|
رسائل الإخوان المسلمين الأخيرة وشعاراتها الخداعة .. مناورة أم تضليل
سهيل حداد
الحوار المتمدن-العدد: 1202 - 2005 / 5 / 19 - 07:31
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
رسائل الإخوان المسلمين الأخيرة وشعاراتها الخداعة .. مناورة أم تضليل إن الحديث في الطائفية بحد ذاتها أو اعتمادها منهجاً سياسياً، أو الحديث في التطرف الديني في مجتمعات ذات تعددية دينية ومذهبية سيؤجج على جميع الأحوال مشاعر التحريض والتعصب والفتنة بين أبناءها مهما بلغوا من الرقي والتقدم، وقد أثبتت هذه الطروحات فشلها في مختلف العصور والأزمان حتى قبل ظهور الديانات السماوية، وكانت سبباً لحروب ضروس أدت لسقوط عدد كبير من الحضارات والدول، وفتت شعوبها ولحمتها، وقادتها إلى أتون التخلف والجهل والظلمات، وأكبر مثال على ذلك حالة أوروبا في العصور الوسطى تحت قيادة التيار المسيحي المتعصب. وقد بينت جميع الأحداث أنه لا يمكن الحوار بأية وسيلة مع من ينتهجون مثل هذه المبادئ بغض النظر عن انتمائهم وعقائدهم الدينية (يهود، مسيحيون، مسلمون أو بوذيون، هندوس، سيخ... الخ) واختلاف تسمياتهم مهما تغير إطار طروحاتهم، لأن جوهر عقيدتهم السياسية لا يتغير فهي تعتمد منهج الطائفية الدينية المتطرفة والمتعصبة ومبدأ الإقصاء المذهبي بمختلف أنواعه، والتيار الأصولي السلفي في مشروعها السياسي والاجتماعي. وهذه هي حالة جماعة الإخوان المسلمين منذ تأسيسها في مصر في بداية العشرينيات من القرن الماضي، والذي امتد إلى بعض البلاد العربية ومنها سورية في نهاية الثلاثينات. ولكننا بدأننا نسمع حالياً بيانات إعلامية توحي لنا أن هذه الجماعة أصبحت بين ليلة وضحاها تتبنى مع كل من ليس له دور سياسي فعال في مجتمعه النهج الديمقراطي والتعددية من وجهة نظر أصحاب نظرية العولمة الجديدة وحاملي راية الامبريالية الجديدة في الهيمنة على الشعوب ومصيرهم. فهل هذا يعني تغير في جوهر ورأي وعقيدة الإخوان تجاه مجتمعاتهم. وكواحد من أبناء هذا البلد المتمسكين بجذورهم وأصالتهم ووطنيتهم والمؤمنين بالله وبكل ما انزله من عقائد ورسل وأنبياء، ونقر بحرية المعتقد الديني وممارسة شعائره وننبذ أي نوع من الطرح الطائفي أو المذهبي تحت أية ذريعة كانت كمعظم السوريين على مختلف انتماءاتهم العقائدية، توقفت هنا ملياً للنظر بعمق في مدى مصداقية ما تطرحه هذه الجماعة في هذه الفترة خصوصاً، لأنني أرى أن ما ذكر من نقاط في البيان الأخير لمراقبها في سورية والذي يعيش في كنف الإنكليز، يتعارض بشكل كبير مع تصريحاته وتصريحات أعضاء جماعته في وسائل الإعلام المختلفة، والذي حتى هذه اللحظة يأخذ نفس المنهج ويعتمد على مبدأ الاجتثاث، والتكفير، والإقصاء، والتحريض والحض على العصيان ومعارضة السلطة ومؤسساتها. وهذا ما يجعلني لا أثق بهذه الرسائل التي ليس لها على أرض الواقع أية مصداقية، وهنا لا أريد أن أدخل في سجال عقيم مع هذه الجماعة التي "لم تعد تنظيماً بل حالة" حسب السيد زهير سالم وهو أحد قادة هذه الجماعة الذي لم يكن يدرك أن مناظرته على "قناة الديمقراطية" التي تراعها قناة المستقلة المعروفة المرامي والاتجاه في خدمة الأجندة الأمريكية وبوقها الإعلامي في المنطقة هي السبب في كتابة هذه المقالة !!. هذه التصريحات التي تجرم السلطة وكل من تعامل معها وتكفرهم وتتهمهم، وتحرض الشعب السوري على العصيان وتدحض على الفتنة، بينت ببساطة ماهية الإستراتيجية الجديدة في التلاعب بالألفاظ والكلمات لتعود لنفس الهدف متناقضة بشدة مع مفهوم الديمقراطية والتعددية الذي يتشدقون به في هذه الآونة. على عكس محاوره السيد صالح عمر العلي (دبلوماسي عراقي سابق) الذي تحث بمنطقية وعقلانية وأعطى تصور واضح للوضع العربي وميز بين الديمقراطية التي تسعى إدارة بوش إلى تسويقها وبين ما يراد منها حقيقة. كما بين أن هناك فرصة وأمل كبيرين في سورية وقيادتها الجديدة لتفويت الفرصة على هذه الإدارة ومشروعها العدواني ضد سورية، وأن سورية تمتلك حالياً نفس جديد وعصري يؤمن لها كل مكونات النهوض بمجتمع تعددي متطور في كافة المجالات. ولذلك أرى أن هذه الجماعة لم تتنازل عن جوهر عقيدتها في تطبيق الحكم الإلهي المطلق على الأرض من خلال سلطة الأحكام الدينية المطلقة التي يتبنونها. فمبادرة الإخوان المسلمين الأخيرة للإصلاح التي أعلنوها في آذار 2004 هي في جوهرها ونصوصها مشروع دولة إسلامية في التعليم والاقتصاد والإعلام والسياسة . فتقول الوثيقة " أن الغاية لدعوتنا هي الإصلاح الشامل لإقامة شرع الله وفي ذلك صلاح الدنيا والدين"، وتضيف "لا أمل لنا في تحقيق أي تقدم يذكر في شتي نواحي حياتنا إلا بالعودة إلى ديننا وتطبيق شريعتنا". أين الديمقراطية التعددية وأين حقوق الأقليات الأخرى التي يتحدثون عنها. إن هذه المبادرة تخص فئة معينة فقط من المسلمين، لا يتفقون في أغلبيتهم مع طروحات وآراء هذه الجماعة لأن هذا الطرح يؤسس لمشروع متكامل لدولة إسلامية فاشية، وبالتالي لا نرى لهم رؤية وطنية جلية معاصرة. وإذا كان على سبيل المثال لا الحصر تعّريفهم لكلمة مواطن تغني عن كلمة (ذمي ) ، وتشمل من حيث الدين ( المسلم ، المسيحي ، اليهودي ، المجوسي ، الوثني ... الخ) هو جوهر التغيير غير المقنع فما أدرانا كيف يفكرون في الأمور الأخرى. ومن يريد أن يطلع على مكنونات جوهرهم في الرؤية الحديثة لمفهوم الدولة والتعددية في نظرهم ما عليه إلا الاطلاع على كتابات احد أعضاء جماعتهم السيد خالد الأحمد ليدرك إلى أي مدى من المواربة وصل بهذه الجماعة في تضليل الرأي العام. وبما أني مع مبدأ أن الدين لله والوطن لجميع أبنائه سأوضح وجهة نظري باختصار في موضوع هذه الجماعة متوخياً الحيادية وصدق العرض ومرجعيته، لأنه في سورية منذ الأزل يعتبر التطرق في أحاديث عقائدية تخص الأديان السماوية ومذاهبها حالة ذات حساسية معينة، يتناولها السوريين بمختلف انتمائهم بكل موضوعية وحذر لإيمانهم المشترك بكل ما أنزل من عقائد سماوية، وخوفاً على إيذاء مشاعر الآخرين وحرصاً منهم على تمتين روابط العيش المشترك السائدة بينهم. فقد كتب بازلي وهو قنصل روسيا لدى الدولة العثمانية في كتابه سورية وفلسطين تحت الحكم العثماني الذي صدر عام 1861: أنوه بأن هذه البلاد تبعث على الفضول سواء من حيث ذكرياتها القديمة أو من حيث مصيرها في أحداث الأزمنة، إنها المهد المقدس لليهودية والمسيحية والإسلام، البلد التي أخمدت المآثر الفروسية فيها عاصفة القرون الوسطى في أوربا، والتي تشخص إليها أنظار الغرب مجدداً بنيات سياسية وتجارية أحياناً ، وبشعور ديني أحياناً أخرى، وبطوباوية في أغلب الأحيان، إذ لم تكن أوربا قبل 1840 تعرف عن سورية إلا القليل، وحتى الآن بعد كل ما كتب وما قيل عن هذه المنطقة، يصعب تكوين انطباع صحيح لها. ويردف قائلاً أن الفتح العربي في النصف الثاني من القرن السابع أسبغ بسرعة على المنطقة البناء الداخلي والأخلاق السياسية التي لا تزال باقية فيها إلى الآن رغم ما أعقب ذلك من غزوات وفتوحات، وان الغزو المقترن بالوعظ الديني هو غزو لا يعرف الرحمة في كل زمان ومكان، فهنا وهناك لم يصمد العنصر الهليني الذي كان يعتبره الفاتحون امتن سند للدين، واستؤصلت اللغة اليونانية أما المسيحية فصمدت، ويتابع قائلاً طبق في سورية أيضا شيء من المركزية بواسطة القانون الديني الذي أعده المسلمون في تلك الفترة الأولى بالذات من تطور تنظيمهم المدني، ولكن مركزية الدولة هذه لم تكن ذات مطامع إدارية، ولم تخل بالحقوق والعادات المحلية، ولم تمس الحياة الداخلية للقبائل. ويمكن القول أن الفتح العربي أنعش العنصر الشعبي العربي، الذي عاش في هذه البلاد منذ أقدم العصور، وأسبغ عليه المزيد من الوحدة. وقد بين بازلي في كتابه أن جميع الفتن الطائفية التي حدثت في هذه المنطقة إبان الحكم العثماني كان هدفها الصراع على السلطة وتمتين هذا الحكم ، وإضعاف شعوب هذه المنطقة ليسهل السيطرة عليهم من كل الفرقاء الخارجيين الطامعين بها. ولم يكن ذلك في حقيقة الأمر صراعاً إثنياً. إن هذه القراءة التاريخية البسيطة تدل على أن الإسلام دخل إلى هذه البلاد فاتحاً لا غازياً وحافظ بأخلاقيات عالية على ميزات هذه البلاد وشعوبها وعقائدها السماوية بدون مساس، واستمر هذا الوضع إلى وقتنا الحالي، حيث كانت ومازالت حرية ممارسة شعائر دينية السماوية مصانة، ولم يسبغ على هذا المجتمع الفسيفسائي الذي يشكل النسيج السوري في أي وقت أية صبغة طائفية، بل اتسم بالتعايش المشترك والتسامح الذي يعطي لسورية ميزة عن غيرها من بلاد العالم. ولن نتوقف فقط عند هذه النقطة، بل هناك ميزة أخرى يتسم فيها التشريع في سورية وهي أن كل السوريين المسلمين يخضعون على مختلف عقائدهم ومذاهبهم إلى قوانين تتلاءم مع الشريعة الإسلامية التي اقرها القرآن الكريم من حيث عقود الزواج والمحاكم الشرعية، وأعطي الحق للعقائد الدينية الأخرى بحق التشريع الخاص فيها من حيث عقود الزواج والمحاكم الشرعية. وقانون الإرث الشرعي ينطبق على كافة المواطنين السوريين بغض النظر عن معتقداتهم الدينية (مسلم أو مسيحي أو يهودي) وجميع السوريين على مختلف مشاربهم يخضعون إلى دستور يعتبر الديانة الرسمية للبلد ورئيسها هي الديانة الإسلامية. وما محافظة بعض المناطق في سورية على خصوصيتها الاثنية والمذهبية عبر التاريخ إلا تعبير أصيل عن التسامح الديني والتعايش المشترك بين جميع فئات الشعب السوري في إطار وطن موحد منفتح يضم الجميع. من هذا المنطلق أي طرح طائفي (اجتماعي أو سياسي) في المجتمع السوري مهما كان نوعه ودرجته في أي مستوى يعتبر طرحاً منبوذاً هو وأصاحبه من كافة الفئات بغض النظر عن انتماءاتهم، ولا يمكن تقبله لا من قريب أو بعيد لأنه يوجد عقد أخلاقي واجتماعي بين جميع أبنائه يضمن عدم المساس بحرية الاعتقاد الديني أو المذهبي . والجميع متفقون على شريعة هذه الأديان السماوية وعقائدها الإيمانية. ويشتركون في الضراء والسراء معاً، ويتعايشون في إطار نسيج مجتمعي متنوع، وغني ثقافياً وحضارياً، وموحد بلحمة وطنية متميزة ومنسجمة بكل تناقضاتها وتناغماتها تضفي علية القوة والمناعة. وأي مراقب للأوضاع والتطورات في سورية سيرى أن الرؤى والطروحات التي تهدف إلى وضع تصور لعملية بناء جديد في سورية بدأت تتضح وتزداد وضوحاً، يوماً بعد يوم، وخاصة بعد خطاب القسم والتصريحات التي أدلى بها السيد رئيس الجمهورية الدكتور بشار الأسد في إطار فتح قنوات حوار وطني جاد بين جميع فئات الشعب يهدف إلى مشاركة الجميع في بناء الوطن ومستقبله بما يتلاءم مع العصرنة والتحديث ويضمن سماته ووحدته. ومنذ ذلك الحين بدأت تظهر اتجاهات فكرية وسياسية، داخل الحزب وخارجه، وداخل البلد وخارجه، تفصح عن رؤية جديدة ظهرت في سورية. وفي هذا الإطار ظهرت منتديات لجان إحياء المجتمع المدني التي لم تكن مؤهلة بشكل كاف لطرح مشروع وطني متكامل البنيان يتداخل مع اتجاه الانفتاح على كافة الأصعدة (السياسة، والاقتصادية، والداخلية) مع المحافظة على الثوابت الوطنية، الذي طرح من قبل القيادة السورية، فتعثرت في كثير من طروحاتها، ولم تلق أرؤاها صداً كبيراً على المستويين الشعبي والسياسي، بل شطح بعضهم بعيداً وبدأ يصطاد في الماء العكر ويطرح أفكار منبوذة ويحرض على إثارة النعرات العرقية والطائفية ويعتمد على نظرية الاجتثاث وإقصاء الطرف الأخر. ومن ضمن المشاركين في هذه الحملة والمتاجرات السياسية جماعة الإخوان المسلمين، التي أصدرت بياناً يدعو إلى عقد مؤتمر وطني شامل، نشر في بداية شهر نيسان من هذا العام. وتدعو فيه الجماعة إلى عقد مؤتمر وطني شامل لا يستثني أحداً ولا يلغي أحداً ويمثل كل التيارات والأطياف والطوائف والأعراق داخل الوطن وخارجه لبناء الكتلة الوطنية الصلبة التي تتحمل العبء الوطني بكل أبعاده، وإلى الاعتراف بمكونات المجتمع السوري وخصوصياتها الاثنية والعقائدية والمذهبية والثقافية والسياسية في إطار الوحدة الوطنية واعتماد مبدأ المساواة في الحقوق والواجبات وتكافؤ الفرص أمام جميع المواطنين وإلغاء كل أشكال التمييز والإقصاء. من يقرأ هذا البيان يعتقد أن هناك تغيير جذري عقائدي في نهج هذه الجماعة وابتعادها عن الفكر الاقصائي والنهج الطائفي، ولكن من يقرأ بين الأسطر ويتبين الأمور على حقيقتها يرى غير ذلك، فهذا البيان في حقيقة الأمر يبرأ ساحة الإخوان من كل الجرائم التي ارتكبوها بحق الشعب السوري من عام 1979 وحتى 1982، وأن النظام هو الذي استهدفهم، ويستهدفهم وليس العكس، وكأن السلطة هي التي حملت السلاح وبدأت تطاردهم !!، ويتهم مباشرة السلطة ومؤسساتها في سورية، ويحملها كل ما جرى من تداعيات أعقبت العصيان المسلح لهذه الجماعة في بعض المدن السورية، ويخلو من أية إشارة لأية مصالحة وطنية حقيقة أو اعتذار عما ارتكبته هذه الجماعة من عمليات إجرامية ضد المجتمع السوري وأركانه المختلفة، فبرغم عن العفو الرئاسي العام الذي شمل كل من يتراجع عن هذه الأفكار هذه الجماعة ضمن فترة محددة إلا أن الكثير من أعضاء هذه الجماعة فضل الهرب خارج القطر والاستمرار في نهج نفس الطريق والعقيدة، والجميع في سورية يعلم أن هذه الجماعة لم تتخلى عن منحاها الطائفي والاقصائي إثنياً أو مذهبياً منذ تأسيسها في سورية على يد الشيخ مصطفى السباعي وكانت هذه الحركة قد استمدت أفكارها من جماعة الإخوان المسلمين في مصر، وحتى الآن لا تفتأ هذه الجماعة بتصريحاتها التي تدين فيها النضال الوطني والأفكار التقدمية والقومية، إلى تكفير من يخالفها العقيدة أو المذهب. وتعمل وفق إيديولوجية طائفية مذهبية تعتمد على إقامة التعارض بينها وبين الانتماء الوطني والقومي في محاولة للعودة إلى إيديولوجية الخلافة والأممية الإسلامية التي سقطت فكريا وسياسيا واجتماعياً بعد تحرر الأقطار العربية وانفصالها عن الدولة العثمانية، وأخذت تدعو إلى محاربة كل فكر وطني وقومي وتحرري وعلماني. ويعتمد أساس إيديولوجيتها التي تبناها حسن البنا على نفس مبادئ الأصولية التي نمت وترعرعت في أحضان بعض الفقهاء والمرشدين الروحيين من طراز ابن تيمية. ومن كنفها خرجت كل هذه الحركات الإسلامية الأممية التي تنتهج العنف المسلح شعاراً لتحقيق مراميها وغاياتها. وللتأكد من ذلك يكفي أن تقرأ آراء مناصريها وردودهم على أي فكر يخالفهم، وتتطلع على ما ينشر لهذه الجماعة في صفحات الإعلام المكتوب أو المسموع ومواقعها ومنابر حوارها الالكترونية على الانترنيت. وعلينا أن لا ننسى أن هذه الجماعة ترتبط بتنظيم دولي يتجاوز حدود سبعين بلد موزعين في قارات مختلفة، وأن هدفها وطموحها إحياء دولة إسلامية عالمية تذوب فيها الأوطان والقوميات. فعن أي مشروع وطني يتحدث بيانها. ولا نستطيع في سورية بعد انتهاء الحكم العثماني، إلا أن نربط ظهور الأصولية بهذه الجماعة التي يتميز تاريخها بالعنف، ومعارضة كافة أشكال النظم السياسية التي ظهرت في سورية منذ الاستقلال وحتى الآن. ولا يعرف في سورية أي حزب أو حركة سياسية أعتمد العامل الطائفي والإقصاء المذهبي في إثبات وجوده إلا هذه الجماعة. بالإضافة لذلك من يعود لتاريخ هذه الجماعة في سورية يرى بأنها لم تحقق أي نجاح يذكر لا على الصعيد الشعبي ولا على الصعيد السياسي منذ تأسيسها، فقد اتهمت في بداية الستينيات من القرن الماضي بأنها مسؤولة عن تآكل الوضع الداخلي في سورية، وبأنها السبب الرئيسي في انهيار الوضع الديمقراطي. بالإضافة إلى مشاركتها في إثارة الفتنة الطائفية في مدينة حمص ( بين الإسلام والمسيحية ) بعد الانفصال (راجع مذكرات أكرم الحوراني)، وهي أول من رفع شعار محاربة الشيوعية والإلحاد بالتحالف مع الولايات المتحدة الأمريكية. ولم تستطيع أن تشكل أي تحالف يذكر مع أية قوة وطنية، بل كانت دائماً تتهم بالخداع (راجع مذكرات العظم). ليستمر صراعهم الطائفي ضد البعث بعد استلامه للسلطة، فقد كانوا المسؤول الرئيسي في تفجير أحداث حماة في نيسان عام 1964. وكل السوريين يتذكرون موقف هذه الجماعة المتشدد والمعارض في بداية السبعينيات من القرن الماضي لعدم ذكر أو تحديد الهوية الدينية لرئيس الجمهورية، والذي حدد تحت ضغطهم بان يكون سورياً مسلماً وقد برروا ذلك بالدفاع عن دينهم، ثم في الأحداث الدامية في دمشق وحلب وحمص وحماة وإدلب وجسر الشغور وغيرها من المدن السورية التي راح ضحيتها عدد كبير من الأبرياء من أبناء هذا الشعب في نهاية السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي. والجميع في سورية يعرف ويقر أن دين الإسلام دين حق وعدل، وهو من هذه الأعمال براء. ومن الملفت للنظر هو أن نشاط هذه الجماعة يشتد كلما كان العامل الخارجي يشكل ضغطاً على العامل الداخلي للبلد وخاصة المواقف التي لا ترضي المشروع الصهيوني في المنطقة. وقد اتسم هذا النشاط بدعم الولايات المتحدة وبعض الأنظمة العربية غير المحدود لهذه الجماعة للوقوف بوجه انتشار الشيوعية أو الاشتراكية أو العلمانية في الشرق الأوسط حيث اعتبرت دمشق من الدائرين في فلك هذه المنظومة. وقد كانت ذروة هذا النشاط الذي اتسم بالعنف والإرهاب والقتل على أساس طائفي في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات من القرن الماضي، ينسجم مع الضغوط الكبيرة على سورية لإضعاف قدرتها على التصدي لاتفاقيات كامب ديفيد، وإفشال دورها في إيقاف الحرب الأهلية في لبنان، وتشويه موقفها تجاه الحرب العراقية الإيرانية، من خلال زعزعة استقرار البلد وإضعاف أمنه ومواقفه من هذه الأحداث. وما تحركها في هذه الآونة الأخيرة بعد طول غياب إلا عبارة عن ورقة ضغط إضافية تستخدم ضد سورية (كما كانت تستخدم دائماً)، وعملية حراك تكتيكي يهدف منه مغازلة هذه الضغوط الخارجية التي تنادي بالإصلاح والديمقراطية وفق أجندة محددة تقودها الإدارة الأمريكية. فهل هذا مدخل جديد بثوب جديد لإحياء ذاكرة ليست ببعيدة عن الذي قامت به هذه الجماعة في سورية من أعمال عنف وقتل واغتيال وترهيب وتخويف في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات من القرن الماضي، هل هي طريقة جديدة لتذكرينا كيف كفرت السلطة ومن يعمل معها من كافة العقائد والطوائف. إن ذاكرتنا لا تنسى الجريمة النكراء التي قام بها بعض عناصر هذه الجماعة بقتلهم عدد كبير من شباب هذا البلد بعد عزلهم طائفياً ومذهبياً في مدرسة المدفعية في حلب، وهل علينا بعد بيانها الإعلامي أن ننسى أشلاء العشرات من الأبرياء التي انتشرت في مساحات واسعة بعد عملية التفجير التي طالت حي الأزبكية بدمشق في أشد الساعات اكتظاظاً بالمواطنين، والذي تلاه تفجير باصات النقل الداخلي في عدد من مدن القطر، وهل علينا أن ننسى استهدافهم واغتيالهم للعسكريين بمختلف رتبهم، وللنخب العلمية والثقافية السورية من أطباء ومهندسين بغض النظر عن انتمائهم الطائفية. ثم ما تلا ذلك من محاولة لزعزعة النظام في بعض المدن السورية وخاصة في حلب وحماة وبعض المدن السورية الأخرى مما استدعى تدخل الجيش لقمع هذا العصيان بالقوة ويذكر روبرت فيسك في كتابه ويلات وطن الصادر في عام 1991 هذه الأحداث فيقول في عامي 1980-1981 قام الإخوان المسلمون بسلسلة من الهجمات والاغتيالات ضد المباني الحكومية وموظفي الدولة في معظم المدن السورية وخاصة حلب. وكانت مطالبهم تظهر على ملصقات غير موقعة. وفي شباط عام 1982 تأكدت إشاعة منتشرة في دمشق وهي أن حماه على حافة الثورة على النظام، حيث اغتيل العشرات من كبار موظفي البعث (بغض النظر عن انتمائهم الطائفي) في بيوتـهم وفي حالات كثيرة مع زوجاتهم وأطفالهم. فقامت القوات الخاصة بملاحقة كثيرين من هذه الجماعة التي استخدمت المدنيين كدروع بشرية في عصيانها. وكان كل من الملصقات يحمل توقيع "زعامة الثورة الإسلامية في سورية" وقائمة بالهجمات التي قام بها مقاتلي الإخوان ضد المباني في دمشق. وشكل هذا كله خطراً حقيقياً على النظام والبلد، وكانت السلطة محقة في فعلها، لأن هذه الأحداث تزامنت في نفس الوقت مع الاجتياح العسكري الذي شنته إسرائيل على لبنان، وفرضت الولايات المتحدة حصاراً اقتصادياً بدعم من بعض دول الخليج التي أوقفت مساعداتها لسورية والتي أقرها مؤتمر قمة الجزائر. وساهمت الأردن والعراق (كيف قبلت هذه الجماعة أن تتعامل مع عدو عقائدي لها !!!) بدعم لوجيستي ومادي كبيرين لهذه الجماعة، ودفعت بعصاباتهما المسلحة إلى الداخل السوري ضمن تحالف غريب عجيب يصعب تصديقه وتفسيره سياسياً، ضم اليمين المتطرف المتمثل بالإخوان المسلمين، واليسار المتطرف المتمثل بالحزب الشيوعي – المكتب السياسي ورابطة العمل الشيوعي، وذهبت مصر منفردة إلى كامب ديفيد الذي نرى حالياً نتائجه السلبية على كل الوضع العربي. أمام هذا الوضع وتسارع الأحداث داخلياً وخارجياً، ماذا سيكون موقف السلطة وهي ترى الخطر المحدق يحيط بالبلد من كل الجوانب، هل تقف متفرجة ؟ ويذهب البلد كما كان مخطط له على أتون حرب أهلية لا يعرف لها قرار، أم أنها تضع حداً لذلك وتمسك بزمام الأمور حرصاً على إنقاذ البلد واستقراره، وأمنه ووحدته الوطنية؟ ونتيجة لهذا الصراع الدموي العنيف الذي انتهجته جماعة الإخوان في سورية، ذهب ضحيتها عدد كبير من الأبرياء السوريين. لأن صراع أبناء الوطن لا يقود إلا لنتائج مأساوية يتجرعون في نهايتها جميعهم مرارتها. فهل تتحمل هذه الجماعة مسؤولية أعمالها، وتكف عن الظهور بمظهر البريء المظلوم. كيف لنا أن نعرف أن هذه الجماعة التي بدأت تنادي بالحرية والديمقراطية (وأعتقد بالديمقراطية الطائفية على أساس المحصاصات الطائفية التي ابتدعتها إدارة بوش في العراق ويحاول تطبيقها في لبنان ومناطق الحكم الذاتي من فلسطين المحتلة بهدف خلق بؤر توتر مستمرة بين أبناء الشعب الواحد) والتعددية بأنها لا تتخذ من هذه الشعارات إلا موقفاً تكتيكياً سطحياً، يهدف في النهاية طموحها للمشاركة في السلطة ومن ثم الانقضاض عليها والانفراد بها حسب منهجيتهم. وكيف لنا أن نعرف بأنها تخلت عن التصادم والعنف المسلح مع الشعب والسلطة، وبأنها تسعى بصدق لمصالحة وطنية شاملة ونبذ الماضي المرير، ولن تهدد أمن واستقرار البلد والمواطنين الذين أرهبتهم وأرعبتهم طلائعها المسلحة، إذا لم تقم بتقديم اعتذار واضح وعلني وصادق عن سنوات القهر والرعب الإنساني الذي سببته هذه الجماعة للشعب السوري. وكيف لنا أن نعرف مصداقية نواياها إذا لم تشرح حقيقة جوهرها وآراءها تجاه العديد من القضايا السياسية المصيرية والاقتصادية والاجتماعية وموقفها الحقيقي من التعددية ودولة المؤسسات والقانون المدني، والاعتراف العلني والواضح بالطرف الأخر والتعامل معه في إطار حقه كمواطن يمتلك حقوق متساوية ومتكافئة، وحقه في التعبير عن خصوصيته التي لا تتعارض مع أهداف الوطن ومصالحة. فهل تستطيع هذه الجماعة أن تجيب عن هذه الأمور بصراحة بدون مواربة وخداع، وأن تتخلى عن متاجرتها بالطرح الديني والطائفي، ونزعتها لإقامة دولة طائفية، ومغازلتها المستمرة للغرب الذي تكفره وتعيش في كنفه وتستمد تعليماتها منه ؟ وهل ستقبل بشرعية حقوق الإنسان كما أقرّت في الأمم المتحدة بغض النظر عن الخصوصيات الدينية أو الثقافيّة،. وهل ستتحول إلى حزب بدلاً من حالة وتنبذ الطائفية والعرقية؟. من يدري متى سنحصل على الجواب؟.
#سهيل_حداد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سوق هال الفضائيات العربية، والمزايدات السياسية
-
التخوف الأمريكي وأبعاده
-
-سورية في قلب الهدف الأمريكي-
-
رسالة ديموقراطية إلى ما يسمى العالم الحر
المزيد.....
-
طلع الزين من الحمام… استقبل الآن تردد طيور الجنة اغاني أطفال
...
-
آموس هوكشتاين.. قبعة أميركية تُخفي قلنسوة يهودية
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|