكل. كان هيكل من بداية عمله الصحفى منتسبًا إلى مدرسة أخبار اليوم وهى مدرسة لها سمات خاصة أهمها الولاء للقصر. وتأييد أحزاب الأقلية ضد حزب الوفد ، حزب الأغلبية. وكانت أخبار اليوم قد أنشئتْ لتلطيخ سمعة الوفد. ومن الإنصاف أنّ كتاب (خريف الغضب) تضمّن تعبيرات كثيرة تحمل فى طياتها اعترافـًا بالدور الوطنى الذى قام به حزب الوفد. ولكن ضباط يوليو وضعوا كل الأحزاب فى سلة واحدة وكأنها (كلها) خانتْ وفشلتْ وتنكرتْ للحركة الوطنية. ثم الترويج لتلك الأسطورة التى لم يكن لها أى أساس من الواقع أو التاريخ. إنها أسطورة ((لم تكن هناك فائدة تـُرجى من أنْ يأتى التغيير من حزب سياسى)) تلك الأسطورة التى تـُريد أنْ تـُسدل ستارًا من النسيان على تجربة ديمقراطية عظيمة ، كانت تـُبشر بتطورات وتصحيحات هائلة لمسارها ، لو كـُتب لها البقاء بعد إزاحة العقبات التى كانت تـُعرقل مسيرتها)) ولأنّ هيكل مع الشمولية المُتمثلة فى (الحزب الواحد الأوحد) لذا قدّم التبريرات لمجموعة من الإجراءات التى أدّتْ إلى القضاء على التجربة الحزبية فى مصر، لتكريس شرعية النظام القبلى أو الدينى لتثبيت دعائم الدكتاتورية. لقد كانت فى مصر- قبل يوليو52- شرعية دستورية قائمة بالفعل. وكانت تـُكافح ببطولة من أجل تطهير نفسها من القوى المُعادية للدستور. وليس صحيحًا أنّ حركة الجيش كانت محاولة للانتقال من شرعية تقليدية إلى شرعية دستورية. بل إنّ العكس هو الصحيح إذْ كانت الحركة فى أساسها انتقالا من تجربة ناضجة فى الشرعية الدستورية إلى نمط فى الحكم لا يكترث بمعنى الشرعية. ولا يعترف بالدستور إلاّ على الورق . وبهذا التضليل تم تبرير كافة الإجراءات التى اتخذها الضباط من أجل التضييق على الأحزاب ، وكان المقصود بها واقعيًا حزب الوفد وحده. هكذا فعل هيكل وغيره من منظرى الحكم التسلطى اللا ديمقراطى. بعقل الفيلسوف طرح د. زكريا عدة أسئلة : لماذا كان عبد الناصر الوحيد الذى وافق على انضمام السادات لحركة الجيش رغم اعتراض جميع أعضاء التنظيم ؟ ولماذا أصرّ على بقائه بعد يوليو52 بعد أنْ تجدّدتْ شكوك الضباط حوله. ولماذا كان عبد الناصر الوحيد الذى يحميه ؟ فما هو سر الرفض من جميع ضباط الحركة وسر تمسك عبد الناصر به ؟ ولماذا لم يُقدّم هيكل أى تفسير مقنع لهذا السر؟ فهل كان يخفى شيئـًا أم يستخف بقدرة القارىء على الشك والتساؤل ؟ أم يؤمن بحق عبد الناصر أنْ يفعل ما يشاء بغير حساب ؟ ولماذا قرّر عبد الناصر أنْ يعيّن السادات (بالذات) ليكون نائبًا لرئيس الجمهورية ؟ لماذا تجاهل هيكل تحليل ذاك القرار الذى أدى إلى زيارة القدس والصلح والتطبيع والانفتاح ونهب مصر، ووصاية البنوك الدولية والأمريكية على اقتصادنا. يتجاهل هيكل كل ذلك ويحكى فى صفحة ونصف عن عبد الناصر الذى ((أجلسنى بجانبه كما كان يفعل دائمًا) ليُخبره بقرار تعيين السادات نائبًا له ، لمجرد أنّ ((الآخرين واتتهم الفرصة ليكونوا نوابًا لرئيس الجمهورية إلاّ أنور. ولعلّ دوره الآن)) كما لو (كانت المسألة مجرد (دور) مثل طابور الجمعية للحصول على فرخة- ط . ر) أما صياغة د. زكريا فكانت ((إذن كان حكم مصر (بالدور) مجموعة من الضباط يتناوبون على المنصب الخطير واحدًا بعد الآخر، وبقى واحد منهم فلابد أنْ يأخذ نصيبه. فكيف فات على هيكل أنه بكلامه هذا أساء إلى عبد الناصر. وأهان مصر كلها إذْ صوّرها على أنها (عزبة) لابد أنْ يتناوب على امتلاكها الضباط بالدور، بغض النظر عن الكفاءة التى لم يثبتْ السادات خلال حكم عبد الناصر- باعتراف هيكل- شيئـًا منها ، ناهيك عن (الوطنية) فقد كان عبد الناصر وهيكل يعلمان أنه كان فى وقت ما عميلا مزدوجًا)) وبعد أنْ استولى السادات على قصر من ضابط سابق فإنّ عبد الناصر غضب من السادات ، ولكن كما ذكر هيكل فإنه بعد أنْ هدأ غضبه ((كافأ السادات بقصر على النيل)) أيُريد هيكل أنْ يوحى لنا بأنّ تصرفات مثل الاستيلاء على بيوت الآخرين لم تصدم الحس الأخلاقى لعبدالناصر؟ أيُريد أنْ يُقنعنا بأنّ مغتصب مال الغير كان فى نظره يستحق مكافأة هى قصر على النيل؟)) ولكن أهم سؤال طرحه د. زكريا هو : لماذا عيّن عبد الناصر السادات نائبًا لرئيس الجمهورية وهو يعلم ميول السادات الأمريكية؟ ودلل على ذلك بما كتبته الصحف الأمريكية، وأنّ عبدالناصر عندما طـُرح الموضوع أمامه ضحك وأثنى على كلام السفير المصرى فى أمريكا الذى قال ((وما العيب فى ذلك . ليت كان هناك آخرون لديهم نفس الحب والوله لأمريكا)) وكان ذلك عام 66. فكيف كان عبدالناصرعلى علم بميول السادات الأمريكية القوية طوال هذا الوقت، ثم يختاره نائبًا ؟ والأكثر أهمية أنّ هيكل أكد بصورة قاطعة أنّ عبد الناصر كان يعرف كل شىء عن السادات : يعرف ماضيه مع القصر الملكى وانبهاره بالأمريكان، فكانت النتيجة أنْ قامر السادات على مائدة أمريكا فأعطاها 99% من (أوراق اللعبة) ويعترف هيكل أنّ السادات شخصية (خانعة) أمام من هو أقوى منه. فهل أختاره عبدالناصر لهذا السبب؟ ولنتأمل ما كتبه هيكل ((كان بيت السادات هو المكان الوحيد الذى يستطيع فيه عبدالناصر أنْ يذهب إليه لكى يقضى بين الحين والحين ساعات مع صديق لم يكن يضغط على أعصابه بإثارة مناقشات سياسية)) والمعنى هو أنْ يكون (الصديق) رمز الطاعة المطلقة. وأنّ ظاهرة السادات إفراز طبيعى للحكم المطلق . ورغم ما حدث فإنّ هيكل ((يحكى قصة مصير أمة وكأنها حكاية مسلية)) مع أنها ((جريمة لهدم العقول)) خاصة اعتراف هيكل الذى كتب ((إننى لعبتُ دورًا مؤثرًا فى المداولات السياسية التى أدّتْ إلى اختيار السادات رئيسًا للجمهورية بعد رحيل عبد الناصر)) وكيف يكتب أنه تعاطف مع السادات فى السنوات الأربع الأولى من حكمه ((وكنتُ أقرب إليه من أى إنسان آخر)) مع علمه بعيوبه التى خصّص لها باقى صفحات كتابه ؟ ثم يُواصل هيكل أسلوبه فى الخداع كأنما عقول القراء ملغية فكتب يُبرر تقلباته ((نعم كنتُ أعرف أنّ للرجل عيوبًا ولكنى تصورتُ أنّ الحكم سيصلحه)) فكان تعليق د. زكريا ((ولماذا يا سيد هيكل لم يخطر ببالك الاحتمال الآخر، وهو أنّ الحكم سيزيده فسادًا؟)) الشىء الطبيعى أنّ هيكل لم يُفكر فى الاحتمال الثانى والسبب توضحه خريطة الصراع بين الجناح التنفيذى الملتصق بعبدالناصر: سامى شرف، شعرواى جمعه، محمد فايق إلخ ويقود هذا الجناح على صبرى. والجناح الهادىء ، المُتربص ، المُحتفظ بعلاقاته بعبد الناصر بحذر دون التورط فى ممارسات تثير المتاعب : أنور السادات ، محمود فوزى ، سيد مرعى ، حافظ بدوى . وكان من رأى د. زكريا ((وأكاد أجزم بأنّ هيكل كان ينتمى إلى الجناح الأخير. فالشواهد قوية على أنّ هيكل كان من مجموعة السادات قبل أنْ يتولى الحكم)) وقد اعترف هيكل بأنه كان المُشرف على حملة الاستفتاء على اختيار السادات رئيسًا للجمهورية. وكما أنّ عبد الناصر قدّم لشعبنا أسوأ (هدية) للمستقبل ، فإنّ هيكل عندما أدار حملة الاستفتاء لصالح السادات يكون ارتكب ((عملية غش كبرى موجّهة ضد الجماهير البريئة التى ستذهب إلى الصناديق)) أغدق هيكل المديح للسادات فى السنوات الأربع الأولى من حكمه وهو على علم بتاريخه الذى رواه فى (خريف الغضب) فكان تعليق د. زكريا ((نجد الواقعة الواحدة تصطبغ بلونيْن مختلفيْن كل الاختلاف : ساطع برّاق فى عامىْ 71، 72 وأسود قاتم فى سنة 83 . الفرق بين الإثنين يكشف عن مستوى القيم الأخلاقية لدى أنصار مدرسة معينة فى الصحافة والسياسة ، لا تجد فى ارتداء الأقنعة وخلعها ، تبعًا للعهود ووفقــًا للمصالح أى عيب أو نقيصة)) ثم سأل د. زكريا : إلى أى مدى كان هيكل ناصريًا ؟ الاجابة تأتى من مقالات هيكل فكتب فى أهرام 21/5/71 ((لقد عشتُ لحظة التفجير. ومن حسن الحظ أنّ التدمير لم يقع . وتلك شهادة تاريخية للسادات وشجاعته الأدبية والمادية فى لحظات بالغة الصعوبة والخطر. كانت لحظة حاسمة فى تاريخ مصر. وكانت لحظة رائعة نبيلة)) ووصف هيكل الحوار الذى كان يدور بين السادات وخصومه فقال ((كان السادات صادقــًا ولم يكونوا صادقين . كان السادات يتصرف على سجيته. سجية مصرى أصيل مفتوح العقل والقلب معًا)) (أهرام 28/5/71) و((هذه المرحلة هى التى ستجعل من السادات- بإذن الله- قائدًا تاريخيًا لشعبه وأمته. لأنّ القيادة التاريخية مرتبة أعلى بكثير من الرئاسة مهما كان وصفها)) (أهرام 26/11/71) و((لقد أثبتَ السادات (قدرته) فى معركته ضد مراكز القوى . كان أمامها أعزل من أى سلاح وكانوا أمامه ومعهم كل أدوات السلطة فى مصر. وكنسهم من فوق الأرض كنسًا لأنّ الجماهير كانت معه)) (أهرام 11/2/72) وعمالة السادات للقصر الملكى وفقره فى (الخريف) لهما وصف مختلف فى أهرام 28/1/72. فإذا كان أمامنا (ساداتان) فكم هيكل هناك ؟ قبل قرار السادات بطرد السوفيت من مصر كتب هيكل أنّ ((طرد الخبراء السوفييت هو هدف السياسة الأمريكية فى المنطقة. وأننا إذا لم نواجه ذلك فكأننا نـُقدم للعدو مطلبه على طبق من فضة)) وكان تعليق د. زكريا ((ولكنه فى ظل السياسة الجديدة لا يجد غضاضة فى أنْ يحمل طبق الفضة بيديه ويبتلع كلماته ومواقفه السابقة)) ومن هنا كانت أهمية كلمات موشى ديان الذى قال ((لقد أديرتْ محركات طائرة السادات حين طرد الخبراء السوفيت وبدأ سياسة تنويع السلاح. وقبِل باتفاقات فك الاشتباك بكل ما يعنيه ذلك من استبعاد الخيار العسكرى)) وكان هيكل أحد أهم الذين روّجوا لرغبة السادات فى تنويع مصادر السلاح، بالكتابة المتكررة (أيام السادات) عن تخلف السلاح السوفيتى مقارنة بالسلاح الأمريكى ، وتعمده إذاعة خبر سقوط خمس طائرات سوفيتية على أرض مصر بواسطة الطائرات الإسرائيلية يوم 18/4/70 (الفترة التى أطلق عليها النظام الناصرى "حرب الاستنزاف" وكان الاستنزاف لمصر وليس لإسرائيل) وكان هو الوحيد الذى نشر هذا الخبر(أهرام 11/8/72) بهدف التشكيك فى قدرة الطيارين والطائرات السوفيتية. لذلك كان تعليق د. زكريا على كلمات موشى ديان ((إنّ الذين رسموا سياسة تنويع السلاح عن طريق طرد الخبراء السوفيت والترويج لفكرة التقارب التدريجى مع أمريكا ، هم الذين أداروا محركات طائرة السادات المُتجهة إلى القدس . ومن الواضح أنّ هيكل بالنسبة لهؤلاء كان كبيرهم ومفكرهم وموجههم . فالبذرة الأولى غرستها يد هيكل. ومع ذلك فإنّ هيكل نفسه هو الذى يأتى (بعد ذلك) وينعى على السادات ركوبه تلك الطائرة التى كان هو ذاته قد زوّدها بالوقود)) وكتب أيضًا أنّ ((المنحنى العام لكتابات هيكل- فى مراحلها المختلفة- يُقنع كل من يُتابعها بدقة بأنه كان يرتبط بأمريكا بعلاقة حميمة جدًا. أما الانتقادات التى يُوجّهها إليها فإنها الاستثناء الذى يؤكد القاعدة. لأنّ أصدقاء أمريكا- من الأذكياء- لابد أنْ يُهاجموها من آن لآخر. بل إنها هى التى تطالبهم بذلك)) لم يصدر عن هيكل كلمة عن معتقلات عبدالناصر ولا عن نظامه القمعى الدكتاتورى ، ولكنه فى الفصل الخامس من (الخريف) يحكى عن أنه نصح السادات بأهمية الديمقراطية ((لأنها القضية التى تهم الناس فى هذه الظروف . إنّ الناس يُريدون أنْ يسمعوه وهو يؤكد لهم ضمانات حرياتهم . لقد أفلتوا بالكاد من شبح دكتاتورية كان يمكن أنْ تصل فى تجاوزاتها إلى حد بعيد)) وهيكل هنا لا يُريد أنْ يقترب من الحقيقة كاملة ويعترف بدكتاتورية عبد الناصر، إنما وصف مرحلته (بشبح دكتاتورية) وهل هناك نظام قمعى أكثرمن اعتراف هيكل عندما قال ((إننى لم أكتب بانتظام وتحت عنوان (بصراحة) إلاّ بناءً على اتفاق مع الرئيس عبدالناصر ألا يخضع شىء مما أكتبه للرقابة)) (صحيفة الأهالى 1/6/83) فهذا الاعتراف يتضمن شيئيْن 1- أنه فوق الجميع بتميزه فجميع الصحفيين يخضعون للرقابة إلاّ هو 2- الاعتراف بوجود الرقابة فى عهد عبد الناصر. وكان تعليق د. زكريا أنّ الصحيفة المُعارضة نشرتْ اعتراف هيكل ((دون أنْ تـُعلق عليه أو تستخلص دلالته)) (ص 150) فى الصفحات الأخيرة كتب د. زكريا عن الذين سيقولون لقد هدمتَ مقدساتنا. فقال لا بأس من تحطيم الأصنام ومن جرعة كبيرة من النقد والشك ((إنّ هدفى الحقيقى ليس هيكل ولا السادات ولا عبدالناصر. بل هو عقولكم أنتم)) وكان دافعه لنقد هيكل هو((كان يكفى أنْ أسير فى شوارع القاهرة وأرى الفارق بين قاهرتى الجميلة التى شهدتها فى طفولتى وصباى ، وقاهرة اليوم التى خربتْ بأكثر مما يستطيع عدو مجنون أنْ يفعل . كان يكفى أنْ أقارن بين تعليمى فى طفولتى والقشور التى يتلقاها أطفال اليوم بأقل الأساليب أمانة واخلاصًا . كان يكفى أنْ أتأمل انهيار آمالنا الوطنية والقومية. كان يكفى أنْ اتأمل هذا كله لكى أتساءل : ما الذى حدث ؟ ولكى أجد نفسى مدفوعًا بقوة عارمة إلى تسوية الحساب ، لا مع هيكل بالذات ، بل مع كل القيم وأساليب الفكر التى كان يُجسّدها . كان يكفى أنْ أتأمل هذا كله لكى أغضب . ولكن غضبى لم يكن وليد خريف عاصف ، بل كان عمره أطول بكثير)) ***
#طلعت_رضوان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مدينة أون والادعاء العبرى
-
اسم مصر
-
قاسم أمين : أحد رموز التنوير
-
شهر مصرى صُغنتوت من خمسة أيام
-
فرح أنطون ومحمد عبده
-
أحمد لطفى السيد
-
قناة الجزيرة والوعى المتأخر
-
متى تتحقق الحرية والعدالة ؟
-
هل تلتقى المذهبية مع التحضر ؟
-
العلاقة بين الخرافة والأسطورة والدين
-
إيزيس / مريم / زينب
-
موسى بين التراث العبرى ولغة العلم
-
التعريف العلمى لثورات الشعوب
-
يوسف بين التراث العبرى ولغة العلم والفلوكلور
-
الإبداع والأيديولوجيا : أولاد حارتنا نموذجًا
-
إبراهيم بين التراث العبرى ولغة العلم
-
امبراطورية الشر الأمريكية
-
قصة الخلق فى تراث بعض الشعوب
-
القرآن بين النص الإلهى والبصمة البشرية
-
المثالية تعترض على بتر العضو الفاسد
المزيد.....
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
-
إيهود باراك يفصح عما سيحدث لنتنياهو فور توقف الحرب على غزة
-
“ألف مبروك للحجاج”.. نتائج أسماء الفائزين بقرعة الحج 2025 في
...
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|