|
تجسيد الحداثة : العفيف الاخضر نموذجاً الى سيمون خوري
اسماعيل شاكر الرفاعي
الحوار المتمدن-العدد: 4220 - 2013 / 9 / 19 - 06:57
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
5 ــ . ذلك هو صوت العفيف الاخضر الذي تعرفت اليه من خلال صفحات مجلة " دراسات عربية ‘‘ في سبعينيات القرن المنصرم ، عبر منهج تفرد به من بين اقرانه ومجايليه من المفكرين النقديين . هدف العفيف الاخضر من تلك الكتابات ( من كومونة باريس الى مجازر عمان ، الثورة الالمانية ، التنظيم الشيوعي ..الخ ) تحرير الوعي من الاوهام ، واول تلك الاوهام الذي غرقنا في ضبابه في سبعينيات القرن المنصرم : وهم امكانية اختزال الواقع الى شعار . لم نك ندرك درجة الخطورة الكامنة في لعبة تبادل المواقع بين الواقع والشعار ، اذ يصعب بعد ذلك فك الاشتباك الحاصل بينهما . كم هو واقعي ذلك الاختزال ، وما درجة المعقولية في تسويق الذات عبر شعار عابر لاطوار الواقع لاغياً لميوله المستقبلية ؟ يسمي العفيف الاخضر ذلك التوجه بالشعاراتية : وجه الماهوية الآخر التي ترى بان الواقع مجموعة جواهر منطوية على ذاتها متجاورة وغير متفاعلة ، ولا تحبل بجديد مهما طال الزمن . تعبر الاحزاب رمزياً عن هذه النظرة باحتفالها السنوي بلحظة ميلادها ، أي بلحظة اعلانها عن احتكار الحقيقة واعتقال الواقع وتجميده في شعار . وهذه واحدة من المعضلات الفكرية التي جاء بها سوق المنافسة السياسية ، ولم تكن واحدة من مشاغل العصور القديمة الفكرية التي كانت تحل مشاكلها بالسيف . لكن في العصر البرجوازي ، عصر الطبقات المتصارعة في العلن ، يكون سؤال العلاقة بين الحزب وبين الطبقة التي يدعي تمثيلها سؤالاً اساسياً : الى أي مدى يتصرف الحزب بحق تمثيل الطبقة ، الا يعني تشكيل الحزب على اساس من مفهوم المركزية الديمقراطية اعتراف صارخ بقصور الطبقة عن بلوغ ناصية التضامن الطبقي ، وعجزها الدائم عن التحول الى طبقة واعية لذاتها من غير زرقها بالوعي الجاهز لدى الحزب من خارجها ، وفي هذه الحالة كيف نوفق بين الممارسة والنظرية ، الا يصنع الحزب كتكوين منفصل مصالحه الخاصة المنفصلة عن مصالح مجموع الطبقة التي يمثلها ؟ أدى جواب الاممية الثانية على تلك المعضلة الى انشقاقها وقد سرع الموقف من الحرب العالمية الاولى التي كانت تلوح في الافق الاوربي من ذلك الانشقاق . أجاب لينين : بادانة الحرب كونها امبريالية لا مصلحة للعمال فيها ، وبتأسيسه للحزب البلشفي ، في الوقت الذي انساق فيه ابرز منظر في الاممية الثانية ( كاوتسكي ) الى تأييد الحرب وتأييد انخراط العمال فيها دفاعاً عن اوطانهم ، مع رفض قاطع لاطروحة لينين عن الحزب الحديدي ومفهوم المركزية الديمقراطية . ما زال النقاش حول العلاقة بين الحزب وبين الطبقة صدى لما كان يدور من مناقشات بين الماركسيين قبل الحرب العالمية الاولى ، مع ان التاريخ افصح عن اجابته بعد سبعين عاماً من قيام دولة الحزب البلشفي . هذه معضلة لا يمكن تخطيها ، ليس على مستوى الاحزاب الماركسية بل وعلى مستوى الاحزاب البرجوازية التي انشطرت في مواقفها حيال مسائل العولمة والتجارة الحرة والاستثمارات الخارجية وعمل البنكَ الدولي وكلها مواقف تتفرع من وتعود الى مسألة العصر الاساسية المتعلقة بالديمقراطية وبالحريات الاساسية ، ويتجلى ذلك باجلى اشكاله في التنافس الحاد بين الحزبين الامريكيين : الديمقراطي والجمهوري ، ومواقفهما المختلفة من مسألة الاجهاض والزواج المثلي ومهاجري امريكا اللاتينية غير الشرعيين وهم بالملايين . والاجابة على تلك المعضلة اشد ضرورة في بلدان العالم الثالث الذي يواجه مسائل حساسة كالموقف من الاقليات الدينية والعرقية ، وبالتوازي معها الموقف من الارض التي تسكنها هذه الاقليات ، والموقف من شعار تطبيق الشريعة ، والكيفية التي تواجه بها هذه الاحزاب التنظيمات الارهابية والموقف من قضية فلسطين واسرائيل ، وكل هذه مسائل تتفرع من وتعود الى المسألة الاساسية في العصر الذي نعيش : مسألة الديمقراطية ، ولهذا فان اجابة احزاب العالم الثالث ومنها احزاب البلدان العربية على سؤال علاقتها بالواقع ومدى تمثيلها له هو جزء من الجواب الكلي على مسألة الديمقراطية ودولة المؤسسات والدستور المدني ( الذي تخلو بنوده من الاشارة الى اية قوة خارجية تقف فوقه او منفصلة عنه وتشكل رقيباً دائماً على مؤسسة التشريع . ودائماً تحل هذه الرقابة في البنود الاولى من دساتير البلدان العربية والاسلامية التي تشير الى مصدر التشريع . وقد اثبتت التجربة بأنها اشد فتكاً بالحياة المدنية من اشد الانظمة استبداداً ) اذ لا يمكن ان تتحول الديمقراطية كمفهوم فلسفي يعبر عن زاوية نظر خاصة الى الكون والحياة على السنة الاحزاب العربية الى نكتة تاريخية حين يتم اختزالها الى آلية دورية الانتخابات وما يتبعها من طرق في احصاء أصوات الناخبين . جاء هذا التصور الكاريكاتوري عن الديمقراطية نتيجة من نتائج تكاثر الاحزاب ( الديمقراطية ) من غير الالتفات الى مضمونها الحقيقي كموقف ذي خلفية فلسفية منح المواطن لأول مرة في التاريخ حق التشريع الذي كانت تحتكره القوى الدينية باسم الدفاع عن شرع اللّه . كم من هذه الاحزاب ( الديمقراطية ) يؤمن بحق البشر في تشريع القوانين التي يرونها مناسبة لحياتهم ؟ تلك هي المأثرة الكبرى للبرجوازية في التاريخ ، والتي يجب الانطلاق منها بتعميق مسارها التحرري وذلك بمنح المواطن المزيد من الحريات . انطلاقاً من ذلك لا يمكن غض النظر عن الاجابة على سؤال العلاقة في تمثيل الواقع ، وشكل هذا التمثيل تنظيمياً . ذلك لان التنظيم يعكس تلك العلاقة : في ان يكون امتداداً للواقع يعيد انتاجه في تنظيم هرمي مراتبي ، او ان يكون نقيضاً للواقع وتجسيداً في الحاضر للهدف االمساواتي لمستقبلي ؟.. 6 ــ
يمكن القول بان العفيف الاخضر كان الى جانب لينين في موقفه من الحرب الاولى ، ولكنه رفض البناء الداخلي لحزبه كونه تنظيم غير ديمقراطي . وحين ينتقل العفيف الى واقع المجتمعات العربية يرى بان احزابها التي استلمت اجابات جاهزة عن التنظيم وعن الاستراتيجية والتكتيك ، سوف تطفوا على سطح الواقع فتضطر الى حواره ارادوياً بان تطالبه بان يمتثل لقراراتها ومواقفها ، ويقرب ذلك مستشهداً بنايف حواتمة الذي كان يردد بانه لو امتلك الف كلاشنكوف لتمرد على السماء ، وحين امتلكها ولم يفعل شيئاً قال يائساً : ان طينة متخلفة لا تنتج تنظيماً الا متخلفاً مثلها . فالاصل في السياسة كصراع هو الواقع الملموس : هل يقبع متخلفاً على عروش خاوية من التكوينات الاجتماعية كالقبلية والطائفية ، أم انه امتلك طاقة توليد ظواهر الطبقات الاجتماعية . استولدت حركة تطور الواقع الاوربي طبقتين جديدتين هما البرجوازية والطبقة العاملة ، فكان ثوريوها يناقشون ما كان يجري من صراعات طبقية امام عيونهم . وبما ان الاحزاب المتكاثرة في البلدان العربية لم تطرح ، دينية كانت هذه الاحزاب ام علمانية ، سؤالاً عن الضرورة الاجتماعية لولادتها ، وبالاحرى عن علاقتها بالواقع وتمثيلها له ، فأن ولادتها ستظل ــ في واقع قبائلي طائفي يواجه تحدياً حضارياً شرساً على المستوى المادي وعلى مستوى المفاهيم السياثقافية ــ امتداداً لهيمنة التكوينات الاجتماعية السابقة للظاهرة الطبقية ، حتى لو كانت نيات مؤسسيها تضمر توقاً لا نهاية له الى الحرية والمساواة ، وستتحول ــ وقد تحولت ــ الى مقرات حزبية لمجموعة شخصيات متعلمة تريد ان تحل محل الزعامات التقليدية وتواصل هيمنتها القبلية والطائفية لكن بطرق ذات صبغة حديثة . لا يمكن الفصل بين البرجوازية وبين نمط الانتاج الرأسمالي الذي حملها الى ان تَتسيّد مرحلة تاريخية لا ندري كم طولها في التاريخ العالمي . ونتيجة لآليات التمدد والانتشار التي ينطوي عليها هذا النوع من الانتاج ، تمددت مفاهيمها السياسية عالمياً واخترقت كل الثقافات المحلية التي قاومتها الى هذه الدرجة او تلك ولكنها جميعاً ــ ومن ضمنها الثقافة الاسلامية ــ استسلمت الى مفاهيمها السياسية عن الديمقراطية وخاصة آلياتها فيما يخص دورية الانتخابات التي رجحت كفة شرعيتها على كل مفاهيم الشرعيات الموروثة . وتعد ثورات الربيع العربي مفصلاً تاريخياً في تحول الثقافة السياسية العربية اذ خاض الشباب ثوراتهم تحت مفاهيم التعددية ودورية الانتخابات والدولة المدنية ، وذلك ما يؤكد لنا قوة اشعاع هذه المفاهيم البرجوازية عالمياً وديناميتها في عبور خطوط الاختلافات الاثنية والدينية والثقافية . وهذا معلم بارز من معالم الحضارات ، اقصد اشعاعها ، بمعنى ان انتاجها المادي والمعرفي والروحي يتحول الى حاجة للشعوب الاخرى لا تستطيع العيش من غير استيراده او تبيئته او محاكاته محلياً ، وهو الشئ الذي تكرر مع كل الحضارات الزراعية في التاريخ بدء من السومرية والى اليونانية وانتهاء بالحضارات الصينية والهندية والاسلامية . هذه الحقيقة ، حقيقة البدء بجعل المفاهيم السياسية التي انتجتها الحضارة البرجوازية معياراً تقبل شرعيته مواطنو مختلف القارات بديلاً عن شرعيات الحكم الموروثة في ثقافاتهم ، لا بد وان تتقيد بها حركة تشكيل الاحزاب في بلداننا العربية والاسلامية ، والاّ اتهمت بالارهاب وعرضت قواعدها الحزبية ــ كما في الماضي ــ لاضطهاد لم تجد تبريراً وتمجيداً له غير مفهوم البطولة البدوي وغير مفهوم الاستشهاد الديني . مفاهيم البرجوازية السياسية المنتصرة عالمياً تقوم على نسبية الحقيقة . يرى العفيف الاخضر بأنّ احزاب اليسار العربية غير معنية بمناقشة مثل هذه الاسئلة حتى وهي ترضخ للعبة الديمقراطية ، وتأخذ بشروطها التي تفرض عليها التخلي عن شعار : ديكتاتورية البروليتاريا وطريقها الذي يمرعبر الثورة . ومثلما تنباَ العفيف الاخضر ــ لا على طريقة الكهنة والحواة ــ بل على طريقة استنطاق الوقائع ، بسقوط الاتحاد السوفياتي قبل ربع قرن من سقوطه ، تنباَ بانكماش العمل الفدائي بعد مجزرة 1971 ، وبانكماش احزاب اليسار على نفسها مرتدة في الممارسة وفي السلوك ــ وليس في التشدد اللفظي ــ الى مواقعها الاولى كصور عاكسة للمراتبية القبلية والطائفية .
7ــ لا يتميز العمال كطبقة من غير ان يبدعوا ــ لكن ليس على مثال سابق ــ في التاريخ مؤسساتهم الديمقراطية التي تشير اليهم وتدل عليهم . تميزت الطبقات في التاريخ بمؤسسات كانت تجسيداً عملياً لنظرتها الفلسفية والحقوقية والاخلاقية والجمالية : مؤسسة الملك او الامبراطور او الخليفة ذي الحق الآلهي صاحب السيادة والذي لا يُسأل عما يرتجل من قرارات واوامر . وعبرت الطبقة البرجوازية عن ذاتها بمؤسسة البرلمان التي عن طريقها تمكنت من التشريع لمصالحها محققة بهذه الازاحة التاريخية للقوى التي كانت تحتكر التشريع قفزة نوعية الى امام . لا بد ( والعفيف الاخضر يؤكد هنا واحدة من افكار ماركس الاساسية ) من ان تستفد الطبقة البرجوازية كل طاقاتها التاريخية وتتحول الى عقبة بوجه تطور وسائل الانتاج ، حتى تتهيّأ الارضية الموضوعية لسيادة طبقة اجتماعية أخرى . لا أحد ولا أي مخطط نظري يستطيع ان يغتصب التاريخ ويجبره على الاعلاء من سيادة طبقة اجتماعية اخرى ، ما لم يحن وقت وفاة التشكيلة الاجتماعية السابقة او في الاقل فقدانها لدور الريادة في التطوير والابتكار .لولادة تشكيلة اجتما اقتصادية جديدة على مسرح التاريخ . فشلت الارادوية في ان تستنبت ( سحرياُ ) بالقرار ، أي بالقول على طريقة : كن فيكون ، ظواهر اجتماعية وطبقات واعية لذاتها . وهذه الارادوية ، التي هي الوجه الحديث للسحرية ، بارزة في خطاب الاحزاب الاسلامية التي تتصور بانها بعد الوصول الى السلطة عن طريق الافق الذي حددته لها البرجوازية العالمية ، تستطيع تطبيق الشريعة تطبيقاً صارماً بقضها وقضيضها . هكذا اطمأن الاسلاميون الى انهم حلوا كل مشاكل الامة برفعهم لشعار " الاسلام هو الحل ‘‘ ، واطمأن القوميون الى ان مقود حركة الاحداث اصبح في ايديهم بعد انقلاباتهم العسكرية ، يوجهونه حيث شاؤوا من خلال رفع شعارات الوحدة والحرية والاشتراكية ، ثم ينقسمون على بعضهم الى طوائف وملل ونحل بسؤال انفسهم : هل الحرية تسبق الاشتراكية ام العكس ؟ وهو نقاش تسلل اليهم من نادي المعسكر الاشتراكي ، حين اعتقل ستالين الواقع وجمد الحريات باسم الوعد الاشتراكي الآتي . واطمأن اليسار العربي الى صواب رؤيته التاريخية وهو يلوح بشعاراته البراقة عن المستقبل . لا أحد من هذه التيارات السياسية الاساسية التي كان لها اهمية خاصة في الوعي الجماهيري العام خاصة في منتصف القرن السابق ، استطاع ان يحول مقولاته السياسية الى مقولات ممتدة في الزمان . جميعهم تصوروا بان الوصول الى السلطة هي المكان السحري الذي يحقق كل احلامهم ، الا ان الوقائع التي كان لينين يسميها بالعنيدة حولت السلطة الى وبال عليهم فليس بالوصول الى السلطة وحدها يمكن للمجتمعات ان تتطور . هذا مسار تاريخي لا يمكن حرق مراحله بالارادوية ، مثلما لا يمكن استباقه بالشعار . ثمة واقع يتطور موضوعياً يفرز اثناء تطوره افكاره ، مقولاته السياسية ، وربما نظرياته الفكرية . لا يمكن تحميل الواقع خاصة اذا كان قبلياً وبدوياً وطائفياً كواقع مجتمعاتنا المشرقية مثلاً اكثر مما يتحمل ، ستكون النتيجة العودة الجماعية الى الهويات الاولى : الطائفية والقبائلية ، والهجرة الى الماضي بشكل جماعي للاحتماء به من زمهرير الشعارات القارص . كان العفيف الاخضر في كتاباته عدواً ثابتاً للشعاراتية التي يساوي بينها وبين الارادوية التي يجسدها مثال البيانات العسكرية للانقلابات التي وسمت الفترة القومية بميسمها ( 1952 ــ 011 2) .. تشبه قوانين المجتمعات قوة القوانين الطبيعية التي لا يمكن القفز من فوقها . فليس بتأميم بعض المصانع الاهلية يمكن بناء الاشتركية ، وليس بهراوة الاسد او صدام حسين ( وكلاهما ضرب شعبه بالكيمياوي ) يمكن للناس ان تصطف زرافات ووحداناً ثم يتقدمون على ايقاع الايعازات العسكرية نحو الوحدة او نحو الاشتراكية . لقد ارتد الاهالي في العراق الى قواقعهم القديمة وتركوا وراءهم شعار : الوحدة الوطنية يتجول كالشبح في البيوت المعزولة لبعض الوطنيين العراقيين وعددهم بالاصابع . وارتد الليبيون الى قبليتهم ومحلياتهم . لابد من تبرجز الوعي اولاً بتحريره من زاوية الوعي السحرية ( وهو مشروع العفيف الاخضر اللاحق خاصة بعد الالفية الجديدة ) التي كانت تنام على مخدتها كل الشعوب الاوربية في عصورها اللاهوتية الاقطاعية والتي مهدت للخروج منها عصور النهضة ثم الانوار قبل الدخول بمغامرة الثورة الصناعية التي انقلبت فيها زاوية النظر الى العالم وزاوية النظر الى الحياة والى دور الانسان في الحياة . لا يمكن اتهام العفيف الاخضر بالميكانيكية حين يرى بان خروج العرب الى رحابة الحداثة يمر من بوابة تحديث الذات بالهجرة الجماعية من عصر الوعي البدوي الذي يعاد انتاجه دورياً عبر الحقب التي مر بها العرب منذ سقوط بغداد 1258 على يد بداوة اشد شكيمة واكثر تلاحماً في عصبيتها وهم المغول ، ومنذ ذلك التاريخ لم يتحرر العرب من صورتهم البدوية التي طابقوها مع الفتوحات ومع فرض واملاء طريقتهم في الحياة على الامم التي فتحوها . وكل ما فعلوه لاحقاً بعد سقوط خلافة بغداد لا يعدوا ان يكون كتابة هوامش على المتون الاولى أو الاصول الاولى التي بلورها السلف الصالح والتي تراجعت فيها الرؤية القرآنية التي كان يمكن فيها لبعض عقلانية المعتزلة الاستمرار في الوجود لصالح لاعقلانية الاختلاق : تلفيق احاديث نبوية وروايات عجائبية عن معجزات خارقة للنواميس الطبيعية والبيولوجية ( راجع : الاسلام المستأنف ، واحد من سلسلة مؤلفات جورج طرابيشي عن نقد نقد العقل العربي ) وهكذا ظلت زاوية النظر العربية تعيد انتاج نفسها ، أي مهمتها في الحياة ، بالضبط بالتطابق مع تلك اللحظة البدوية في التاريخ : لحظة الفتوحات التي فرضت فيها رؤيتها على عالم الشعوب الذي احتلته . لا يمكن التدليس على منهج العفيف الاخضر بالقول انه محاولة لاستنساخ التجربة التاريخية الاوربية ونقلها آلياً الى هذا العالم المنكوب ببدويته . البداوة نمط في الحياة ووعي خاص بها والخروج منها لا يمر عبر قرارات حزبية أوحكومية . انها منظومة فكرية متكاملة اعاد الاسلام احياءها بان منحها شرعية سماوية وحولها الى أحكام مقدسة عابرة للزمكان لا يجوز مناقشتها او التخلي عنها . وتبديل زاوية النظر هذه يتم حين يتم الارتقاء اجتماعياً وسياسياً الى مستوى محدد من التطور تنبثق عنه زاوية نظر جديدة الى دور الانسان في الحياة ، يتبدل فيها دوره من مجاهد ( او مناضل متفرغ ) الى منتج ومخترع ( في العراق المحكوم من بداوة منشقة على اصولها البدوية ، لم تستطع زاوية النظر المتحكمة باستراتيجية الدولة العليا في العراق من الالتفات الى اهمية الكهرباء في حياة الناس ودورها الحاسم في تحقيق تنمية زراعية وصناعية ، ولم تلتفت زاوية النظر هذه الى ابتكار او ابداع الطرق الكفيلة بالقضاء على التصحر وايقاف عواصف الرمل والتراب ، او في اكتشاف اهمية التنظيم وسيادة القانون في الدول الحديثة ) . لم تستطع كل اطنان الاسمنت والطابوق والحديد التي بناها الخليجيون على تحرير قانون بسيط يبيح للمرأة السياقة في شوارع الدوحة او المنامة او مكة ، وما زالت المرأة في ظل الشعارات الديمقراطية تمنع من السفر الى الخارج من غير محرم يرافقها . ذلك لان المرأة في الوعي البدوي ملكية خاصة للرجل ، ولا يمكن للملكية ان تستقل بحياة خاصة بها ، فتتخذ قرار الفرملة او التوقف امام اشارات المرور باستقلال عن المالك . لابد من تطهير الوعي وتحرير الحواس من استقالتها التاريخية التي فرضها عليها نمط التفكير البدوي . كان يمكن للسودان ان يكون سلة العرب وربما سلة العالم الثالث الغذائية لو كانت زاوية نظر انقلابييه : البشير والترابي ( تحالف العسكر والتنظيمات الاسلامية والقومانية ) قد ركزت على الاستثمار الرشيد لما تملكه من ( مادة اولية ) جاهزة لتحويل ارض السودان الى جنة على الارض بدلاً من اصرار انقلابييه على زاوية النظر البدوية التي ترى بان مهمة الدولة الارأس لا تتمثل بالعمل على تحسين شروط حياة السودانيين ، بل تتمثل بالعمل الجهادي على اسلمة القبائل والاقوام وكانت النتيجة حرب اهلية متواصلة انسلخ فيها الجنوب عن اهاب الوطن الواحد وستتلوها انسلاخات . تكييف حياة الناس بالقوة واجبارهم على التعبد في محراب وعد دخول جنة ما بعد الموت هي الفكرة النوعية التي تخترم الوعي البدوي : تكييف الحياة لما بعد الحياة ، ومصادرة المرئي والمحسوس فيها لصالح المجهول . في مثل هذا المناخ من الوعي تنشط حركة الشعارات ويتجذر وعي الاختزال ، لتصبح حركة الناس في الحياة تدور على المصادرة : مصادرة حاضرهم وتأجيل النظر بالتحديات التي تواجههم ، ولماذا التعب والشقاء وفي ضمير الغيب تكمن جنة عرضها السماوات والارض اعدت للذين يؤجلون البحث عن سعادتهم في الحياة . هل في هذا المنهج آلية او عملية استنساخ لتواريخ اخرى حين ينتقد العفيف الاخضر حركة التأميم التي هيج سعارها في البلدان العربية جمال عبد الناصر باسم الاشتراكية ؟ فيتخذ ضابط بدوي وطائفي حتى النخاع قرار التأميم لأنه قرر ان يبني اشتراكية في العراق ؟ نقد مفهوم الانتظار ووعده المستقبلي ، وهو مفهوم اساسي من المفاهيم البدوية ، أي انتظار الامل بالحصول على وعد الغنيمة بعد الغزو ( يمكن العودة بأصل التشيع الى هذا الجذر الاجتماعي . فالتشيع الذي ابتداَ مع الاخبارين برفض كل الدول القائمة التي قامت على الظلم لسرقتها الحق الآلهي الشرعي لآل البيت وانتظار عودة الامام الثاني عشر الغائب ليقيم على الارض دولة العدالة ، يتجاوب مع فكرة الانتظار والامل بالحصول على الغنيمة من يد القائد ، قبل ان يتبلور خط التشيع الاصولي الذي ابتدأ في العهد البويهي ياقتراب الفقيه من سلطتهم وبخوض نقاش أولي مع الاخباريين عن دور الفقيه في عصر الغيبة تطوّر لا حقاً الى نظرية " ولاية الفقيه ‘‘ ) هو المشروع الفكري الاساسي الذي كرس العفيف الاخضر حياته من أجله . لم يقتصر نقد العفيف الاخضر لهذا الوعد البدوي بل شمل به نقد يسار البداوة . فكما كان الديني يطالبنا بجعل الحياة طريقاً الى ما بعدها ، طالبنا اليسار بتكييفها للوعد الذي ينطوي عليه المستقبل . وكان الفعل الملموس في تجسيد شعاريهما : تركيز العمل ضد الخارج ( الكافر ) لدى الاسلاميين، أو الامبريالي لدى اليسار . ولم يكن داخل الاوطان بما انه الملموس والعياني الذي يجب معالجته حاضراً في المعادلة الا كتاكيت من اجل استلام السلطة ثم تحويل ( آلة العنف المنظمة ) التي هي الدولة لتهئ كل شئ في الداخل من اجل رفد المعركة العالمية ضد ( دار الحرب ) كمفهوم مركزي اسلامي ، وضد الامريالية كمفهوم مركزي من مفاهيم الاممية الثالثة الشيوعية . لم تكن كتابات العفيف الاخضر السبعيني الا نقداً لهذا النمط من التفكير الذي سماه وعياً زائفاً ، وكل تقديم للنص على الواقع يراد منه تزييف الواقع وتشويه الوعي به ، فالمركزية الديمقراطية كمفهوم هي نص زائف اذا لم تكن متطابقة مع هدف اقامة المجتمع المساواتي الديمقراطي ، اذ كيف يمكن بناء مجتمع من هذا النوع باداة مراتبية غير ديمقراطية من طبيعتها ان تؤدي الى تفريخ الاستبداد والديكتاتورية ؟ أو كيف يمكن فهم الواقع كما هو اذا كان النص يريد من الحاضر ان يكف عن الاشارة الى تناقضاته الطبقية والسياسية والوطنية وتكييف وجوده على مقاسات اوامر النص ونواهيه ..هذا هو سلاح النقد الذي واجه به العفيف الاخضر حاضر سبعينيات القرن المنصرم ومستقبله الموعود فيما تلوّح به التنظيمات الدينية واليسارية من شعارات . لقد عد ذلك الحاضر موروثاً استبدادياً لا يتكامل نقده ــ بنقد مفهوم المركزية الديمقراطية ــ من غير نقد الدين كثقافة اسهمت في صناعة الاستبداد على مدى 14 قرناً . يمكن عد اسماء ثوريين اوربيين وروس ملهمين مباشرين للعفيف الاخضر في ذلك النقد مثل ماركس ، روزا لكسمبورغ ، تروتسكي ، فرويد ، ولينين نفسه خاصة في عمله : " الدولة والثورة ‘‘ وكان ملهمه التراثي : ثورات المعارضة المسلحة في التاريخ العربي الاسلامي وبعض الشعراء والمفكرين العقلانيين ...
#اسماعيل_شاكر_الرفاعي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
اضاءات / 1
-
تجسيد الحداثة : العفيف الاخضر نموذجاً 2 من 4
-
تجسيد الحداثة : العفيف الاخضر نموذجاً 1 من 4
-
مشاهدات بغدادية المجلس الاعلى وتقاعد البرلمانيين
-
مرسي والمصير المحتوم
-
الاخوان وشرعية الانجاز
-
لماذا انتفض الشعب ضد الاخوان
-
درس الثورة المصرية الجديد
-
نداء من العامة الى الخاصة
-
مشاهدات بغدادية / 12
-
مشاهدات بغدادية / 11 خطة القبض على الاوهام
-
مشاهدات بغدادية / 10 / 1 الزعيم قاسم 2 جمعة الخيارات المفت
...
-
مشاهدات بغدادية 9 عن الحدث في الحويجة
-
مشاهدات بغدادية / 8 شهادة عن الانتخابات
-
مشاهدات بغدادية / 7 قانون المرور
-
في ذكرى ميلاد الحزب الشيوعي العراقي
-
في ذكرى ميلاد الحزب الشيوعي
-
مشاهدات بغدادية / 5 الكرد والوعي الامبراطوري
-
مشاهدات بغدادية / 6 أفكار حول الاقتصاد العراقي
-
الانتخابات المحلية
المزيد.....
-
الأردن.. ماذا نعلم عن مطلق النار في منطقة الرابية بعمّان؟
-
من هو الإسرائيلي الذي عثر عليه ميتا بالإمارات بجريمة؟
-
الجيش الأردني يعلن تصفية متسلل والقبض على 6 آخرين في المنطقة
...
-
إصابة إسرائيلي جراء سقوط صواريخ من جنوب لبنان باتجاه الجليل
...
-
التغير المناخي.. اتفاق كوب 29 بين الإشادة وتحفظ الدول النامي
...
-
هل تناول السمك يحد فعلاً من طنين الأذن؟
-
مقتل مُسلح في إطلاق نار قرب سفارة إسرائيل في الأردن
-
إسرائيل تحذر مواطنيها من السفر إلى الإمارات بعد مقتل الحاخام
...
-
الأمن الأردني يكشف تفاصيل جديدة عن حادث إطلاق النار بالرابية
...
-
الصفدي: حادث الاعتداء على رجال الأمن العام في الرابية عمل إر
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|