|
*الصراع بين السياسي والمثقف: قيم أم مصالح؟
صاحب الربيعي
الحوار المتمدن-العدد: 1202 - 2005 / 5 / 19 - 09:59
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
ليس بالضرورة أن يجيد السياسي فن السياسة كتخصص قائم بذاته، باعتبارها إحدى أنماط الثقافة. ومعظم السياسيون العرب انخرطوا في العمل السياسي بدوافع ذاتية أو طبقية، وليس لهم دراية وفهم عميق لماهية الفكر الذي يؤطر فعلهم السياسي في المجتمع. وبالمقابل فإن المثقف يجيد معظم أنماط الثقافة ويدركها (بما فيها النمط السياسي) لأنه يمتهن الثقافة ويمتلك ملكة الإبداع باعتباره منتجاً للثقافة. هذا التداخل النمطي لأشكال الثقافة دفع العديد من السياسي للاعتقاد بأنهم يمتلكون حق الوصاية على جميع الأنماط الثقافية وعلى وجه الخصوص المثقف، العنصر الأساس لفعل الحراك الاجتماعي. مما أدى إلى خلق، حالة من التعارض (والعداء) بين السياسي والمثقف الرافض للهيمنة والتدجين. وتعود حقيقة هذا التعارض، إلى الاختلاف في المستويات الثقافية والتنافس بين الجانبين على قيادة الدولة والمجتمع. ولتسليط الضوء على حقيقة هذا التعارض بين السياسي والمثقف وإلى مهام كل منهما في المجتمع، ودور ومهام المثقف الأساس في تفعيل الصراع الاجتماعي والتطلع نحو أنظمة ديمقراطية تسودها العدالة والمساواة، يتوجب البحث في المحاور أدناه: 1-الأنظمة السياسية في الوطن العربي: منذ نشوء الدول الوطنية في المنطقة العربية وحتى الوقت الراهن، تعاني الشعوب العربية من حالة الاستبداد والعنف وحجب الحريات وتنامي مطرد في أعداد الأجهزة القمعية والسجون على طول مساحة هذا الوطن الكبير، وبالمقابل هناك تراجع كبير في مستوى النمو في قطاعات التعليم والصحة والعمل وانخفاض بمستوى دخل المواطن...وتراجع غير مسبوق عن مكتسبات اجتماعية سابقة!. إن الهوة بين السلطة والمجتمع، أصبحت كبيرة جداً بحيث يصعب جسرها. لقد ساهمت السلطة الاستبدادية بإضعاف القوى الفعالة من المجتمع، بغرض إقصاء أي منافسة لها على السلطة. وأفقرت المجتمع إلى درجة كبيرة، مما أدى إلى تفكك الأواصر والروابط وخلخلة في بنيته الأساسية. وأصبح أفراده عبارة عن قطيع من الأغنام تقودهم السلطة حيث تشاء دون اعتراض أو احتجاج، وبخلاف ذلك فأن أجهزتها القمعية جاهزة للانقضاض على الرافضين لسياساتها. لم تقف الأنظمة العربية لوحدها في الحكم منذ أكثر من خمسين عاماً، أنها تلقت الدعم والمساندة من أمريكا وأوروبا لقاء تحقيق المصالح وعلى حساب مجتمعات دول المنطقة. وأصابت تلك السياسة الظالمة التي استمرت لعقود مضت، المجتمعات بالوهًّن والخيبة واليأس من إحداث تغيير حقيقي في نهج وتوجهات الأنظمة القائمة في المنطقة. وهذا الشعور باليأس والإحباط دفعها أكثر نحو اللجوء إلى الدين بغرض الاحتماء به، وإيجاد المبررات لإيهام الذات بمسببات العجز واليأس واعتبارها شأناً من شؤون القدر المسلط عليها. لأنها لم تعد تؤمن حتى بقدر الموت الذي تتمناه لحكامها بغرض التخلص منهم وإحداث نوع من التغيير في شكل النظام، فقد لجأ الحكام العرب إلى مبدأ توريث الحكم لأبنائهم بالرغم من أن الدساتير الوطنية (الجمهورية) لاتقرًّ بذلك!. ويرى ((أمين هويدي))" أنه بمجرد أن يقفز الحاكم إلى السلطة بطريقة أو أخرى وتحت ستار التهديدات الخارجية التي تهدد البلاد سواء كانت تهديدات قائمة أو متوقعة يتمسك بالسلطة ولا يتنازل عنها أبداً إلا إذا أقصي بالقوة أو إذا أزهقت روحه بفعل القدر أو البشر. ويفرض نفسه على الشعب في ظل دساتير وقوانين الطوارئ جملة من القوانين الأخرى ذات السمعة السيئة". لذا فإن المطالبة بإجراء ترقيعات على هذه الأنظمة من أجل الإيفاء ببعض الالتزامات الاجتماعية المًّلحة، تعد في مضمونها المستور موافقة على استمرار هذه الأنظمة المستبدة في الحكم ولأمد غير محدود. وتتعرض الأنظمة العربية في الوقت الراهن إلى ضغوطات دولية من أجل إجبارها على إجراء إصلاحات حقيقية في بنية أنظمتها السياسية لأجل تحقيق المطالب الاجتماعية. وجاءت تلك الضغوطات الدولية على الأنظمة المستبدة في المنطقة كرد فعل للعملية الإرهابية في 11 أيلول 2001 في أمريكا. لقد أحدثت تلك التفجيرات الإرهابية فعلها في العقلية الأمريكية، وزعزت مسلماتها القديمة تجاه شعوب دول المنطقة التي تراقصت فرحاً على أشلاء الضحايا الأمريكيين كتعبير صريح عن رفضها للسياسة الأمريكية ضد شعوب المنطقة. وقد عبر الرئيس الأمريكي ((جورج دبليو بوش)) عن دهشته لهذا التشفي بالضحايا الأمريكيين من قبل الشعوب العربية قائلا:" لم أكن أتصور أن شعوب المنطقة، تكرهنا إلى هذا الحد". إن كان لتلك العملية الإرهابية من تداعيات فأنها أدت إلى صحوة الضمير في مركز القرار الأمريكي، وتسببت في تصالح أمريكا مع ذاتها (أميركا المصالح مع أمريكا المبادئ)!. وتوصلت أمريكا لفهم جديد لشؤون المنطقة، حيث وجدت أن مصالحها تقتضي الالتزام بالمبادئ والقيم التي تأسست من أجلها. هذا الشرخ في السياسة الدولية الجديدة (أمريكا والأنظمة العربية) يتوجب أن تستثمره القوى الفعالة من المجتمعات العربية وتحديداً منهم المثقفون وتوظفه من أجل تغيير نمط الأنظمة الشمولية من المنطقة. والشروع بإحداث أنظمة مؤسسية، تستند إلى الدستور والقانون لإدارة شؤون الدولة والمجتمع، أنظمة ديمقراطية تحترم حقوق الإنسان ومبدأ تداول السلطة عبر صناديق الاقتراع لتبدأ عملية البناء والتأسيس للإنسان السوي المحب للسلام والخير والفعال في عملية البناء والتقدم. لقد أدركت أمريكا وأوروبا (ولو بشكل متأخر) إن اجتثاث بؤر الإرهاب ومسببات العنف والاستبداد كفيلة، بخلق أجواء صحية وملائمة لعملية السلام في المنطقة. وإن مصالحها الاستراتيجية، تكون أكثر أماناً حين تستند إلى مبدأ تحقيق المصالح المتبادلة مع شعوب المنطقة ومساندة الحرية وليس الطغيان. لذا يتوجب على القوى الفعالة من المجتمعات العربية مد جسورها مع التوجهات العالمية الجديدة، لتحقيق مبدأ تبادل المصالح المشتركة مع الشعوب وعلى حساب عوامل القهر في الوطن العربي. وعليه فإن الأصوات الداعية لإجراء المصالحة مع الأنظمة العربية القائمة، بغرض جسر الهوة بينها وبين المجتمعات العربية في حقيقتها دعوة (لا أخلاقية) لمساندة تلك الأنظمة القمعية. إن جوهر الصراع بين الأنظمة العربية وشعوبها، هو صراع بين قيم الخير وقيم الشر. يقول ((نيتشه))" تلك إرادتكم كلها، أنتم يا أكبر الحكماء، تلك إرادة القوة لديكم. ومن أجل هذا تتحدثون عن قيم الخير والشر وعن تقويم القيم..إنكم بقيمكم وبأقوالكم في الخير والشر، تمارسون قوتكم يا من تقومون القيم: وهذا هو حبكم المتخفي وشعوركم الذي تفيض به نفوسكم". 2-الأحزاب السياسية المعارضة في الوطن العربي: إن البنية الأساسية لهيكلية الأحزاب العربية، بنية غير مؤسسية وتنهل من ذات المنبع والقيم لأحزاب السلطة. فهي تسعى من خلال حراكها السياسي، لإيجاد دور لها في السلطة وتحت يافطة من الشعارات الفضفاضة والوعود الكاذبة. وبمجرد أن تُمنح دوراً في جسم النظام القائم حتى تتحول من أحزاب معارضة للنظام إلى أحزاب معارضة في النظام. اعتقاداً منها بأنها تؤدي دوراً مميزاً في انتقاد وتقويم أداء النظام، وفي حقيقة الأمر أن دورها يقتصر على دور أحزاب مدافعة عن النظام (لا حباً في النظام ذاته) وإنما دفاعاً عن امتيازاتها الآنية. عموماً فإن الأحزاب السياسية في الوطن العربي، أحزاب قادة وليست أحزاباً لها امتدادات جماهيرية كما تدعي هي على الأقل!. ومعظم السياسيين مصاب بحالة من الانفصام في الشخصية، حيث يطالبون النظام الحاكم بإجراء انتخابات وتداول السلطة ورفض نهجها في توارث الحكم والتشبث في السلطة. ومن ناحية أخرى يتشبثون هم بقيادة الحزب لأجل غير مسمى ويتوارثون قيادة الحزب (الحزب الشيوعي السوري نموذجاً!) ويجرون انتخابات صورية داخل الحزب من أجل إضفاء (الشرعية) على وجودهم في القيادة، وكأن هذا الحزب مصاب بالعقم الوراثي وغير قادر على إنجاب قادة جدد، وبهذا فإنهم يتماهون بالسلطة الاستبدادية الحاكمة!. ويرى ((أبان جيلمور))" ليس هناك (سياسي إلى الأبد) السياسي الحقيقي هو رجل يعرف متى يجئ (أوانه) ومتى تنتهي صلاحيته. وعليه أن يبتعد قبل أن تزيحه الضرورات، وذلك أذكى قرار يستطيع أي سياسي أن يتخذه، أي سياسي، وأي منشغل بقبول الناس عليه أن يعرف متى يغادر خشبة المسرح، وإلا فإنه سوف يغامر بموقف كوميدي يصعد فيه الجمهور إليه على المسرح ويحمله من يديه وقدميه ويلقيه بعيداً في الخارج. أكبر إهانة لرجل أو أمراة في ساحة الأداء العام (سياسة، أو ثقافة أو فناً) أن ينتظر من يلقي به في العراء". إن استمرار الأنظمة المستبدة في الحكم لأمد طويل لايعود إلى نهجها في استخدام العنف والإرهاب ضد المجتمع فحسب، بل إلى وجود أحزاب معارضة ضعيفة وتعاني من الهشاشة في بنيتها التنظيمية وضعف في نهجها الفكري وتصحر في مستوى ثقافة قادتها. فمازال الاعتقاد سائداً في الأحزاب (الثورية) أن الفكر الإنساني المدافع عن حقوق الطبقات المسحوقة في المجتمع، تؤول قيادته إلى عناصر من تلك الطبقات كونها قادرة على التعبير عن مصالحها أكثر من غيرها. وهذا الأمر أدى إلى تسلق العديد ممن يمكن وصفهم بقاقدي الموهبة والتأهيل في المجتمع السلالم الحزبية (وعلى حساب العديد من المثقفين) للوصول إلى مركز القرار والاستماتة من أجل البقاء في ذات المركز لأجل غير مسمى!. وفي حقيقة الأمر إن الأفكار العظيمة المنجزة من قبل علماء ومفكرين، لم توكل أمر تطبيقها لغير المؤهلين في المجتمع. فالأفكار الإنسانية العظيمة لايطبقها سوى العظماء والمفكرون، ولن يدركها سوى الذين أفنوا حياتهم في دراستها وفهمها لأجل خدمة الإنسان. هذا الفهم الخاطئ، أدى إلى العديد من الإخفاقات والسقطات والمواقف الذليلة والمخزية التي اتخذتها قيادات الأحزاب العربية. وأسفر عن العديد من الكوارث السياسية والضحايا، وعمق من ظاهرة اليأس والإحباط لقطاعات واسعة من المجتمع ودفعها للتخلي عن المشاركة في الفعل السياسي. ويتحدث ((سقراط)) عن تلك العينة من السياسيين قائلاً:" أنهم يدانون الإدانة الجازمة بادعائهم المعرفة، وهم منها براء لأنهم في جهلهم غارقون. فهؤلاء مدفوعين بصيتهم وشهرتهم، وأقوياء عدداً ومتسلحين بقضية تحظى باستحسان العديدين وبدعوى أعدت بعناية واهتمام". والسؤال الملحًّ الذي يطرح نفسه: كيف تقبل طبقة الإنتلجنسيا العربية على نفسها، الانضواء تحت ألوية أحزاب سياسية عاجزة لا ترقى أو تقدم إلا الأميين السياسيين وفاقدي الموهبة والجهلة في المجتمع؟. 3-أحزاب الإسلام السياسي-الظلامية: تحالفت التيارات السلفية الظلامية مع أمريكا لمحاربة الشيوعية وتلقت الدعم والمساندة منها ومن الأنظمة العربية، وحين تعارضت مصالحها مع أمريكا (بعد أن تم استخدامها كخط دفاعي أول ضد الوجود السوفيتي في أفغانستان) أصبحت تصنف في عداد الأعداء المستهدفين. وأخذت التيارات الظلامية على عاتقها إصدار فتاوى التهديد بالقتل والتكفير ضد المثقفين على وجه التحديد، بغرض فرض توجهاتها على الساحة الثقافية. ووجهت حرابها ضد المثقفين العرب ونتاجاتهم الثقافية بحجة أنها تمس جوهر الإسلام!. وبات المثقف العربي تحت مطرقة الرقابة الإعلامية للسلطة (تحاسبه على المفردة في نتاجه الأدبي) وسندان التيارات السلفية الساعية لفرض توجهاتها الظلامية على الساحة الثقافية. "وهكذا صار الدين (في الممارسة السياسية) سلاحاً يحاول كل فريق أن يستأثر بفهمه الصحيح، أي أن يجعل منه سلاحه الخاص" وفقاً لتصور ((أودنيس)). ولم يعد يخفى على أحد تواطؤ السلطات المستبدة مع التيارات السلفية-الظلامية لبث سمومها في المجتمع من أجل تضليل وتجهيل العامة من الناس، وتكريس مفهوم القدر في ذهنية المواطن للقبول بمجريات الواقع المزري. والامتثال لقدره المفترض بهدف إقناعه في اللاوعي، بعدم جدوى الاحتجاج أو المعارضة ضد السلطة المستبدة. 4-المجتمعات العربية المقهورة والمتخلفة: تعرضت المجتمعات العربية في العقدين الآخرين إلى حالة من التجهيل المتعمد انتهجتها بعض تلك السلطات المستبدة من أجل فرض سطوتها ولأمد طويل على المجتمع. وتشير المعطيات إلى أن نسبة الأمية في الوطن العربي وصلت إلى نحو 70 مليون إنسان للعام 2005، وتراجعت خدمات التعليم والصحة وانخفض مستوى دخل المواطن إلى الحدود الدنيا بسبب السياسات اللامسؤولة للسلطات العربية المستبدة. وأصبحت ظاهرة التخلف شائعة، مما انعكس على الواقع المعرفي والثقافي للمجتمع، وحققت مبيعات الكتب في سوق الكتاب العربي أعلى بيع لها لكتب: السحر والأبراج والخرافات والمروجة للطائفية والاستعداء للديانات الأخرى وكذلك الكتب المحرضة على العنف والإرهاب...وغيرها. ويعتقد ((مصطفى حجازي))" أن الذهن المتخلف والعاجز عن الغوص في تحليل الظواهر عمقاً وأتساعاً، مصاب بنوع من الصد المعرفي يطلق عليه في علم النفس (الحشرية الممنوعة)". هذه الظواهر الغريبة والسائدة في المجتمع العربي، تطلق العنان لصياغة عشرات الأسئلة المحيرة والملحة: لمصلحة منًّ تنزلق شعوب المنطقة إلى الحضيض، ومنَّ المسؤول عن هذا الانحطاط والتردي المحرض على استخدام العنف والإرهاب مقابل طمس لمفاهيم الحب والتسامح؟. وهل تتحمل سلطة الاستبداد المسؤولية الكاملة عن هذا التردي الكبير أم المسؤولية تقع على عاتق الجميع: أحزاباً، ومجتمعات، ومثقفين؟. 5-مهام المثقف ودوره في المجتمع: وبالعودة إلى ما سبق تناوله من ظواهر وإشكاليات (السلطة، والمعارضة، والسلفية، والمجتمع) نجد هناك ضغوطاً كبيرة يتعرض لها المثقف، وتعترض سبيل حياته العديد من الإشكاليات. فما هو الدور المنتظر من هذا الكائن المسمى مثقفاً في المجتمعات العربية التي تعاني من الاضطهاد والتجهيل والفقر؟. المثقف العربي، إنسان مهزوم، لاقدرة له على مواجهة الضغوطات من كافة الجهات: فالأجهزة الأمنية للسلطات المستبدة شغلها الشاغل ممارسة القمع والاضطهاد ضد المثقفين كونهم أداة التحريك والتهيئة للفعل الجماهيري للقيام بالثورة. ويسعى قادة الأحزاب المعارضة جاهدين لتهميش وإقصاء المثقف عن الحياة السياسية، لأنهم يشعرون في اللاوعي أن المثقفين يشكلون التهديد المباشر لمراكزهم الحزبية ويسعون لكشف جهلهم في شؤون السياسة والمجتمع. والتيارات السلفية، تفرض سطوتها وتصدر الفتاوى بالقتل والتهديد ضد المثقفين المتعارضين مع نهجها الظلامي. والمجتمع يعاني من التخلف والانحطاط، نتيجة ممارسات السلطة الاستبدادية. ويصف ((كير كجارد)) هذا الواقع المزري قائلاً:" إننا نعيش الحاضر ونتطلع للمستقبل، ولكن نمط تفكيرنا من الماضي". لذا ليس هناك خيارات كثيرة متاحة أمام المثقف العربي: إما الاندماج في النظام والدفاع عن سقطات السلطة المستبدة، والعمل كخط دفاعي أول للسلطة ضد زملائه من المثقفين، وبالتالي السقوط في براثن الانتهازية ومساندة قيم الشر. وإما رفض الاندماج في النظام ومقاومة نهجها في الاستبداد، وبالتالي تحمل النتائج المترتبة على ذلك الرفض من تنكيل واضطهاد والسجن والتهميش وهدر الكرامة والفقر وتكريس الذات لفعل المقاومة اليائسة. وإما الخيار الأكثر مرارة مغادرة الوطن واللجوء إلى المنفى للحفاظ على الذات من خبث ودسائس السلطة المستبدة. ومن ثم استغلال الأجواء الديمقراطية في البلدان المضيفة بغرض استعادة الكرامة المهدورة والشروع بالإبداع وفضح ممارسات سلطة الاستبداد. وحتى في المنفى يخشى المثقف انتقاد ممارسات سلطة الاستبداد في مقال يكتبه في الصحافة، خشية تعرض عائلته وأقاربه للبطش والاعتقال في الوطن. عموماً كل مثقف حر في خياره وما يجده مناسباً لتحقيق مصالحه ويتفق أو يتعارض مع مبادئه، ويبقى خيار الارتماء في أحضان سلطة الاستبداد هو أسوأ الخيارات على الإطلاق، فمهما كان مثقف سلطة الاستبداد يعتقد أنه نزيه سيكتشف يوماً ما أن بوصلته تشير نحو قيم الشر. وبالضرورة موقفه سيكون مناصراً لتلك القيم المتعارضة ومهامه كمثقف يجانب قيم الخير ويقف إلى جانب تطلعات شعبه. إن الصراع بين المثقفين، ليس صراعاً سياسياً كما يحلو للبعض ترويجه وأنما صراع ضمير وقيم إنسانية لايدرك معطياتها السياسيون. لأنهم فارغين من الفعل الإنساني وغالباً ما يخوضون حروبهم مع المثقفين الرافضين، بجيش من أشباه المثقفين يتم تجنيدهم لمهمة مقارعة الثقافة والمثقفين. 6-دور المثقفين في عملية التغيير السياسي والاجتماعي: من المهام الأساسية للمثقف المطالبة بالعدالة الاجتماعية، باعتباره الأكثر ثقافة وإدراكاً لحاجات الوسط الاجتماعي ولكونه أداة التحريك والتهيئة لعملية التغيير المنشودة. وما من ثورة اشتعلت في التاريخ الحديث إلا وكان المثقفون شرارتها ووقودها، وما من حركة للمجتمع المدني تناهض الحرب وتدعو للسلام في العالم إلا وقادها المثقفون. وما من سوط لجلاد إلا وطال أجساد المثقفين، وما من سجن لطاغية إلا وكان نزلاؤه من المثقفين، وما من لوائح لأجهزة أمنية إلا كان نصيب المثقفين منها الأعلى، وما من ساحة تحرير في العالم الثالث إلا وكانت ساحة إعدام للمثقفين!. يعتقد ((غرامشي))" أنه بدون المثقفين لم تشتعل أي ثورة رئيسية في التاريخ الحديث، وفي المقابل لم تقم أي حركة مضادة للثورة بدون المثقفين. فالمثقفون هم آباء الحركات وأمهاتها وبالتأكيد أبناؤها وبناتها وحتى أبناء الشقيقات وبناتهن". لايعود تراجع دور المثقف في الحياة السياسية-الاجتماعية في الوطن العربي إلى ضعف أدائه وفعاليته، وأنما إلى وتيرة القسوة والاضطهاد التي تمارسها سلطة الاستبداد ضده لإقصائه عن أي فعل مضاد لها. إن حجم الإرهاب والعنف المستخدم من قبل سلطة الاستبداد تجاوز حده الطبيعي، وأخذ شكل من أشكال القوة المفرطة لإخضاع المجتمع مما عطل دور القوى الفعالة ( وعلى وجه التحديد منهم المثقفين) في أداء دورهم المفترض في مقاومة السلطة وإحداث التغيير في النظام القائم. إن اختلاف موازين القوى وعدم الامتثال للعرف السياسي في معادلة الصراع بين السلطة والمجتمع، وإصرار سلطة الاستبداد على نهجها في استخدام القسوة والاضطهاد للمناوئين لها وعدم الاحتكام للغة الحوار السياسي للخروج من الأزمة السياسية، بإضافة إلى ربطها غير المنطقي بين سقوطها وسقوط الأوطان!. دفع العديد من الأوساط السياسية المعارضة والنخب المثقفة للبحث عن حلفاء لها من خارج الحدود، بغرض إيجاد نوع من التوازن في معادلة الصراع بينها وبين السلطة (كما هو الحال في الحالة العراقية الراهنة). وبغض النظر عن شرعية من عدم شرعية هذا النوع من التحالفات للمعارضة ضد سلطة الاستبداد، فأن سلطة الاستبداد تتحمل لوحدها المسؤولية عن خروج الصراع السياسي عن ثوابته الوطنية. لأنها أسقطت من حسابها الخيارات المتاحة للخروج من الأزمة بينها وبين المجتمع، وبالمقابل فإن المجتمع لم يعد بمقدوره تحمل المزيد من الخسارات في الأرواح وهدر الكرامة والاستبداد للحفاظ على ثوابته الوطنية. الخلاصة: أُستنفذت كافة سُبل الحوار مع سلطات الاستبداد في الوطن العربي، كونها غير مستعدة لإجراء تغييرات جوهرية في نهجها الاستبدادي واعتماد الخيار الديمقراطي للخروج من الأزمة السياسية. لذا فأن الخيار الوحيد أمام القوى الفعالة من المجتمع ونخبه من المثقفين استثمار التوجهات الدولية الجديدة لكنس الأنظمة الشمولية وسلطات الاستبداد من المنطقة، وأي خيار آخر يُعتبر دعوة (لا أخلاقية) للمهادنة والقبول بالترقيعات غير المجدية لسلطة الاستبداد. إن أحزاب المعارضة في الوطن العربي، هي تشكيلات غير مؤسسية تماثل في بنيتها التنظيمية عصابات المافيا. وقيادات تلك الأحزاب بحكم عدم تأهيلهم أو كفاءتهم، يكنون الحقد والازدراء للمثقفين لأن المثقفين قادرون على تعريتهم وكشف ضعفهم بشؤون السياسة والمجتمع. والعلاقة بين المثقفين وأنصار الإسلام السياسي من السلفيين والظلاميين، علاقة عدائية غير قابلة للتسوية لأنها على طرفي نقيض. وحقيقة الصراع يتمحور بين المنظومة الفكرية للتخلف والتقدم، ولا سبيل لفك الاشتباك بينهما إلا بعملية فصل الدين عن الدولة. وعدم السماح لإقحام الدين كشأن خاص، يتعلق بين الإنسان وربه وبين الدولة كشأن دنيوي تهتم بشؤون المجتمع. عملاً بالقول المأثور (الدين لله والوطن للجميع). تعاني المجتمعات العربية في الوطن العربي من ظاهرة التخلف والتجهيل والقهر التي مارستها السلطات المستبدة على مدى عقود من الزمن، مما أدى إلى ترسيخ مفاهيم العنف والقسوة في ذهنية أفراد المجتمع للتماهي بسلطة الاستبداد. ولأجل مساعدة تلك المجتمعات على الخروج من حالة اليأس والإحباط وانتزاع مبرارات القسوة والعنف من وجدانها، يتوجب مساعدتها على إقامة أنظمة ديمقراطية تعنى بشؤونها ومستقبلها. وأخيراً فإن عملية التغيير الديمقراطي وما يتطلع إليه المثقف في المنطقة، تتطلب إزاحة عوامل الاستبداد والشروع بعملية بناء الإنسان العنصر الأساس في عملية التنمية. وهذا الأمر يتطلب العون والمساعدة من كافة الدول الديمقراطية في العالم، نتيجة عجز القوى الفعالة (خاصة المثقفين) في المجتمع في إحداث التغيير المنشود لوحدها. وإن المساعدة في إحداث أنظمة ديمقراطية في المنطقة، سينعكس إيجاباً على جميع دول المنطقة وكذلك على الدول التي لها مصالح استراتيجية في منطقة الشرق الأوسط. وينقذ المنطقة من الانزلاق نحو العنف والإرهاب كخيار وحيد لتحقيق الأهداف، ويحقق التنمية والرفاهية لشعوب كانت لها مساهماتها التاريخية في رفد الحضارة الإنسانية بالشيء الكثير وتتطلع لاستعادة دورها المنشود لخدمة الإنسانية من جديد.
#صاحب_الربيعي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
دولة القبيلة بين القيم والمصالح
-
أسلوب المقاومة السلمية ضد الأنظمة المستبدة
-
انماط السلوك غير السوي في المجتمعات المقهورة
-
الخطاب العلني للقوى المقهورة ضد القوى القاهرة
-
لقاء صحافي مع الباحث وخبير المياه في الشرق الأوسط السيد صاحب
...
-
سمات الخطاب المستور للقوى المقهورة
-
ردًّ الفعل الشعبي ضد ممارسات القهر والاستبداد
-
الصراع السياسي المستور بين القوى القاهرة والمقهورة
-
الكراهية والحقد الكامن في ذات الإنسان المقهور
-
السياسيون القردة
-
صراع القدر والإرادة بين السماء والإنسان
-
نشوء الدول القديمة والحديثة
-
صلاحية الحاكم والمحكوم
-
صراع العاطفة والجمال بين المرأة والطبيعة
-
التأثيرات السلبية للفقر والجهل على المجتمع
-
استحقاقات الرئاسة القادمة
-
مَلكة الإبداع بين العبقرية والالهام والفطرة
-
قيم الراعي والقطيع السائدة في الكيانات الحزبية
-
الحكمة والحقيقة في الفلسفة
-
مراتب المعرفة عند الفلاسفة
المزيد.....
-
من معرض للأسلحة.. زعيم كوريا الشمالية يوجه انتقادات لأمريكا
...
-
ترامب يعلن بام بوندي مرشحة جديدة لمنصب وزيرة العدل بعد انسحا
...
-
قرار واشنطن بإرسال ألغام إلى أوكرانيا يمثل -تطورا صادما ومدم
...
-
مسؤول لبناني: 47 قتيلا و22 جريحا جراء الغارات إلإسرائيلية عل
...
-
وزيرة خارجية النمسا السابقة تؤكد عجز الولايات المتحدة والغرب
...
-
واشنطن تهدد بفرض عقوبات على المؤسسات المالية الأجنبية المرتب
...
-
مصدر دفاعي كبير يؤيد قرار نتنياهو مهاجمة إسرائيل البرنامج ال
...
-
-استهداف قوات إسرائيلية 10 مرات وقاعدة لأول مرة-..-حزب الله-
...
-
-التايمز-: استخدام صواريخ -ستورم شادو- لضرب العمق الروسي لن
...
-
مصادر عبرية: صلية صاروخية أطلقت من لبنان وسقطت في حيفا
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|