|
إعادة اكتشاف الغباء الجماعي
حسن محسن رمضان
الحوار المتمدن-العدد: 4195 - 2013 / 8 / 25 - 16:15
المحور:
المجتمع المدني
"هكذا نحن دائماً، علينا أن نعيش حالة الخراب لنعرف كم كنا أغبياء".
المقولة أعلاه جرت بقلم الروائي الجزائري واسيني الأعرج لتضع توصيفاً وسبباً للقتل والدمار الذي أصبح يحيط بنا في العالم العربي من كل جانب. إنها حالة "غباء" جماعي، من وجهة نظره، لا نكتشفها إلا متأخراً وبعد ملاحظة الخراب الذي يحيط بهذا المجموع العام الذي شارك في صنعه بطريقة ما. فـ "صناعة الخراب" إذن، من وجهة نظره، هي "ممارسة للغباء" يتولاها المجموع العام بِقِصر نظر منه، وبحماس جماعي ديني أو وطني على الأرجح، ولكنه غير حكيم ولا متزن. والحقيقة، أجدني مدفوعاً لتبني هذا الرأي الجريئ والصريح في توصيف الحالة الراهنة للوطن العربي، وما حدث ويحدث في دول متعددة في هذه الرقعة المنكوبة بسياسييها ورجال دينها ومثقفيها. فلا شيء يبدو بالفعل حكيماً وذكياً في كل التفاعلات الشعبية والسياسية والدينية والعقائدية في تلك الدول. بل لا شيء يبدو حكيماً وذكياً حتى من جانب بعض المثقفين الذين اختاروا أن يبرروا لعمليات قتل المدنيين والمتظاهرين والاعتقال العشوائي للمعارضين السياسيين. بل إنهم أصبحوا، وياللعجب، وسيلة إعلامية ودعائية للترويج الانتقائي المخادع للتوجهات الشعبية المتطرفة في مواقفها. هذا الموقف بالطبع يؤدي بالضرورة إلى فقدان (السلطة الأخلاقية) للاعتراض على قتل المدنيين المتظاهرين المعارضين في أماكن أخرى وفي زمان قادم، بل إنه يُفقدهم حتى حق الاعتراض فيما لو تعرضوا هُم لنفس الممارسة، فقد برروها اليوم ووافقوا عليها ضد خصومهم السياسيين المتظاهرين في الساحات. ومما يساعد على تبني الرأي القائل بأن هذا كله هو (حالة غباء) هو ما شرحه (غوستاف لو بون)، أشهر من كَتَبَ في موضوع سيكولوجية الجماهير. فقد كتب شارحاً:
"التاريخ يعلمنا أنه عندما تفقد القوى الأخلاقية التي تشكل هيكل المجتمع زمام المبادرة من يدها، فإن الانحلال النهائي يتم عادة على يد هذه الكثرة اللاواعية والعنيفة (...) وقد كانت الحضارات قد بُنيت ووجهت حتى الآن من قِبَل أرستقراطية مثقفة قليلة العدد، ولم تُبنَ أبداً من قِبَل الجماهير. فهذه الأخيرة لا تستخدم قوتها إلا في الهدم والتدمير. كما أن هيمنتها تمثل دائماً مرحلة من مراحل الفوضى. فالحضارة، اية حضارة، تتطلب قواعد ثابتة، ونظاماً محدداً، والمرور من مرحلة الفطرة إلى مرحلة العقل، والقدرة على استشراف المستقبل، ومستوىً عالياً من الثقافة. وكل هذه العوامل غير متوفرة لدى الجماهير المتروكة لذاتها (...) إن نفسية الجماهير تبين لنا إلى أي مدى يكون تأثير القوانين والمؤسسات ضعيفاً على طبيعتها الغرائزية العنيفة. كما وتبين لنا إلى مدى تبدو عاجزة عن تشكيل أي رأي شخصي ما عدا الآراء التي لُقنت لها أو أُوحيت إليها من قِبَل الآخرين (...) وبما أن الجماهير لا تعرف إلا العواطف البسيطة والمتطرفة، فإن الآراء والأفكار والعقائد التي يحرضونها عليها تُقبَل من قِبَلها أو تُرفض دفعة واحدة. فأما أن تعتبرها [أي الجماهير] كحقائق مطلقة أو كأخطاء مطلقة. وهذه هي دائماً حالة العقائد المتشكلة عن طريق التحريض بدلاً من أن تكون متولدة عن طريق التعقل والمحاجة العقلانية. وكلنا يعلم مدى تعصب العقائد الدينية ومدى الهيمنة الاستبدادية التي تمارسها على النفوس. وبما أن الجمهور لا يشك لحظة واحدة بما يعتقده على أنها الحقيقة أو الخطأ، وبما أنه واع كل الوعي بحجم قوته، فإن استبداده يبدو بحجم تعصبه. وإذا كان الفرد يقبل الاعتراض والمناقشة، فإن الجمهور ولا يحتملها أبداً". [انظر: سيكولوجية الجماهير، غوستاف لو بون، ترجمة هاشم صالح، دار الساقي، اقتباسات من صفحات متعددة]
المشهد العربي الحالي صادم تماماً. فالأرستقراطية المثقفة التي تحمل على كاهلها مسؤولية تصحيح المفاهيم وكشف الخداع والتزوير أصبحت مشاركة وبجدارة في التطرف الجماعي الذي يزور الحقيقة ويتبى الأوهام ويتبنى السقوط الأخلاقي المؤدي إلى قتل الخصوم وسجنهم. فما نراه حولنا من تحول المثقفين والعلمانيين والليبراليين والمنافحين عن حقوق الإنسان إلى أدوات إعلامية لتبرير التوحش وانتهاكات حقوق الإنسان والقتل الجماعي هو بالفعل (حالة غباء) ناتجة عن رغبة هؤلاء في أن يكونوا ضمن مجموع جماهيري عام، خوفاً أو طمعاً أو ربما بسبب (عدوى ذهنية الجماهير) التي وصفها غوستاف لو بون في كتابه مما نتج عنه تدني الإدراك بما هم منخرطون فيه. ولكن لا يمكننا أيضاً أن نغض النظر عن حقيقة أن هذا الموقف هو (سقوط أخلاقي) أيضاً، واع ومتعمد واختياري. فأنا أعتقد جازماً بالطبع الفطري الخيّر للإنسان. إذ أن هناك دائماً صوت خفي (ضمير؟) يمنع الإنسان من أن ينخرط في القتل والتخريب ضد بني جنسه، ويمنع الآخرين أيضاً من التبرير له وتبنيه، وأنَّ مشاركة الفرد في تلك الأعمال أو التبرير لها إنما تُعبّر عن حالة اختيار مقصود واع لا لبس فيه فيما يخص الأفراد. إذ أن تلك الممانعة الفطرية هي من تجعل الإنسان كائن اجتماعي بطبعه. فعندما اُكتشفت المجتمعات البدائية في غابات الأمازون وفي أندونيسيا في القرن الماضي، والتي لم تحتك بأية مجتمعات إنسانية متحضرة من أول وجودها حتى لحظة اكتشافها، كانت تلك الأعداد البشرية هي تجمعات حافظت على كينونتها الجمعية الاجتماعية بطريقة ما. هذه الكينونة الجمعية لم تكن ممكنة إطلاقاً من دون وجود تلك الممانعة الفطرية للتوحش ضد بني جنسه من دون سبب يقف منه الإنسان موضع اختيار واع. نعم، أتفق أن المسألة الأخلاقية نسبية، ولكنها حقيقة أيضاً أن الإنسان يختار الانحدار للتوحش ضد بني جنسه حتى وإن كان الظرف المحيط لا يهدد البقاء. وهذا ما رأيناه واضحاً في مشاهد متعددة في مصر وسوريا ولبنان والعراق على الخصوص.
"هكذا نحن دائماً، علينا أن نعيش حالة الخراب لنعرف كم كنا أغبياء"، مقولة صحيحة.
#حسن_محسن_رمضان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في الأزمة الأخلاقية العربية
-
متّى وإنجيله - نموذج في نقد النص المقدس – 6
-
متّى وإنجيله - نموذج في نقد النص المقدس – 5
-
متّى وإنجيله - نموذج في نقد النص المقدس – 4
-
متّى وإنجيله - نموذج في نقد النص المقدس – 3
-
متّى وإنجيله - نموذج في نقد النص المقدس – 2
-
متّى وإنجيله - نموذج في نقد النص المقدس - 1
-
مشكلة نقد النصوص المقدسة
-
مشكلة الآخر المختلف في الإسلام
-
مصطلح الثوابت الإسلامية
-
يسوع والمسيحية والمرأة – 2
-
يسوع والمسيحية والمرأة - 1
-
من تاريخ التوحش المسيحي – 2
-
من تاريخ التوحش المسيحي
-
الازدواجية في الذهنية الدينية ... الموقف من نوال السعداوي
-
في الاستعباد كنزعة إنسانية متأصلة
-
الأحاديث الموضوعة كأداة لتصحيح التاريخ
-
مشكلة الإيحاء الجنسي في إنجيل يوحنا
-
صراع
-
معارك الله
المزيد.....
-
كاميرا العالم ترصد خلوّ مخازن وكالة الأونروا من الإمدادات!
-
اعتقال عضو مشتبه به في حزب الله في ألمانيا
-
السودان.. قوات الدعم السريع تقصف مخيما يأوي نازحين وتتفشى في
...
-
ألمانيا: اعتقال لبناني للاشتباه في انتمائه إلى حزب الله
-
السوداني لأردوغان: العراق لن يقف متفرجا على التداعيات الخطير
...
-
غوتيريش: سوء التغذية تفشى والمجاعة وشيكة وفي الاثناء إنهار ا
...
-
شبكة حقوقية: 196 حالة احتجاز تعسفي بسوريا في شهر
-
هيئة الأسرى: أوضاع مزرية للأسرى الفلسطينيين في معتقل ريمون و
...
-
ممثل حقوق الإنسان الأممي يتهرب من التعليق على الطبيعة الإرها
...
-
العراق.. ناشطون من الناصرية بين الترغيب بالمكاسب والترهيب با
...
المزيد.....
-
أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال
...
/ موافق محمد
-
بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ
/ علي أسعد وطفة
-
مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية
/ علي أسعد وطفة
-
العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد
/ علي أسعد وطفة
-
الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي
...
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن
...
/ حمه الهمامي
-
تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار
/ زهير الخويلدي
-
منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس
...
/ رامي نصرالله
-
من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط
/ زهير الخويلدي
-
فراعنة فى الدنمارك
/ محيى الدين غريب
المزيد.....
|