|
هل الاحتلال دائما سيء؟
منصور المحروس
الحوار المتمدن-العدد: 1199 - 2005 / 5 / 16 - 10:55
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
– كاتب بحريني
جاءت الحملة الفرنسية على مصر في وقت كانت فيه البلاد ترزح تحت حكم المماليك التسلطي شديد التخلف و الفساد ، فنقلت مصر من عصر الظلمات و العبودية إلى عصر التنوير عبر جملة من الإنجازات ، لعل أكثرها ذكرا في الأدبيات التاريخية إدخال آلة الطباعة وفك طلاسم اللغة المصرية القديمة. والفرنسيون بطبيعة الحال كانت لهم أجندتهم و حساباتهم و مصالحهم التي جاؤوا لتأمينها ، غير أن حملتهم أحدثت صدمة حضارية لم تقتصر آثارها على مصر وحدها وإنما امتدت إلى بلاد الشام و منها إلى أمصار وشعوب أخرى في الشرق.
والسؤال الذي يطرحه هذا المثال هو: هل الاحتلال دائما سيء ، أم أن المسألة تعتمد على جهة الاحتلال؟
فلو قارنا مثلا ما بين الاحتلال الفرنسي لمصر و النتائج التنويرية التي تمخضت عنه ، والاحتلال العثماني لها و لبقية البلاد العربية و ما أحدثه من تقهقر حضاري و تفسخ و فساد، لتوصلنا إلى نتيجة هامة مفادها أن العبرة ليست بهوية المحتل أو دينه و إنما بأفعاله و ما يمكن أن يقدمه. فالاحتلال الأمريكي لليابان و ألمانيا بعيد الحرب الكونية الثانية ، لأنه كانت وراءه دولة متقدمة و غنية و ديمقراطية ، ساهم في دفع عجلة التنمية الاقتصادية في البلدين و في ترسيخ الأساليب و القيم الديمقراطية و الحقوقية فيهما بعيدا عما دأبت أنظمتهما المهزومة على فعله من مغامرات عسكرية مجنونة تحت حجج شوفينية و عنصرية و رؤى استعلائية.
وهناك قائمة من الأمثلة التي فضلت فيها شعوب احتلال الأجنبي لها على العودة إلى سيادة الوطن الأم ذي النهج الاوتوقراطي و الحكم الشمولي أو فضلت عودة المحتل الغريب على الاستمرار تحت حكم وطني أثبت فشله. من هذه الأمثلة الدعوة التي وجهها عسكريون و تنظيمات مدنية في جزر القمر إلى فرنسا قبل عدة سنوات للعودة إلى احتلال البلاد إنقاذا لها من الحكم الوطني الممارس للتمييز. و هناك أيضا مثال جزيرة هونغ كونغ التي فضل الكثيرون من سكانها استمرار السيادة البريطانية رغبة منهم في الحفاظ على ما تأسس في ظلها من تقاليد ديمقراطية و حقوقية و رخاء ، على أن يعودوا إلى أحضان الصين ذات النظام الشمولي المعروف بخروقاته لحقوق الإنسان و تفننه في تكميم الأفواه و سحق نشطاء الديمقراطية بالدبابات على نحو ما حدث في ساحة "تيان ان مين" في عام 1989 . وفي جبل طارق، لم يعد خافيا إصرار السكان على البقاء تحت السيادة البريطانية بحسب ما أفصحت عنه استطلاعات الرأي ، و رفضهم للعودة إلى أحضان الوطن الأسباني الأم ، رغم ان الأخير بلد ديمقراطي لكن بتقاليد اقل من تلك المترسخة في بريطانيا.
هذه بطبيعة الحال ليست دعوة مطلقة إلى تمجيد الاحتلال و تشجيعه و تبييض صفحة المحتلين ، وإنما دعوة إلى إعمال العقل و المنطق في ملامسة الأحداث واتخاذ المواقف منها. فما يهم المواطن - بعد كل هذه التجارب المريرة - لم يعد من يحكمه و إنما كيف سيحكم ، وهل الحاكم قادر على إشباع طموحاته في العدالة و المساواة و الحرية؟ و إلا فبماذا نفسر هجرة الملايين من العرب و المسلمين إلى ديار الغرب "الكافرة" و تفضيلهم العيش و العمل في بلاد المستعمر السابق على العيش و العمل في ظل دولهم المستقلة و أنظمتهم الوطنية.
ان هذا يقودنا إلى موضوع العراق الذي يتباكى الكثيرون على مصيره اليوم و يتبارون في شتم من خلصه من نظامه الديكتاتوري الأهوج بحجة انتفاء استقلاله و سيادته، دون ان يطلب منهم ذوو الشأن و أصحاب الدار رأيا أو فزعة.
فهل احتلال العراق بأسره و سرقة خيراته التي لا تعد ولا تحصى من قبل رموز و ازلام النظام البعثي المدحور و عائلة السيد الرئيس القائد ، في نظرهم كان من مظاهر السيادة الوطنية؟ وهل تحويل الشعب العراقي إلى شعب جائع و مشرد في المنافي العربية و الأوروبية و الأمريكية ، ودفن مئات الآلاف منه في مقابر جماعية ، كان في نظرهم من مظاهر الاستقلال؟ وهل إدخال العراقيين في حروب عبثية كلفت أكثر من تريليون دولار و تحويلهم إلى قتلى و جرحى و معاقين و أرامل و أيتام و جياع باسم الوحدة و الحرية و الاشتراكية ، كان في نظرهم من مظاهر الحكم الوطني المستقل؟
وقس على ذلك ، منع طائفة كبيرة من المواطنين من ممارسة شعائرهم الدينية بحرية ، و تجفيف الاهوار ذات البعد التاريخي للعراقيين و للإنسانية جمعاء ، و سحب الهوية الوطنية من مئات الآلاف من العراقيين و رميهم خلف الحدود بحجة الشك في ولائهم للنظام.
إن الاحتلال الأجنبي الأمريكي الراهن للعراق ، رغم كل أخطائه و هفواته و تقلباته ، هو في نظري أفضل مليون مرة من نظام العائلة الواحدة الذي حول شعبا أبيا كالشعب العراقي و وطنا بحجم وموارد العراق إلى كيان متخلف بآلاف الأشواط عن جيراته و بملايين الأشواط عن دول العالم الناهضة.
#منصور_المحروس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العراق يعلن توقف إمدادات الغاز الإيراني بالكامل وفقدان 5500
...
-
ما هي قوائم الإرهاب في مصر وكيف يتم إدراج الأشخاص عليها؟
-
حزب الله يمطر بتاح تكفا الإسرائيلية ب 160 صاروخا ردّاً على ق
...
-
نتنياهو يندد بعنف مستوطنين ضد الجيش الإسرائيلي بالضفة الغربي
...
-
اشتباكات عنيفة بين القوات الروسية وقوات كييف في مقاطعة خاركو
...
-
مولدوفا تؤكد استمرار علاقاتها مع الإمارات بعد مقتل حاخام إسر
...
-
بيدرسون: من الضروري منع جر سوريا للصراع
-
لندن.. رفض لإنكار الحكومة الإبادة في غزة
-
الرياض.. معرض بنان للحرف اليدوية
-
تل أبيب تتعرض لضربة صاروخية جديدة الآن.. مدن إسرائيلية تحت ن
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|