مريم نجمه
الحوار المتمدن-العدد: 1204 - 2005 / 5 / 21 - 10:07
المحور:
الادب والفن
الإهداء .
إلى الذين عمّروا القرية الصيدناويّة
وعمّروا بلداتنا ... وقرانا
وزرعوا الأرض ..
وكتبوا مسيرة الحياة .. والكفاح ,
بعرقهم .. وكدحهم .
1992 - بيروت -
م . مريم نجمه
أحاول في هذه المقدّمة أن أشرح معنى الصورة وأبعادها .
قيمة الصورة الفنية , والتراثية , والحضارية .
نشوئها .. وتطورها ,
تطوّر قيمتها .
الصورة وعصرنا الحالي .. وولوجها إلى القمة .
مهمة الصورة في حياتنا ...
لماذا صيدنايا ..؟
ومذا ستخدم ..؟
ومن ستخدم ...؟
مقدّمة :
الصورة ..
الصورة وحدها هي الباقية .
الصورة وحدها هي التي تحكي مفردات التاريخ ( الزمان ) , والجغرافيا ( المكان ) .. وتطور الشئ من .. وإلى .. ,
وهي التي ترسم لغة القديم والجديد والذي سيصبح هذا الجديد قديما يوما ما , غدا أو بعد غد .
.. كلنا نمضي , نفنى .. وحدها الصورة هي الباقية ..,
هي التي ستحكي بخطوطها , ولغتها الصامتة تطور الإنسان .
والطبيعة هي أيضا في تطور , وتغيّر مستمر .. بظاهرها وباطنها ,
وصحيح أن تغيرها يتمّ ببطء كما يبدو لنا , لكنها على مرّ العصور والأزمنة , تتبدّل , تتعرّى , وتتهدّم , . تثور , تعلو , وتخفس , تزهر تخضرّ بغاباتها وأثوابهاالمتنوعة والمتعددة , ثمّ يفرّغها الإنسان ويفترس صدرها وبطنها ويمزق ثوبها, يجدبها , ثمّ يجعلها جنة عدن , أو جنائن معلّقة .. أو يحوّلها في نواحي وجوانب أخرى صحراء قافرة تذروها الرياح والرمال , أوكتل من الإسمنت الصمّاء العديمة الحركة واللون والجمال .. والحياة .
أو يقيم عليها البيوت والقرى والمدن والعواصم - والإهرامات , والزقورات , والمعابد .. وناطحات السحاب .
إذا .. الصورة هي الاّلة والشريط واليد التي تسجّل نبضات هذا التحوّل والتبدّل والتقدّم والتطوّر . وهي "العين اللاقطة " للحركة دون زيف أو خوف , بكل صدق وصراحة , وشاهدة لا تردّ شهادتها على الحالة , على الماضي , على اللحظة ... ولا يرتقي الشك إلى مصداقيتها .
فهي التي تحكي لنا عن اّثارنا وتراثنا وحضارتنا .. وإنساننا وسيرته على هذه الأرض ببصمات ثابتة محفورة بالصخر , لا يستطيع أن يبدّلها أو يغيّرها أي إنسان .
فإذا نظرنا " بعين التاريخ المجهرية " .. إلى التاريخ القديم - إلى الإنسان الأوّل .. فإنه يبدو لي :
أنّ الإنسان الأول ولد " فنانا بالفطرة " .
فأول عمل قام به " الإنسان الأوّل " الذي سكن المغاور والكهوف منذ فجر التاريخ , منذ اّلاف السنين -
هذا الإنسان ...
( رسم وصوّر ) .. إنساننا الأول رسم أوّلا ... , قبل أن ينطق أو يكتب أو يتكلم ويجد اللغة التي يعبّر بها عما يجول في خاطره أو فكره .
فصوّر ورسم الطبيعة وما يدور معه من صراعات ضد الحيوانات و الوحوش الكاسرة وغير الكاسرة , ومع الكوارث والظواهر الطبيعية حوله . كل ذلك نقله إلى الجدار .. إلى لوحه الأول " وسبّورته البدائية " التي يملي فيها وعليها ملاحظاته و دروسه اليومية مع نفسه ومع الجماعة .
فالصورة أو الرسم إذا .. كان ملازما للإنسان مذ وجد على سطح هذه الأرض ولا يزال ...
فمن هذا المنطق وهذا الواقع , أعتبر أن الصورة هي جزء وإرث هام وقيّم من كنوزنا واّثارنا , وبصماتنا , وتاريخنا , وأبجديتنا الأولى , وهي التي مشت معنا , ونقلتنا خطوة تلو خطوة في طريق الحضارة , وأبجدية الحرف فيما بعد .
وعندما ابتدأ الإنسان يتوصّل إلى إكتشاف واختراع الكتابة التي تعتبر هذه الخطوة الفاصل بين عصور ما قبل التاريخ والعصور التاريخية , كما صنفها العلماء والمؤرخون كان ذلك من عام 3200 - 3000 ق . م , كانت ( الكتابة الصورية الهيروغليفية المصرية القديمة ) .. أي التعبير عن الشئ بالصورة - هي المرحلة الأولى في الكتابة التي سبقت ( الكتابة المسمارية ) .. وبعدها طوّرت واكتشفت أبجدية الحرف في مدينة أوغاريت ( رأس شمرا ) .
وهكذا ... سواء في حضارات " وادي النيل " و .. " بلاد الرافدين " .. و " بلاد الشام " فيما بعد .
فبلادنا إذا هي هذا الإنتماء العميق العميق في الشرق .. والبحر المتوسط , والهلال الخصيب , والحضارات الأولى.. بلاد البدايات الأولى .. هي بلاد أو " مهد الصورة الأولى " .. والفنّ الأول في الخطّ والمساحة واللون والضؤ والخيال الخصب .. ,
الحرف الأول .. الجذور .. الينابيع .. والأصالة .
فيحق لنا أن نفتخر ونعتز بأبسط الأشياء لأنها خميرتنا .. والأساس الذي سنبني عليه هويتنا العربية .. المشرقية الأصيلة .
هكذا إذا على مرّ الأجيال , أخذت الصورة تكبر .. وتتوسّع وتتطور شكلا , ومضمونا , ومحتوى , وتقنيّة , وأخذت أهميتها تتعمّق وتتشعّب أكثر فأكثر , حتى دخلت عالما جديدا واسعا زاهيا إسمه " الفن والفنون والتصوير والرسم .." الخ من العلوم والإختصاصات .
وعلى أبواب عريضة احتلّ واجهات المدن , والحضارات .. ولا يزال .
هكذا على مرّ الحقب أصبحت الصور والنقوش والكتابات الجدارية .. نوعا من تأكيد وحضور شخصية الإنسان - في قبوله ورفضه , في حبه وفرحه وخوفه للأشياء المحيطة به .
وقد كانت شكلا من التعبير المرئي الصامت عما لم يتمكن المرء البوح به مباشرة من الأفكار .
فالكتابات والنقوش والصور , وإن كانت في كثير من الأحيان مغفلة أو مهملة , إلا أنها وعلى ضؤ العفوية الشعبية التي تسلطه على الوقائع والأحداث تشكل الكتابات والصور وثائق هامة يستند إليها المؤرخون , ويستعين بها علماء الاّثار .
فمثلا إذا تفحصنا بعض فترات التاريخ القديم والحديث , في أيام الحروب وتكوين الأمراطوريات والتوسّع , كانت الصورة والصورة الحجرية والجدارية والتماثيل والنحت والكتابات والرسم وو ... الخ , هي المادة و " العين الكاشفة " للحدث , والتي حفظت لنا الماضي بسلبياته وإيجابياته , بضعفه وقوته , بقبحه وجماله , وأدواته ومستواه - هي " البومات العصر " ... و " كاميرا الماضي " .
إن الرسومات والاّثار والتصاوير التي تركها لنا السومريون , الأكاديون , الاّشوريون , الكلدانيون , والبابليون .. , والمصريون القدماء - الفراعنة - والكنعانيون الفينيقيون - والأراميون , التدمريون , والأنباط ووو - على معابدهم وقبورهم , وإهراماتهم ومسلاتهم وساحاتهم ووو... , وما تركه لنا مصارعو ( روما ) قديما على جدران مدينة " بومباي " , - تخبرنا كلها عن نوع الأسلحة ,وشكل وموضة الألبسة التي كان يرتديها الملوك والمحاربون وبقية الناس , ووعن المعارك وسيرها , ومعتقداتهم , واهتماماتهم وغيرها وغيرها ..., كذلك إبان الإضطربات الطلابية في فرنسا عام 1968- أيار - طبع طلاب باريس شعاراتهم على الجدران , وبعد أن غسلت باريز جدرانها فما من مؤرخ أو باحث يستطيع بعث جو تلك الأيام إلا إذا استعان بالصور المحفوظة وكذلك الحرب الأهلية في لبنان التي دامت خمسة عشر عاما وفلسطين المحتلة وغيرها .. أرشيف الصور اليومي هو الذي يتكلم بلغته الحقيقية وشعارات الحائط المحفوظة هي التي ستتكلم إلى الأبد على مر الأجيال .
لندع ونترك الصور تروي وتتكلم وتعلمنا كل ما لديها من مخزون قيمي في عالم المعرفة والحقيقة .
ولأن الصورة أصبحت الاّن تعد محورالعلم والرقي لهذا العصر وأساسا للعملية الثقافية والتعليمية برمتها .
لقد اصبحت تدخل دون استئذان , أو هويّة , إلى كل بيت وزاوية , إلى كل شارع ومحطة وقطار , ومطار , وباخرة وزورق , إلى كل روضة وكتاب وصحيفة , ومدرسة .. ومحاضرة .
فهذه الدنيا تختصرها .. صورة .
فهي الماضي , والحاضر , والمستقبل , فقد استطاعت أن تعبّر عن مختلف مراحل الحياة من لحظة الولادة إلى لحظة الوفاة .
ففي الصورة تستعاد المواقف والصور القديمة " والهيهات " وذكريات الأيام الخوالي لأنها تعاش من جديد .
وهي القاسم الأوحد بين جميع المناسبات :
الحزن والفرح , النجاح والفشل , المرض والصحة , الإنتصار والهزيمة , الحرب والسلم .
والصورة أنواع ومناسبات ومواقف . فيها الوجوه والاّثار الدينية والفنية وكل مناحي الحياة , وقد بقيت وحفظت لنا سليمة على جدران القبور واللحود والتوابيت والمعابد والأبواب والمسارح والأسواق حتى يومنا هذا منذ خمسة الاّف عام ق . م بل أكثر .. لتحكي وتنقل لنا الدورة الحياتية الكاملة للإنسان , والتي تقيم داخل إطارها كل ما يدور على هذه الأرض .
فالكلام عن الصورة لا ينتهي .., فكل الأعمال الكونية التي تجري حاليا داخل كوكبنا الأرضي أم خارجه , تعتمد على ... الصورة .
إنها العالم بحدّ ذاته .., وهي التاريخ .. وهيكلية كل الناس , وجميع الكائنات الحيّة . وكما يقول المثل : " صورة واحدة تغني عن ألف كلمة " .
فمن هذه الصور التي أعتزّ بها وأعلقها على جدار غرفتي , وأخبئها .. وأضمها .. داخل ألبوم صوري .. وبين نور عيوني لتنام بين ضلوعي .. وتغفو معي .. وتصحو .. , حتى لا أحد يسرقها , أو يتلفها ويمحيعشقها وحبها للحق والحقيقة .. والمعاني الكبيرة لخطواتنا .. ولتاريخ البشرية .. وتراثها الإنساني البعيد البعيد والمسافر في الزمان المتعلّق بأهداب المستقبل الوضاء .. وأجنحة السلام البيضاء .. .. لكل هذا أكتب .
أكتب للحاضر .. للإنسان المتعبّد في هياكل الوطن .. وحبّ الأرض .. وترابها المقدّس .
لنكتب لهم جميعا جمال الروح , وعشق الأرض .. كما يكتب الربيع سنويا على وجه الطبيعة بحدّ محراثه ينابيع التجدّد , وعشب الحياة المستمرّة مع كل شروق فجر .. وصباح .
وانطلاقا من حبنا لوطننا , وحبنا للمكان الذي هو جزء لا يتجزأ من ذواتنا وشخصيتنا .. وتكويننا النفسي , والفكري -
هذه الأرض التي عشنا عليها , وأعطتنا الكثير الكثير للنمو والخير , والحياة , والإستمرارية , فهي لها حق علينا , بأن نحترمها ونجلّها , ونعطيها قيمتها الحقيقية , ومكانتها , وجمالها في هذا الكون الواسع الذي لا نعرف بدايته ولا نهايته .
فجدير بنا أن نسجّل نقطة من بحر وجودنا في هذا العالم .. ضمن أشياء أحببناها , وسكنت فينا , وفي خلايا جسمنا , وعقلنا نمت وتطورّت , وكانت هي الرافد .. والنبع الذي يغذينا في مسيرة حياتنا الطويلة الشاقة , وهي التي كانت تدفع فينا الشجاعة والثبات , والصبر , والإرادة , والقوة .
فلنعلّق .. ونعرض , ونضع , أو نضم في داخل مكتبات الصور , وخزانة التراث , والبلدات , والقرى , والمدن .. كتابا لصور من وطني ... هي بلدتي الحبيبة .. صيدنايا .
.... لتحكي قصة هذه البلدة وتكونها ووجودها , وتطورها , وانتقالها من عهد إلى عهد, ومن فترة إلى أخرى .. ومن طابع إلى طابع ,
بالعلاقات والإنتاج والحبّ والتعاون والتضامن والمظهر الطبقي , والإقتصادي , والمادي والثقافي - " لأنه لكلّ نمط معيشة نمط تفكير " .
أترك للقارئ والمشاهد .. عملية المقارنة , والتحليل في خطى الجديد الذي لفّ حياتنا فسلب منا أشياء عزيزة وغالية وثمينة , وأدخل وكرّس أشياء لها سلبيات وإيجابيات .ليمتع الناظر عينيه , ويغذي عقله , وأحاسيسه , ومشاعره بلوحات .. وصور هي بحدّ ذاتها غذاء , وفن .. وصلاة .. وعشق .. وعبادة .. مقدّمة على طبق من ألألوان المحلية الريفية ( الإنسان , النبات , الحيوان , الحجر ...) .
يتبع -
#مريم_نجمه (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟