أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي - حزب العمال التونسي - الأدنى الدّيمقراطي لتحالفنا اليوم وغدا- الجزء الثالث - -حركة النّهضة- و-الحدود- وحقوق الإنسان و المساواة بين الجنسين















المزيد.....



الأدنى الدّيمقراطي لتحالفنا اليوم وغدا- الجزء الثالث - -حركة النّهضة- و-الحدود- وحقوق الإنسان و المساواة بين الجنسين


حزب العمال التونسي

الحوار المتمدن-العدد: 369 - 2003 / 1 / 15 - 03:19
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي
    



 
(في الردّ على بيان مواعدة/ الغنّوشي)

"حركة النّهضة" و"الحدود" وحقوق الإنسان
 
نمرّ الآن إلى جانب آخر من مسألة الحرّيات الفرديّة وهو يتعلّق بحقّ المواطن في احترام حرمته الجسديّة، ممّا يعني، وفقا للمواثيق الدّوليّة الخاصّة بحقوق الإنسان، والتي تعتبر جزءا من المنظومة القانونيّة لأيّ دولة وافقت عليها، عدم تعرّضه للتّعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبات القاسية أو اللاّإنسانيّة أو المهينة. ويعدّ هذا الحقّ، حقّا غير قابل للتّصرّف، في كلّ الظّروف، حتى لو كانت حربا. ويمثّل انتهاكه، انتهاكا لكرامة الإنسان. والمطّلع على البيان المشترك وعلى البيان الختامي للمؤتمر السّابع يلاحظ أنّهما لم يتعرّضا بشكل مخصوص لموضوع التّعذيب ولم يدرجا ضمن لائحة المطالب الواردة فيهما بندا يهمّ النّضال من أجل استئصال ممارسة التّعذيب ومحاكمة المسؤولين عنها أمرا وتنفيذا. ولا يعني ذلك بطبيعة الحال أنّ السّيد محمد مواعدة أو الشّيخ راشد الغنّوشي ومنا ضلي "حركة النّهضة" لا يشهّرون بممارسة نظام بن علي التّعذيب والحال أنّهم، وخاصّة مناضلي "حركة النّهضة" من اكبر ضحايا تلك الممارسة وقد مات العشرات منهم بسببها في مراكز البوليس والحرس ومقرّات "أمن الدّولة" و"المصالح المختصّة" بوزارة الدّاخليّة وفي السّجون. ولكن ليس هذا هو الذي يهمّنا في هذا الباب، بل موقف "حركة النّهضة" الرّاهن من مسألة "الحدود الشّرعيّة" وهل هي لا تزال متشبّثة بها ضمن برنامجها السّياسي أو أنّها تجاوزتها باعتبارها تندرج ضمن العقوبات القاسية، اللاّإنسانيّة والمهينة، حسب الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (المادّة 5) والعهد الدّولي الخاصّ بالحقوق المدنيّة والسّياسيّة (المادّة 7) والاتّفاقيّة الدّوليّة لمناهضة التّعذيب (المادّة 1).
ومن المعلوم أنّ المقصود بالحدود هو جملة "العقوبات الشّرعيّة" كالجلد (التعزير) وقطع يد السّارق والرّجم والقتل أو الصّلب أو تقطيع الأطراف بخلاف أو النّفي. وقد أكسب الفقهاء هذه العقوبات الواردة في النّص القرآني (عدا الرّجم الذي لا نجد له ذكرا وإن كان مورس في العهد الإسلامي الأول في مادّة الزّنى) طابعا تقديسيّا واعتبروها "شريعة اللّه" التي لا تمسّ و"الصّالحة لكلّ زمان ومكان". وقد تبنّتها الحركات الإسلاميّة المعاصرة وحوّلتها إلى محور أساسي إن لم نقل العمود الفقري لبرامجها وأهدافهـا ودعايتها وجعلت منها الخطّ الفــاصل بين الإيمــان والكفر في تصنيفها للدّول والمجتمعات والأحزاب والتّنظيمات وحتّى الأفراد (من يقبل شريعة اللّه ويعمل بها ومن لا يقبلها ولا يعمل بها). ويعلم الجميع أنّ "حركة النّهضة" من بين تلك الحركات التي تبنّت الحدود ودافعت عنها في إطار تصدّيها للتّشريعات الوضعيّة التي عوّضت العمل بتلك الحدود في تونس وفي عدد آخر من الأقطار العربيّة والإسلاميّة. كما أنّها نظرت دائما بعين الرّضى إلى الأنظمة العربيّة والإسلاميّة التي حافظت على العمل بالحدود واعتبرت العودة إلى العمل بها في بعض الدّول والمجتمعات علامة "صحوة إسلاميّة" وخلاصا من "العلمانيّة الملحدة"!! ونحن في الحقيقة إذ نثير هذه المسألة في هذا الرّدّ فلأنّنا نريد طرحها مرّة أخرى برصانة وموضوعيّة، إذ أنّنا نرفض أن نستفزّ أحدا في مشاعره الدّينيّة، بل إنّنا نثيرها لأنّنا لا نعتبرها من صلب الإيمان، بل قضيّة سياسيّة اجتماعيّة، من حقّ كافّة التّونسيّين والتّونسيّات مناقشتها بكلّ حرّية لأنّها تعنيهم معنويّا ومادّيّا، ولأنّه حسب الموقف منها يحدّد المرء موقعه إن كان في تيّار التّقدّم الإنساني الجارف أم في تيّار التّخلّف المتجلبب بجلباب الدّين والإيمان. وأوّل شيء نريد الإشارة إليه في هذا الموضوع هو أنّ مسألة الحدود أُحيطت إلى حدّ الآن في الأدبيّات الإسلاميّة بمغالطات كبيرة وكثيرة ما انفكّت تحرج ضمير المسلم وتربكه وتعمّق قلقه وحيرته في عالمنا المعاصر وما شهده ويشهده من تطوّرات قيميّة هامّة شملت جميع المجالات بما فيه مفهوم العقوبات، فتراه ممزّقا بين الرّغبة في مسايرة التّقدّم البشري وبين الخوف من أن يكون بمسايرته تلك قد "تنكّر لإيمانه" حسبما تقوله له المؤسّسات الدّينيّة وأشباه العلماء.
ونحن نعتقد أنّ أهمّ تلك المغالطات المنافية للمعرفة العلميّة، الموضوعيّة، تتمثّل في المحاولات المستمرّة لطمس مصادر تلك "الحدود" التّاريخيّة وبالتّالي عزلها عن أطرها الإجتماعيّة والإقتصاديّة والقيميّة والمعرفيّة، حتى لا يتمكّن المسلم من إعمال العقل فيها وخاصّة من تنسيبها والتّعامل معها كمنتجات تاريخيّة، ظرفيّة وانتقاليّة. فكافّة العقوبات التي حوّلها الفقهاء والمؤسّسات والحركات الدّينيّة عبر التّاريخ الإسلامي، القديم والحديث إلى منظومة تشريعيّة مقدّسة هي بدون استثناء أعراف وتقاليد عربيّة ما قبل إسلاميّة وليست كما يُراد الإيهام به "استحداثات قرآنيّة ربّانيّة تتجاوز عقول البشر". فقطع يد السّارق مثلا كانت عقوبة معروفة في مكّة. ولا تخفي كتب التّاريخ والتّفسير أنّ أوّل من سنّها قد يكون الوليد بن المغيرة وهو أحد أثرياء قريش ومن الأشخاص الذين كان يُحتكم إليهم وقد كان يعمل جزّارا وقضى بقطع يد السارق فصار حكمه هذا سنّة في معاقبة السّرقة. وقد كانت توجد قبائل عربيّة أخرى تعاقب السّارق عقوبة أخفّ، غير جسديّة تتمثّل في إرغامه على دفع أربع أمثال المسروق. ولكنّ القرآن أخذ ما كان سنّة في قريش التي جاء فيها الإسلام. وقد كان الجلد أيضا، ويسمّى التّعزير يستعمل في الحواضر بشكل خاصّ لمعاقبة عدّة مخالفات (السبّ والشّتم والتّحرّش بالنّاس...). كما كان الطّرد والنّفي من أرض القبيلة أو من المدينة والخلع والتّبرّؤ من الشّخص عقوبات سارية المفعول في الوسط القبلي العربي "الجاهلي". أمّا الرّجم بالحجارة حتى الموت فقد كان عقوبة موجودة عند العرب، وإن لم تكن مألوفة، وهي تطبّق على "المرأة المحصّنة الزّانية" فقط (مع أنّ العبرانيّين كانوا يرجمون "الزّاني والزّانيّة"). وتذكّر كتب التّاريخ والتّفسير أنّ أوّل من مارس عقوبة الرّجم هو ربيع بن حدّان. وكان العرب في "الجاهليّة" يطبّقون عقوبة تقطيع الأيدي والأرجل أيضا في أعمالهم الثّأريّة والانتقاميّة. وكان القتل عقوبة القاتل إلخ...
وخلاصة القول إنّ كافّة هذه العقوبات هي منتجات تاريخيّة، سنّها العرب أو بعض قبائلهم، قريش خاصّة، (أو غير العرب لأنّ بعض هذه العقوبات كان يطبّق عند أقوام أخرى: أنظر قانون حمو رابي، والشّريعة التّوراتيّةإلخ...) لمواجهة المشاكل التي تحدث لهم. والمتمعّن فيها يلاحظ أنّها تتّسم بالعنف والقسوة. ولا سرّ في ذلك. فهي تحمل سمات الأطر الإجتماعيّة والقيميّة والمعرفيّة التي انتجتها. فقد كان المجتمع العربي قبليّا. وكان عامل القوّة هو الذي يحكم العلاقات بين القبائل. لذلك اتّسمت تلك الحدود بالقسوة. كما انّه لم تكن توجد في ذلك العصر، سلطة (دولة) وقوانين ومؤسّسات عقابيّة تقاضي المخالفين والجناة باسم المجتمع، بل كان الفرد أو قبيلته هي التي تثأر له بالقوّة لذلك اتّسمت تلك الحدود بطابع جسدي مباشر، انتقامي، ترهيبي. فالمخالف أو الجاني كان "يدفع بالحاضر" من جسده (في بعض الحالات كانت بعض القبائل والأفراد يقبلون مبدأ التّعويض: الديّة)
إنّ تبنّي الإسلام (قرآنا وسنّة وفقها) تلك الأعراف والتّقاليد العربيّة (القرشيّة وبدرجة أقلّ المدنيّة) "الجاهليّة" وإدراجها ضمن منظومة عقابيبّة متميّزة، لا ينفي عنها بأيّ حال من الأحوال تاريخيّتها، لأنّ الإسلام ذاته لم يكن معزولا إطلاقا عن ظرفيّته التّاريخيّة التي حمل خصائصها في كافّة مستويات خطابه. كما أنّه لا ينزع عنها طابعا القاسي، وهو لم تختصّ به المنظومة العربيّة الإسلاميّة العقابيّة وحدها في ذلك التّاريخ وحتى بعده، بل كلّ المنظومات العقابيّة في حضارات ومجتمعات "القصاص"، مع فوارق جزئيّة مرتبطة بالخصوصيات التّاريخيّة وبالأعراف والتّقاليد وبدرجة التّطوّر الحضاريّة والثّقافيّة، وبتعبير آخر فإنه من الحكمة أن يتعامل المرء مع تلك المنظومة العقابيّة باعتبارها نتاجا تاريخيّا، نسبيّا وانتقاليّا. وهذه الحقيقة وجد، منذ العهد الإسلامي الأوّل إلى عصرنا الحاضر، أُناس نيّرون، وفطنون، قبلوها بهذا القدر أو ذاك فتعاملوا مع مسألة الحدود بروح خلاّقة فيها جرأة ومراعاة للظّروف ولتغيّر الأحوال من عصر إلى عصر. وهذا ليس بالأمر العسير. فيكفي أن يتحلّى الإنسان بقليل من الرّشاد لكي يقتنع بأنّ الواقع البشري والإجتماعي المتغيّر باستمرار لا يمكن أن تبقى فيه الأحكام هي نفسها، معزولة عن تلك التغيّرات والحال أنّها -أي الأحكام، ابتدعت أصلا لتنظيم علاقات النّاس بعضهم ببعض حسب درجة تطوّر تلك العلاقات وبالتّالي فكلّما تطورت، إلاّ واستوجب تنظيمها سنّ أحكام جديدة تراعي هذا التطوّر. وهو ما يجعل من القول من سرمديّة الأحكام والقوانين قولا خطلاً. فمهما حاولت الأنظمة التّمسّك بها تبقى عاجزة عن الصّمود أمام تيّار التّطوّر، فتتآكل تدريجيّا إلى أن تعوّض بأحكام وقوانين جديدة. وذلك هو حال منظومة الأحكام الشّرعيّة الإسلاميّة التّقليديّة في مختلف المجالات. فحتى في البلدان "الأكثر تشدّدا" في الدّين، وجد الحكّام أنفسهم مجبورين، على إدخال تعديلات كثيرة عليها، في المجالات الإقتصاديّة والماليّة والتّجاريّة، خصوصا، حفاظا على مصالح دولهم، علما أنّهم اضطرّوا في أوقات سابقة إلى التّخلّي، بسبب الضّغوط الدّوليّة، عن الأحكام المتعلّقة بالرّقيق، وبـ"أهل الذّمة".
وعلى هذا الأساس فإنّه من الخطأ أن يستمرّ المواطن في البلاد العربيّة والإسلاميّة، يُوهم بسرمديّة "الحدود" وصلاحها لكلّ زمان ومكان والحال أنّه بينه وبين الزّمن الذي ظهرت فيه ما يزيد عن السّتّة عشر قرنا شهدت خلالها أوضاعه وأوضاع المجتمعات البشريّة عامّة انقلابات عظيمة في مختلف الميادين فرضت إعادة تنظيم العلاقات داخل المجتمعات على أسس جديدة كانت وراء بروز مفاهيم الحرّية وحقوق الإنسان والدّيمقراطيّة بمعانيها الحديثة والمعاصرة (اللّيبراليّة والإشتراكيّة إلخ...). فمن باب أولى وأحرى إذن ان يكون من حقّ ذلك المواطن، وهو يعيش في ظروف كونيّة جديدة أن يتبنّى منظومة عقابيّة تقوم على قيم جديدة تختلف عن تلك التي أنتجت قبل ستّة عشر قرنا، أحكام قطع اليد والجلد والرّجم وتقطيع الأطراف (فضلا عن الرقّ والسّبي...) منظومة عقابيّة تراعي كرامة الإنسان وفق المعايير المعاصرة، تسلب الجاني حرّيته ولكنّها لا تنتهك حرمته الجسديّة والمعنويّة وتؤمن بقدرته على التّطوّر والإصلاح إذا توفّرت له الظّروف الإجتماعيّة والنّفسيّة والسّياسيّة المناسبة، فلا تؤذيه ولا تحرمه من اعضائه، كاليد التي جعلت للعمل والإبداع وليس للقطع مهما كان السّبب، كما لا تحرمه من الحياة (إلغاء عقوبة الإعدام...).
ونحن لا يسعنا إلاّ أن نتساءل بكلّ صراحة: هل أنّ المسلم يتضرّر حقّا في إيمانه وفي هويّته أو هل هو يتنكّر لهما، كما تزعم الحركات الإسلامويّة وبعض المؤسّسات الدّينيّة المحافظة وأشباه العلماء، حين يقبل التّخلّي عن العقوبات القاسية المذكورة أعلاه؟ فهل الإيمان أصبح يختزل في التّمسّك بتطبيق هذه العقوبات؟  وهل أنّ مصيره ومصير الإسلام صار مرتبطا ببقائها ممّا يعني أنّها أصبحت آخر المعاقل الرّمزيّة التي ينبغي الحفاظ عليها حتى لا ينهار البنيان؟ ثمّ أفلا يدفع إصرار هؤلاء على التّمسّك بالجلد وقطع اليد والرّجم وتقطيع الأطراف بخلاف وغيرها من العقوبات الجسديّة القاسيّة والوحشيّة بمعايير الإنسانيّة التّقدّمية المعاصرة، إلى الإعتقاد بأنّ اللّه عندهم وفي منظورهم لا يحتمل الإنفصال عن تلك الصّورة القاسية والرّهيبة التي توحي بها تلك الأحكام وبالتّالي لا يحتمل أن يوجد النّاس طريقة "أرحم" و"أرأف" في معاملة بعضهم بعضا؟ أفلا يوحي هذا بأنّ استمرار الإيمان بالّله في نظرهم مشروط بالاستمرا في خوف الإنسان منه، وفي الحفاظ على علاقة استلابيّة به وهي علاقة تُغذّي في الواقع العلاقة الإستلابيّة بالحاكم وبرجال الدّين ومؤسّساته؟
وعلى صعيد آخر فهل أنّ هويّة المسلم مهذددة حقّا بالتّفسّخ إذا عُوّضت "الحدود" المذكورة بعقوبات أخرى أكثر إنسانيّة من منظور معاصر؟ وبعبارة أخرى هل أنّ قطع اليد والجلد والرّجم أمام العموم وتقطيع الأطراف بخلاف هي علامات أو رموز هويّة المسلم فإذا تركت لم يعُدْ هُوَ؟ أهذه هي الصّورة التي تعطى عن المسلم؟ أفلا يضعه هذا الطّرح في وضع محرج ومربك أمام الضّمير الإنساني (نقصد بالضّمير الإنساني عصارة القيم التّقدّميّة التي أنتجتها الإنسانيّة وليس ضمير بوش أو بلير أو شارون الغارق في البربريّة) فإمّا "الحدود" للحفاظ على الهويّة وإمّا التّفسّخ و"الكفر" لمجاراة التّقدّم الإنساني؟ أفلا تتحوّل الهويّة هُنا إلى مرادف للتّخلّف؟ ومن له مصلحة في وضْع كهذا غير أنظمة الإستبداد المتخلّفة وغير القوى الإمبرياليّة والصّهيونيّة التي يهمّها أن يظلّ المسلم غارقا في تخلّفه، يقضي وقته متلهّيا بالصّراع حول الكفر والإيمان، تاركا أسباب التّقدّم لغيره من الأمم؟ ولسائل أن يسأل : هل الشّعوب والبلدان التي كانت تمارس أو تطبّق نفس العقوبات التي ذكرناها والتي تشكّل في ثقافتنا "جزءا من الشّريعة الإسلاميّة" وفي ثقافتهم جزءا من "شريعة توارنيّة" أو من قانون روماني أو مجرّد أعراف وتقاليد، هل هي فقدت هويّتها؟ أم هل أنّ هويّتها على العكس من ذلك تعزّزت وتدعّمت بحكم تمدّنها وتحضّرها؟ ولم نحن نذهب بعيدا، فهل أنّ الشّعب التّونسي الذي لم يعد يعمل بالحدود في مجال المخالفات والجنايات قد ضاعت هويّته بل روحه لأنه لم يعد يتجمّع في السّاحات العموميّة ليتفرّج على قطع الأيدي أو قطع رأس بالسّيف ويصفّق أو ليشارك في عمليّة رجم؟ ألم يشكّل تخلّصه من هذه المظاهر تطوّرا في نزعته المدنيّة والإصلاحيّة الأمر الذي يجعله اليوم من أكثر الشّعوب العربيّة حساسيّة لقضايا حقوق الإنسان ومنها قضيّة التّعذيب مثلا؟ فهل أنّ المطلوب اليوم العودة إلى تطبيق "الحدود" لإعادة "الرّوح" للشّعب التّونسي أم المضيّ به قُدما نحو مستقبل تستأصل فيه كافّة مظاهر التّعذيب والعقوبات والمعاملات القاسيّة واللاّإنسانيّة والمهينة بمقاييس العصر (لأنّ الحدود كانت تبدو عقوبات عاديّة وطبيعيّة عند النّــاس في عصور ســابقة...)؟ وحتى من زاوية المقدّس: أيّهما في نهاية الأمر أحقّ بـ"التّقديس" كرامة التّونسي وحرمته الجسديّة أم حد قطع الأيدي والجلد والرّجم؟ هذا هو مربط الفرس. فالمسألة اجتماعيّة سياسيّة في الأساس مدارها موقع المواطن (المواطن العادي البسيط: عاملا كان أم فلاّحا أم موظّفا أم عاطلا عن العمل) في العلاقات الاجتماعيّة والسّياسيّة. فـ"تكريم الإنسان" ليس بالخطب، بل بالحفاظ على كرامته وحرمته الجسديّة والمعنويّة وحمايتها قانونا وعملا من أيّ انتهاك، باعتبارها أمرا غير قابل للتّصرّف في كلّ الحالات وفي كلّ الظّروف.
وإلى ذلك كلّه فإذا كانت "حركة النّهضة" لا تزال متشبّثة بتطبيق الحدود فلماذا إذن تُشْهر اليوم في وجه نظام بن علي الغاشم، الظّالم، الذي جعل من التّعذيب والمعاملات والعقوبات القاسيّة واللاّإنسانيّة والمهينة أسلوب حكم لردع الشّعب ولردع معارضيه، لماذا تُشهر الميثاق العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدّولي الخاصّ بالحقوق المدنيّة والسّياسيّة والإتّفاقيّة الدّوليّة لمناهضة التّعذيب وتطالبه باحترامها وتناشد المجتمع الدّولي بإلزامه بتطبيقها مع علم أنّ تلك المواثيق والإتّفاقيّات تعتبر أنّ ما يسمّى بـ"الحدود الشّرعيّة" عقوبات قاسيّة لا يوجد في عصرنا أيّ مبرّر لمواصلة العمل بها؟ أفلا يعبّر هاذ السّلوك عن موقف مزدوج؟ وكيف تردّ "النّهضة" على من يتّهمها في هذه الحال باستخدام مبادىء حقوق الإنسان اليوم لأغراض "تكتيكيّة" لأنّ لها فيها مصلحة مباشرة (حماية مناضليها) أو لأنّها تضعف خصمها (بن علي) محلّيا ودوليّا بينما هي لن تتورّع عن انتهاك هذه المبادىء حالما يتغيّر وضعها؟ أيّ مستقبل للشّعب التّونسي إذن إذا كان سيتخلّص من نظام بن علي البوليسي الغاشم ليجد نفسه مثلا في نظام يقطع اليد ويرجم ويقطع الأطراف بخلاف ويزيح الرّؤوس في السّاحات العموميّة بدعوى "العمل بالشّريعة الإسلاميّة"؟ فهل أنّ العصى، والآلة الحادّة أو الصّعقة الكهربائيّة يتغيّر طعمها حين تنتقل من يد بن علي إلى يد "حاكم إسلامي"؟ أو هل أنّ التّعذيب والعقوبات القاسية واللآّإنسانيّة والمهينة تتحوّل طبيعتها إذا غلّفت بغلاف ديني إسلامي؟ لا نعتقد ذلك. فهي تبقى قاسيّة ولا إنسانيّة ومهينة مهما كانت مسوّغاتها. ونحن لا نعتقد أنّ الشّعب التّونسي الواعي، النّير، المنفتح، يرضى بأقلّ من الالتزام بما جاء في الاتّفاقيّة الدّوليّة لمناهضة التّعذيب. ولا نراه يرضى بالعودة إلى الوراء، إلى تطبيق الحدود مهما كانت المسوّغات والتّبريرات. كما لا نراه يرضى بمؤسّسات عقابيّة (سجون) لا توفّر الحدّ الأدنى الذي يحفظ كرامة البشر الجسديّة والمعنويّة. وهذا ما ينبغي أن تعيه القوى السّياسيّة التي تعارض اليوم الدّكتاتوريّة، حتى يكون لمعارضتها معْنى يجاري حركة التّاريخ والتّقدّم، وحتى تكون في مستوى الاستجابة للحدّ الأدنى من طموحات البلاد والمجتمع. وعلى هذا الأساس فإنّ أي تحالف بين قوى المعارضة التّونسيّة ضدّ الدّكتاتوريّة النوفمبريّة لا بدّ له من أن يتبنّى بندا يقضي بالنّضال من أجل استئصال ممارسة التّعذيب ومحاكمة المسؤولين عنها أمرا وتعذيبا كما يقضي بالتزام جميع الأطراف بالنّضال من أجل التّخلّي عن العقوبات القاسيّة واللاّإنسانيّة والمهينة وفقا للبند (5) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والبند (7) من العهد الدّولي الخاصّ بالحقوق المدنيّة والسّياسيّة والاتّفاقيّة الدّوليّة لمناهضة التّعذيب التي لا ينبغي التّراجع في التّوقيع عليها من قبل الدّولة التّونسيّة بأيّة ذريعة كانت دينيّة أو غيرها.
 
حول مسألة السّيادة الشّعبيّة
 
يؤكّد البيان المشترك والبيان الختامي للمؤتمر السّابع لـ"حركة النّهضة" ضرورة استعادة الشّعب التّونسي سيادته عبر تنظيم انتخابات حرّة ديمقراطيّة ونزيهة، وفي هذا الإطار شدّد البيان معارضة الحركة لما يعدّ له الجنرال بن علي من مناورات تهدف إلى بقائه في السّلطة بعد نهاية ولايته الثّالثة والأخيرة، حسب الدّستور، في سنة 2004. وهذا يعني أنّ "حركة النّهضة" لا تدافع عن موقف "الحاكميّة للّه" الذي نادى به أبو الأعلى المودودي (زعيم الجماعة الإسلاميّة الباكستانيّة التي كانت تساند الجنرال الدّموي ضياء الحقّ) معتبرا اختيار الشّعب لمن يحكمه عبر الانتخابات وممارسة سلطة التّشريع بصورة مباشرة أو عن طريق نوّابه كفرا. وقد سبق للشّيخ راشد الغنّوشي أن كتب أنّ "الحاكمية للشعب". وما من شك في أن الحركة حين تقول هذا  أدركت أن مبدأ "الحاكميّة للّه" يمثّل قاعدة صريحة للاستبداد ولسلطة الحاكم الفردي المطلق الذي ينصّب نفسه "ظلّ اللّه في الأرض" ويخوّل لنفسه ولزمرته صلاحيّة التّشريع "باسم اللّه" وبالتّالي حرمان الشّعب من أبسط حقوقه على غرار ما يجري في السّعوديّة وفي غيرها من الدّول الرّجعيّة المتجلببة بجلباب الدّين. ولكن رغم ذلك فإنّ شعار "السّيادة للشّعب" قد ينطوي على سوء تفاهم كبير أو بالأحرى لا يكفي أن نرفع معا هذا الشّعار حتى نكون متّفقين على مضمونه، فالتّاريخ يؤكّد لنا وجود حركات فاشستيّة، معادية للدّيمقراطيّة رفعت شعار "السّيادة للشّعب" لأغراض تكتيكيّة بحتة كي تسهّل وصولها إلى السّلطة. فما أن حقّقت غايتها حتى صفّت المكاسب الدّيمقراطيّة لشعوبها بدعوى "أنّ الشّعب انتخبها" وأنّ ما تفعله هو "ما يريده الشّعب". فسنّت القوانين المنتهكة للحرّيات الفرديّة والعامّة وألغت التّعدّدية السّياسيّة وحرّية العمل النّقابي وحرّية الصّحافة والتّعبير. ذلك ما فعلته جميع الأحزاب الفاشيّة في أوروبا ما قبل الحرب العالميّة الثّانية. وما بالعهد من قِدم تراجع الإمام آية اللّه الخميني في كافّة وعوده للشّعب الإيراني وقواه الدّيمقراطيّة. فما أن وصل إلى الحكم حتّى اعتبر كافّة القوى السّياسيّة التي لا تتّفق مع نهجه "أحزاب الشّيطان" وحدّد إطار ممارسة "السّيادة الشّعبيّة" في الولاء له ولنظامه.
ولا يزال النّاس في بلادنا يتذكّرون خطاب علي بلحاج (الذي نطالب بالمناسبة بإطلاق سراحه) في الجزائر بعد الدّورة الأولى للإنتخابات التّشريعيّة التي فازت فيها "جبهة الإنقاذ" بأغلبيّة المقاعد، وقد قال فيه إنّه آن الأوان بعد أن "انتخب الشّعب" مرشّحي "الجبهة" كي يُقضى على التّعدّدية الحزبيّة والسّياسيّة عامّة، التي اعتبرها "منافية للإسلام" أي أنّه أراد استعمال "السّيادة الشّعبيّة" للقضاء عليها وعلى الدّيمقراطيّة وفرض حكمه الدّكتاتوري أو بالأحرى حكم حزبه. وهو ما وفّر للجنرالات ذرائع للقيام بانقلابهم بدعوى أنّهم "أوصياء على الجمهوريّة والدّستور".
ذلك هو الإشكال. وعلى هذا الأساس فإنّنا نرى أنّه من الضّروري تفعيل شعار "السّيادة الشّعبيّة" حتى لا يكون شعار حقّ يراد به باطلا، وحتى يكون ترحيل بن علي من الحكم، بمناسبة انتخابات 2004 أو قبلها فاتحة عهد جديد بحقّ يوضع فيه حدّ لاغتصاب الإرادة الشّعبيّة، ويتمكّن فيه الشّعب بالتّالي من ممارسة سيادته التي حرم طول تاريخه من ممارستها. لذلك وجب علينا تحديد القواعد والمبادىء التي تجعل من ممارسة السّيادة الشّعبيّة واقعا ملموسا في ظلّ تعدّديّة سياسيّة وفكريّة وتنظيميّة حقيقيّة. وتتمثّل هذه القواعد والمبادىء، حسب رأينا بالطّبع، فيما يلي:
أوّلا: لا سبيل لممارسة السّيادة الشّعبيّة إلاّ عن طريق انتخابات حرّة وديمقراطيّة ونزيهة وهو ما يقتضي توفّر حرّية التّعبير والتّنظيم وحرّية التّرشّح والانتخاب لكافّة المواطنين إناثا وذكورا، سواء تعلّق لأمر بانتخابات رئاسيّة أو تشريعيّة أو بلديّة أو غيرها.
ثانيا: وعليه فإنّ ضمان العمل بمبدأ السّيادة الشّعبية يقتضي من الأغلبيّة المنتخبة لحكم البلاد أن تحترم الحرّيات الفرديّة والعامّة، باعتبارها حقوقا غير قابلة للتّصرّف، فلا تستصدر قوانين تلغيها بدعوى "أنّ الشّعب اختارها".
ثالثا: إنّ احترام الأقلّية لإرادة الأغلبيّة مرتبط ارتباطا وثيقا بمبدأ احترام حقوق الأقلّية في التّعبير عن آرائها وفي تنظيم صفوفها وفي النّشاط من أجل كسب الشعب إلى جانبها. ذلك أنّ أغلبيّة اليوم قد تصبح أقلّية الغد والعكس بالعكس.
رابعا: إنّ ممارسة السّيادة الشّعبيّة لا تتمثل في اختيار من ينوب أو من يحكم فقط. ولكنّها تتمثّل في ممارسة سلطة التّشريع أيضا سواء عن طريق النّواب أو بصورة مباشرة. وهذه السّلطة لا سلطة عليها غير سلطة الدّستور الدّيمقراطي الذي يقرّه الشّعب أيضا.
وبتعبير آخر فلا رقابة على الشّعب أو على نوّابه في ممارسة سلطة التّشريع من قبل أيّة هيئة "روحيّة" تعطي نفسها صلاحيّات لا تفويض لها فيها من أحد.
خامسا: إنّ ممــارسة السّيــادة الشّعبيّة تقتضي تمكين الشّعب من مراقبة حكّــامه ومحــاسبتهم وعزلهم حتى لا يتحوّلوا إلى حكّام إطلاق. كما تقتضي تمكينه من مراقبة نوّابه ومحاسبتهم حتى لا ينقلبوا على ما نُوّبوا من أجله.
هذه القواعد والمبادىء هي الكفيلة بتحويل مبدأ السّيادة الشّعبيّة إلى ممارسة فعليّة وتسدّ الباب أمام كلّ من يحاول استعمالها كمجرّد آليّة للاستبداد لاحقا بالشّعب.
 
المساواة في الحقوق: المساواة بين الجنسين
 
ننتقل الآن إلى النّقطة الأخيرة في موقفنا هذا. وهي تتعلّق بمسألة الاعتراف بالمساواة القانونيّة التّامة في الحقوق بين جميع التّونسيّين كقاعدة دنيا ينتفي في غيابها الحديث عن الحرية والديمقراطية. وما يهمّنا في هذه النقطة بالذّات هو الموقف من حقوق المرأة، ومن مساواتها بالرّجل. وما من شكّ في أنّ "حركة النّهضة" تعلم أنّ هذه النقطة مثلت محورا أساسيّا من محاور الخلاف بينها وبين حزب العمّال ومعظم فصائل الحركة الديمقراطيّة، بل يمكن القول إنّ المسألة النّسائيّة تحوّلت في بعض الفترات إلى المسألة التي تستقطب كلّ الخلافات القائمة بين الطّرفين. فإذا كان "الإسلاميّون" يعتبرون أنّ "حرية المرأة" هي البوّابة التي دخلت منها العلمانيّة لـ"ضرب الإسلام" وبالتّالي ينبغي سدّها بضرب ما اكتسب في إطار تلك الحرّية، فإنّ القوى الدّيمقراطيّة بمختلف نزعاتها اليساريّة واللّيبراليّة والإصلاحيّة والقوميّة كانت تعتبر (ولا تزال في الحقيقة) موقف "الإسلاميّين" من حقوق المرأة المقياس الذي تحدد به مدى تقدّمهم في تبنّي مبادىء الحرّية والدّيمقراطيّة والمساواة في مختلف الميادين. لقد جعل "الإسلاميّون" منذ ظهورهم في السّاحة، المكاسب المحقّقة للنّساء التّونسيات في مجلّة الأحوال الشّخصيّة وخاصّة ما تعلّق منها بتعدّد الزّوجات الذي ألغته تلك المجلّة واعتبرته مخالفة يعاقب عليها القانون، هدفا من أهدافهم الأساسيّة ومجالا من المجالات التي يزايدون بها على النّظام وعلى القوى الدّيمقراطيّة حول "الالتزام بالدّين الإسلامي" معتبرين من يتبنّى تلك المكتسبات القانونية مارقا عن هذا الدّين. وفي هذا السّياق طالبت الحركة في ندوة صحفيّة سنة 1985 بتنظيم استفتاء حول أحكام مجلّة الأحوال الشخصيّة "المنافية للإسلام"، ولكنّها سرعان ما تراجعت عن دعوتها بسبب ردّة الفعل القويّة للأوساط الدّيمقراطيّة. ورغم أنّ الخطاب "النّهضوي" تغيّر نواعا ما منذ تلك الفترة فإنّ ذلك لا يعني أنّ الحركة عدّلت مواقفها الجوهريّة وتبنّت بدون لبس مبدأ المساواة الحقوقيّة بين الجنسين. ففي جويلة 1988 نشر الشّيخ راشد الغنّوشي بيانا في جريدة "الصّباح" أوضح فيه موقف الحركة من عدّة قضايا من بينها مجلّة الأحوال الشّخصيّة، معربا عن "احترام الحركة لها" مع ترك الباب مفتوحــا لإمكــانيّة معــارضة بعض أحكــامهــا. وقد ارتبطت هذه الخطوة بمســاعي الحركة إلى الحصول على اعتراف السّلطات بها، خاصّة أنّ الفصل الثّاني من قانون الأحزاب الذي سنّه بن علي يشترط "احترام المبادىءالمتعلّقة بالأحوال الشّخصيّة والدّفاع عنها". وفي نوفمبر 1988، أمضت "الحركة"، في شخص الأستاذ نورالدّين البحيري على الميثاق الوطني (وهو ميثاق رفض حزب العمّال توقيعه لأسباب لا يمكن شرحها هنا) الذي أكّد "مبدأ المساواة بين المواطنين رجالا ونساء بدون تمييز بسبب الدّين أو اللّون أو الرّأي أو الإنتماء السّياسي"، وأخيرا فأنّ الشّيخ راشد الغنّوشي صرّح في مهجره حسب بعض الوثائق أنّ الحركة التي يتزعّمها لا ترفض كلّ الإصلاحات البورقيبيّة في مجال حقوق المرأة.
أمّا البيان المشترك الذي وقّعه السّيد محمد مواعدة والشيخ راشد الغنّوشي بمناسبة الذّكرى 45 لـ"استقلال تونس" فقد جاء في النّقطة التّاسعة منه (النّسخة العربيّة) ما يلي: "...وفي هذا الإطار دعم الخطوات الإيجابيّة التي قطعها مجتمعنا في عدد من المجالات كالتّعليم وحقوق المرأة والمساواة بين الجنسين". وهذه أوّل مرّة تمضي فيها "حركة النّهضة" بيانا فيه مثل هذا الكلام. ولكن لا أحد يخفى عليه طابع هذا الكلام العامّ، إذ أنّ الموافقة عليه لا تعني بالضّرورة اتّفاقا حول التّفاصيل. ولسائل أن يسأل: ما المقصود بـ"الخطوات الإيجابيّة المقطوعة" في مجال "حقوق المرأة والمساواة بين الجنسين": هل أنّ منع تعدّد الزّوجات يندرج ضمن تلك الخطوات؟ وكذلك حقّ المرأة في اختيار زوجها وتنظيم نسلها (الإجهاض) والسّفر بمفردها والشّهادة وفي طلب الطّلاق وفي التّمتّع بالولاية وفي ممارسة مهنة القضاء؟ وهل أنّ إقرار مبدأ التّبنّي يندرج هو أيضا ضمن تلك الخطوات؟ وكذلك الاختلاط في المدارس والكلّيات ومراكزالعمل والأماكن العموميّة؟ ثمّ ما هي الخطوات التي لم تقطع بعدُ من أجل تحقيق المساواة الحقوقيّة بين الجنسين؟ فنحن نعلم جيّدا أنّ التّشريع التّونسي لم يسوّ بعد بين الجنسين: فالدّستور خِلْوٌ من أيّ فصل ينصّ صراحة على المساواة بين النّساء والرّجال في الحقوق والواجبات ويجرّم التّمييز. وبالنّظر إلى انعدام الحرّية السيّاسيّة في بلادنا ومنها حرّية التّرشّح لكافّة وظائف الدّولة، فإنّنا لا نعرف إلى حدّ الآن إن كان الفصل 40 من الدّستور الخاصّ بانتخاب رئيس الدّولة، يشمل النّساء أم لا يشملهنّ؟ فهل أنّ "حركة النّهضة" مع حقّهنّ في التّرشّح للرّئاسة ومع ضرورة وضع بند في الدّستور (اليوم أو غدا) يلغي التّمييز بين الجنسين؟ وفي مجال الأحوال الشّخصيّة، هل أنّ حقّ المرأة في الزّواج بدون تمييز بسبب الجنس أو الدّين (مثلما هو منصوص عليه في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وفي اتّفاقيّة الأمم المتّحدة للقضاء على جميع أشكال التّمييز ضدّ المرأة وفي ميثاق الرّابطة التّونسيّة للدّفاع عن حقوق الإنسان). وإلغاء مؤسسة المهر وإقرار المسؤولية المشتركة في العــائلة وحق الزوجة في الولاية على أطفــالهــا مثلها مثل الزوج والمســاوات في الإرث، يدخل ضمن الخطوات الجديدة التي ينبغي دعم المكاسب بها لتحقيق المساواة الحقوقية التامة بينها وبين الرجل؟ وإلى ذلك فهل أن "حركة النهضة" لا تزال تعتبر الحجاب "اللباس الإسلامي" أو "الشرعي" الذي ينبغي إلزام النساء بارتدائه أم هل أنها أصبحت تعتبره مجرّد لباس شخصي اختياري لا يفرض على الغير، بل إن محاولة فرضه انتهاك للحرية الشخصيّة مثلها مثل محاولة منعه من قبل نظام بن علي البوليسي (المنشور 108)؟ وأخيرا وليس آخرا هل أن "حركة النهضة" تعتبر شغل النساء حقّا غير قابل للتصرّف أم أنها تربطه بشروط؟ ونفس السؤال يُثار بالطبع في علاقة بكل المجالات التي اقتحمتها المرأة التونسية من تعليم وغيره.
إنّ ما يشرّع طرح هذه الأسئلة وما يحمل على الإعتقاد بأنّ الكلمات والعبارات والمبادىء العامّة قد لا تعني نفس الشّيء بالنّسبة إلى مختلف الأطراف، وهو ما يحتّم مناقشتها بدقّة وتفصيل، ما يلاحظه المرء من أنّ البيان الختامي للمؤتمر السّابع "لحركة النّهضة" أهمل الحديث عن حقوق المرأة وعن المساواة بين الجنسين، بل إنّ البيان سكت سكوتا تامّا عن موضوع المرأة التّونسيّة في حين كان من المنتظر أن يعيد على الأقلّ في بند من بنوده ما كان وقّعه الشّيخ راشد الغنّوشي مع السّيد محمد مواعدة في بيانهما المشترك. إنّ  كلّ ما جاء في البيان الختامي للمؤتمر فقرة عن مكانة المرأة داخل "حركة النّهضة" و"ضرورة تعزيز صورتها وتمثيلها في مختلف المؤسّسات القياديّة وإنزالها المنزلة الرّفيعة التي خصّها بها ديننا الإسلامي". فالأمر كما نرى يتعلّق بالمرأة في تنظيم "النّهضة" وليس المرأة التّونسيّة بشكل عامّ. وهو لايعني بأيّة صورة من الصّور اعترافا من الحركة بحقوقها وبالمساواة بينها وبين الرّجل داخل العائلة والمجتمع، أمّا عبارة "المنزلة الرّفيعة التي خصّ بها الإسلام المرأة" فهي لا تفيد شيئا إذا عرفنا أنّ الحركات الإسلاميّة لا تعتبر أنّ التمييز الجنسي الوارد في أحكام الشّريعة الإسلاميّة ينال من حقوق المرأة أو ينتهك مبدأ المساواة بينها وبين الرّجل، بل تعتبره "عدلا" يندرج في إطار مراعاة "الإختلاف في الوظائف والمسؤوليات".
أمّا االعامل الثّاني الذي يشرّع تلك الأسئلة فيتمثّل في إحجام البيان الختامي عن إدراج أسماء المصلحين المسلمين الذين نادوا بتحرير المرأة المسلمة من استبداد الرّجل والمجتمع وعلى رأسهم المصري قاسم أمين والتّونسي الطّاهر الحدّاد ضمن قائمة من اعتبرتهم الحركة "مصلحين" في عصرنا الحديث، بل إنّنا لا نجد في هذه القائمة مصلحا واحدا مناصرا للمساواة الحقوقيّة بين الجنسين وإن كان البعض منهم (محمد عبده...) أفضل من غيره إذ يوجد في القائمة من هم يعادون تلك المساواة عداء تامّا. ومن بين هؤلاء يذكر البيان شيخين تونسيّين تعتبرهما "حركة النّهضة" من "العلمــاء والمشــايخ الذين مثّلــوا جسر التّواصــل بين حركة الإصــلاح الإســلامي والحركة الإسلاميّة المعاصرة...". وهذان الشّيخان هُما: محمّد الصّالح النّيفر المعروف بعدائه الشّديد للطّاهر الحدّاد، ومحمد الأخوة الذي لم يتردّد سنة 1989 بمناسبة ترشّحه للإنتخابات التّشريعيّة ضمن قائمة تساندها "حركة النّهضة"، في التّصريح بأنّ الدّعوة إلى المساواة بين الجنسين في الحقوق مساواة تامّة تمثّل "حربا على الإسلام" وطالب في هذا الصّدد بمراجعة بنود مجلّة الأحوال الشّخصيّة التي تلغي تعدّد الزّوجات وتمنح المرأة حقّ طلب الطّلاق وتقرّ مبدأ التّبنّي، كما نفى بالمناسبة حقّ المرأة في التّرشّح للرّئاسة. (المغرب العربي -العدد 147- 14 أفريل 1989).
وخلاصة القول إنّ موقف "حركة النّهضة" من قضيّة المرأة لا يزال يكتنفه الغموض. فهو يتأرجح بين خطاب عام يناصر "المساواة بين الجنسين" و"تكريم المرأة التي كرّمها الإسلام" وبين الدّفاع في الواقع عن العديد من مظاهر التّمييز بين الجنسين، ويعود السّبب في هذا التّأرجح إلى نفس السّبب الذي جعل الحركة تتأرجح في مجال حقوق الإنسان بين الدّفاع عنها بشكل عامّ ومواصلة تبنّي، "الحدود الشّرعيّة" رغم تناقضها مع تلك الحقوق. وهذا السّبب يتمثّل في كونها أسيرة نظرة مثاليّة، ميتافيزيقيّة، ثبوتيّة، للأحكام المتعلّقة بالمرأة والأسرة في الإسلام.
لقد دأبت الحركات الإسلاميّة، ومنها "حركة النّهضة" وإن بشكل "أخفّ"، على تقديم تلك الأحكام كأنّها استحدثها الإسلام. وعلى هذا الأساس أضفت عليها صبغة قدسيّة وجعلتها صالحة لكلّ زمان ومكان متّهمة من يجرؤ على نقدها والمطالبة بتغييرها "بالخروج عن الملّة" أي الكفر، فضلا عن اتّهام النّساء اللّواتي يدافعن عن المساواة بتهم أخلاقيّة هابطة. وهذا السّلوك خاطىء بمختلف المقاييس ويؤدّي إلى رفض التّطوّر والتّقدّم والحكم على المجتمعات العربيّة والإسلاميّة بالتّخلّف المزمن باعتبار أنّ مجتمعات نصفها مشلول لا يمكن أن تقدر على الحركة والنّمو بصورة طبيعيّة. فالمتمعّن في أحكام الإسلام المعنيّة أي في مجال الأحوال الشّخصيّة خاصّة يلاحظ بيسر أنّها مأخوذة بدون استثناء من أعراف وتقاليد القبائل العربيّة (في مكّة ويثرب ومن سكن في جوارهما من بدو...) في "الجاهليّة" وقد كان بعض هذه الأعراف والتّقاليد شائعا، كما كان بعضها الآخر، جديدا ناشئا. وقد أخذ الإسلام من هذا وذاك مع بعض التّعديل (في حالات قليلة جدّا بالنسبة إلى نقاط موضوعنا وليس بالنّسبة إلى موضوع المرأة والعائلة عامّة...) وصاغ منها أحكاما اعتمدها الفقهاء لاحقا لبلورة منظومة أحوال شخصيّة أُمثلت مع الزّمن وأحيطت بالتّقديس. ولا يزال يروّج إلى اليوم أنّها "الحقيقة المطلقة".
إنّ الولاية على البنت وتزويجها، وإن كانت صغيرة، بمن يريده وليّها أو يوافق عليه والمهر (الصّداق) وتعدّد الزّوجات والتّمتع بالإماء (ما ملكت اليمين) وزواج المتعة وقوامة الرّجـال على النّساء (زواج البعولة) وطاعة الزّوجة للزّوج طاعة كاملة وولاية الأب على الأبناء وانتسابهم إليه (الولد للفراش وللعاهر الحجر حسب عبارة أكتم بن صيفي حكيم العرب) وتفضيل الذّكور على الإناث واستئثار الرّجل بالطّلاق (ليس للمرأة الحقّ إلاّ في الخلع وهو مفارقة الزّوج مقابل مال تفدي به نفسها) وطلاق المرأة ثلاثا على التّفرقة وتحليل الزّواج منها بعد ذلك بزواجها بغريب وضرب النّساء (خاصّة في قريش) وتوريث البنت وفق مبدأ وللذّكر مثل حظّ الأنثيين (كانت المرأة لا ترث عادة لأنّها لا تقاتل ولا تحوز الغنيمة ولكن "ذو المجاسد" عامر بن خشم بن عتم بن حبيب بن كعب ين يشكر القرشي أورث بناته فأعطاهنّ نصف ما أعطى لأبنائه...) وقتل "الزّانية" (الرّجم الإسلام عمّم العقوبة، شأنه شأن اليهوديّة على الزّاني والزّانية) وعدم إشهاد المرأة وعدم تحمّلها المسؤوليّة على رأس القبيلة ولباس الحجاب وقذف الزّوج زوجته بـ"الزّنى" كلّها كانت أعرافا وتقاليد عربيّة ما قبل إسلاميّة. وبعبارة أخرى فهي كلّها منتجات تاريخيّة، وكما هو واضح فهي قائمة على الميز، ولا غرابة في ذلك فهي تحمل سمات المجتمع العربي القبلي "الجاهلي" القائم على الحرب والغنيمة في الأساس والذي كانت تحتلّ فيه المرأة بشكل عامّ (نقول بشكل عامّ لوجود خصوصيات في وضع النّساء: بيبن الشّريفة، من الأشراف، والمرأة العادية، بين المرأة في مكّة والمرأة في اليمن، أو في المدينة...) مكانة دونيّة. فهي أداة متعة مسخّرة للرّجال ولم تكن ثمّة بالتّالي أيّة حكمة في تعدّد الزّوجات والتسرّي أو في قوامة الرّجل على المرأة أو في استئثاره بالطّلاق أو في أي عرف أو تقليد من الأعراف والتّقاليد التي ذكرناها أعلاه غير "حكمة" البنى الاجتماعية العربيّة "الجاهليّة" المتخلّفة، مع علم أنّ بعض تلك الأعراف والتّقاليد (الحريم، الحجاب أو النّقاب، اعتبار المرأة مخلوقة للرّجل إلخ...) كان شائعا وسائدا في مجتمعات أخرى سابقة لظهور الإسلام.
وهكذا فإنّ تبنّي الإسلام (قرآنا وسنّة وفقها) تلك الأعراف والتّقاليد (مع علم انّ الإسلام لم يأخذ دائما الأعراف والتّقاليد الأكثر تقدّما في تلك الفترة، إذ كان لقريش التي كان وضع المرأة فيها وضع أسوأ ممّا هو في المدينة مثلا، ثقل هامّ في تبنّي هذا العرف أو ذاك) وإدراجها ضمن منظومة أحوال شخصيّة متميّزة لا ينزع عنها تاريخيّتها ولا طابعها التّمييزي الواضح. فالإسلام ذاته لم يكن بمعزل عن الظّرفيّة التّاريخيّة التي ظهر فيها والتي حمل خصائصها، كما هو الحال في قضيّة المرأة هنا. فالأحكام التي تبنّاها والتي تسمّى شرعيّة قائمة على عدم المساواة، وقد كانت اللاّمساواة بين الجنسين ظاهرة تاريخيّة عامّة في مجتمعات ذلك الوقت، بل تعتبر، طبيعيّة بقطع النّظر عن الأغلفة الإيديولوجيّة التي تغلّف بها. ولم تطرح المساواة الحقوقيّة إلاّ في العصر الحديث نتيجة الانقــلابـات الاقتصــاديّة والاجتمـــــاعيّة والفكريّة والعلميّة التي شهدتهــــا الإنسانيّة، وبطبيعة الحال فإنّ ذلك لا ينفي وجود خطوات جزئيّة قطعتها البشريّة قبل ذلك، وساهم فيها العرب والمسلمون، في اتّجاه تحسين مكانة المرأة معنويّا ومادّيا. ولكنّ السّمة العامّة لوضع المرأة، وخاصّة في المجتمع العربي الإسلامي في العصور الوسطى كانت سلبيّة. وكتب التّاريخ والتّفسير والفقه والأدب موجودة للتّدليل على ذلك.
وعلى هذا الأساس فنحن نعتقد أنه لا مفرّ بالنّسبة إلى كلّ عاقل من أن يتعامل مع منظومة الأحوال الشّخصيّة العربيّة الإسلاميّة تعاملا يراعي طابعها التّاريخي وبالتّالي النّسبي والانتقالي، وليست المسألة هنا مسألة عقيدة وإيمان بل المسألة مسألة اجتماعيّة وسياسيّة وقيميّة، فإمّا أنّ المرء سيقرّ هذه الحقيقة ويراعي ما حصل من تغيّرات كبيرة في العصور الحديثة، كان لها انعكاس على مكانة المرأة في العائلة والمجتمع، ممّا ساعد على طرح قضيّة حقوقها والمساواة بينها وبين الرّجل مساواة تامّة وفق المعايير المعاصرة، كما ساعدت على إظهار خور كلّ الأفكار المسبقة حول دونيتها، سواء كانت دينيّة أو فلسفيّة، أو اجتماعيّة أو "علمويّة"، أو أنّه سينكرها ويظلّ يدافع عن اضطهاد النّساء ويقف ضدّ حريتهنّ وحقوقهنّ مهما كانت الأغلفة التي سيغلّف بها موقفه هذا، والتي لن تقنع، بل لن تصمد أمام تيّار الحرّية والتّقدّم الجارف حتّى وإن ساعد هذا الظّرف أو ذاك على إعادة بريق زائف لها، لأنّ الاضطهاد يبقى الاضطهاد و اللاّمساواة تبقى اللاّمساواة، وما يتبيّن أنّه لا منطق فيه، ستتكفّل الحياة بإزالته.
وإنّنا لنتساءل كما سبق ان تساءلنا عندما تعرّضنا لمسألة الحدود: هل أنّ المسلم متضرّر حقّا في إيمانه وهويّته ومتنكّر لهما حين يتخلّى عن تعدّد الزّوجات وكافّة مظاهر امتهان المرأة واضطهادها ويعترف لها بحقوقها وبالمساواة بينها وبينه في مختلف المجالات بدون استثناء، لأنّه ما من شيء يحقّ للرّجل إلاّ وكان يحقّ للمرأة أيضا باعتباره أي الرّجل لا يختصّ عنها بأيّ شيء يفضّله عنها أو يمنحه حقوق زائدة عليها؟ فهل الإيمان في هذه الحالة لا يستقيم إلاّ باضطهاد المرأة وعدم الاعتراف لها بحقوقها؟ أفلا يعني هذا أنّ الإيمان بالنّسبة إليهم لا يمكن أن يبقى في ظلّ العدل والمساواة أو أنّ اللّه حسبما يصوّرونه لا يحتمل أن تنتهي اللاّمساواة بين البشر كما لا يحتمل أن يسْمُوا بعلاقتهم إلى مستوى يتخلّصون فيه من طبائعهم الوحشيّة التي يمثّل اضطهاد الرّجل للمرأة واحدة من أهمّ تلك الطّبائع؟ أليست هذه رغبة القوى الرجعية في الحقيقة مغلّفة بغلاف سماوي؟ ثمّ أيّة هويّة هذه إذا كانت رموزها أو من رموزها تعدّد الزّوجات وضرب المرأة تأديبا لها والتّصرّف فيها كبضاعة تطليقا ومراجعة، وحرمانها من حقوقها السّياسيّة بدعوى أنّها "ناقصة عقل ودين" إلى جانب ما ذكرنا من جلد وقطع يد وتقطيع أوصال ورجم؟ أهذه هي الهويّة التي يريدها المسلم أو العربي لنفسه؟ هل الهويّة تحدّد بالأحكــام النسبيّة و الانتقالية؟ من له في حقيقة الأمر مصلحة في استمرار اضطهاد المرأة وعدم تمتّعها بحقوقها الأساسيّة؟ المؤمن العادي، البسيط، الكادح أم أصحاب السّلطان الذين لهم مصلحة في تلويث وعيه حتى يحافظوا على السّيطرة عليه وعلى مصيره، في الوقت الذي نراهم فيه يستدعون الجيوش الأمريكيّة على أراضيهم لضرب أشقّائهم، ويتفرّجون على الكيان الصّهيوني الغاشم يصفّي الشّعب الفلسطيني الشّهيد ولا يتحرّكون قيد أنملة؟ وأخيرا وليس آخرا هل أنّ الشّعب التّونسي الذي ألغى، من بين جميع الشّعوب العربيّة والإسلاميّة تعدّد الزّوجات قد أضاع هويّته؟ أم هل أنّه سما بنفسه وخطى خطوة نحو تحقيق إنسانيّته؟ وهو أمر عليه أن يفخر به. ألم يحوّل التّمسّك بمختلف أشكال اضطهاد المرأة الدّول العربيّة خصوصا إلى "مهزلة" بين دول العالم؟ أفلا يلاحظ المرء إلى أيّ مدى يرتبط الاستبداد السّياسي والاستغلال الاقتصادي والاجتماعي والتّخلّف بشكل عامّ في الدّول العربيّة والإسلاميّة بمكانة المرأة، الدّونيّة؟ أليس من علامات تخلّف شعب ما أو أمّة ما تخلّف وضع المرأة فيها؟
إنّ تكريم المرأة الحقيقي هو في الاعتراف لها بحقوقها الفعليّة الملموسة، الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسّياسيّة والثّقافيّة وبالمساواة التّامة بينها وبين الرّجل وإلاّ فإنّ الحديث عن "قيم الحرّية والمساواة" يصبح لغْوا. لأنّه لا حرّية دون حقوق ومساواة. ولأنّ المجتمع الذي لا مساواة فيه بين الجنسين ولا حقوق فعليّة فيه للنّساء ليس مجتمعا حرّا، بل إنّ الاعتراف بالمساواة بين المرأة والرّجل يمثّل المعيار الحقيقي لمدى تأصّل قيمة الحرّية داخل الإنسان ولمدى تحضّره وتمدّنه وانتصار الطّبيعة الإنسانيّة فيه على الطّبيعة الحيوانيّة، وعلى هذا الأساس فهي معيار لقياس مدى ديمقراطيّة برنامج أيّة قوّة سياسيّة، وهذا ما يدعونا إلى اعتبار أنّ الدّفاع عن حقوق المرأة وعن المساواة التّامة بين الجنسين يمثّل بندا من أهمّ بنود أيّة أرضيّة دنيا قد تجمع أحزاب المعارضة التّونسيّة. فالمطلوب ليس شيئا أدنى ممّا تحقّق في تونس على المستوى القانوني فيما يتعلّق بتلك الحقوق والمساواة، بل المطلوب هو المضيّ قدما في اتّجاه استكمال المساواة التّامة بين الجنسين في الحقوق، وإلاّ فأيّة شرعيّة للمعارضة التي تواجه الدّكتاتوريّة النّوفمبريّة التي نراها توظّف قضيّة حقوق المرأة توظيفا سياسويّا لإخفاء أعوارها؟ وممّا سيستمدّ النّظام المنشود ديمقراطيّته إن لم يكن من الاعتراف للمرأة التّونسيّة بحقوقها وبالمساواة بينها وبين الرّجل أيضا؟ إنّنا لا نعالج هنا بالطّبع مختلف أوجه واقع المرأة التّونسيّة، ولكنّنا نعالج فقط الحدّ الأدنى منه، القانوني، المتمثّل في الاعتراف بها قانونا كمواطنة، كاملة الحقوق.
ونحن نقول ختاما لهذه النّقطة إنّ ارتقاء المرأة في السّلم التّنظيمي صلب "حركة النّهضة" ليس هو التّكريم الحقيقي المطلوب لها، فالمسألة فكريّة وسياسيّة واجتماعيّة قبل أن تكون تنظيميّة.
فأيّة فائدة ستعود إلى نساء تونس المضطهدات والمستغلاّت والطّامحات إلى الحرّية والمساواة من وجود امرأة قياديّة في الحركة الإسلاميّة وهي تقنعهم مثلا أنّهنّ "ناقصات عقل ودين" وأنّ "طبيعتهنّ" لا تؤهّلنهنّ لتحمّل المسؤوليّة عدْلاً مع الرّجل في العائلة والمجتمع، وأنّهنّ مدعوّات، لحكمة "ربّانية"، بأن يقبلن زواج أزواجهنّ عليهنّ بثانيّة وثالثة ورابعة، وبأنّ الاحتجاب من "الإيمان" إلى غير ذلك من الدّعوات المنافية لحرّية المرأة وحقوقها. نقول هذا ونحن نعتقد انّ النّساء "النّهضويات" وزوجات "النّهضويّين" المسجونين والمنفيّين قد أظهرن من الجرأة والشّجاعة في الدّفاع عن ذواتهنّ وأزواجهنّ وأطفالهنّ، وقدّمن من التّضحيات، ما يجعل المرء يستغرب شديد الاستغراب أن يتوجّه إليهنّ أزواجهنّ أو زملاؤهنّ في الحركة بعد ذلك كلّه، بالقول: إنّكنّ لا تستحقّن "شريعةً" التّمتع بالمساواة التّامّة في الحقوق أو إنّكنّ لستنّ مؤهّلات لتحمّل عبء هذه المسؤوليّة أو تلك!
وإلى ذلك فنحن لا نعتقد اليوم أنه سيكون من السهل لأية قوّة سياسية أن تعود بالنساء التونسيات إلى الوراء وأن تفعل بهنّ ما يفعله بهنّ "طالبان" أو حركات أخرى أقلّ تشددا. إن ذلك سيقتضي عنفا ضد النساء لا سابق له. وهو أمر لن يبقى المجتمع يتفرّج عليه.      
هذا ما أردنا تبليغه. وخلاصة قولنا إن حزب العمال مع الوحدة ولكن مع الوحدة التي تقوم على الحدّ الأدنى الذي يضمن للشعب التونسي وضعا أفضل على الأقلّ من الوضع الذي هو فيه حاليا. وتمثل الحرية السياسية الشرط الأدنى لتحقيق ذلك الوضع الأفضل. والحرية السياسية لا تحقق في نظرنا الخلاص من الفقر والاستغلال والتبعية، ولكنها تمثل سلاحا يساعد الشعب التونسي بمختلف طبقاته وفئاته لتعبيد طريق خلاصه من تلك الآفات جمْعاء.
كما أن حزب العمال لن يثنيه خلافه مع "حركة النهضة" أو أية حركة أخرى من مواصلة الالتزام بالنضال من أجل إطلاق سراح جميع المساجين السياسيين وإيقاف التتبّعات ضد الملاحقين والمنفيين وسنّ عفو تشريعي عامّ. وهو لن يثنيه أيضا عن مواصلة النضال من أجل حرية التعبير والتنظيم دون قيد أو شرط، لأن القيود والشروط لا يستفيد منها في المرحلة الحالية إلا بن علي ونظامه البوليسي الدكتاتوري الأمر الذي يفسّر خور دعاة الإقصاء الذين يخدمون في نهاية الأمر هذا الثنائي.
وحزب العمّال سيضلّ إلى جانب كلّ مقموع، مشهّرا بالتّعذيب والمعاملات القاسيّة مهما كان انتماء الضّحيّة، مطالبا بمحاكمة الجناة أمرا وتنفيذا.
وأخيرا فإنّ حزب العمّال يضمّ صوته وجهده إلى صوت وجهد كلّ القوى التي تعارض تنظيم بن علي مهزلة جديدة لـ"رئـــاسة مدى الحياة" وإنّنــا ندعو بهذه المنـــاسبة إلى تشكيل تجمّع واسع وعريض شعاره: "لا للرّئاسة مدى الحياة" يكون من مهامّه النضال من أجل جعل 2004 مناسبة لاختبار القوّة بين إرادة الشعب والقوى الديمقراطية من جهة وبين الدكتاتورية النوفمبرية الغاشمة من جهة أخرى.
تونس:  أفريل - ماي 2001
 

 



#حزب_العمال_التونسي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الأدنى الدّيمقراطي لتحالفنا اليوم وغدا - الجزء الثاني- في عل ...
- الأدنى الدّيمقراطي لتحالفنا اليوم وغدا - الحزء الاول- النّقـ ...


المزيد.....




- شاهد لحظة قصف مقاتلات إسرائيلية ضاحية بيروت.. وحزب الله يضرب ...
- خامنئي: يجب تعزيز قدرات قوات التعبئة و-الباسيج-
- وساطة مهدّدة ومعركة ملتهبة..هوكستين يُلوّح بالانسحاب ومصير ا ...
- جامعة قازان الروسية تفتتح فرعا لها في الإمارات العربية
- زالوجني يقضي على حلم زيلينسكي
- كيف ستكون سياسة ترامب شرق الأوسطية في ولايته الثانية؟
- مراسلتنا: تواصل الاشتباكات في جنوب لبنان
- ابتكار عدسة فريدة لأكثر أنواع الصرع انتشارا
- مقتل مرتزق فنلندي سادس في صفوف قوات كييف (صورة)
- جنرال أمريكي: -الصينيون هنا. الحرب العالمية الثالثة بدأت-!


المزيد.....

- عن الجامعة والعنف الطلابي وأسبابه الحقيقية / مصطفى بن صالح
- بناء الأداة الثورية مهمة لا محيد عنها / وديع السرغيني
- غلاء الأسعار: البرجوازيون ينهبون الشعب / المناضل-ة
- دروس مصر2013 و تونس2021 : حول بعض القضايا السياسية / احمد المغربي
- الكتاب الأول - دراسات في الاقتصاد والمجتمع وحالة حقوق الإنسا ... / كاظم حبيب
- ردّا على انتقادات: -حيثما تكون الحريّة أكون-(1) / حمه الهمامي
- برنامجنا : مضمون النضال النقابي الفلاحي بالمغرب / النقابة الوطنية للفلاحين الصغار والمهنيين الغابويين
- المستعمرة المنسية: الصحراء الغربية المحتلة / سعاد الولي
- حول النموذج “التنموي” المزعوم في المغرب / عبدالله الحريف
- قراءة في الوضع السياسي الراهن في تونس / حمة الهمامي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي - حزب العمال التونسي - الأدنى الدّيمقراطي لتحالفنا اليوم وغدا- الجزء الثالث - -حركة النّهضة- و-الحدود- وحقوق الإنسان و المساواة بين الجنسين