|
قراءة في ديوان مثل الماء لايمكن كسرها للشاعرةالسورية فرات إسبر
عبدالله دومات
الحوار المتمدن-العدد: 1203 - 2005 / 5 / 20 - 07:35
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
تأبى الشاعرة السورية فرات اسبر التي تعيش في المهجر بنيوزيلندا إلا أن تجعل لديوانها الشعري "مثل الماء لا يمكن كسرها" الصادر عن دار التكوين بدمشق 2004 عنوانا مفعما بالحركية والانسياب حيث الرمز إلى الماء من الناحية الفلسفية والأسطورية والدينية يحبل بدلالات وحمولات تحيل على الصيرورة والحركية والتغير في الكون والإنسان.
لذا فعنوان الديوان يعيش انسيابيته وصيرورته الوجودية الحركية والنصوص المكونة له وعددها تقريبا 30 نصا تتحرك كالماء وتنساب لتمارس صيرورتها الكينونية الأنثوية في زمانها وفضائها وعوالمها الصوفية والشدراتية لتؤرخ للذات الشاعرة في قلقها وانفعالها وسؤالها الأنثوي الوجودي في صيرورته عبر الحاضر والماضي والمستقبل.
إن عناوين الديوان تنكتب بالماء تتشكل وتتصوف لتضيء الفراغات ولتمارس جنونها عبر تأملات شعرية وصوفية فلسفية. فالكون الشعري الأنثوي للشاعرة في هدا الديوان كله يخضع للسؤال . والغلاف المنتقى للديوان بدوره يتحرك وتتماوج تشكيلاته الإبداعية الفنية لتمنح للبصر والبصيرة على حد سواء كل الطاقات الصوفية للإدراك والمشاهدة والمجاوزة أمام سؤال الماء كرمز للخصب والتغير في تناصه وتعالقه مع الأنثى في دلالاتها الإنسانية والجسدية والزمكانية. فغلاف الديوان باستطيقيته وشعريته يتعالق ويتناص كذلك مع العنوان في تناغم وفق ما أفرزته المخيلة الخصبة للشاعرة حيث صورته ببساطته الإبداعية أضفت على العنوان نوعا من الإغراء والفتنة والحركة.
هل يمكن القول بأن صورة الغلاف لديوان فرات تصبح شرطا من شروط تحقق الصدمة البصرية والشعرية التي رغبت الشاعرة في ممارستها على القارئ الإدراكي لاستجلاء الدلالات الصوفية المتروحنة لهدا المنجز الإبداعي.
من خلال عناوين النصوص يمكن للقارئ الإدراكي اذا صح التعبير أن ينفد إلى السؤال الأنثوي / الهاجس/ الذي يسكن الشاعرة فرات ويستطيع كذلك أن ينفد إلى الحمولة اللغوية المؤطرة للديوان والمحملة بالدفق الشعري الصوفي والسريالي الجميل أحيانا والذي يبعث في القارئ لذة النص بمفهومها "البارتي" نسبة إلى "رولان بارت". إن حمولة الديوان الشعرية والخيالية تتوكأ على مداميك رؤيوية فلسفية صوفية لشاعرة تعيش قلقها الفلسفي الأنثوي بروحانية تساؤلية عنيفة انفعالية أحيانا وصراعية قلقة أحيانا أخرى تضرب في جذور التاريخ الإنساني الأسطوري في أبعاده الثنائية المتناقضة الغامضة. إن هده التساؤلات الواردة في ثنايا بعض مقاطع النصوص وعناوينها يحمل الشاعرة إلى الغوص في عوالم ومسارات متشعبة يصعب على القارئ الإمساك بتاريخيتها وجذورها وتلابيبها. كما أن هدا الحضور المكثف للسؤال الأنثوي يرمي بدون شك إلى الرغبة العارمة للذات الشاعرة للتأسيس إلى تجربة خاصة بها من حيت مقاربتها وإثارتها للمسالة الأنثوية بعيدا عن الفجاجة والضحالة التي تميز الكثير من الكتابات الإبداعية النسوانية النزواتية.
إن ما يبهج القارئ في هدا الاحتفاء بالأنثى من طرف الشاعرة فرات في نصوصها يكمن في الخصوصية "الأوريجينالية" التي تعطيها لهذه النصوص عندما تستقرئ مخزونها الثقافي وتمنح نوعا من المناعة الصوفية والروحية الشعرية لإشكالية الأنثى بالجمع في نفس اللحظة بين التراث والحداثة والتجريب ضمن بنية لغوية قوية حيوية وشدرية تخترق المألوف والسائد وطقوس الكتابة المرعية في هذا الخصوص. وللدلالة على ذلك سنحاول مقاربة بعض من نصوص الديوان التي رأينا أنها قمينة إلى حد ما بأن تعكس القصيدة الفراتية في بعدها الأنثوي الفلسفي الصوفي وفي العلاقة مع السؤال والبلاغ المتغيى تمريره عبر الديوان. فالعناوين تتأسس على مرجعيات فلسفية وصوفية وطفولية تتلامح فيها الذكريات وتتقعد على فضاءات لغوية وموضوعاتية ذات أبعاد تأويلية وأحيانا تكرارية تتقصدها الشعرية المؤسسة للنصوص.
فأول ما يصادفه القارئ هو هيمنة وطغيان موضوعة الأنثى حيث تكررت في عناوين وثنايا نصوص الديوان عدة مرات علاوة على تيمات موضوعاتية أخرى محببة وحميمية للشاعرة . منها على سبيل المثال لا الحصر : الطبيعة/ الجسد/ العشق/ الآخر/ الضوء/ الجنون/ الموت أو الرحيل ... الخ. ما هي إذن البواعث الثاوية وراء هذه التيمات وتكرارها المتقصد في المنظور الشعري والفلسفي للشاعرة فرات.
من المؤكد أن الشاعرة بتكرارها ملفوظات معينة بعينها تتغيا من خلالها بالاستناد على مرجعياتها المعرفية والفكرية والفلسفية إعادة تشكيل عالمها الأنثوي والكينوني والأنطلوجي لأنه لا ينبغي أن ننسى أن الوظيفة الجوهرية الصوفية للشعر هي إعادة تشكيل وقولبة هذا العالم لإعادة ترتيبه وترميمه لتفادي تصدعات وتشققات الإنسانية في معاناتها وتناقضاتها ومفارقاتها وآلامها والثنائية الغامضة التي تكتنف هذا الكون برمته. إن الشاعرة من خلال قراءة عناوين الديوان تجعل من الأنثى والماء عنصرين يتناصان ويتعالقان ويثحايثان ويتحركان في تناغم انسيابي فيصبح القول الشعري غير قابل للانمحاء والاندثار والخراب.
إن عناوين الديوان تصبح جزءا لا يتجزأ من مملكة الشاعرة فرات حيث من خلال تيمة المرأة تسبغ على الأشياء الصيرورة والكينونة وتسخر الحمولات اللغوية العادية لتضفي عليها توهجا صوفيا وتقوم بإخراج اللغة من حمولاتها الثبوتية الجامدة المجمدة للأشياء.:
لذا يمكن القول إن معظم نصوص الديوان في ترابطها مع العناوين تطرح صعوبة مقاربة مداخلها الصوفية الفلسفية العرفانية والرمزية والأنثوية لأنها نصوص تحبل بالمعنى الذي أنتجته ذات الشاعرة إزاء تموقفها الفلسفي تجاه الشيء الأنثوي في ترابطاته مع الزمن والمكان والآخر والكون والفضاء. لذا ولإبراز بعض هذه الملامح الشعرية لتجربة فرات سنحاول مقاربة بعض من نصوص ديوان "مثل الماء لا يمكن كسرها" وقد انصب اختيارنا الحالي على النصوص التالية - امرأة متصوفة - المرأة التي لم يقرأها أحد - مثل الماء لا يمكن كسرها - نساء.
يبدأ الديوان بقصيدة معنونة بـ "امرأة متصوفة" وإضفاء صفة التصوف على المراة يعكس المصدر المعرفي والفلسفي الذي تغترف منه الشاعرة فرات ولعله من نافلة القول إن الحالة الصوفية هذه التي أضفتها على أنثاها تتقصد منها بعدها الجوهري والمجاوزة للمألوف والحالات العادية السائدة. فأنثى الشاعرة من الصنف المتميز ومن الصنف كذلك العاشق للتيه الطامح إلى المطلق في الحب الذي لم يدنس بعد وهي والطبيعة جسدان هائمان. لنقرا المقاطع التالية:
"امرأة في انبهار الروح في خلق الجسد في عشقها للتيه لتراتيل حبٍّ لم يقلها عاشقٌ بعد هي والطبيعة جسدان هائمان"
فالشاعرة قامت بتفعيل مختبرها الخيالي الشعري الإبداعي لتستحضر من أدبيات الموروث الصوفي العربي شهيدة العشق الإلهي رابعة العدوية ولتحول سؤال هذه المرأة المتصوفة إلى مشغل صوفي عشقي لإدانة الزيف الذي يحبل به التاريخ والمتواضعات السائدة التي كبلت الأنثى عبر التاريخ والزمن ضمن تصورات منوية مغلوطة باسم التراث والتصورات اللاهوتية الزائفة المهترئة.
لنقرأ هذه المقاطع المتدفقة بالانفعال والبوح والقلق للشاعرة:
" هتفوا لنا وشاهدونَ زوراً وقعوا على ورقة ختموها بخاتم الحاكم بأمر الله على الأرض زينوا لنا الفرح والموتَ والحب وكنا في الهيام بأثير أجسادنا على سريره ولكن وحدها / حلقت عالياً / عالياً / لم يلحقها أحد في سرير القمر نامت وتحت جناحيه أشعلت قناديلَ حزنها رابعة العدوية امرأةٌ كانت تنام تحت عباءةِ الرغبة وتصرخ: في جلد الرجل.. شهوة وفي جسدِ المرأة.. شهوات
أما القصيدة الثانية المعنونة بـ "المرأة التي لم يقرأها أحد" فهي كافية للدلالة على الأطر المعرفية والفكرية التي تنطلق منها الشاعرة فرات. إنها ذات أطر شعرية مسكونة بقدسية السؤال الصراعي حيال الآخر والذي يتجسد أحيانا في الغربان.
إن الحوارية التي تطبع المقاطع كافية للقول بأن القصيدة مسكونة بالقلق الأنثوي في تلاوينه المتعددة والمتباينة الفضاءات المفعمة بسؤال المفارقات التي لم يتم بعد تفكيك وفك شفرات الغموض الذي يتلبس الأنثى في هذا الكون. إنها كما تقول الشاعرة :
" المرأة المجنونة لم تكن محفورةً في كتاب / كانت تمر في بُحةِ الحلم/ تشهد الأحلام أني كنتُ توأمها / وأنني انقطعتُ كما ينقطعُ القمرُ عن الشمس / الظل عن الجسد"
لنقرا كذلك هذه المقاطع المكونة للقصيدة للقبض على قدسية السؤال الذي يؤرق الشاعرة: " من وراءِ عين القلب نظرتْ المرأة إلى كلِّ هذا السواد قالت: ماذا أفعل بهذا الأبيض الشاسع بأي عصا أرمي ذلك الشبحَ الذي تحوم حوله الغربان هكذا لم يكن من عادةِ المرأة التي تلمع من بعيد على امتدادِ أحلامها المبتورة كانت تلبس أساورَ الخيبةِ بيديها المتعبتين كانت تخفي يديها لأنَّ لا بياضَ ناصعاً بهما / خرائط بلا حدود / وحدها الأحلام كانت تركض
النص الآخر الموسوم: " مثل الماء لا يمكن كسرها " عنوان الديوان يتداخل فيه النثري والشعري ويمكن القول إن هذا النص هو مبتدأ ديوان الشاعرة فرات وخبره ويتبدى من مطالع النص أن الأنثى الصديقة للشاعرة متميزة بل تكشف للقارئ عن خصوصية وتميزية هذه الهوية الأنثوية التي لا تشبه أحدا لها لونها وطبيعتها وخصيصتها الإنسانية الكونية. إنه التماهي الجواني الصوفي بين الذات الشاعرة ونفسها في قلقها الأنطلوجي وفي وعيها الحاد بأنوثتها المتفردة وفي انفعالها. إن الشاعرة عبر هذه الأنثى/ الإنسان تنفد إلى كل الفضاءات والمسافات لتختبر الحقيقة والطبيعة وتخترق كليشيهات الحياة والسائد فقد جربت كل مجريات وطقوس الحياة. وفي هذا النص تتوسل الشاعرة بلغة بسيطة للتعبير عن القلق الأنثوي الذي يسكنها. لذلك يمكن القول إن هذا النص تسعى من خلاله الشاعرة فرات إلى التاريخ لذاتيتها الهوياتية الأنثوية المغايرة.
ولنقرا هذه المقاطع التي تنبجس وتتفجر عبرها ينابيع الحزن الأنثوي للشاعرة لاستشراف أبعاد وآفاق المسكوت عنه في النص:ذات مرة وهي."
النص الآخر المعنون بـ " نساء " تستلهم فيه الشاعرة فرات العلامة الصوفي الفلسفي العرفاني "ابن عربي" لإثارة السؤال الأنثوي بطريقة صوفية . ولعل استلهام ابن عربي في هذا النص له ما يسوغه بالنظر إلى الطروحات الفلسفية الصوفية التي طرحها ابن عربي بعيدا عن النظرة الثنائية الساذجة والسطحية للتجربة الروحية الإنسانية. إن هذا الاستلهام الذي توسلت إليه الشاعرة في حد ذاته هو رغبة لإعادة تشكيل كل التراث الإنساني في مشكلية الأنثى في أبعادها الوجودية والسوسيولوجية والانتربلوجية بهذا النص ترتاد الشاعرة فرات جملة من الآفاق الفلسفية والكونية تنفد من خلالها إلى جوهر الإشكالية الفلسفية للأنثى في أبعادها النسائية والأمومية والأنطلوجية .
لنقرا هذه المقاطع من القصيدة " نساء" " سلامٌ.. ابن عربي نحن نساءُ الأنوثة في الطبيعة / في عري الكلام / وإشاراتِ التأويل نحييك بتاءِ التأنيث ونون النسوة...... مجموعة من القضايا ترتبط بالمرأة وباللغة والجسد والكون والطبيعة في ثنائيتها ومفارقاتها.
ومن المؤكد أن هذا الديوان يمكن أن يفيد ليس فقط الشعراء بل كل المهتمين بالراهن الأنثوي في العالم العربي وكذلك الباحثين في مجال سوسيولوجيا المرأة وفي الشأن النسائي لوضع اليد على عمق وجذر الاختلال في كل أسبابه التاريخية والانتربلوجية والدينية والإنسانية.
من دون شك كذلك أن الناقد الراغب في مقاربة نصوص الديوان لا مناص له من التوسل إلى كل مرجعياته المعرفية من أطر نظرية أدبية رمزية وبنيوية وسميائية وتفكيكية وتجريبية وحداثية وصوفية لسبر أغوار دلالات هذه النصوص التي تتكئ على نوع من الشعرية العرفانية الفلسفية النسائية المتميزة.
#عبدالله_دومات (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سحب الدخان تغطي الضاحية الجنوبية.. والجيش الإسرائيلي يعلن قص
...
-
السفير يوسف العتيبة: مقتل الحاخام كوغان هجوم على الإمارات
-
النعمة صارت نقمة.. أمطار بعد أشهر من الجفاف تتسبب في انهيارا
...
-
لأول مرة منذ صدور مذكرة الاعتقال.. غالانت يتوجه لواشنطن ويلت
...
-
فيتسو: الغرب يريد إضعاف روسيا وهذا لا يمكن تحقيقه
-
-حزب الله- وتدمير الدبابات الإسرائيلية.. هل يتكرر سيناريو -م
...
-
-الروس يستمرون في الانتصار-.. خبير بريطاني يعلق على الوضع في
...
-
-حزب الله- ينفذ أكبر عدد من العمليات ضد إسرائيل في يوم واحد
...
-
اندلاع حريق بمحرك طائرة ركاب روسية أثناء هبوطها في مطار أنطا
...
-
روسيا للغرب.. ضربة صاروخ -أوريشنيك- ستكون بالغة
المزيد.....
-
-فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2
/ نايف سلوم
-
فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا
...
/ زهير الخويلدي
-
الكونية والعدالة وسياسة الهوية
/ زهير الخويلدي
-
فصل من كتاب حرية التعبير...
/ عبدالرزاق دحنون
-
الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية
...
/ محمود الصباغ
-
تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد
/ غازي الصوراني
-
قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل
/ كاظم حبيب
-
قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن
/ محمد الأزرقي
-
آليات توجيه الرأي العام
/ زهير الخويلدي
-
قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج
...
/ محمد الأزرقي
المزيد.....
|