علي شبيب ورد
الحوار المتمدن-العدد: 1201 - 2005 / 5 / 18 - 05:55
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
( الشاعر عبد الحميد الصائح في مجموعته ( الأرض أعلاه
وكان ثمة عصر ذهبي في بدء الخلق أظل قوما على إيمان عميق ومباديء سامية , لم يشرع لهم قانون يلزمون حدوده أو يخافون عقابه , وعاشوا ليس لهم غيرالضمير
أوفيد - مسخ الكائنات -
الشعراء أكثر الناس نفيا وغربة , ومن أشدهم بحثا في الأقاصي والتخوم عن الإثارة والدهشة والذهول . وهم جوالون أبديون في عوالم خلق متناسلة لا تفنى . والشـــــاعر مصغ مخلص لأكثر الأصوات همسا , ومحرض حثيث لأكثر الأماكن سكونا. وبوصفــــه رائيا يبتغي بعث الجدوى من الخواء والضوء من القتامة والنار من الجليد والعنقاء مــن الرماد , لابد أن تفصح مدوناته عن منجز مكتنز بجدارته على كسب ود الآخر الفطــن والمؤول المتواصل, وعامر بخصوبته المغرية على التأمل والتلذذ في القطف من فراديس بناه الساحرة . رغم استحالة صمود أي نص في الكون أمام تحولات مرجعيات القراءة المعرفية . وشاعر اليوم بعد تمرده على مؤسسات الشعر التقليدي بأساليبها وموسيقاها وخطابيتها وأغراضها , وخروجه عاريا من جلباب الاْبهة والفخامة ومن بلاغة اللغة , وتماديه في إخفاء أسراره بين طيات بناه المقنعة بشتى أفانيـــن الاحتراز ، الطاردة للذائقة السلفية العريضة والجاذبة للذائقة الحساسة الواعية والقـــادرة على قراءة النص الجديد وتأويله ببراعة وبحيادية تامة ، وغير مدججة بأحكام جاهــــــزة سلفا عن القصيدة المثالية والشاعر الكبير والمواضيع المهمة وغيرها من الأوهام . فالنص له مكوناته الذاتية التي تتشكل بالعلاقات التبادلية بين ( أنا ) الشاعــــر و( أنا ) الكون ، لتنبري ( أنا ) النص المتغيرة تبعا لحركة الأزمنة والأمكنة والاحـــــداث. وبالتالي فهو اشتغال شعري يعتمد على ما يصلح من النثر لتحريض كفائته الأدائية. وهو وحدة في الموضوع والمتناقضات , وإيجاز في اللغة وشفافية في الانحيـــــــــاز ومجانية في العلاقة مع التلقي . ومغامرة متواصلة(( بمبدئها المزدوج )) وبقطبيها(( التنظيم الفني والفوضى المدمرة)) وبصيغتيها (( الصورية والإشراق )) ولا ندري إلى أين تنتهي هذه المغامرة لأنها ((مبنية على اتحاد المتناقضات ليس في شكلها فحسب , بل وفي جوهرها أيضا : نثر وشعر , حرية وصرامة , فوضوية مدمرة وفن منظم. من هنا يبرز تباينها الداخلي , وتنبع ناقضاتها العميقة والخطيرة والغنية. ومن هنا ينجم توترها الدائم وحيويتها )) على رأي سوزان برنار . وهي مغادرة دائمة للركون ومصاحبة أبدية للحركة، لتتناسل مجساتها الاتصالية فتبـــدو(( كقطعة من بلور تتراءى فيها مائه من الانعكاسات المختلفة )) كما لاحظ ذلك (أي . جالو).
هاجس الشعر إذن لا يعرف الهدنة مع المعضلات التي تواجه الذاكرة الإنسانية , إذ يقتحم كل شئ ، ولا يولي اعتبارا لكل شئ. فلا قداسة امامة ولا عظمة ولا هول ولا أهمية ، الاّ لعوالمه فقط . طفولة وهرم . بزوغات وافولات . فراديس وصحارى . إله وصعاليك. . مفاسد ساسة وحنين أمهات . رصاص ودم . قبل وشهد . أضرحة ومواخير ...وهو يسترد حريته بأية لحظة وبلا عنف ، ويتسلط على الكون دون قمــــع وبلا قنانة.
والشاعر عبد الحميد الصائح بعد أن أصدر كتبه ( المكوث هناك ) شعــــــــر 1986 ( وقائع مؤجلة ) شعر 1992 و ( الخروج دخولا ) مسرح 1992 و( نحت الدم )شعر 1994 و( عذر الغائب ) شعر 1997 و( قصيدة العراق ) شعر 1998 . اطل علينا بكتابه الشعـــــــري ( الأرض أعلاه ) 2..3 ليقول فيه
( يوما سنكتب على المعابر والطرقات والأقبية السرية بأقدامنا آخر القصائد , وأقسى الشهادات ) انه تنبؤ بغربة الشاعر وإفصاح عن أن الشعر طواف ابدي للكتابة خـــــــارج البياض وفوق المسالك المذهلة وفي الدهاليز المجهولة لاكتشاف واستدراج المتوقع والقاطن في العماء والخفاء . والعنوان يثير لدا التلقي تساؤلات عدة . أية ارض؟ ولماذا أعلاه ؟ وأين تكمن المغامرة الشعرية ؟ وبعد استكمال قراءة النصوص , تتناثــــر أجوبة ونكتشف بأنه استطاع استدراجنا حتى النهاية . ومن خلال الفحص نجد أن أول قصيدة تبدأ بالسؤال هل تذكرين ؟ وآخر قصيدة تنتهي بـ حياتي . فيكون المتن المقـروء من قبلنا هو هل تذكرين ... حياتي ؟ وفي بوابة المتن ( العنوان ) تكمن المغامرة في استخدامه للمهمل والمستهلك من اللغة . فقد استهلك تداول ( كتابكم أعلاه ) في الكــتب الرسمية . غير انه أحدث تغييرا في التجاور اللغوي فأبدل الكتاب بالأرض . وأعلاه تدل على ما مرّ ذكرة ( زمانيا ) وما علا شأنه ومقامه ( مكانيا ) . ليكون الوطن والناصرية بماضيهما العريق ومكانتهما المرموقة تاريخيا وحضاريا , لان المتن يتحرك ضمن ذكريات الشاعر في مدينته عن أولئك الذين أحبهم والذين تمنى ان (( يعلو إليهم أو يمطرون عليه )) فالشاعر يأخذنا في رحلة حب تبدا بهروبه من المدرسة في مدينةالناصرية . رحلة لاتنتهي لان البلاد خالدة, وارواح أناسه فيها خالدات أيضا . فهي تنتج الانبياء باستمرار وتتحاور مع الالهه . ولا حاجة لسكان هذة الارض بالبقاء , لان ارواحهم تعود . أذ ليس من السهل علينا نسيانهم وذكراهم تظل الى الابد . بيد ان رحلة الحـــب هذة ليست يسيرة بل هي رحلة الالم والعذاب في بلاد عانت من الخراب والدمار ما عانت . فما اقسى حروبها وما اكثر مقابرها وما أفدح غربتها غير انها رغم ذلـــــــك تعشق وتحلم , وتتألم وتجوع. ولا تسأم. هل تذكرين يوم هروبنا من المدرسة ؟ من هنا تبدا ذكريات مخيلة الشاعر. فالحبيبـــة نسيت قلبها معه ليربكه طيلة رحلته للهروب من الوطن . ويتسال هل تذكرين ذهابنـــا الى مدينة أور المقدسة ؟ التي أنشأ بقربها الساسة الفاشست قاعدة جوية , لمنــــــــــع السواح من الوصول اليها . ويستمر في سرد ذكرياته عن طيور هاجرت واخــــــــرى ماتت , وعن التيجان والمواليد والابراج والمقابر والاصدقاء. وعن أحلام تحققــــــــــت واخرى اندثرت وعن محطات ومحققون ومدن تتوهم الحكمة وو...فيما تقدم يفصـــح النص عن طاقات بوح مدركة وواعية في الابتعاد عن العواطف المملة بإصدار أشارات لغوية مدهشة :- نسيت قلبك في فراشي .. اربك امتعتي وضل صامتا طيلـــة المسافة .. أخرج قلبك الى سريري .. انفخ عليه فيدمع .. قلبك ينبض في حقيبتي .. هل بك حاجة الى قلبك الان ؟
ومرورا بنص ( انت ) يحيلنا الى اجواء حروب وطنه المتواصله وجراحه التي لاتندمــــــــــل:
في عين زاله تفرجت كثيرا على جراحي ..احفر بئرا على الخارطة وارسم دولة بالماء ولهيمنة الارقام على حياة الشاعر ( باعتباره تحول الى رقم لاغير ) يبتكر لعبةالارقـــام مع الرقم (8) فينا جيه : ليس لك غير الصفر لتظل كما انت حين تضاف وحين تطرح وحين تظل وحيدا وفي زمن الكارثة يتحول الى مصيدة رسائل وحقل الغام يقطــــــع الوصال بين الاحبة فالمولود والخارج والداخل والراحل لن يعود أبدا : ولدت ولم تعــــد،بلا وشم من الغيوم , دون برق , بلامياسم ولا زهور ولا احتفال , بلا اســم ولا رقـــــــم ولا وطن ولا مناسك , غربيا . مثل عيد قديم . أما الاباء، فارواحهم خالدة في مـــدن من الضوء والفاكهة . ليس لناأعداء .
ويبدع الشاعر في التهكم حين يصف الاخرين( الغرب) بانهم يقلعــــــون اسناننا كي لانعض ويسرقون تيجاننا حين نرقص ويتسللون الى حكاياتنا حين نختلي مع الاناث . وهكذا نستشعر الخطر .. ولذلك ننجب اطفالا خصيصا للحرب . ونمـــلأ بطوننا بالحصى ,وننقل اعضاء التناسل الى كوكب اخر , قبل ان تنفجر الارض وتغلي المياه بالغزاة . كما انه يأخذ من الحديث اليومي قسما له بالحب ( والله العظيم احبك ) : غير ان بي لعنة الكلمات . ويكشف عن وجوده بالاعتراف في انصرافه التام للشعر وانشغالاته المعرفية وهوسه في الكتابة وجنون الابداع . فيرى حبيبته في كل شي . في انوثة التين وشبق الرمان واغواء التفاح ورضاب البرتقال . وفي بوح كهذا لم يخرج الصائح عن بساطة اللغة بابتعاده عن الغموض المفتعل فجاءت مشاعره منسابة دون صخب او تشنج لغوي مفضوح. وفي نص ( شعر ) يثير اسئلة عن جدوى الشعر ويحاول الاجابة عن ذلك بحتمية الفناء ولابد للبحث عن جدوى الحياة شعريا كي يكون وجوده مجديا ومعادلا فلسفيا للفناء . وما ان يسمع صوتا عبر الهاتف تثور الذاكرة الطرية للتنقيب في مسارب الماضي , وينفتح النص على علاقات شتى مع الازمنة والامكنة والشخوص والحوادث, ويتحول المشهد الى بركان مشاعر هائل تنثال منه اسئلة واسفار ووشائج محبة حرم منها لشاعر ليتلظى بالغربة وخواءات المنافي . ولم يكتف بالحبيبه التي غادرها مكرها .بل راح يستعرض ( باناروما ) وفاء واشتياق حزين لاصدقائه الذين فارقوه وفارقهم ويدون مراثي تحاول أنصافهم , واولهم شاعر الناصرية الكبير وسليل الشاعر الاول ( دنجي أدامو ) الشاعر ( رشيد مجيد ) الذي كان اكبر من شاعر واكبر من ناحتي المسلات السومرية . وصديقه الملاكم الذي اجبر على الانتحار .
والاخر صديقه الذي سرق طفولة قصائده وصديقه الموسيقي الذي أخذته الحرب القذرة , في حين ظل(كمانه) يواصل الحزن دون ذاكرة لان اوتاره بللتها دموع اطفاله الذين ظلوا يخادعون الجوع بالنوم على الارصفة بعد أن يسرقهم النوم من انغام اوتار كمان ابيهم التي لن تتوقف . وعن صديقه الاخر الذي توفي في المكتبة من جراء التعذيب . ليكون شاهد ادانة الىعصر الدكتاتورية البغيض الذي حاول قتل كل تفكير وكل محاولة لقراءة العالم معرفيا . واخيرا الفنان المحبوب المرحوم ( سمير هامش) الذي لم تفارقه براءة الطفولة وعذوبة الصبا ولم يتمكن من اكمال أخر نكته لانه التحق ثملا الى الحرب ومات ضاحكا على حروبنا التي لن تتوقف بعد , ليوحي لنا بان طرفته الاخيرة لن تتكتمل الا بفنائنا نحن . ولكنه في ( دع الفكرة نهائيا ) يختار الكون بلادا والتمرد حقيقة ليتنفس ويرى ويحب كما ينبغي ويندهش ويتسائل كما يشاء . واخطر ما يخشاه الشاعر ( اذا ) ما حط اخرون على كوكبنا , ان يتصورو ان الاسلحة والعجلات هي الاصل , لانها تتطور ونحن لانتحرك , فيهربون فزعا من هول ما يحدث على كوكبنا من رعب . وبهذا يكشف فداحة خطر الفكر الشمولي الذي حاول تجذير جدوى التسلح وشرعية الفتك في عقول الاجيال . وبدخوله ( شمال عاصمة ما ) راى شمالا بلا اكراد وامهات بلا بكاء و( لا ) بلا ثمن وثورة بلا شهداء . شاهد الجمال والسحر والنساء غير الحزينات والحرية من دون عنف والتطور العلمي والتقني . لكي يعود سؤالا كما كان .. تعرى تماما , وتأسف كثيرا , لانه تأمل فيما قاله الحكماء والجنرالات , فخلت الكتب من الطيور والمدن من الحكمة والبلدان من المصلحين. ليعلن ادانته لخطاب حكماء وجنرالات بلاده الذي صحر وجوده . واقصى الفرح عنه . وعندما ناجى روح صديقه الشاعر ( رياض إبراهيم ) يدعوها الى تذكر نشيده الذي يخلد عظمة بلاده بالقول , اننا شعب لاتليق به الارض , اكبر من العقل , واعظم من العاطفة , اصيب بالهذيان ؟؟ وما ان تقع العين على متن ( رقيم رئبال ) حتى تتبارى الجمل للارتماء في أحضان الحكمة ليكون رئباله ليس جسورا فقط بل حكيما وداعيا للضوء والمحبة : الشاعر سؤال الطبيعة .. انتحار الابن إهانة للأب .. الحرب ثأر الطبيعة .. الرجولة فوضى والأنوثة قانون او تراه حينا يفك أوعية المعنى لتفجير دلالات جديدة وهنا يحدث تحريفا لغويا بتفكيك اللغة : البلاد بلا حرب ..
ب ل ا د م ا ء : فهي بلا دماء أو بلا د ماء . وقد ينحى لتحقيق ومضة شعرية أو ضربة في الصورة الشعرية : لماذا حين ارسم جسرا أفقيا .. اغرق !؟؟ هكذا يلج الشاعر بلاده متجاوزا الحدود والحواجز والمسافات ويخترق ذاكرة الزمن بأبعادها الثلاثة . وهذا الولوج والاختراق لن يحدث لو لم تتوفر لديه ذاكرة طرية ومخيلة خصبة تحيل الفضاءات قربية منا بكل صورها وألوانها وروائحها , وتختصر دهاليز الأزمنة وترسم لنا الحوادث وكأنها تحدث اليوم واللحظة، وتخضع كل الشخوص مهما علت مراتبهم الاجتماعية والمعرفية ومهما عظمت مكانتهم بين السماء والأرض . انه تجوال مستمر في عوالم المخيلة التي تمتلك سر طفولتها وجنوحها الأبدي نحو الكشف والإفصاح
#علي_شبيب_ورد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟