ياسر اسكيف
الحوار المتمدن-العدد: 1206 - 2005 / 5 / 23 - 08:34
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
يبدو وكأنما الديموقراطية قد حدثت مرّة والى الأبد !!!!.
سيجد الكثيرون في هذا الإقرار السوداوي العدمي عتبة نضالية بالكاد يظهر بعدها العمودي . وسوف تأتي الأحكام عليه ضمن هذا الطيف .غير أن القليل منهم سيلاحظ ما يضمره هذا الإقرار من فجيعة وخيبة وغبن .
لقد بات الجميع , في هذا الوطن السعيد , وغيره من الأوطان الأسعد , ديموقراطيون وطنيون , كل بما يخدم مصلحته ويفسح المجال أمام تحقيق أهدافه , أو استمرارها بالتحقق , فالسلطات تجد في الديموقراطية وصفاً لممارستها السلطوية , مهما كان في تلك الممارسة من انتهاك لأبسط حقوق الإنسان ( رغم توقيعها على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ) والمعارضون يؤكدون تمسكهم بشكل آخر للديموقراطية , رغم اختلافهم الجذري فيما بعد الديموقراطية , هو الشكل الذي أنتجته ومارسته المجتمعات الغربية حتى تاريخه , كواحد من أهم الإنجازات التي أبدعها وصاغها الفكر الحر ( الليبرالي ) .
كيف تكون عقائدياً ( والعقائدية ضد الفكر الحر ) وديموقراطياً , أو حاملاً لمشروع ديموقراطي في الآن ذاته ؟
سؤال , ربما نجحت في تضمينه بعض الشك في نوايا الديموقراطيين العرب , وفي الإلماح إلى المجانية والاستسهال الذين يطرح فيهما مشروع الديموقراطية المعارض . لأته ما من طرح ديموقراطي عربي معارض يمكن التعويل عليه في المستقبل إلا ويتأسس على أرضية عقائدية , وأحياناً عقائدية يقينية متزمّتة ( التنظيمات الدينية ) .
والذي يغيب , كما يبدو , عن أذهان الكثير من الديموقراطيين المحدثين , هو أن الديموقراطية كممارسة اجتماعية – اقتصادية وليدة مرحلة تاريخية حدّد شرطها وقاد إليها النسق الاجتماعي بما وصل إليه أفراده من وعي للحظتهم التاريخية . وكان للحركات الدينية الإصلاحية , وفلسفة التنوير دورها الأهم في إنتاج إرهاصات هذا الوعي وتعزيز تراكمه النوعي , عبر تكريسها للعقلاني , الذي بدأ يتأصل كابتعاد عن السماء , وكإمكانية لمحاكاة الغيب في القوننة والتشريع الإنسانيين .
ومع اتّساع الهامش الإنساني في اقتراحه للأشكال المختلفة في إدارة شؤون العباد كان لا بدّ من إجراءات , هي الأخرى إنسانية , لصيانة ذلك الهامش وتأكيد حدوده بحيث لا يتم التطاول عليه
وتضييقه بهدف إلغائه . وجاءت هذه الاحراءات لتمثّل الممارسة والوعي الديموقراطيين مفتتحة بذلك ولادة الديموقراطية كضرورة لا مجال للتراجع في اتجاه صيرورتها . وراحت الممارسة الديموقراطية تقونن المستجد من استثناءات باعتباره إضافة وجزءاً من مكوّنات اللحظة لا عامل تهديد .
هنا أرى أن من النقاط الجديرة بالطرح , تحديداً عند التفكير بالمرحلة التاريخية التي أنتجت الإرهاصات الأولى لما بات يعرف بالديموقراطية , هي طبيعة الدين المسيحي , وبنيته التعاليمية لا التشريعية , الروحية المتعالية لا الحسيّة التشريحية الأرضية , التي كان لها , كما أظن , دورها الأساسي في السماح لإمكانية ملء الثغرات التشريعية المدنية التي يحدثها المستجد والطارىء , دون أن يشكّل ذلك الكثير من التعارض الحاد مع مسألة الإيمان . هذا التعارض الذي أجده بنيوياً فيما يخص الدين الإسلامي , وتحديداً في مرحلته التي أوصله إليها الفقه العشوائي المتبلّد , الذي حاصر أية محاولة للاجتهاد , أو لتقريب النص الديني بحيث يستطيع مجاراة التطور المتلاحق والمتسارع فيما يخصّ علاقة الإنسان بدنياه وعلاقته بغيره . بحيث يصبح التفكير في إمكانية الفكاك من أسر التشريع القبلي نوعاً من المستحيل , ومثله التفكير في إنتاج أزمنة حديثة يمكن أن ندعوها أزمنتنا .
وعند طرح النقطة السابقة لا بدّ من الإشارة , وباستهجان شديد , إلى الدعوات الديموقراطية التي يبدو وكأنّما لا يدرك أصاحبها منها سوى البعد اللفظي للمصطلح . أو كأنما الديموقراطية مصنع يتم نقله وتركيبه أو كتاب تتم ترجمته . !!
ومن الملاحظ أيضاً , في إطار تلك الدعوات , وعلى هامشها , غياب البحث الحقيقي عن الدرجة التي أصبحتها الديموقراطية كضرورة في مجتمعاتنا العربية , وبالتالي إضاءة أسباب استيطانها وتأصيلها .
فعلى خلاف عن المجتمعات الغربية الديموقراطية , وبطلب صريح منها , توضعت الديموقراطية في رأس قائمة الحاجات بالنسبة للمجتمعات العربية , الحاجات التي تمثّل العتبة الأساسية للتحوّل والارتقاء من أجل تحقيق الحاجات الأخرى . إذاً تأتي العملية معكوسة لما حدث في تلك المجتمعات .
ولأنّه لا يمكن للحاجة أن تتحول إلى ضرورة بمحض الإرادة التي يظهرها العامل الذاتي , ذلك أن الضرورة وليدة الوفرة التي تقدّم كفايتها من الأسباب والعوامل التي تقود الحدث بما لا يتيح المجال لحدوث غيره , فإن محفّزات الضرورة هي الأهم والأجدى , وهي الأكثر جدارة بأن تكون على رأس الأولويات التي يجب العمل عليها , والتي تتمثّل ب ( العقلنة ) .
نعم . العمل الفردي والمنظّم , مع إيماني بجدوى العمل الفردي في هذا المجال , من أجل تعزيز العقلانية , عبر التصدي للنص الديني وغيره من آليات التفكير القبلي والغيبي , والمساهمة في إشاعة الفكر العلمي وتكريسه والانتصار للفكر الحر , خاصّة وأن الكثير من الوسائل قد باتت متاحة ولم يعد حجبها من قبل الظلاميين أمراً ممكناً ( وهتا أتوجه بالتحيّة إلى كلّ مواقع النشر الالكتروني التي تساهم في نشر الفكر العلماني الديموقراطي الليبرالي الحر , وتلك التي تفتح صفحاتها للإبداع الأدبي والثقافي المنفلت من أسر الطواطم والقبليات , معتذراً عن ذكرها بالاسم
خشية الادعاء بأنني أمتلك ثبتاً إحصائياً بها . ) وهنا لا بد من التنويه ولفت النظر إلى أن السلطات العربية , حتى أشدّها تخلّفاً ورجعية وتسلطاً , تندرج إلى هذا الحد أو ذاك , في إطار الاشتغال العقلاني , ذلك أنها وبحكم هيكليتها المؤسساتية تتمتع بدرجة معينة من القوننة وتمارس أخلاقها ( بمعزل عن حكم القيمة الذي يخص تلك القوننة ) .
ومما لا يمكننا إلا أن نتوقف عنده , هو شبح الإرادوية الذي لا يمكن إبعاده عند معاينة أي طرح يخص المشروع الديموقراطي في منطقتنا , الإرادوية التي تتخذ على الدوام لبوس الحاجة في تشبهها بالضرورة , وهي التي قرّرت تاريخياً , مآل الكثير من إرهاصات الضرورة .
وفي الحديث عن الإرادوية حديث عن تحوّل الديموقراطية إلى ( حصان طروادة ) وخاصّة بالنسبة إلى من استجدّت في قاموسه السياسي , حيث كانت حتى سنوات مضت تصنّف مع الخمر والميسر ولحم الخنزير وأكل الدم . فهل غيّر هؤلاء مصدر التشريع لديهم , وقرّروا حذف ما يتناقض مع مبادىء الديموقراطية من نصوصهم المقدّسة ؟
هل سيقبلون بالاحتكام إلى دستور علماني يقرّ فصل الدين عن الدولة , ويعترف بأن الإنسان مصدر التشريع وغايته ؟
هل سيوقفون العمل بالحكم الواجب تطبيقه على المرتد . ومن مبادىء الديموقراطية حريّة الاعتقاد ؟
وهل سيتم العمل بمبدأ المساواة بين الرجل والمرأة , دون عنصرية دينية أو جنسية ..؟
هل ستصبح أحكام مثل ( زندقة – كفر – إلحاد .... ) مجرّد أوصاف لرأي آخر وليست جنايات تستحق ( دقّ الرقبة ) ؟
هل سيعيش المسيحيون وغيرهم بعيداً عن كابوس الجزية ؟
وهل سيتم القبول بما قد تنتجه الممارسة الديموقراطية من حقوق جديدة للأفراد والجماعات ..؟
وهل ... وهل ...؟؟؟؟؟
وأما بالنسبة للأحزاب القومية والشيوعية , التي ما زالت مسألة الديموقراطية لديها قضية شديدة الالتباس , فهل ستتنازل عن المبدأ الأيديولوجي في تطبيق شعاراتها التي تتناقض , بما فيها من إرادوية تخص الجوهر , مع أيسط المبادىء الديموقراطية ؟
إن الكلام السابق يندرج في إطار التساؤلات والهواجس التي تنتج عن تصوّر تقريبي للفترة الانتقالية القادمة , والتي إن حدثت فإن نظاماً شمولياً سيغادر الساحة لصالح نظام ديموقراطي , أو لصالح حالة ديموقراطية يتمّ فيها التنافس للفوز بالسلطة . فترة انتقالية يبدو كل ما فيها ملتبس , وحسب المشاريع والبرامج التي لم يقدّم المتنافسون غيرها حتى الآن , لا تبدو الديموقراطية أكثر من إمكانية لنيل السلطة ( فردياً أو عبر التحالف ) وفي ظل موازين القوى الواضحة والبيّنة ( أحزاب شيوعية دون قاعدة شعبية , رغم العراقة التاريخية – أحزاب قومية , بالكاد تستوفي الملاك الضروري من الأعضاء لعقد مؤتمراتها – أحزاب دينية تعتمد على استغلال الحس الديني لحشد قاعدة جماهيرية تحقق لها الغلبة ) تبدو الديموقراطية وكأنها مشروعاً لا يخص الوطن بقدر ما يخص الحزب .
وهذا ما يؤكده غياب أي سجال فيما يخص موضوع الديموقراطية بين القوى والأحزاب , وليس بين الأفراد والأفراد , أو بين الأحزاب والأفراد , وكأنما الجميع موافق على ديموقراطية الجميع . ربّما كانت ضرورات التحالف أو التبعية , من أجل الإطاحة بالنظام الحاكم هي ما يؤجل مثل هذا السجال , على اعتبار أن الإطاحة هي المهمّة الرئيسية في الوقت الراهن وبعدها يأتي مثل هذا السجال , الذي ربّما أتّخذ , بل سيتّخذ , شكلاً أشدّ سوءاً مما ساجلت به السلطة معارضيها .
وعندها تبرز ضرورة التحالف على أسس جديدة .
هل هي صخرة سيزيف ؟ أم أنها معادلة يتم البحث عن حلها ضمن مجاهيل معادلة أخرى ؟ أم أن الديموقراطية قد حدثت فعلاً مرّة واحة والى الأبد ؟
سؤال برسم الجميع , جميع الديموقراطيين العرب الذين يتحدّثون عن وطن , ويتحدّثون عن مستقبل لا عن لحظة تختصرها المنفعة .
#ياسر_اسكيف (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟