صائب خليل
الحوار المتمدن-العدد: 1203 - 2005 / 5 / 20 - 09:26
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
الاسم والمعنى
يعرِّف هيغل الفلسفة بانها محاولة القبض على الواقع من خلال الفكر.
ولتسهيل الامر على الفكر, اطلق البشر "اسماء" على المعاني التي يحتاجون الى استعمالها للاتصال فيما بينهم, فارتبطت تلك الاسماء بتلك المعاني في اذهان الناس واستعملوها لرفع مستوى التفكير والاتصال الى مستويات اعلى مما كانت قبل ذلك, وكان دورها مشابها لدور النقود في التجارة.
ولكن, ومثلما يمكن اساءة استغلال النقود بتزويرها, يمكن تزوير الكلمات لعزل التفكير عن الواقع, وهذا ما يجري على نطاق واسع في ميدان السياسية بشكل خاص.
فهاهو فيلسوف الكتابة السياسية الساخرة جورج اورويل (مؤلف "مزرعة الحيوانات") في النصف الاول من القرن العشرين يقول: "اللغة السياسية ....مصممة لتجعل الاكاذيب تبدو كحقائق, والقتل عمل محترم, ولاعطاء الخواء, مظهر المحتوى الصلب"
يرى بروفسور علم اللغات العالمي والمحلل السياسي الامريكي الكبير نعوم جومسكي ان "السياسة ميدان عام لايحتوي اسرارا (غريبة). فهي ليست "فيزياء الكم" المعقدة, ويمكن لأي انسان ان يفهمها ان هو عمل على ذلك." لكن ذلك الجهد المطلوب لذلك الفهم يتزايد صعوبة مع الزمن ومع ازدياد حجم المصالح في جعل الناس يقبضون على الوهم بدلا من الواقع.
في هذه الحلقات نحاول ان نتعرف على اساليب المحاولات التي يريد البعض اصابتنا بواسطتها بالجنون من خلال ابعادنا عن الواقع. فاذا نجحنا يوما في تمييز كلمة موبوءة المعنى بفضل ما قرأناه هنا وما بذلناه من جهد في تحليلها, نعلم حينها ان لقاحاتنا تعمل فعلا, وتؤتي مفعولها!
قلنا في الحلقة السابقة (رقم صفر) http://www.rezgar.com/debat/show.art.asp?aid=36100
ان الجنون هو الانفصال عن الواقع, ولذا فيمكن اعتبار اي تشويه لمعرفتنا بالواقع وابعادنا عنه يصيبنا بدرجة ما من الجنون. وعلى هذا الاساس فان كل الاكاذيب والمغالطات والمراوغات التي تصلنا من خلال الاعلام, ليست الا حوامل "لجراثيم الجنون". وبما ان الهواء يمتليء بها فمن الحكمة ان نحصن انفسنا بلقاحات مضادة لها, كما نفعل مع بقية الامراض. في هذه السلسلة من المقالات نحاول تحليل اشكال ظهور تلك المراوغات, وفي كل مرة نتمكن من التعرف على بعضها مستقبلا, نعلم ان لقاحاتنا تقوم بعملها بشكل جيد.
التلاعب بالكلام من خصائص القوي عادة
ستلاحظون ان معظم الامثلة التي اتيت بها في هذه السلسلة ستكون تحليلا لتعابير اعلامية امريكية واسرائيلية. وليس ذلك بسبب موقفي من الدولتين, وانما لان ظاهرة التلاعب بالكلام في السياسة على الاقل, هي بشكل عام من خصائص القوي. فالقوي يحس بقدرته على فرض مصالحه على الاخرين لكنه يواجه بمشكلة تناقض الاساليب الممكنة لتحقيقها مع الاخلاق والعرف العامة, لذا يلجأ الى تصويرها بشكل يسهل عليه وعلى الاخرين قبولها, فيعطيها اسماء اجمل من الاسماء المعبرة عنها.
الكلمات المفتاحية: التطبيع مثالا
كما قلنا اعلاه, يفترض ان توحي لنا الكلمة بالمعنى الذي تستعمل فيه فيما نقرأ او نسمع. وقلنا ايضا ان هذا ليس امرا مضمونا. ويمكننا دائما ان نحزر ما يقصده المقابل من كلماته, فعندما وهناك عادة في اي موضوع مقالة او نقاش كلمة او بضعة كلمات اساسية , مفتاحية, يدور النقاش حولها. والقاعدة مع الكلمات المفتاحية, هي انها تستحق المراجعة دائما. هل ان المقصود الفعلي (الذي نحدسه من معرفتنا المسبقة بالموضوع والمتكلم) من الكلمة هو ما توحي به الكلمة فعلا؟ لنأخذ مثالا على ذلك:
يتحدث أشرف عبد القادر, في مقالة نشرها في "الحوار المتمدن" قبل فترة,
http://www.rezgar.com/debat/show.art.asp?aid=35265
عن مقابلة له في فضائية "العالم" امام سمير أحمد رئيس اتحاد الكتاب الفلسطينيين في الأستوديو، ود. أحمد بهاء الدين. يقول اشرف: " وكان ملخص ما قالاه هو أن ظهور أي صهاينة يهود على الفضائيات ضار بالقضية الفلسطينية، ويعتبر تطبيعاً مع العدو الإسرائيلي، ولأنه يساعد في خلط المفاهيم وتزييفها. ولا أعرف أي مفاهيم سيتم خلطها عندما نستضيف اليهود(1) ونحاورهم."
ثم سألت مقدمة البرنامج ضيوفها
"هل السلام أولاً أم التطبيع؟" يقول اشرف :" فأجبت: في رأيي التطبيع أولاً. لماذا؟ لأن اليهودي مسكون بهاجس الخوف، فإسرائيل تعتبر نقطة في المحيط العربي، فعندما نقيم معها علاقات ثقافية واقتصادية سنطمئن الشعب الإسرائيلي فإظهارنا حسن النوايا له، وبأننا لن نرمي به إلى البحر الأبيض أو الأحمر كما قيل سابقاً، سيساعدنا في كسب الرأي العام الإسرائيلي بهذا التطبيع"
الكلمات المفتاحية هنا هي "التطبيع" و "السلام", وهي ما يتوجب علينا التركيز عليه للتأكد من خلوها من فيروسات الجنون, لكن لا بأس اولا من ابداء ملاحظة سريعة عن تعابير اخرى جانبية.
التساؤل الشرعي الاول هنا, من هو الاجدر بالخوف من الاخر؟ المحتل القوي ام ضحيته الاضعف؟ هل يتوجب طمأنة احدى اقوى الدول في العالم عسكريا وسياسيا, والدولة النووية الوحيدة في المنطقة من شعب تحتله وتشرده ولايملك حتى دولة, ام بالعكس؟ وهل ان المسكونين بهاجس الخوف فعلا, يهاجمون ويحتلون من يخافون منهم ام يتجنبوهم وربما يحاولون ابداء الصداقة لهم ؟
من يفترض ان "يطمئن" الاخر؟ وما هي "النوايا الحسنة" الممكنة التي يفترض بالشعب الفلسطيني ان يظهرها لمحتليه؟ ليس هناك الا قبول الاحتلال اذن؟
لكن لنعود الى الكلمات المركزية في النقاش:
"السلام" بالطبع كلمة مطاطة تعبر عن غياب الحرب, ولكن وسائل الوصول اليها تشمل طيفا واسعا يبدأ من القضاء على الاخر بقتله او تشريده, الى السلام القائم على اتفاق عادل بين اطرافه, لذا ف "السلام" كلمة لاتحمل اية معلومات مفيدة عن نوايا مدعيها, سوى الرغبة بانهاء الصراع بشكل ما, لذا استعملها الجميع من غاندي الى هتلر. فهل السلام المقصود هنا اقرب الى سلام غاندي ام سلام هتلر؟
الكلمة المفتاحية الاخرى هنا هي: "التطبيع", وهو مثال ممتاز على كلمة ذات معان مختلفة في مواقع مختلفة.
الحالة المتوازنة هي الحالة الطبيعية في العلاقة بين الشعوب والدول وحتى الافراد. لكن الدول والشعوب التي تحس بالظلم ممن هو اقوى منها, تلجأ الى الغاء الحالة الطبيعية, حتى وان كلفها ذلك كثيرا, والدخول في صراع بهدف تكليف ذلك القوي اقصى قدر مستطاع والغاء مكاسبه من الظلم, وبالتالي اغراءه بالعودة عن ظلمه الى (درجة مقبولة من) السلام العادل المتوازن الذي يفترض ان يكون في مصلحته ايضا. يأمل المظلوم ان يوصل الى القوي ان ليس له ان يتمتع بافضليتي كل من التعايش الطبيعي والظلم معا, اما القوي فيأمل ان يجد طريقا للاحتفاظ بهما معا.
فالتطبيع بعد السلام, وافترض ان اشرف يقصد "السلام العادل", ينتج التعايش الطبيعي المبني على المصالح المتبادلة ووفق القوانين والاعراف الدولية والبشرية. ولكن ماذا ينتج "التطبيع قبل السلام"؟
نفهم من "التطبيع" ان نوقف صراعنا وننسى خلافنا ونقبل الوضع الراهن ونعتبره طبيعيا. فاذا لجأنا اليه قبل زوال الاحتلال مثلا, فانه يعني اعتبار الاحتلال "امرا طبيعيا", ويصبح الظلم والدونية الموجهة نحو الشعب الفلسطيني في هذه الحالة, امرا "طبيعيا".
فلا يراد ب "التطبيع" هنا "اعادة الامور الى طبيعتها" كما هو متوقع من الكلمة, اي انسحاب كل طرف الى ارضه, وايقاف العمل بالقوانين العنصرية والانتهاكات القانونية والتحقيق في الجرائم التي ارتكبت وترتكب. بل المقصود ان يتم تبادل العلاقات الدبلوماسية كما تكون عادة بين دول ليس بينها اشكال, وتبادل العلاقات الفنية والثقافية والتجارية ليس المقصود ب"التطبيع" اعادة الامور الى وضعها الطبيعي, بل "التصرف كما لو ان الوضع طبيعي", وبالتالي قبوله.
يريد اشرف في الواقع تحقيق اقصى الطموحات العنصرية المعروفة للمستعمر والمسماة: " Internalization of oppression" وهي اقناع المضطهدين (بفتح الطاء), بان هذا هو الوضع "الطبيعي" وانهم ليسوا متساوين مع "اسيادهم." وان "دونيتهم طبيعية" لا مفر منها. وهذا الطموح من قبل المستعمر مفهوم, فهو الوضع الاكثر اقتصادية لاستغلال المضطهدين.
"فالتطبيع" بلا شك رغبة لكل من طرفي النزاع, لكن بعد الوصول الى الوضع المقبول من اي طرف على انه وضع "طبيعي", والا فان ذلك الطرف يفضل بقاء حالة الصراع, لانها تبقي الباب مفتوحا للوصول الى وضع افضل.
اترك للقاريء بقية من مقالة اشرف للتمتع باكتشاف الكلمات الموبوءة فيها وتحليلها.
يكمل اشرف:
" وبما أن إسرائيل دولة ديمقراطية فإن الرأي العام سيؤثر ويضغط على حكومة الليكود التي لا تريد السلام بل وتخافه، فالتطبيع أولاً والسلام يأتي ثانياً كتابع للتطبيع وكنتيجة له. فالتطبيع له وظيفة واحدة ووحيدة هي فتح شهية الرأي العام الإسرائيلي للسلام.
فأرغد وأزبد محدثي مفنداً هذا الرأي ، وقال كلاماً إنشائياً مللنا من سماعه، ومن أن للشعب الفلسطيني حقوقاً لابد من أخذها قبل التطبيع. وطلبت مني مقدمة البرنامج أن أرد على هذا الكلام فقلت: ما من شك أن للشعب الفلسطيني حقوقاً لابد أن يأخذها، لكن ما أطلبه من محدثي هو التحلي بالواقعية السياسية والبعد عن النرجسية الفردية والجمعية، والبعد عن الشعارات الشعائرية التي لم تحرر شبراً من الأراضي العربية منذ العام 1948،
فمصر لم تسترد سيناء إلا بالسلام ولم تستردها بالحرب، فلو نظرنا إلى أرض الواقع نظرة موضوعية..."
(1) لاحظ كيف ازال اشرف كلمة "صهاينة" في رده, في محاولة مبطنة لاتهام محاوريه بالعنصرية واللاسامية.
ملاحظة: بسبب تعذر كتابة حلقات هذه السلسلة بشكل منتظم, ارجو ممن يرغب في متابعتها وبقية مقالاتي ان يرسل لي ايميلا بذلك الى ( [email protected] ) وسأقوم باعلامه حال نشر اية مقالة جديدة (المؤلف).
#صائب_خليل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟