عزمي عاشور
الحوار المتمدن-العدد: 1201 - 2005 / 5 / 18 - 10:54
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
باتت ظاهرة تعميم الاستثناء علي حساب الجوهر وتهميش المركز لصالح الأطراف وتشيخ المجتمع بدلا من تجدده وضخ دماء جديدة في .. كلها وغيرها, ظواهر تتعلق بالمجتمعات العربية التي أصبحت علاقتها بأنظمتها الحاكمة علي مدار العقود الماضية تتسم بالجمود وعدم التفاعل فيما بينهما, الأمر الذي صبغ المجتمع بحالة ركود علي كافة مستوياته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية, ومن ثم أصبح التساؤل يتمحور حول سبب عقم هذه العلاقة والإصرار - من قبل أنظمة الحكم- علي استمراريتها وحصرها في أدوات القمع والاضطهاد دون أن توجد القنوات الشرعية التي يعبر بها المجتمع عن مكنون طاقته بشكل يمكنه من جني الثمار بشكل طبيعي يتناسب مع الجهد المبذول بعيدا عن نفحات السلطة. وتعكس هذه العلاقة هامشية حركة المجتمع بتركزها في مجموعة أفراد سواء الذين يرمزون إلي النظام السياسي أو الذين يخدمونه. وخطورة وجود هذه الظروف تكمن في تداعياتها التي تتخطي اللحظة التي توجد فيها إلي المستقبل, حيث يتوازي معها في المقابل تفشي الفراغ المعنوي والمؤسسي في المجتمع, الأمر الذي يمهد الطريق لملئه بأي وسيلة أخري غير مشروعة ترتبط بسلوكيات هذا الفرد المغيب قد تكون تطرفا أو إجراما أو تدخلات خارجية.
ومن هنا فان الوجود الشكلي للدولة يفرز, تلقائيا, سلطوية متوازية تتمثل في الدين الذي يمارس به دورا وإن كان مختلفا في الشكل عن الدور الذي تمارسه الدولة الديكتاتورية, إلا أنه في تأثيره, يتساوي, إن لم يفق بتقييده للعقول والأفكار والحريات بشكل عام, وتكمن الخطورة أنه عندما باتت عملية الإصلاح السياسي تطرق أبواب الكثير من الدول العربية برز الدين كمتغير سياسي مطروح في المساهمة في هذه العملية من قبل الجماعات والتنظيمات الدينية, وأصبح ذلك مطروحا بشكل خاص في عملية بناء العراق الجديد صاحب الصحوة الدينية الحالية, مع التباينات فيما بينها.
يحدث هذا التفاعل في وقت كان يفترض أن يبقي الدين - أي دين - وفقا للخبرة الإسلامية في إطار الاعتقاد الخاص والشخصي, ليس تقليلا من شأن الدين, فهو محور احترام من قبل الجميع ولكن في إطاره الصحيح. فعندما يتوجه به إلي -الآخرين- يفترض أن يبقي في نطاق القيم الأخلاقية, أما إذا تحول إلي عمل سياسي فيصبح عندئذ ذريعة لسلب حرية الإنسان وإرغامه علي الامتثال, كما يصبح وسيلة لقهر الآخرين وتبرير استغلالهم في الكثير من الأحيان.
وهذه المعضلة يمكن اعتبارها من أبرز المشكلات التي تقف عائقا أمام تطور وبناء المجتمعات العربية علي أسس مدنية حديثة سواء في حالة وجود أنظمة علمانية و ديكتاتورية أوحتي في وجود جماعات تسعي إلي الحكم باسم الدين, ففي كلتا الحالتين, الدين يوظف بازدواجية علي حساب الحريات والتقدم ومواجهة العصر بعقل خال من القيود والحلول الجاهزة.
فهو عند مستوي النظم السلطوية يستخدم في تبرير سلطويتهم خشية قفز الإسلاميين أو من علي شاكلتهم إلي السلطة, ومن ثم من المباح تأجيل الإصلاح حتي لو بشكل تدريجي. وهذا يشكل في حد ذاته أزمة حقيقية في كون أن حالة الاختناق التي تعيشها هذه المجتمعات هي التي خلقت وجودا لهذه التيارات. ومن ثم لم يكن من الغريب أن يكون الحبل مشدودا بين التيارين : السلطوي والديني لاتفاقهما في نهج الاستحواذ ونفي أو تهميش الآخر (المجتمع) بغية التمسك بالسلطة, حيث يكون التخفي وراء الشرعية تارة باسم المصلحة الوطنية, وتارة أخري باسم الدين وهو الأمر الأشد خطورة علي المجتمعات التي تسعي للنهضة لكونهما يشكلان عائقا يعمل علي تكبيل المجتمع وعدم فتح الطريق لتحرره من هذه الأعباء, ويرجع ذلك بوجه خاص لحساسية عامل الدين الذي يشكل نقطة ضعف داخل هذه المجتمعات, حيث أن نزعة التدين لدي كثيرين, إذا كانت نابعة من الاعتقاد, فإنها لدي آخرين اقرب إلي العادة, كما أن وجود هذه النزعة التي تبيح تحويل الدين ذاته إلي سلطة تتجاوز حق الإنسان في الاختيار الحر, أو شكلا من أشكال العصبية والتعصب, لا تقل خطورة إن لم تزد عن سلطوية الدولة, مما يجعل الجرأة علي المخالفة غير موجودة خشية الاتهام بالزندقة والكفر في حالة الاعتراض أو الاقتراب بالنقد من هذه الشرعية, وهو أمر تتعدي خطورته اللحظات التي يحدث فيها إلي المستقبل, مما يضع المجتمع في مشكلات مستمرة تربك أي ديناميكية للتطور, نظرا لوقوعه أسير هذه الازدواجية, فيجعل فئة صغيرة منه تستفيد من الوضع القائم باقترابها من السلطوية وفئة أخري تبدأ في البحث عن ذاتها حتي لو كان بأسلوب مخالف للواقع بأن تسير وتتبع نهج تيار التطرف, وفي ظل ذلك تبقي الفئة العظمي للمجتمع مهمشة بفعل حالة الاختناق التي أحدثتها هذه الازدواجية العقيمة مابين السلطوية وكل ما هو راديكالي فالوضع كان سيختلف لو أن المجتمع بات حرا طليقا لا تقيده سلطوية أو أفكار راديكالية, فوجود مثل هذه البيئة يفعل كل الفواعل الإيجابية فيه مادامت كل السبل مفتوحة أمام الجميع بحيث لا يبقي إلا الأصلح الذي يستطيع أن يجلب النفع له ويصعب في نفس الوقت - في ظل هذه الديناميكية الفاعلة سياسيا واقتصاديا- من وجود الفراغ الذي من الممكن أن يتسلل اليه من يستطيع أن يملؤه سواء كان ذلك في شكل ديكتاتور أو في شكل حركات راديكالية.
وبنفس المنظور السابق, تترجم هذه العلاقة مابين التنظيمات الدينية ذات الطابع السياسي والمجتمع باختزالها للدين تحت شعار امتلاك الحقيقة وتقديم الحلول الجاهزة لكل المشكلات, وكل ماعدا ذلك, فهو علي باطل بمنطق يناقض طبيعة التطور البشري نفسه الذي لعب فيه عقل الإنسان دورا كبيرا في الحفاظ عليه من الاندثار بأن صنع له تاريخا يستفيد منه ويبني عليه. فتدين عقلية المجتمع بهذا النمط الأحادي التفكير, يقتل مبدأ طالما كان عنصرا مهما في النهضة الحديثة, وهو الحرية والتي كانت نتاجا للتوازن الذي حدث في المجتمعات الغربية, فهو كان تعبيرا عن الحاجة من ناحية, وعن توفر الوسائل لتلبيتها سلميا وعقلانيا وطوعيا من ناحية أخري. أما في واقع المجتمعات الإسلامية, فان الأمر يختلف كثيرا عن ذلك, وهذا ما جعل التيار الأصولي في جانب منها رد فعل لفشل الأنظمة السياسية القائمة, ولعجز القوي والأحزاب العلمانية عن أن تكون بديلا لهذه الأنظمة, ولأن الحركة الأصولية تعتمد علي تحريك عواطف الناس واستثارتهم وحشدهم ضد الفساد والرشوة والتفسخ الذي يميز الطبقات الحاكمة والقوي التي تدعمها, فإنها تلجأ إلي التعبئة العاطفية والي الشعارات لا إلي العقل والبرامج السياسية. كما تلجأ, في حالة اشتداد قوتها, إلي إسكات أي صوت أو رأي مخالف لها بالعنف والإلغاء حتي لا يتسرب الشك إلي مؤيديها باحتمال وجود الحقيقة لدي طرف آخر.
البحث عن المشروعية للنظام السياسي :
تواجه معظم الدول العربية,علي ضوء دعاوي الإصلاح سواء الداخلي منها أو الخارجي, أزمة حقيقية في بناء الشرعية السياسية الأمر الذي ينعكس في أحيان كثيرة بأن تتحول السلطة السياسية إلي سلطة قمعية تمارس العنف والقمع علي المجتمع, مما يزيد العنف الداخلي في المجتمع الذي يتجسد في أبعاد عديدة, لعل أبرزها تفشي ظاهرة العنف الديني والتي ظهرت بوضوح في مجتمعات عدة في الوطن العربي, تأتي علي رأسها الجزائر ومصر وعلي وجه الخصوص في الوقت الحاضر العراق والسعودية..الخ, حيث تشكل هذه المظاهر ملمحا من ملامح أزمة الشرعية في الوطن العربي. ومأزق الشرعية متعلق بالأساس في بنائها علي متغيرات متعلقة بالدين والثقافة العربية, الأمر الذي يزيد من سلطوية هذه المجتمعات, سواء تحت شعارات قومية أو دينية. ومن هنا فان مصادر الشرعية التقليدية في المجتمعات العربية باتت في طريقها, في حالة حدوث إصلاحات, إلي الزوال والاستعاضة عنها بشرعية مبنية علي صوت حركية المجتمع نفسه. إلا أن مصادر الشرعية التقليدية, والتي مازالت هي المصدر الأساسي للأنظمة السياسية في الوطن العربي, تكمن خطورتها في ارتباطها بالدين والثقافة المجتمعية, الأمر الذي يجعل عملية الإصلاح والتغيير تستغرق وقتا علي المدي البعيد. وتتركز في عدد من المصادر أهمها:
أولا : الشخصية: تلعب الشخصية دورا هاما كمصدر من مصادر الشرعية في الوطن العربي, حيث أن النظم العربية تعطي دورا كبيرا للقيادة سواء من الناحية التاريخية أو من الناحية الثقافية, إذ تتميز بنية القيادة السياسية في الوطن العربي بفقر شديد في البناء المؤسسي, ومن هنا, فالقيادة تكتسب شرعيتها نتيجة لكاريزمية القائد أو نتيجة لوجود فراغ سياسي, فضلا عن الأهمية التي تلقيها الثقافة السياسية والخبرة التاريخية, في الثقافة العربية, للقيادة السياسية, حيث أن الفراغ السياسي الموجود في بلد مثل العراق هو الذي أعطي الشرعية لصدام حسين لأن يستمر علي مدي هذه الفترة الطويلة في الحكم علي الرغم من ديكتاتوريته.
ثانيا : الأيديولوجية: يلاحظ أن كل الأنظمة العربية سواء المحافظة منها أو التقدمية تستند الي الأيديولوجية في تدعيم شرعيتها, فمثلا عن طريق الأيدلوجية الدينية يمكن تعبئة واستيعاب المواطنين, فالنظم العربية تندرج تحت النظم التعبوية والتي تسود فيها القيم المقدسة الجماعية, ولا تميل بنفس القدر الي القيم العلمانية, وهذا في واقع الأمر يعكس فراغا سياسيا منخفضا في الولاء والتقديس لأنظمة الحكم التي ترفع شعارات دينية هي قريبة, إن لم تكن لصيقة بعواطف الفرد في الوطن العربي.
ثالثا: البناء, تنطلق الشرعية في الوطن العربي من المكانة التي تعطيها الثقافة العربية للأسرة ورب العائلة. أو شيخ القبيلة, وبالتالي نجد أن موقع رب الأسرة أو شيخ القبيلة يعطيه قدرا كبيرا من الاحترام والتقدير من الآخرين المحيطين به, وانطلاقا من هذا نجد أن مكانة الخليفة أو السلطان أو الشيخ تولد الاحترام المبني علي الدين والعادات. وينعكس ذلك بشكل كبير علي عملية صنع القرار التي تتسم بالطابع الشخصي, ومجمل هذه المصادر أو بعضها كان يستمد منها النظام العراقي السابق شرعيته, شأنه في ذلك شأن غيره من النظم العربية الأخري, فشرعية النظم كما هو واضح كانت شرعية ناقصة كونها لا تعتمد علي الأسس والمصادر التي تعبر بحق عن المجتمع, ومن ثم لم تكن المعضلة التي وجد فيها الشعب العراقي, بعيدة عن هذا الأمر المزيف الذي أعطي سلطوية مزيفة لزعيم سياسي وضع في يده مصائر شعب بأكمله بسبب يرتبط بسلطوية النظام أكثر من كونه يرتبط بسلبية هذا الشعب, الذي أعطاه تفويضا بشكل غير مشروع ليكون وصيا علي مقدراته.. ومن هنا كان من الطبيعي بعد سقوط النظام السياسي البحث عن أسس جديدة لبناء العراق بحيث يستمد النظام السياسي فيها شرعية, ليس من مصادر تقليدية, وإنما من مصادر حديثة تعتمد علي المساءلة بين الحاكم والمحكوم, وهو أمر علي ما يبدو يحاول العراقيون تحقيقه في مسودة الدستور المؤقت الذي يعتبر نقلة حضارية علي طريق تدشين دستور حضاري يجعل الشعب هو مصدر السلطة الحقيقية, وليس النظام السياسي علي الرغم مما قد يرد عليه من تحفظات من قبل الكثير, كونه يتخلي عن الكثير من الثوابت التي كانت تدعم في السابق سلطوية النظام إلا أنه علي الرغم من ذلك يعد نقلة حضارية تتجاوز محطات الإخفاق في بناء الدولة المدنية علي أرض العراق.
من السلطوية إلي المدنية :
كان من الطبيعي التعرض فيما سبق لهذه العلاقة العقيمة مابين السلطوية والدين والمجتمع, أو بمعني أدق شرعية الحكم والمجتمع قبل الدخول مباشرة الي العراق كشكل يجسد تلك العلاقة, علي اعتبار أن العراق في الوقت الحاضر يبدأ مرحلة بناء عراق جديد غير عراق صدام حسين بكل السلبيات التي جلبها للشعب العراقي. ومن أجل تحقيق هذا الهدف, كان من اللازم تجنب كل العوامل التي تعمل علي إفراز نظام قريب أو مماثل للنظام السابق, فإذا كان الشعب العراقي وقع ضحية لسلطوية الديكتاتور علي مدار العقود الماضية, فإنه من الممكن أن يقع ضحية أيضا في المستقبل لسلطة الدين في مجتمع أغلبيته من الشيعة يلعب فيه رجال الدين دورا كبيرا في تجميع الأفراد حولهم, ومن ثم الطاعة العمياء لكل ما يقولون تطبيقا لمبدأ ولاية الفقيه. هذا فضلا عن معضلة ثالثة باتت تبرز في المجتمع العراقي وغير مألوفة عليه وهي بروز الجماعات الراديكالية الأصولية التي تبني مجدها علي ما تقوم به من أعمال تخريبية, مستغلة في ذلك الاحتلال الأجنبي وموظفة هذا الوضع لصالحها.
كان من الطبيعي وسط هذه الظروف المتقابلة والمتناقضة, أن يحدث ارتباك وتخبط حول صيغة مثلي للحكم في العراق, ليس فقط علي المستوي النظري, وإنما في التطبيق علي أرض الواقع. فهذه هي المهمة الأولي- منذ عقود- التي يواجه فيها الشعب العراقي مأزقا خطيرا في اختياره نموذجا للحكم يجنبه أضرار الحقبة الماضية. فمنذ قيام العراق الجمهوري في 14 يوليو 1958 وحتي سقوط صدام حسين قبل عام, كان المصير العراقي بيد حفنة من الضباط أو الحزبيين. ففلسفة المسئولية المتبادلة بين الحاكم والمحكوم لم تكن واردة في حسابات الممسكين بالسلطة طوال هذه الفترة, فلم تكن هناك معارضة, حيث كان الدستور يعمل في خدمة الحاكم الذي لا حدود لقدرته علي التحكم في مقاليد السلطة ومن ثم المجتمع, وهو الأمر الذي يطرح التساؤل حول مصدر شرعية الحكم في المنطقة العربية, فإذا كانت الدول الديمقراطية تستمد شرعيتها بشكل مباشر من الشعب عبر صناديق الاقتراع إلا أن ذلك غير معروف في المنطقة, وأن حدث يكون في شكل ديكوري لتجميل الوضع كمظهر غير شرعي لاستلاب شرعية مزورة, وهذه لم تكن مشكلة العراق وحده بقدر ما كانت مشكلة مجمل الدول العربية التي باتت, وبحكم الظروف التي أعقبت الاستقلال في النصف الثاني من القرن العشرين تصبغ التقديس الإلهي إلي الحاكم نفسه, متنازلة عن حقوقها في مساءلة ومحاسبة الحاكم, بعدما أعطته التفويض انطلاقا من الثقافة الأبوية السائدة في هذه المجتمعات, الأمر الذي خلق بيئة خصبة للتقبل, ومن ثم الخضوع للأنظمة السلطوية والانصياع لها. ومن هنا فان ثقافة المساءلة والمسئولية المتبادلة بين الحاكم والمحكوم في المجتمعات العربية لم تتوافر لها البيئة الصحية لتنمو بشكل طبيعي, الأمر الذي أفرز علاقة أشبه بعلاقة السجان بالسجين والذي لا يمتنع عن تعذيبه رغم سجنه له, ومن هنا تصبح عملية توليد وخلق مثل هذه الثقافة صعبة في ظل طغيان الثقافة الأبوية المتحكمة ليس فقط في المؤسسات التقليدية في المجتمع كالأسرة والعائلة, وإنما أيضا في داخل المؤسسات الحديثة التي تبدأ بالأجهزة الإدارية البسيطة وتنتهي بمؤسسات الدولة نفسها. ومن ثم فان تحقيق ثقافة مدنية متحررة من هذه الثقافة بات أمرا ضروريا حتي يتم تسيير هذه المؤسسات بحيادية تجنب هذه المجتمعات السلبيات الناتجة عن هذه الأوضاع.
وتثبت خبرة الشعوب في المنطقة العربية أن هناك علاقة حميمية بين مدي الولاء لكيان سياسي جديد ومدي تطابق هذا الكيان مع تطلعات المجتمع, أو علي الأقل, مع تطلعات الفئات المؤثرة سياسيا فيه, لشكل وحدود الكيان المقترح, وهو المنطق المفترض أن يوجد عليه العراق الجديد بتركيبته الفريدة. فإذا كانت ديكتاتورية النظام السابق جعلت التجمعات الدينية والإثنية تقبل ما يفرضه النظام عليها في مقابل السكوت والرضا, وهو ما ساعد نوعا ما علي الحفاظ علي وحدة العراق في خضم غليان هذه الفئات الواقعة تحت كبت السلطوية, إلا أنها في المقابل قد أفرغت المجتمع العراقي من فاعلياته السياسية والاجتماعية وهو ما يشكل تحديا خطيرا في الوقت الحاضر لبناء العراق في ظل غياب متغير السلطوية والمرشح أن يبرز من جديد في شكل ديني أو ما شابه ذلك, إذا لم يتم التسريع بمأسسة المجتمع العراقي مدنيا. ومما يزيد الأمر تعقيدا في العراق التركيبة البشرية التي يوجد عليها المجتمع العراقي, فمن الناحية العرقية, نجد أن العرب يمثلون ما بين 75 إلي 80% من السكان والأكراد من 15 إلي 20% من السكان والتركمان والسريان وآخرين حوالي 5% من السكان. أما من الناحية الدينية, فنجد أن المسلمين يشكلون 97% من السكان (الشيعة من 60 إلي 65%, والسنة من 32 إلي 37%) والمسيحيين وآخرين حوالي 3% من السكان.أما من ناحية اللغة فنجد هناك العربية, والكردية (رسمية في المناطق الكردية) والسريانية والأرمينية.
علي الرغم مما يبدو في هذه التركيبة من عوامل تشتت أكثر من عوامل التقاء, إلا انه وفقا للواقع العراقي في الوقت الحاضر, فإن هذا التنوع يجعل طموحات هذا الشعب تتبلور في اتجاهين, أولهما طموح يتعلق بمصالح كل فئة دينية أو إثنيه (وهو الطموح الأصغر), وطموح آخر يتعلق بالدولة العراقية نفسها التي تحتضن هذه الفئات, والتي من المفترض أن تعمل علي التوفيق بين مطالبهم في سبيل تحقيق المصلحة العراقية العليا (الطموح الأكبر) وهو الشيء الذي حاول ان يعكسه الدستور العراقي المؤقت في بنوده بأن يكون هناك تمثيل واستقلالية لكل القوي السياسية في إطار لا يتعارض مع مصلحة العراق العليا سعيا نحو اقامة فيدرالية عراقية.
يحفل تاريخ العراق السياسي بالمحطات الكثيرة التي تشير الي أن ما عليه العراق الآن ليس بجديد عليه, سواء في وجوده ككيان سياسي موحد, أو حتي مجزأ, فالعراق قد عرف هذه الوضعية سواء في عصوره القديمة أو حتي الحديثة, فالعراق المعاصر يعتبر وريثا طبيعيا لسلسلة من الأنظمة السياسية التي انبثقت من بلاد الرافدين بحيث يمكن لأي عراقي معاصر أن يري في تاريخه مراحل مهمة كان العراق فيها كيانا سياسيا متميزا إلي جانب المراحل الأخري ولعل أولي مراحل هذا التميز تمتد من حوالي سنة 3500 إلي حوالي سنة 25000 قبل الميلاد, هي مرحلة الحضارة السومرية التي انتقلت من جنوب البلاد لتضم مناطق شمالية في العراق وسوريا. كما كانت هناك محطات مهمة في تاريخه تركت إلي الآن تأثيرها علي المجتمع العراقي, أبرزها دخول الإسلام العراق عام 637م ثم التحول الخطير الذي حدث للمجتمع العراقي بعد معركة صفين والتي أعطت العراق شخصية سياسية متمايزة طائفيا, من خلال تمركز الخوارج والشيعة وما صحب ذلك من تمرد واضطراب.
وإذا كان دعاة الدولة الحديثة العراقية يجدون جذورا عميقة لها في سومر والأكاديين والبابليين, والعراق المتمرد علي معاوية والخلافة العباسية, إلا انه في المقابل هناك من التاريخ العراقي ما يؤيد فكرة العراق المجزأ, فقد كانت هناك دولة اللخميين عشية الفتح الاسلامي أو الدولة الشيعية في الكوفة, أو دولة الزنكيين في الموصل, ناهيك عن شبه استقلال المماليك الجيورجيين المتأخر في القرن الثامن عشر, وإن كان ذلك في إطار الدولة العثمانية, فضلا عن أن العراق في مراحل كثيرة من حياته كان جزءا من إمبراطورية واسعة كانت أطول بكثير من مراحل تمايزه ككيان سياسي. والخلاصة التي نخرج منها انه لم يكن في الثقافة السياسية قبل المعاصرة لا في منطقتنا ولا في خارجها هذا التقديس شبه الديني للحدود, ومن ثم فوجود العراق في هذه الفترات سواء في شكل دولة موحدة أو دويلات صغيرة ليس مبررا لأن يكون العراق الحالي علي نفس الشاكلة, ففي هذه الفترات لم يكن لحدود الدول تقديس مثلما هي عليه في الوقت الحالي.
فإذا كان تاريخ العراق لم يشهد تقديسا للحدود - وهو نمط لم ينطبق علي العراق وحده- و إنما كان سمة تتفق فيها كل الشعوب إلا أن الثابت أن العراق ككيان تاريخي ذي حضارة ظل موجودا ويجري في دماء أي نظام للحكم بهويته وحضارته, بدءا من الحضارة السومارية, ومرورا بالآشورية والفارسية, ثم الإسلامية وحتي العراق الحديث الذي كان من المفترض أن تكون حدثت له نقلة تحديثية علي مدار القرن الماضي تتجاوز الانقسامات العرقية والقبلية التي مازالت تؤثر في عدم استقرار العراق بسبب متعلق بتأخر العراق تحديثيا. وهو الأمر الذي قد يجعل التنمية في المستقبل تأخذ وقتا كبيرا ليس علي المستوي الاقتصادي وإنما السياسي أيضا, حيث أن وجود دولة عراقية تحافظ علي مصالح هذه التركيبة الموجودة في العراق يتطلب نقلة تنموية بحيث تتواجد قناعات بوجود مصالح عليا مشتركة تتعدي المصالح القبلية والإثنية, ومن ثم تصبح فرصة إقامة عراق ديمقراطي قائمة مع تحييد كل المتغيرات التقليدية وبالأخص الدين, والثقافة الأبوية .. إلخ التي كانت سببا في مأساة العراق علي مدار العقود الماضية.
ففي حالة استمرار هذه الظروف قد يتحول العراق الي دولة دينية لا تقل في خطورتها عن النظام السابق, ومن هنا جاءت أهمية قانون الدولة العراقية, الذي يعكس بمضمونه وبالجدل الذي يدور حوله أبعادا مهمة لمستقبل الدولة العراقية, كونه يحدد الخطوط والأفكار التي سوف يسير عليها من سيحكم العراق في المستقبل, فضلا عن أنها في نفس الوقت تشكل وثيقة حقوق لشعب بات علي مدار العقود الماضية محروما من حقوقه الأساسية.
#عزمي_عاشور (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟