|
تحولاتُ الوعي النهضوي المبكر
عبدالله خليفة
الحوار المتمدن-العدد: 4196 - 2013 / 8 / 26 - 08:42
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
لم يستطع الوعي النهضوي العربي المبكر أن يغدو ثقافةَ فئات وسطى غالبة شاملة، فالتكوين التقليدي (الإقطاعي) كان سائداً في الممالك الكبيرة والإمبراطورية العثمانية وسيظل محيطاً بها في أنظمتها غير الصناعية. ولهذا فإن حركات الوهابية والسنوسية والمهدية كانت إعادة إنتاج للأنظمة التقليدية السابقة بأشكال مذهبية محافظة، كانت إعادة أخرى للعصر التقليدي. ولهذا فإن الجسمَ الواسع من الأمم العربية والإسلامية كان تقليدياُ مسيطراً، ولهذا لم يكن بإمكان التكوينات النهضوية الطالعة سوى أن تتذيل بأشكال متعددة لهذا السائد أو تكون محاصرة ومنهكة. التكويناتُ التحديثية الصاعدة في المدن الكبيرة كالقاهرة ودمشق وبيروت وإسطنبول وطهران تقوم بنقلِ حداثةٍ محدودة مجلوبة أو منتجة، لفئات وسطى صغيرة محاصرة واكبتها مؤسسات تجارية وحِرفية جعلتها متذبذبة بين الماضي التقليدي والحداثة، بين الإقطاع والرأسمالية، ولهذا أنتجت أشكالاً من المغامرات الفكرية والسياسية غير المرتبطة بجمهور واسع تحديثي صناعي قادر على الانعطاف بها نحو بُنى حداثية متكاملة. هنا تغدو الحداثة على شكل مغامرات فكرية وسياسية ودعوات خطابية وكتابات مثقفين تفتقد للحاضن الشعبي الفاعل، وتتذبذب بين الطبقات الحاكمة والمحكومة، وبين الاستعمار والشعوب، بين السلطنة والرعية، على طريقة جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده. النقلةُ التاليةُ تجيءُ بعد هيمنة الاستعمار وتغير البُنى الاجتماعية ودخول صناعات جديدة ووسائل إتصال ونشر وتحجيم بعض المظاهر المتطرفة للإقطاع، وحدوث توسع للفئات الوسطى وظهور أوسع للعمال المشتغلين بأجر، فوجدت النخبُ والمثقفون البارزون بعض الحواضن المدنية لها القادرة على حمل الأفكار الجديدة، التي أصبحت أكثر تجذراً في الحداثة. الكمالية التركية، والوفدية المصرية، والثورة المشروطية الإيرانية، والثورات العراقية والسورية، كانت تجليات لفاعلية الفئات الوسطى الصاعدة المتلاحمة مع الجمهور، لتوسيع حضور العلاقات الرأسمالية الحديثة لكنها لم تصل للقطع مع الأنظمة التقليدية، وسواء كان ذلك لتردد الفئات الوسطى وعدم رسوخها الصناعي العلمي، أو لهجوم القوى التقليدية، ودعم الاستعمار لها وتثبيته للأبنية التقليدية، فإن الوعي التحديثي ظل جزئياً وبجهود فردية ونخبوية، عاجزاً عن قراءةِ البنية التقليدية السابقة المسيطرة وعجزِ العلاقات الجديدة عن حسم التطور. جهود لطفي السيد ومحد حسين هيكل وطه حسين وغيرهم وهو الاتجاه الليبرالي الديني، تتداخل وجهود شبلي شميل وسلامة موسى وفرح أنطون وإسماعيل مظهر التحديثية العلمانية، مشكلةً انفصاماً في العقلانية التحديثية حيث لا يكتمل تحليل البنية الإقطاعية الدينية السابقة ولا تُفهم العلاقات الرأسمالية الجديدة، وتستوردُ مناهجٌ ومعارفٌ غربية تريدُ جلبَ بنية رأسمالية كاملة من الخارج. عجزُ الفئاتِ الوسطى الجديدة هو عجزٌ معرفي ذو جذور مادية اقتصادية محدودة في التصنيع والعلوم. لهذا تحدث انتصارات للقوى التقليدية الحاكمة عبر إبقاء البنى القديمة وتطعيمها بشيء من التحديث غير الجذري سواء في انتصار الشاه في إيران على قوى الثورة المشروطية وقوى الحداثة أو في صعود المَلكيات الفردية أو بقاء الأنظمة التقليدية في دول الحركات السلفية وتغلغل الاستعمار ودعمه للهياكل الإقطاعية شبه الرأسمالية. في التحولات الجديدة تواجه المجتمعات أزمات اقتصادية ومعيشية ولا يؤدي الارتباط بالدول الغربية المسيطرة إلى تحول نهضوي عميق وتغيير معيشي كبير كما تقول اللافتات المرفوعة من قبل الدول الغربية، وتضطرب الأحوال وتريد الجماهير أنظمة جديدة، خاصة بعد أزمات الغرب الاقتصادية وتصدع الغرب عبر ظهور(الشيوعية) الروسية، وهنا تتجمد فاعليات الفئات الوسطى ثم تتكسر، وتظهر فاعلياتُ البرجوازيات الصغيرة في حركات الإخوان والقوميين والبعثيين والشيوعيين، طارحة هدم الأنظمة السائدة وظهور أنظمة شمولية تحولية كاسحة. وتسّرع الحربُ العالمية الثانية بهذا التحول وفيما تظل الفئات الوسطى تنتج ثقافاتها الليبرالية منعطفة أكثر صوب الدين، تعبيراً عن تنامي محافظتها وخفوتها الصدامي وتكسر أدواتُ تحليلها المعرفية، تلجأ البرجوازياتُ الصغيرة إلى التنظيمات السرية ورفع شعارات الاشتراكية المتعددة الألوان وتبدأ قوى الجيوش للتأهب للدخول في حومة السياسة والصراع الاجتماعي، حيث تعجز البرجوازيات الصغيرة عن تحريك الشوارع وخلق ثقافات ديمقراطية تحولية نظراً لعدم إرتباطها بالطبقتين المنتجتين البرجوازية الصناعية والعمال. ويصبح مفكرو التنوير والحداثة والديمقراطية محدودي العدد، وتضعف ريادة الغرب الديمقراطي للإنسانية خاصة مع إنقساماته وحروبه وضعف قواه الديمقراطية والعمالية، وتضخ الأريافُ والبوادي المأزومة فيض السكان في المدن العربية الإسلامية، ويغدو الرجوع للماضي شكلاً من أشكال هزيمة نموذج التقدم الوحيد الممكن الصعب الرؤية، ولهذا تغدو الانقلابات العسكرية تعبيراً عن عجز ثقافة التحديث في التغلغل للجموع، وفشل الفئات الوسطى لمهمات التصنيع وتغيير الأرياف بأشكال إصلاحية تحولية، وتفقد الأنظمةُ قواعدَها التي تشكلت في نمو المَلكية الديمقراطية والليبرالية، وتؤيد الجماهير الانقلابات العاصفة التي تمثل عواصف سياسية وإجتماعية خطيرة على المدى البعيد تغير سطوح الأنظمة وتعيدها للوراء سياسياً وفكرياً. وتغدو مشروعات المفكرين للعلمانية والتحديث الديمقراطي أكثر نأياً وتُحضر الأرضية للعودة للعصر الوسيط بصراعاته الدينية والمذهبية.
#عبدالله_خليفة (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الوعي البحريني وإشكاليةُ النقدِ
-
الشعبُ والمصيرُ
-
الديمقراطيةُ والناس
-
العربُ ونقدُ الواقع
-
انفصامُ تركيا الاجتماعي
-
«الإخوان» والتطور الحديث
-
أمريكا والتنكرُ للعلمانية
-
حكمُ الاسطورةِ والعنف
-
إيران.. إلى أين؟
-
غيابُ الموضوعيةِ من الساحة البحرينية
-
دوستويفسكي: روايةُ الاضطهاد (8)
-
دوستويفسكي: روايةُ الاضطهادِ (7)
-
رأسا الحداثةِ المنفصمان
-
الثورةُ السوريةُ وحربٌ إقليمية
-
لماذا يكرهون قرناءهم؟
-
اختلافاتُ تطورات الشعوب
-
ثقافةُ الإعاقةِ
-
رفسنجاني الليبرالي الذي لا يختفي
-
الأمريكيونَ والنفطُ والمذهبيون
-
تجربةُ اليسارِ الفرنسي في الحكم
المزيد.....
-
++تغطية مباشرة للتصعيد العسكري بين الهند وباكستان++
-
رئيس الأركان الباكستاني: القوات الجوية الباكستانية أسقطت 5 م
...
-
-السندور- اسم مسحوق أحمر اختارته الهند لعمليتها العسكرية ضد
...
-
كيف دمرت الهند سلاح باكستان السري في عام 1971 ؟
-
ليبيا.. حبس وزير الصحة ومسؤولين كبار في حكومة الوحدة الوطنية
...
-
باكستان: الضربات الصاروخية الهندية أسفرت عن مقتل 8 أشخاص
-
وزير الخارجية الأمريكي: نراقب الوضع بين الهند وباكستان عن كث
...
-
تصعيد عسكري.. قصف هندي لباكستان وإسلام آباد تتوعد بالرد
-
رفض خليجي قاطع للمساس بسيادة الكويت في ملف ترسيم الحدود البح
...
-
الخارجية الباكستانية: أفعال الهند المتهورة قربت دولتين نوويت
...
المزيد.....
-
الحرب الأهليةحرب على الدولة
/ محمد علي مقلد
-
خشب الجميز :مؤامرة الإمبريالية لتدمير سورية
/ احمد صالح سلوم
-
دونالد ترامب - النص الكامل
/ جيلاني الهمامي
-
حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 3/4
/ عبد الرحمان النوضة
-
فهم حضارة العالم المعاصر
/ د. لبيب سلطان
-
حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 1/3
/ عبد الرحمان النوضة
-
سلطة غير شرعية مواجهة تحديات عصرنا-
/ نعوم تشومسكي
-
العولمة المتوحشة
/ فلاح أمين الرهيمي
-
أمريكا وأوروبا: ملامح علاقات جديدة في عالم متحوّل (النص الكا
...
/ جيلاني الهمامي
-
قراءة جديدة للتاريخ المبكر للاسلام
/ شريف عبد الرزاق
المزيد.....
|