|
العلمانية ومفهوم الهوية
كمال غبريال
كاتب سياسي وروائي
(Kamal Ghobrial)
الحوار المتمدن-العدد: 1202 - 2005 / 5 / 19 - 10:30
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
إنه بالون سنظل ننفخ فيه حتى ينفجر في وجوهنا، فالمتابع الخارجي للخطاب الشائع في شرقنا الآن لابد ويستنتج أن مثقفي هذه المنطقة مصابون بالتهاب في "الهوية"، أو أن إحدى عظام الهوية قد انحشرت في حلوقنا، فصرنا غير قادرين على البلع أو التنفس، فلا يكاد يخلو خطاب زاعق لقومجي أو أصولي، من عبارات "التشبث بالهوية" و"الإشفاق على الهوية" و"محاولات محو الهوية"، ويدفع هذا البعض لتكبد مشاق رحلة إلى الماضي السحيق "للبحث عن الهوية"، أو لنفض الغبار عن هويته التي تم طمسها من قرون عديدة مضت، كأننا شعب لا يعاني إلا مشكلة الهوية، وكأن هويتنا الثمينة أصبحت محط أنظار العالم وحسده، يحاولون سلبنا إياها، حقداً علينا ورهبة من قوتنا في ظلالها الوارفة. الهوية من أخطر مفاهيم "مركزية الكلمة" و"الفكر المثالي" إيجاباً وسلباً في الماضي، وربما سلباً محضاً في الحاضر، فإن كان مفهوم الهوية قد لعب دوراً في إيقاظ وعي الشعوب، وتماسكها بما يدفعها لتحقيق ذاتها، فقد أدى أيضاً لتناحرها، وتدمير متبادل لإنجازاتها، عبر محاولة كل شعب تسييد هويته، دون التضخيم طبعاً من حجم الدور الذي لعبته الأفكار عبر التاريخ، على حساب حجم تأثير الدوافع المادية. ومع طبول العولمة بدأ يتردد في الشرق مفهوم الهوية، خوفاً عليها من مؤامرات الغرب لطمسها، حتى يتسيد علينا بهويته الكافرة الفاسقة، وتجسد في العلمانية الخطر الأكبر على منظومة الأفكار التي تنمو في مستنقعاتها مثل هذه الهواجس والهلاوس، فنالت النصيب الأكبر من الهجوم والتشنيع والنعت بالكفر، من سدنة الماضي والحاضر الراكد كبركة آسنة، ويقتضي الأمر ونحن نتقصى الشروخ في منظومتنا الفكرية، لننتقل من أسر المثالية التي طغت على حياتنا العملية، فصرنا نتعامل مع الواقع كما يتعامل النائم في أحلامه، إلى عالم الحقائق والعلمانية الكفيل بنقلنا إلى بداية الألفية الثالثة، مغادرين القرون الوسطى، التي علقنا في غياهبها، علينا أن نقلب أوراق مفهوم الهوية السائد في خطابنا، لنرى إن كنا قد أضفينا قداسة على مفاهيم لا تستدعي مجرد الاكتراث. رغم تباين مفهوم الهوية بين المهتمين بها، إلا أننا نستطيع أن نجمل تعريفها كالتالي: "هي مجموعة من الملامح الثقافية الأساسية والثابتة، تميز الجماعة عمن عداها، بحيث أن تجاهل واحداً أو أكثر منها يؤدي لتصدع كيان الجماعة الأدبي." هي بهذا جوهر ثابت ومحدد، ومستمر الوجود على مر التاريخ، بغض النظر عن مدى فعاليته في توجيه حياة الجماعة، ذلك المدى الذي قد يتضاءل إلى حد الكمون أو درجة الفعالية صفر، في مراحل الغزو الحضاري الكاسح مثلاً، ويصل إلى مستوى الفعالية التامة، في لحظات النهضة الأصولية الصافية، وما بين النقيضين النظريين من حالات عملية، تقترب من هذا القطب أو ذاك. الأصالة هنا قيمة، تقاس إيجابياً بمدى تطابقها مع الجوهر القابع في صفائه الماسي في مكان ما، أو بالأصح زمان ما من تاريخ الجماعة، ويترتب على هذا المفهوم ما يلي: · شدة الاستقطاب بين الأصالة وعدم الأصالة، الحق والباطل، الأبيض والأسود، بما لا يسمح بمساحة من الحرية والسماحية Tolerance، ويؤدي إلى أحادية النظرة. · بروز إشكالية تحديد مكان الجوهر (الهوية)، بمعنى زمانه التاريخي الذي يتيح توصيفه، كما في حالة تاريخ ممتد لآلاف السنين كتاريخ الشعب المصري، مر فيها بمراحل متباينة إلى حد التضاد، مما يضع على المحك المنهج المتبع لتحديد الفترة موضع الهوية، ويمكننا استعراض أربعة مناهج: 1. منهج الاعتماد على الخيار الفكري السائد في اللحظة الراهنة: يتناقض هذا المنهج منطقياً مع مفهوم الهوية الأصولية، الذي يستمد مرجعيته من الماضي وليس الحاضر، مما يبطل الاعتماد على المناخ الفكري الحاضر لتحديد موقع الهوية بالاختيار من بين بدائل عديدة، حتى لو كانت كلها ماضوية، فسيبقى الاتهام الموجه لأي خيار هو شبهة دخول عناصر غير جوهرية، أي قادمة من تأثيرات خارجية لتحديد هوية الجوهري، وفي هذا تناقض منطقي، ينسف شرعية كل من المنهج والخيار. 2. منهج الاختيار الانتقائي الذي تمارسه كل فئة في المجتمع وفقاً للأهواء والانتماءات، فهذا قد يرجع أربعة آلاف عام للوراء، وذاك يكتفي بالعودة أربعة عشر قرناً: يعني هذا المنهج الإقرار بتعدد الخيارات، وما هو متعدد يفقد صفة الجوهرية، أولاً لتناقض التعدد مع مفهوم الجوهرية، ثانياً لأن التعدد يعني القابلية للاستبدال، وما يستبدل ليس بجوهري. 3. الاختيار على أساس "حكم قيمة"، لأزهى العصور في تاريخ الأمة: من الواضح تناقض هذا الأساس مع مفهوم "الهوية الأصولية" المعتمد على الصفات الجذرية، بغض النظر عن تقييم نتائجها العملية، علاوة على التناقض القائم من احتمال تدخل عناصر من تأثيرات خارجية في صياغة المواصفات التي تم على أساسها إصدار "حكم القيمة". هكذا ينسف التناقض المنطقي مع المفهوم هذه المناهج الثلاثة، التي لا يخفى أنها الأكثر جاذبية، بل هي الدافع لحماس أهل الهوية، ويبقى المنهج الأخير – الذي لن يتحمس له أحد – هو الوحيد المتسق منطقياً مع مفهومه. 4. المنهج العلمي التحليلي للاختيار: يعتمد على تحليل المواصفات العامة والملامح الثقافية المشتركة للأمة في عصورها المتعاقبة، من واقع خطابها الثقافي وأدائها العملي وأسلوب حياتها، وطرق استجابتها لمتغيرات كل عصر، وتحديد الملامح الأصيلة، وتتبع فعاليتها في كل العصور، وعزل الملامح الدخيلة، وبحث تأثيراتها سلباً أو إيجاباً على الهوية الأصيلة. ونلاحظ على هذا المفهوم الماضوي للهوية، أياً كان منهج تحديدها ما يلي: · أن تقبع الهوية في الماضي يعني الانتماء للماضي زمانياً، والانعزال للتقوقع على الذات مكانياً، ليكون التطور محل اتهام "مبدئياً" وحتى يثبت العكس، فيدلل أنه لم يأت بجديد جذري، وأن الآباء والأجداد قد قالوا أو فعلوا مثل ما جاء به في مواقف مشابهة، وأن المسألة لا تعدو تنويع على اللحن الأساسي، أو مجرد تأويل عصري للأفكار والكلمات القديمة، في أحسن الأحوال، والادعاء بإمكانية تطور أبعد من ذلك في ضوء هذا المفهوم للهوية مجرد وهم، ومحاولات تلفيقية للجمع بين ما لا يجمع، بالربط بين التطور كاتجاه للأمام والسلفية كاتجاه للخلف، فتكون النتيجة "للخلف در" أو "محلك سر" ، وفي أحسن الأحوال ملليمترات قليلة للأمام، تعتبر رحيلاً في قطار الماضي السريع، إذا ما قورنت بمعدلات التطور العالمية. · يرافق هذا المفهوم دوجما – من أي نوع – تجسد الهوية، ليكون التشبث بطيفها ومقولاتها الوجه الآخر من العملة، ليروج كل من وجهيها للآخر. · التشبث بالهوية الأصولية يفضي في مداه الأقصى إلى العنصرية، كالنازية والفاشية وأسطورة شعب الله المختار وحزب الله وجنده وما شابه، وعلى الوجه الدوجماطيقي احتكار الحق، لتسود الكراهية على مستوى العاطفة، والتعالي والأستاذية أو الإمامة للعالم على مستوى الفكر، أي الشمولية في النظم السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية، وإن رأينا الحياة هكذا سجن كبير، فإن البعض من المخلصين الصادقين مع المفهوم الأساسي سيعدونها المثل الأعلى، واليوتوبيا المأمولة، ولن يقلل من شأنهم أن نعدهم متطرفين، فالتطرف فيما نؤمن جميعاً أنه حق فضيلة، هذا هو المنطق وإن رغمت أنوف. · هنا يتصف الناس بالخنوع والتزام التقليد، والنفور من الجديد عقلياً ونفسياً على مستوى المناخ الثقافي، وتفريغ التطور المادي الذي تجبرهم عليه الحياة من محتواه القيمي على مستوى الممارسة العملية، وبصفة عامة تتجسد في ظل الهوية الأصولية، الدوجماطيقية أو الوطنية، أخطر مثالب "مركزية الكلمة"، ضمور وجمود وتخلف حضاري وعنف، لكن من يتمسك بالمبادئ عليه بطيب خاطر أن يقبل نتائجها، ومن يرفض النتائج عليه أن يعيد النظر في المبادئ التي أثمرتها. هل يأتي يوم نتوقف فيه عن توظيف الفكر المثالي في نظرتنا لأنفسنا وللعالم، ونستيقظ على واقع لا يستجيب إلا للنهج العلماني، القادر وحده على ترويض المادة، وجعلها أداة طيعة بين أصابعنا العبقرية، وهل لنا نكف عن النظر لأنفسنا كأسرى لحجر صلد مقدس يقبع في الماضي، ويقف حائلاً بيننا وبين المستقبل، يوم نرى فيه هويتنا أمامنا، فيما نستطيع أن نحققه، ويحققه أولادنا وأحفادنا من إنجازات، وما يكتشفونه في، أنفسهم من قدرات وإمكانيات، لم يتح لها الماضي التشكل والفعالية، تماماً كما يحدث في مراحل حياة الإنسان الفرد، فحصر مواصفاته وقدراته في مرحلة الطفولة أو الشباب وحدها، غبن وتجميد ومصادرة على النمو الطبيعي، والمستمر في حياة الأمم إلى مالانهاية، يوم ندرك فيه أن هويتنا ليست في أي مكان من الماضي مهما كانت قداسته، لكن بعضها موجود في مواصفات ونزعات الناس الموجودين هنا والآن، والباقي ستكشف عنه الأيام عبر تفاعلنا مع العالم المحيط بتغيراته وانقلاباته، وأن أي قداسة نصبغها على هويتنا المدعاة ستكون على حساب تقدمنا وتطورنا في عالم لا يعرف الثبات؟!!
#كمال_غبريال (هاشتاغ)
Kamal_Ghobrial#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العلمانية وجذور الصراع مع الغرب
-
شعوب الشرق وخيار شمهورش
-
الغرب والقفز إلى المجهول
-
هل يُلْدغ الغرب من جحر مرتين؟
-
البرجماتية غائبة. . ولكن
-
وطنية نعم، فاشية لا
-
الليبرالية الجديدة والتناول المغلوط
-
يحكى أن . . . . . .
-
الليبرالية الجديدة وثنائية الشكل والمضمون
-
الخطاب الإعلامي العربي بين الوصاية والتضليل والليبرالية المف
...
-
د. سيار الجميل . . عفواً
-
ثوابت الأمة والخلط بين الواقعية والانهزامية
-
مستنقع الكذب وضبابه
-
فيصل القاسم يسفر عن وجهه الليبرالي
-
الاتجاه المعاكس- والإجهاز على المشكاة
-
فيصل القاسم . . من وإلى أين؟
-
مشهدان من مسرحية عروبية ساقطة
-
أمريكا أمريكا . . تلك الأرض المقدسة
-
البعض يريد كليباً حياً
-
إبراهيم نافع والفاشيون العرب
المزيد.....
-
بيان المسيرات: ندعو الشعوب الاسلامية للتحرك للجهاد نصرة لغزة
...
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تقصف بالصواريخ مقر حبوشيت بالجول
...
-
40 ألفًا يؤدُّون صلاة الجمعة في المسجد الأقصى
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تواصل إشتباكاتها مع جنود الاحتلا
...
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف تجمعا للاحتلال في مستوطنة
...
-
“فرحة أطفالنا مضمونة” ثبت الآن أحدث تردد لقناة الأطفال طيور
...
-
المقاومة الإسلامية تواصل ضرب تجمعات العدو ومستوطناته
-
القائد العام لحرس الثورة الاسلامية: قطعا سننتقم من -إسرائيل-
...
-
مقتل 42 شخصا في أحد أعنف الاعتداءات الطائفية في باكستان
-
ماما جابت بيبي..استقبل الآن تردد قناة طيور الجنة بيبي وتابعو
...
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|