الصديق درعي
الحوار المتمدن-العدد: 4192 - 2013 / 8 / 22 - 07:06
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
إن التناول السوسيولوجي لمفهوم المال العام كان في إطار أكثر شمولية، و بناء على هذا، تعد المقاربة التاريخية الأجدى لتوضيح ما نريد مقاربته و بعدها نطرح أهم النقاط التي تناولتها نظرية سوذرلاند و ما تلاها من نقاشات بعد ذلك.
أولا:إنجلترا و أمريكا مهد الدراسات حول جرائم الرقي:
منذ سنة 1872، خلال المؤتمر الدولي حول الوقاية و التخفيف من الجريمة المقام بلندن، أشار E.C.Hill إلى الأهمية المتعاظمة للجريمة في مجال الأعمال بواسطة تعاون المشتغلين في قطاع البناء، النقل، المعامل... و أشخاص آخرين " مستقيمين ". في 1935 عاود الأستاذ Morris تناول الموضوع قصد الحديث، وفقا لتعبيره، عن " مجرمي الرقي ". فتحديد هؤلاء المجرمين سيكون صعبا كما كتب آنذاك لأن:" مفاهيمنا الأخلاقية، عموما، مهزوزة من طرف الكونية، فكل شيء مرغوب فيه، من ممارسات غير شريفة، إذا لم نقل غير قانونية، في عالم الأعمال." لكن ما هو مثير للجدل أنه لا تتم ملاحظة " مجرمي الرقي " هؤلاء باعتبارهم لهم وجود ملموس و لهذا يضيف Morris :"خلافا للمجرمين البسطاء فمجرمي الرقي، لم يكونوا باعتبارهم مجموعة، قد تعرضوا للوصم و استهجان العموم لم يتعرضوا له أبدا. أما الشرطة لم تعاملهم، على غرار الآخرين، بفضاضة أو تضعهم في السجن إلا نادرا كما أنهم لم يكونوا موضوعا للمعالجة و الدراسة بشكل مماثل، كما أنهم لم يحددوا باعتبارهم فئة خاصة من الكائنات الإنسانية. بالمقابل، فلقد كانوا موزعين بيننا، باعتبارهم أصدقاء و أعضاء بنفس الجمعيات المهنية و الدينية. بل لقد قدموا بأنفسهم مساعدات مهمة قصد دراسة و علاج الجانحين الشباب، و سهروا على تمرير قوانين تسهم في إحجام مخاطر الجريمة. إن الفرق الوحيد بينهم و بين نظرائهم من نفس الطبقة هو حساسيتهم الأقل أخلاقية حول بعض القضايا، المرتبطة، و هذا أمر ممكن، بطبيعتهم و علاقاتهم الضيقة مع النموذج الإجرامي الذي هو في الأصل لهم. إنه يبدو بعيدا أن يعتبروا أنفسهم كمجرمين. إن موقفهم ليس نقدا ذاتيا، و يتقبلون بسذاجة كبيرة " الاعتقاد الجيد " الذي يبدوه الآخرون اتجاههم." [1]
و على أي فإن حركة الانطلاق الكبير للبحث العلمي حول "مجرمي الرقي" ستأتي، بالمقابل، خلال مرحلة ما بين 1940-1950 بالولايات المتحدة الأمريكية. فخلال تقديمه الرئاسي للجمعية الأمريكية لعلم الاجتماع سنة 1939 استعمل E.H.SUTHERLAND مفهوم "جرائم الياقات البيض" للدلالة على النشاط غير المشروع للأشخاص من مستوى سوسيواقتصادي عال و الذين لهم علاقات "طبيعية" مع أعمالهم . فمثلا إذا قتل وسيط عشيق زوجته فالأمر ليس هنا بجريمة ياقات بيض لأن هذا السلوك ليس له علاقة مباشرة بعالم الأنشطة المهنية للخارق؛ لكن إذا قام هذا الأخير بخرق قانون و يتهم فيه في إطار علاقته بالأعمال من ثمة يدرج ضمن مجرمي الياقات البيض.[2] إن المفهوم أثار العديد من الردود ما بين مرحب به و آخرين عدوه غير علمي و أقرب إلى الأخلاق منه إلى العلمية. لكن الأهم هو أن اهتمام الباحثين أثير حول المسألة بطريقة أو بأخرى لتتابع الدراسات بعد ذلك و يحصل علم الإجرام على معطيات مهمة. إن هذا هو ما كان يصبو إليه E.H.SUTHERLAND الذي كان يرفض العلاقات السببية بين الإجرام المركز على الفقر، الإحياء الفقيرة، و انعدام التماسك العائلي – في حين أن هذا كله – كان يعطي صورة مغلوطة عن الواقع لأنه يعكس فقط الخلاصات المؤسسة حصريا على الدراسات المنجزة حول الطبقات الدنيا من المجتمع، في حين أن الخلاصات العلمية المقبولة لا يمكنها إلا إن تتأسس على دراسة عامة و شاملة لمختلف أنواع المجرمين كيفما كانت طبقتهم الاجتماعية. "فدراسات E.H.SUTHERLAND كما يقول هي محاولة لسد الفراغ و جلب اهتمام الباحث حول جرائم الياقات البيض." [3]
ثانيا: نظرية سوذرلاند حول جرائم الياقات البيض و الآراء المعاصرة:
أ: نظرية سوذرلاند و تحديدها لجريمة الياقات البيض:
إن تحديد سوذرلاند لجريمة الياقات البيض أوسع بكثير مما هي عليه في وجهة نظر القانون الضيقة و في نفس الوقت تبقى وفية لروح القانون و تتلخص أطروحته في ما يلي: باعتبار جانحي الياقات البيض هم من الطبقة العليا في المجتمع، و يحاطون بالاحترام في مجتمعهم فقد نجحوا دائما، خلال سنوات، في التأثير على نموذج التشريعات التي تشكل لتعديل حقل العالم الاقتصادي، الصناعي و التجاري المتنامي بدون توقف. و بهذا فالإجراءات القانونية و التشريعية التي وضعت قصد ضبط عالم الأعمال لم تقع إلا نادرا أمام أنظار محاكم العدالة الجنائية. و ما يعوض المتابعات الجنائية يتلخص في مجالس الإتباع و التشاور أمام لجان لحل مشاكل المؤسسات، و متابعات مدنية بالنسبة للتخريب أو الإتلاف الذي تنتجه هذه المؤسسات، كما تحضر إجراءات أخرى خارج متابعة جنائية أو أتهامية. إن العقوبات المدنية المفروضة على أنواع هذه الجرائم تفرض فقط غرامات قصد إيقاف نشاط ما أو ذاك، أو أوامر مباشرة للتسوية. فبعض الخروقات المدنية، حسب E.H.SUTHERLAND، هي في الواقع "جرائم" لأن:
1. القانون يعتبر هذه الخروقات كمفسدة للمصلحة العامة.
2. تفرض عقوبات مشروعة و مناسبة لكل نوع من الخروقات.
3. إن تصرفات الخارقين هي في العادة "إرادية" و "مقصودة" بهذا تكون ليست مجرد حوادث و أنها وقعت في إطار "معرفة تامة بسبب الخطر".
انطلاقا من كل ما سلف فاستعمال مفهوم " جرائم الياقات البيض " يجد مبررا له من وجهة نظر البحث العلمي.[4]
ب: الآراء المعاصرة حول جرائم الياقات البيض:
منذ تدشينه النظري و الأمبريقي لجرائم الياقات البيض كتقليد، اتجهت الأعمال اللاحقة نحو التركيز على المقاربة الثقافية التنظيمية كأداة مفتاح مفسرة و متغير سببي. فبعد حديث سوذرلاند عن وجود أوساط مؤسساتية تعطي تحديدا إيجابيا لخرق القانون اتجه الباحثون المعاصرون إلى دراسة العلاقة بين المراهقة و نمو الأجواء الإجرامية داخل المؤسسات على اعتبار أن المراهق في الوقت الحالي يشغل من طرف المؤسسات و سعيا منه لإثبات الذات في أوساط تنافسية يؤدي به إلى خرق القانون من داخل المؤسسة التي بدورها تؤسس للمخالطة الفارقة باعتبارها مجالا للتجمع.[5]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش و الإحالات:
1- MORRIS, A., Criminology (NY., Longmans, 1935), pp. 153-158. Cité in A.Nourmandeau, “Les ’’déviations en affaires’’ et les crimes en col blanc » (1970).
2- SUTHERLAND, E.H., « White Collar Criminality », 5, American Sociological Review, pp. 1-12 (1940).
3- SUTHERLAND, E.H., « Crime and Business”. 217, The Annals, pp. 112-118 (1941) -;- aussi: “ Is White Collar Crime Crime ?”. 10, American Sociological Review, pp. 132-139 (1945) -;- White Collar Crime (N.Y., Dryden Press. 1949).
4- HARTUNG, F., « White Collar Crime. Its Significance for Theory and Practice “, 17, Federal Probation, pp. 30-36 (1953) -;- aussi: D. J. NEWMAN, “White Collar Crime “, 23, Law and Contemporary Problems, pp. 735-753 (1958).
5- Voir Shover, N. and Hochstetler, A. (2006). Choosing White Collar Crime. New York Cambridge University Press.
#الصديق_درعي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟