|
إشكالية ذهنية التخوين في الوطن العربي
حسن محسن رمضان
الحوار المتمدن-العدد: 4215 - 2013 / 9 / 14 - 22:33
المحور:
المجتمع المدني
تتميز كل أمة من الأمم بذهنية خاصة تبرز بها عن مَن سواها وتتطبع بها. هذه الذهنية هي انعكاس مباشر للثقافة السائدة في هذه الأمة، وهي أيضاً انعكاس مباشر لحالة الصحة أو المرض لها. فعندما تسود المجتمع قناعات المجتمع المدني على سبيل المثال، فإننا سوف نرى (ذهنية) تلقائية تبرز في النسيج الاجتماعي لا تُناقش أصلاً مبدأ (احترام القانون)، فهذا أمر في تلك الذهنية بديهي مفروغ منه، ولكنها تُناقش، وبكل حرية وأريحية، محتوى القانون أو امكانية إلغاؤه أو تبديله أو تنقيحه. فالمبدأ يبدو واضحاً جداً إلى حدود البداهة التلقائية ضمن قناعات المجتمع. فمخالفة القانون أو التحايل عليه هو أمر غير قابل للبروز كظاهرة عامة في هذه المجتمعات تتبناها شرائح متعددة ضمنها، ولكن التباين أو حتى الصراع يكون ظاهراً فقط في الخلاف الطبيعي حول (المحتوى) أو (المضمون) القابل للتغيير أو الإلغاء. وكذلك، في تلك المجتمعات، فإن مفهوم (المواطنة) على سبيل المثال غير قابل للتقسيمات العرقية أو المذهبية أو الدينية فيما تعلق بالحقوق والواجبات لأن (الذهنية)، ومن خلفها (القانون)، سوف تتهم من يتبنى تلك التقسيمات بـ (العنصرية) أو (التمييز) العرقي أو الديني. إلا أن مجتمعاتنا العربية تقف على النقيض تماماً، بكافة تنوعاتها الدينية والمذهبية والعِرقية والسياسية، التي نرى فيها بروز (ذهنية) خاصة لا تعكس حتى الشعارات التي تتبناها، أو على الأصح تقتبسها اقتباساً من الأمم الأخرى، من دون فهم دقيق لمحتواها، وبالتالي تبرز حالة التناقض بين الواقع والشعارات المرفوعة في كل مظاهر التصرفات أو المواقف وما يصاحبهما من نتائج. هناك استعداد بديهي في الذهنية العربية للانقسام على الذات لخلق حالة صراع داخلي إلى حدود القتل والتصفية. وهناك استعداد ذهني تلقائي لهدم الذات الاجتماعية العامة في الشخصية العربية.
الذهنية العامة لأي أمة، بشكل عام، هي نتاج لتفاعل عدة عوامل تعمل على مستوى العواطف والقناعات وربما الأوهام الآنية اللحظية التي ينتج عنها عمل جماعي محدد. تلك العوامل منها ما هو ثقافي، ومنها ما هو عقائدي، ومنها ما هو اجتماعي أو حتي نفسي، ومنها ما هو نتاج للدافعين الإنسانيين الأزليين (الخوف والمصلحة الذاتية). هذه العوامل مجتمعة تكون فاعلة دائماً لخلق الذهنية البارزة في التعامل مع القضايا المطروحة. ويكمن مدى أهمية فهم الذهنية الفاعلة في المجتمع وتشخيصها في حقيقة أن هذه (الذهنية) هي المسؤولة دائماً عن (الحالة الراهنة للمجتمع). فكل مجتمع تبرز فيه المبادئ المدنية بشكل واضح ومعها مظاهر التحضّر بأشكالها المتعددة، أو العكس، ما هو على الحقيقة إلا نتاج أصيل ومباشر لذهنية هذا المجتمع. إلا أن هذه الذهنية لا تبرز كإشكالية تستحق النظر والدراسة، وربما العلاج أيضاً، إلا إذا أصبحت (ظاهرة) يتبناها قطاع ذو ثقل عددي ضمن المجتمع بحيث تكون إحدى الخصائص البارزة لتلك الذهنية هي هدم الذات، سواء أكان هدم الذات هذا موجهاً للمجتمع أو لمفاهيم ومبادئ الدولة المدنية بمعناها المعاصر المتحضر. الذهنية العامة لأي شعب تتبدى دائماً في التفاعل التلقائي مع القضايا العامة المطروحة. فعلى سبيل المثال، في الذهنية العربية هناك استعداد تلقائي لـ (تخوين) الآخر الذي يقف على الخلاف في القناعات. فنرى مثلاً أن عملية فض المظاهرات لأنصار الجماعات الدينية في مصر الشهر الماضي من جانب الجيش والذي نتج عنه قتلى تجاوزوا الألف من الأطفال والنساء والشباب والشيوخ تبنى رفضه واستنكاره قطاعات متعددة داخل وخارج مصر. المسألة للكثير من هؤلاء الرافضين كانت تنطلق من موقف "حضاري" بحت لا يبيح القتل لغير المحاربين ولا يرضى باستهداف المدنيين والأبرياء. ولكن عندما قرر المناصرين لفض التظاهرات بهذه الطريقة الاعتراض على مخالفيهم برزت فكرة (التخوين) مباشرة في خطابهم بشكل واضح. وهكذا أصبح كل متظاهر "خائن" وكل رافض لقتل هؤلاء المتظاهرين "خائن". بل حتى وسائل الإعلام المحلية المصرية، المرأية والمقروءة، أصبحت تروج لمصطلح (الخيانة) في وصف المخالفين أو الرافضين لعمليات قتل المتظاهرين. وكذلك هو الحال مع هذه الذهنية في العراق وسوريا ولبنان وليبيا وتونس واليمن ودول الخليج، كلٌ فيما يتعلق بقضاياه الداخلية. وهذا يُعيدنا بدوره إلى الخطاب السياسي الديكتاتوري الانقلابي الثوري العربي، ذو الطابع العسكري دائماً، بدءاً من الخميسنيات من القرن الماضي، الذي إذا قارناه مع الخطاب الناتج من ما يُسمى بثورات الربيع العربي، نتفاجأ بأنه لم يتغير شيء إطلاقاً في مفردات الخطاب، ولم يتغير شيء إطلاقاً في الشخصية العربية، ولم يتغير شيء إطلاقاً في المفاهيم والذهنية العربية. فوجود الديكتاتوريات أو غيابها لم يؤثر إطلاقاً على الشخصية العربية ومفردات خطابها. المجتمعات العربية، كذهنية وكشخصية، هي هي، كما كانت فيما قبل منتصف القرن العشرين على الأقل، توجه جهدها دائماً لهدم الذات عند أول معارضة أو خلاف إما تحت مصطلحات التكفير والهرطقة الدينية أو مصطلحات التخوين والعمالة التي تبرز في استعمالها الشعوب وترعاها الدولة لمصلحة أفرادها في قمة السلطة.
خطورة ذهنية التخوين أنها تبرز بشكل تلقائي جداً وبرحابة صدر منقطعة النظير في الشخصية العربية، وتكون داعية إما ضمناً أو صراحة للتنكيل بالآخر المختلف إلى حدود القتل والتصفية. فعندما يتبنى قطاع كبير من الشعب الدعوة لانتهاكات صارخة لحقوق الإنسان ضد المختلفين عنهم من مواطنيهم أو المعارضين لرأيهم السياسي أو العقائدي فإن الأمر يتعلق هنا بشذوذ في المفاهيم المبدأية المسؤولة عن تكوين الشخصية العامة للمجتمع. فمما يلفت النظر في الأحداث المصرية مثلاً هو أن الثورة الشعبية المصرية التي أطاحت بحكم الرئيس السابق حسني مبارك، إذا غضضنا النظر وتغافلنا عن حقيقتها الاقتصادية الواحدة الوحيدة، قد قامت تحت شعارات رفض الظلم وطلب الكرامة والإطاحة بالممارسات القمعية البوليسية ضد الشعب، فإذا بنا هنا أمام نفس هذا الشعب يدعو صراحة ومن دون لبس إلى الحط من كرامة مخالفيهم وإلى تبني نفس الممارسات البوليسية القمعية ضدهم والتبرير لانقلاب عسكري الحاكم الفعلي فيه هو جنرال في الجيش. فمن يُقتل في الزنازين تحت حكم ديكتاتور هو بالضبط نفس حالة مَن يُقتل بالرصاص في الساحات العامة لأنه تظاهر بعد الثورة على هذا الديكتاتور، النتيجة واحدة. فكأنهم عادوا إلى المربع الأول، وكأنه لم تقم ثورة ولم يتغير شيء. المثير للدهشة هنا هو أن هذا الشعب لا يبدو أنه واع لحقيقة وقوعه في تناقض مبدئي بين موقفه في ثورته الأولى وبين موقفه من الانقلاب العسكري. عدم الوعي هذا هو في ذاته لب الإشكالية وإحدى خصائصها الخطيرة في الشخصية العربية بصفة عامة.
التباين بين الشعارات المرفوعة حول قضايا متعددة سياسية أو اجتماعية في الدول العربية وبين (الذهنية) التي تتعامل بواسطتها مع قضاياها، مع ما يرافقها من صعوبة في تمييز التناقضات المبدئية بصورة واضحة، هي مظاهر إشكالية خطيرة في الشخصية العربية. فالموقف المبدئي البديهي في قبول الخلاف في القناعات مع تشجيع الحوار والمناقشة حول الأهداف والنتائج يبدو غير مفهوماً أو غير وارداً إطلاقاً في تلك الذهنية. فمبدأ (حرية الاختيار) يبدو مغيباً تماماً، حتى مع شعارات الثورات العربية الربيعية والداعين لها، لصالح الذهنية العربية الأولى (إما أنت معي تماماً أو أنت خائن أو كافر، اختر ما شئت). الأمر مع (ذهنية التخوين) هذه، والتي هي في الحقيقة انعكاس مباشر لذهنية المجتمع العربي وموارد ثقافته الحقيقية، غير قادر إلا أن يصور الأمر وكأنه لا يحتمل إلا معسكرين، معكسر عملاء وخونة، ومعسكر الوطنيين الذين يحق لهم باسم الوطنية (!!!) أن يقمعوا خصومهم أو حتى يقتلوهم. ذهنية المجتمع العربي في محاوره المتعددة هو موضوع، في رأيي المتواضع، يستحق الدراسة الجادة المتأنية. إذ أن الذهنية التي تتفاعل مع الأحداث المختلفة هي التي تؤثر سلباً أو ايجاباً في المحيط لينتج عنها (حالة راهنة) من نوع ما. وتلك (الحالة الراهنة) للمجتمعات العربية هي ببساطة كارثية على أكثر من صعيد. وعلينا جميعاً أن نقف متفكرين في تلك الذهنية.
#حسن_محسن_رمضان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
خاطرة - لا تصلح كمقالة
-
معلولا ... والدونية الإنسانية المتطرفة
-
في مبدأ احترام النفس البشرية
-
في مشكلة الفشل الحضاري العربي
-
إعادة اكتشاف الغباء الجماعي
-
في الأزمة الأخلاقية العربية
-
متّى وإنجيله - نموذج في نقد النص المقدس – 6
-
متّى وإنجيله - نموذج في نقد النص المقدس – 5
-
متّى وإنجيله - نموذج في نقد النص المقدس – 4
-
متّى وإنجيله - نموذج في نقد النص المقدس – 3
-
متّى وإنجيله - نموذج في نقد النص المقدس – 2
-
متّى وإنجيله - نموذج في نقد النص المقدس - 1
-
مشكلة نقد النصوص المقدسة
-
مشكلة الآخر المختلف في الإسلام
-
مصطلح الثوابت الإسلامية
-
يسوع والمسيحية والمرأة – 2
-
يسوع والمسيحية والمرأة - 1
-
من تاريخ التوحش المسيحي – 2
-
من تاريخ التوحش المسيحي
-
الازدواجية في الذهنية الدينية ... الموقف من نوال السعداوي
المزيد.....
-
كاميرا العالم ترصد خلوّ مخازن وكالة الأونروا من الإمدادات!
-
اعتقال عضو مشتبه به في حزب الله في ألمانيا
-
السودان.. قوات الدعم السريع تقصف مخيما يأوي نازحين وتتفشى في
...
-
ألمانيا: اعتقال لبناني للاشتباه في انتمائه إلى حزب الله
-
السوداني لأردوغان: العراق لن يقف متفرجا على التداعيات الخطير
...
-
غوتيريش: سوء التغذية تفشى والمجاعة وشيكة وفي الاثناء إنهار ا
...
-
شبكة حقوقية: 196 حالة احتجاز تعسفي بسوريا في شهر
-
هيئة الأسرى: أوضاع مزرية للأسرى الفلسطينيين في معتقل ريمون و
...
-
ممثل حقوق الإنسان الأممي يتهرب من التعليق على الطبيعة الإرها
...
-
العراق.. ناشطون من الناصرية بين الترغيب بالمكاسب والترهيب با
...
المزيد.....
-
أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال
...
/ موافق محمد
-
بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ
/ علي أسعد وطفة
-
مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية
/ علي أسعد وطفة
-
العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد
/ علي أسعد وطفة
-
الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي
...
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن
...
/ حمه الهمامي
-
تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار
/ زهير الخويلدي
-
منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس
...
/ رامي نصرالله
-
من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط
/ زهير الخويلدي
-
فراعنة فى الدنمارك
/ محيى الدين غريب
المزيد.....
|