فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن-العدد: 4197 - 2013 / 8 / 27 - 22:31
المحور:
المجتمع المدني
حينما بلغها خبرُ استشهاد أبنائها الأربعة، قالت: "الحمد لله الذي شرّفني بقتلهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مُستقرّ رحمته." إنها الخنساءُ شاعرةُ العرب، أو تماضر بنت عمرو السلمية، الصحابية المثقفة التي فقدت أخويها معاوية وصخر في الجاهلية، ثم أسلمتْ وقدّمت أولادها الأربعة في سبيل الله.
تذكّرتُها وأنا أتابع برنامج "لازم نفهم" للصديق مجدي الجلاد، حين استضاف إحدى أمهات شهداء رفح، في أغرب لقاء يمكن أن يجري مع "ثكلى" فقدت للتوّ فلذة الكبد، ابنَها، وعائلها، وفرحةَ عمرها.
دعونا نتعرف على معنى كلمة: "ثكلى" في المعجم العربي. هو المنبتُ المجزوز المتبقي في الشجرة، بعد قطع الغصن. واختارت عبقريةُ اللغة العربية هذه الكلمةَ للتعبير عن الأم التي تفقد وليدها، لتصفَ الوجعَ الذي يضرب قلبها بعدما يُبَتر، فتتوجّع مثل شجرة جُزَّ غُصنُها النابتُ، بسكين حادة.
كانت هادئةً، مطمئنةً في غير ملابس الحداد. لم تفارقُ الابتسامةُ شفتيها، كأنها ظهرت على الشاشة لكي تزفَّ لنا خبر عُرس ابنها إلى أجمل عروس في الدنيا! يا إلهي! كيف نجحت تلك المحزونة في أن تُخبّئ وجع قلبها خلف تلك البسمة، ثم تهنئ كلَّ أمهات الشهداء قائلةً لهن: افرحن! لا أزعم أنني شعرتُ بوجعها، كفاني اللهُ وكفى كلَّ أمهات الكون هذا الوجع، لكنني قرأتُ الدهشة في عيني الجلاد من فرط صبرها فقال لها: "أنتِ مش أم الشهيد، أنت أرض؛ سوف تنبتُ لنا أولادًا كثيرين تقدميهن في سبيل مصر الطيبة". فظلت تكرر الكلمة التي كانت تختم بها كل جملة طوال مدة الحوار: "الحمد لله". ثم اختتمت الحوار بزغرودة مدوية تحملُ الفرح بقدر ما تحمل من ألم الفقد المُرّ.
فاتني أن أعرف اسمَها، أو اسم ابنها الشهيد، فحملت هاتفي لأتصل بمجدي الجلاد وأسأله. ثم عدلتُ عن رأيي ولم أفعل. لماذا أريد أن أختصرها في اسمٍ، وقد اختصرت هي كلَّ أسماء النساء؟! قررتُ ان احتفظ بها كـ"فكرة"، أكبر من الأسماء والكُنيات. هي أم الشهيد المصرية. هي التي ينطبق عليها عبارة غنّاها فرانك سيناترا: I faced it all and I stood tall ، "واجهتُ الصعابَ جميعَها، ومازلت أقفُ شاهقًا."
لكنني عرفتُ أنها عاملة بسيطة في إحدى المدارس، دخلها 100 جنيه شهريًّا. تعود من عملها لتنكفئ على ماكينة الخياطة لتُزيد دخلها بضعة قروش إضافية تدفع منها أقساط جهاز ابنتيها وتُطعم زوجها المُقعد، وتشتري حقنة لابد أن تخزَ ظهرها لكي تقف على قدميها المنهكين!
ويبقى سؤال: هل دوّن التاريخُ مثل تلك الزغرودة؟! زغرودة "أم الشهيد"؟
#فاطمة_ناعوت (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟