كاظم حبيب
(Kadhim Habib)
الحوار المتمدن-العدد: 1205 - 2005 / 5 / 22 - 11:44
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
أشرنا في عشرات المقالات المنشورة, كما أشار إلى ذلك عشرات بل مئات الكتاب والصحفيين من عراقيين وعرب وأجانب, إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية ارتكبت وما تزال ترتكب أخطاءً سياسية وعسكرية فادحة في العراق بدأت مع الطريقة التي اختارتها في إسقاط نظام العهر السياسي والفساد والدكتاتورية, نظام صدام حسين, وتواصلت تلك الأخطاء حتى يومنا هذا. وأخيراً أجبر رئيس الولايات المتحدة الأمريكية, جورج دبليو بوش, أن يعترف أمام المجتمع الدولي بارتكاب حكومته أخطاءً سياسية وعسكرية كبيرة في العراق, وأنها تسعى إلى اتخاذ إجراءات لتصحيح تلك الأخطاء, وطالب شعبه بالصبر ولم يعتذر لما تسببت به تلك السياسات الخاطئة من آلام وعذابات كبيرة وقتل متواصل في صفوف المجتمع العراقي وقواته من قبل الإرهابيين المنفلتين من عقالهم.
والسؤال العادل الذي يحق لنا طرحه ومحاولة الإجابة عنه هو: لِمَ ترتكب مثل هذه الأخطاء الفادحة في العراق من جانب الدولة الأعظم في العالم ولم تسعى إلى تصحيحها رغم الدعوات المتعاظمة لتغيير تلك السياسات؟
إن الإشكاليات التي نشأت في العراق بدأت مع الطريقة التي اختارتها الإدارة الأمريكية للخلاص من نظام صدام حسين, ليس عبر الحرب فحسب, بل لإبعادها قوى المعارضة العراقية عن عملية الإسقاط الفعلي للنظام أولاً, ورفضها تسليم السلطة فوراً إلى قوى المعارضة السياسية لنظام صدام حسين بعد الإعلان عن إنهاء الحرب مما أوجد فراغاً سياسياً حقيقياً ساهم في انفلات الأمن وحصول فراهيد فعلية جديدة في بغداد ومناطق أخرى من الوسط والجنوب ثانياً, وسعيها لإدخال النظام الطائفي والأخذ بنظام المحاصة في توزيع مقاعد الحكم في نظام الدولة والحياة السياسية العراقية ثالثاً, وممارستها العمل العسكري قبل العمل السياسي والاقتصادي والاجتماعي رابعاً, ووضعها أناس لا يعبرون إلا عن الجزء الأكثر تشدداً من المحافظين الجدد واللبراليين الجدد في قمة القوى العاملة في العراق من النواحي السياسية والاقتصادية والعسكرية, وخاصة المستشارين الأمريكيين وجمهرة من العراقيين وخاصة العراقي الذي نصب على رئيس الهيئة الخاصة بإعادة بناء العراق خامساً, وعدم معرفة الجمهرة المدنية والعسكرية الأمريكية بالواقع والمجتمع العراقي وبالتعقيدات السياسية والاجتماعية فيه سادساً, وأخيراً وليس آخراً اعتمادها على بعض العناصر العراقية التي لم تملك ذرة من الإحساس بالواقع العراقي, بل جل همها الوصول إلى السلطة وخدمة المصالح الأمريكية في العراق وإملاء جيوبها بالمال الحرام. ولكن ما هي الخلفية الجوهرية وراء هذا السلوك السياسي والعسكري للإدارة الأمريكية في العراق؟ إن الإجابة عن هذا السؤال تكمن في الرؤية القاصرة والخاطئة لكل قوة محتلة في العالم. لقد تعاملت الولايات المتحدة مع العراق ومع العراقيات والعراقيين كدولة محتلة وليس كدولة محررة من الدكتاتورية, إذ حالما انتهى الأمر نصبت دكتاتوراً أمريكياً باسم الحاكم المدني للعراق وتصرف على هواه وما منحه الرئيس الأمريكي من صلاحيات. ويمكن للعراقيات والعراقيين أن يقدموا لائحة طويلة بتصرفاته السياسية والاقتصادية والعسكرية أكثر مما يمكنني تقديمه, ولكن الصحافة الدولية خلال السنتين المنصرمتين كانت مليئة بالمعلومات الدقيقة عن ذلك, كما أن هيئات التحقيق التي شكلت حتى الآن تجسد هذه الحقيقة والاتهامات بالنهب للثروة العراقية وللمساعدات التي قدمت للعراق من جانب الهيئات والأشخاص والشركات كفيل بتأكيد ما أشير إليه.
كنت أتوقع حصول كل ما جرى في العراق, ولم أكن أحلم أو أتصور, كما أني لست نبياً جديداً, إلا أن من يعرف العراق جيداً ويعرف نظام صدام حسين وشخصيته المعقدة والقوى التي تجمعت حوله خلال العقود الثلاثة والنصف الأخيرة, كان في مقدوره أن يحدد بدقة كبيرة ما سوف يحصل في العراق بعد سقوط النظام, خاصة وأني كنت أقدر تماماً الاحتمال السياسي والعسكري التكتيكي الذي ستمارسه الولايات المتحدة في العراق لضمان وجهتها الإستراتيجية في المنطقة والأخطاء الفادحة التي سترتكبها في هذا الصدد, وحذرت منها مسبقاً وقبل الحرب وبعد سقوط النظام, حين شاركت في أكثر من ندوة تلفزيونية في ألمانيا وفي الخارج, إضافة إلى الندوة المشتركة التي ساهمت فيها إلى الشخصيتين الوطنيتين الفاضلتين السيدين الدكتور محمد بحر العلوم والدكتور محمود عثمان في شتاء عام 2003 في لندن.
ليس كل ما جرى في العراق كان خاطئاً, إذ أن الخلاص من نظام صدام حسين والمضامين الأساسية لقانون إدارة الدولة المؤقت واكتشاف القبور الجماعية واحتمال البدء بمحاكمة الدكتاتور ورهطه ...الخ تحتل أهمية بالغة بالنسبة للشعب العراقي, ولكن كان بالإمكان الوصول إلى ذلك بطرق أفضل وخسائر أقل وعواقب سلبية أقل ما يزال يعاني منها الشعب.
وإذا كان الاعتراف بالخطأ فضيلة, فأن الأفضل معرفة سبل التعامل بعد تصحيح الأخطاء والسياسات الجديدة التي يراد أتباعها في العراق, أي سبل التخلص من العواقب التي ترتبت على تلك السياسات والإجراءات الخاطئة وممارسة غيرها حالياً. والسؤال هو: هل في مقدور الإدارة الأمريكية انتهاج سياسة أخرى تقود إلى تغيير الأوضاع في العراق لصالح المجتمع المدني والديمقراطي؟ إن الفرصة متوفرة, رغم قناعتي بأن الجالسين في مواقع المسؤولية في الولايات المتحدة الأمريكية وممارسي السياسة والشؤون العسكرية منهم في العراق غير قادرين على تحقيق التغيير المنشود في السياسة الأمريكية لأنها سجينة إستراتيجية غير عقلانية وغير مدروسة جيداً ومشدودة بمصالح ضيقة وآنية أيضاً, على الصعيدين الدولي ومنطقة الشرق الأوسط. لا يوجد أي طريق مناسب أمام الشعب العراقي غير طريق التعامل مع الواقع ومحاولة تطويعه لصالح المجتمع وضمان دفع الأمور باتجاه تقليص الأخطاء ورفض الطائفية المقيتة في الحكم وتعزيز مواقع القوى الديمقراطية والمدنية في العراق وتقريب أجل الخلاص من وجود القوات الأجنبية في البلاد, وهي مهمة صعبة حقاً بعد أن أطلقت الدكتاتورية الصدّامية وقوات الاحتلال المشاعر والممارسات الطائفية المقيتة من عقالها وفسحت لها في المجال إمكانية الهيمنة على الحياة السياسة وعلى أذهان جمهرة واسعة جداً من أفراد المجتمع.
لقد استطاعت الإدارة الأمريكية إبعاد الإرهاب عن مدن وسكان الولايات المتحدة, كما أنها أبعدت الدكتاتورية عن العراق وسكانه, ولكنها حولت الصراع الدولي والصراع ضد الإرهاب على العراق بشكل خاص ومنطقة الشرق الأوسط بصورة أقل. وهي الإشكالية التي ما نزال نعاني منها, فالإرهاب غير موجه ضد الشعب العراقي وقواه الديمقراطية فحسب, بل هو صراع ضد الولايات المتحدة الأمريكية تدور رحاه في العراق. ولم تتخذ الدول الحليفة للولايات المتحدة أي إجراء حقيقي للتعاون مع الإدارة الأمريكية لكسر شوكة الإرهاب في العراق. ويبدو لي بأن الطرفين الأمريكي والأوروبي يتحملان بصورة مباشرة وغير مباشرة مسؤولية استمرار الإرهاب في العراق, إضافة إلى أغلب الدول العربية والمجاورة للعراق.
يعيش عراق اليوم في حالة مزرية, رغم خلاصه من الدكتاتورية التي كانت السبب وراء كل ما يعاني منه الشعب حالياً, فهو يعاني من الإرهاب المتصاعد والصراع الطائفي بين قيادات الأحزاب الإسلامية السياسية الشيعية والسنية المتطرفة منها والمعتدلة. والخطر يكمن في احتمال انتقالها إلى صفوف المجتمع. عندها ستكون الطامة مرعبة. والسبب لا يكمن في نظام صدام حسين وقوات الاحتلال فحسب, بل وفي سلوك الأحزاب السياسية الإسلامية المتطرفة منها والمعتدلة, وخاصة تلك التي في الحكم حالياً. وعلى الأحزاب السياسية الإسلامية المعتدلة أن تدرك بأن سياساتها المذهبية لن تقود إلا إلى خراب العراق ودمار اقتصاده ومصالح شعبه, وعليها أن تتوقف عن التصعيد ومحاولة الهيمنة على السلطة وفرض إرادتها واستفزاز القوى الأخرى التي هي مستفزة أساساً بسبب خسارتها لمواقع كانت تحتلها في السابق بصورة ما.
إن على قوى المجتمع المدني الديمقراطي, على القوى الوطنية والديمقراطية, على القوى العلمانية في العراق, أن تتحرك لتدارك الوضع ولمواجهة استحقاقات المرحلة الراهنة, وإلا فالضياع والخراب والبؤس هو الهدف الذي تسعى إليه القوى الإرهابية والقوى الطائفية المتشددة وهو الذي ينتظر العراق!
إن حماية الحدود مهمة واحدة من مجموعة مهمات, والعلاقة الجيدة بالجيران مهمة أيضاً دون أدنى ريب, ولكن كسب الشعب إلى جانب النضال ضد الإرهاب هو الذي يعوز العراق حالياً وهو الذي فشلت الحكومات السابقة تحقيقه, وهو ما نحتاج إليه في المرحلة الراهنة. وبالتالي فالصراع الذي أججته الاتجاهات المذهبية في السياسة لن يقود إلى الصالح العام, ولن يساعد على تعبئة الشعب إلى جانب المسيرة الديمقراطية, بل يقود إلى التمييز الطائفي وإلى توزيع الحصص بدلاً من الاعتماد على الكفاءات والإخلاص للوطن وقضية الشعب.
إن على القوى الديمقراطية في جميع أنحاء العراق, في كردستان وفي الوسط والجنوب, أن تتحرك, وهو الوقت المناسب لتحركها. فلنعمل على إطلاق حركة ديمقراطية مدنية واسعة في العراق, لنعبئ قوى الشعب نساءً ورجالاً إلى جانب هذه الحركة, لنرفع لها شعارات واقعية تنسجم مع طبيعة المرحلة ومهماتها الإنسانية والديمقراطية ومع ما يرفع عن الشعب معاناته الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية, ومنها معالجة البطالة ورفض التمييز في التوظيف على أساس الحزب والدين والمذهب أو الطائفة والعشيرة, لنقف بوجه العلل الاجتماعية كالرشوة والفساد الوظيفي, الإداري والمالي, والمحسوبية والمنسوبية والمتاجرة بالإنسان وأعضائه وتدهور الحالة الصحية للسكان نتيجة الإصابات بمختلف الأمراض, لنلتزم بمبدأ الاعتراف بالآخر قومية وديناً ومذهباً وفكراً وسياسة وثقافة, امرأة كانت أم كان رجلاً, واحترامه, واحترام القوميات والاعتراف بحقوقها كاملة غير منقوصة.
ليضع الديمقراطيون يداً بيد ويعملوا معاً ويطالبوا سوية بإقامة المجتمع المدني الديمقراطي الحديث في العراق, فهو السبيل الوحيد للخلاص من الفوضى والعبثية والإرهاب والاحتقان الديني والطائفي والاحتراب السياسي. لنتفادى معاً أخطاء سياسات قوى الاحتلال في العراق إلى حين إنهاء وجود القوات الأجنبية في العراق واستعادة الاستقلال والسيادة الوطنية, لنبني مؤسساتنا الديمقراطية التشريعية والتنفيذية, بما فيها الجيش والشرطة والأمن الداخلي, والمؤسسات القضائية, ولنفسح لها مجال العمل لصالح العراق الديمقراطي الفيدرالي.
برلين في 20/5/2005 كاظم حبيب
#كاظم_حبيب (هاشتاغ)
Kadhim_Habib#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟