|
الأصولية والإرهاب: قراءة في مستقبل الإسلام والمسلمين في هولندا
عدنان حسين أحمد
الحوار المتمدن-العدد: 1198 - 2005 / 5 / 15 - 12:04
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
لا تقتصر الأصولية على ديانة محددة بعينها كالإسلام مثلاً، وإنما تمتد إلى الديانتين المسيحية، واليهودية، إضافة إلى الديانات التوحيدية الأُخَر. كما يمكن تلمّس المذهب الأصولي في الفكر والسياسة والأدب والفن وما إلى ذلك حينما يقترن الأمر بالتزمت، والجمود، وتقديس أفكار ورؤى وتصورات محددة. وقد أوجز الأستاذ معتز الخطيب السمات الأساسية للأصولية الدينية بثلاث نقاط مركّزة وهي " الشمولية، والنصوصية، والانحياز المطلق ". وهنا مكمن الصراع بين التزمت والتفتح، فالأصولي يؤمن إيماناً قاطعاً بأن ديانته شمولية، ومُحيطة بكل شيء، وتمتلك الحقيقة وحدها، وأنها بالتالي قادرة على أن تجيب على الأسئلة كلها. وكلنا يعرف أن الحقيقة الدامغة ليست حكراً على ديانة بحد ذاتها. كما يلتزم الأصولي " بالنصوص الدينية المقدسة "، ويعتقد أن لها تأويلات محددة، بينما يشير واقع الحال إلى أن تأويلات هذه النصوص متعددة، وتختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والعقول البشرية القادرة على الاجتهاد، والإتيان بما هو جديد، وملائم لروح العصر الذي نعيش فيه. أما " الانحياز المطلق " وهو امتداد طبيعي للسمة الثانية التي ورد ذكرها تواً، فإن الأصولي يرفض رفضاً قاطعاً مساءلة المبادئ التي يعتنقها، كما يرفض محاججة المفسرين الأوائل أو دحض تأويلاتهم التي توصلوا إليها في الماضي وكأنهم يقولون من طرف غير خفي بأنهم " عَبَدَة الماضي " وسدنته المعاصرون، بينما يكشف واقع الحال الحاجة الماسة إلى مقاربة " النصوص المقدسة " مع حركة الواقع المعيش والجدلية الناجمة عنه. وعلى رغم الكثير من الأبحاث والدراسات المنشورة التي تناولت المسائل العُقدية في الإسلام، موضوع بحثنا الآن، إلاّ أنها لم تقترح حلولاً منطقية تأخذ بيد الأصوليين من خانق الاعتقاد السلفي إلى فضاء اليقين المتفتح على جانب من الحقيقة الأصلية في الأقل. فتأويل القرآن ليس حكراً على المفسرين الأوائل، وإن نبوة محمد " ص " لا تنفي بشريته، وإن الضرورات تبيح المحظورات، وإن الأزمة التي يمرّ بها أي مجتمع إسلامي لا تنفرج بمجرد العودة إلى ما أنزله الوحي، وبالتالي فإن المرونة لا بد من أن تكون بديلاً للتزمت. ولا بد من الإقرار بأن العديد من المفكرين، والكتاب، والصحفيين الأجانب قد لعبوا بمشاعر الناس، وأثاروا مخاوفهم لحقب زمنية طوال. فليس صحيحاً القول إن " الإسلام دين عنف، ويسعى دوماً إلى توسيع دائرة نفوذه.. وإن الإسلام ليس قادراً على الحياة بسلام جنباً إلى جنب مع فئات غير مسلمة." كما يذهب بيتر شول لاتور، الكاتب الصحفي والخبير في شؤون الشرق الأوسط والإسلام، والذي يعتقد خطأً بأن " مشاكل الشرق الأوسط السياسية كلها تعود إلى مشكلة واحدة وهي الدين " فيما نسي أو تناسى عشرات المشكلات الأُخَر التي لها علاقة بالتنمية الاقتصادية، والتطورات الاجتماعية، واحتكار السلطة، وهيمنة الأنظمة الشمولية، والمعايير المزدوجة لأمريكا تحديداً وبلدان أوروبا القديمة، وما إلى ذلك من مشكلات جوهرية لا تخفى عن أنظار القارئ الحصيف. كما تجدر الإشارة إلى أن أمريكا والعديد من الدول الغربية تؤدي دوراً أساسياً في تعزيز الأصولية الإسلامية، فهذه البلدان الغربية تتحدث عن الديمقراطية، والتعددية السياسية، وحقوق الإنسان، لكنها عملياً تدعم أنظمة عربية دكتاتورية، وشمولية بمعنى الكلمة، بحيث إنها تعيش في واد، والعالم المتحضر في وادٍ آخر. وقد ساهم هذا الدعم الغربي المباشر وغير المباشر في تعزيز الرأي القائل زوراً وبهتاناً بأن " الإسلام أصولي في طبيعته ".
المنعزلات الإسلامية في هولندا: يقدّر عدد المسلمين في هولندا بنحو مليون نسمة، وهم ينحدرون من أصول تركية، ومغربية، وإندونيسية، إضافة إلى جاليات إسلامية أُخَر قَدِمَت إلى هولندا من بلدان عربية وإسلامية عديدة من بينها إيران ومصر والعراق والجزائر وتونس وفلسطين والسودان وأريتيريا والصومال واليمن وإيران وأفغانستان والبوسنة والعديد من الدول الإسلامية الأُخَر التي تعاني اقتصاداً منهاراً أو تفتك بها الأوبئة والمجاعات والكوارث، أو تشتعلُ فيها الحروب والنزاعات العرقية. ويؤكّد المؤرخون أن هذه الجاليات الإسلامية قد وفدت إلى هولندا بعد الحرب العالمية الثانية في عقدي الستينات والسبعينات، وبالذات الأتراك والمغاربة الذين حلّوا محل الإيطاليين والأسبان بعد أن طردتهم السياسة العنصرية في نهاية الخمسينات من القرن الماضي، بينما لم يتم طرد الإندونيسيين والسوريناميين الذين تربطهم علاقات وطيدة بهولندا ترجع إلى سنوات الاحتلال الهولندي لعدد من دول العالم. وجدير ذكره أن استقدام الجاليتين المغربية والتركية قد جاء نتيجة الحاجة الماسة للأيدي العاملة الرخيصة التي كانت تحتاجها هولندا فيما سُمّي بمشروع " مارشال " لإعادة بناء أوروبا غب الدمار الكبير الذي لحق بمدنها وبنيتها التحتية واقتصادها إبان الحرب العالمية الثانية، وتجربة الحكم النازي المريرة. غير أن المسلمين الأتراك والمغاربة ظلوا متوارين عن الأنظار في عقدي الستينات والسبعينات لغير ما سبب. ولعل أبرز هذه الأسباب أن هؤلاء " العمّال الضيوف " بحسب التوصيف السائد حينذاك كانوا ينحدرون من قرى وقصبات نائية، مهمشة، شديدة الفقر سواء في تركيا أو في المغرب، ولم تستطع هذه الشرائح الفقيرة الاندماج في المجتمع الهولندي، أو لم تتقبله في بادئ الأمر بسبب الفروقات الثقافية والاجتماعية والدينية، لذلك فقد ظل وجودهم محصوراً في الورش والمعامل والمصانع، فلا غرابة أن يعيش هؤلاء الوافدون في " منعزلات سكانية " تشبه " الجزر " الصغيرة المسلمة المُحاصرة ببحر متلاطم من المسيحيين البروتستانت، والكاثوليك الأقل نسبة، واليهود الجالية الصغيرة، ذات التأثير الكبير في الحياة السياسية والثقافية والاقتصادية على وجه التحديد.
ملامح الاحتكاك الأولى مع المجتمع الهولندي: لم تستمر عزلة الجاليات المسلمة طويلاً في هولندا في أوائل الثمانينات من القرن الماضي، وبالذات حينما أقرّت السلطات الهولندية بحق الجاليات في " لمّ الشمل " حيث استقدموا عائلاتهم من تركيا والمغرب، وأصبحوا مضطرين تحت " سياسة الأمر الواقع " أن يحتكوا بالمجتمع الهولندي، ويختلطوا بالهولنديين، وسواهم من الجنسيات الأُخَر التي دهمت هولندا في تلك الحقبة التاريخية بحيث أصبحت هولندا، كما هو شأن الكثير من البلدان الأوروبية، صورة مصغّرة للعالم. ومع بدء تحرّك الجاليات المسلمة في تضاعيف المجتمع الهولندي، في التربية والتعليم، بدأت أولى مراحل الاحتكاك التي ولدت لاحقاً انقسامات حادة سببت خسائر غير قليلة للطرفين. ويأتي الجانب الديني في مقدمة هذه الأسباب والمحفّزات لحدوث هذا التصادم " الديني والثقافي والحضاري ". فالمهاجر يريد أن يحافظ على هويته الثقافية والدينية، ويعتقد أن " الآخر الهولندي " يريد أن يطمسها، ويلغيها، ويجبره على الذوبان في " المجتمع الجديد " بعاداته، وتقاليده، وقيمه الثقافية. بينما يعتقد الهولندي أن هذا القادم الجديد متقوقع في " مُنعزَله " ولا يتقبل فكرة التكامل أو الاندماج في المجتمع الهولندي. ثم ظهرت حاجة الجاليات المسلمة لإنشاء المساجد التي يقصدها المسلمون لأداء فريضة الصلاة يومياً، وما تولّد عنها من حاجة ماسة إلى أئمة ورجال دين يؤمّون الناس في صلاتهم ويعظونهم طبقاً لتعاليم الدين الإسلامي الحنيف. من هنا بدأت البذرة الأولى للخلافات التي تسببت لاحقاً في مشكلات عصيّة لم نجد لها حتى الآن حلولاً منطقية تُرضي الطرفين. ولعل أبرز هذه المشكلات تتمثل في عقلية " الأئمة " وطريقة تفكيرهم، فالهولندي يرى أن هذا الأمام القادم من القرى النائية يتمترس خلف رؤىً وقناعات دينية متشددة، وُصفت في الآونة الأخيرة بأنها " سلفية " و " متخلفة " و" تحرّض على الإرهاب " و ما إلى ذلك من صفات سلبية لا تتلاءم مع روح العصر، ومستجداته المتلاحقة. ولا بد من الإشارة إلى أن مصادر الدعم الخارجية قد أدّت دوراً أساسياً في بناء المساجد الإسلامية في العديد من المدن الهولندية. ويذكر د. مصطفى أعراب في مقاله القيّم " هولندا والإسلام.. التسامح الوهمي " الدور الكبير الذي أدّاه بعض المسلمين العرب في تمويل إنشاء الجوامع في الجنوب الهولندي، وتحديداً في مدينتي هيلموند وآيندهوفن، وقد أُعتبرت هذه الأخيرة " مؤئلاً للإرهاب " بحيث اتخذت الحكومة الهولندية مؤخراً إجراءً غير مسبوق قررت فيه طرد ثلاثة أئمة مُنسَّبين إلى جامع " الفرقان " بحجة إخلالهم بالنظام العام، وتهديديهم للأمن الوطني، وتحريضهم للعنف، وتشجيعهم على عزلة الجالية الإسلامية، وفصلها عن المجتمع الهولندي. ويشير د. أعراب إلى أن وزارة الأوقاف التركية لم تترك الحبل على الغارب، بل سيطرت على مسألة التمويل المادي، وقرنت كل ما يتعلق ببناء المساجد وتنسيب الأئمة إلى الحكومة التركية، بينما لم تساهم الحكومة المغربية في أي دعم ملحوظ في هذا الشأن. ويعتقد د. أعراب أن هذا هو السبب الرئيس الذي جعل الجالية المغربية تتقبل كل أشكال الدعم المادي الذي تبيّن لاحقاً أنه مشروط، وينطوي على أهداف محددة تتغلف حيناً بالإحسان، وتتموّه حيناً آخر بالنيات الخيرية. وقد توصل د. أعراب إلى" نتيجة مفادها أن بعض المغاربة قد وقعوا في فخ حركات إسلامية، غير مُرَحّب بها، في مطلع الألفية الثالثة حينما قُتل شابان مغربيان من جنوب هولندا في كشمير" عندها انتبهت أجهزة الأمن الهولندية إلى خطورة الوضع الأمني المحدق بالمملكة. وبالرغم من أن الأجهزة الأمنية لا تفرّق بين مسجد تركي أو إندونيسي أو مغربي إلاّ أن درجة المراقبة على المساجد العربية قد ازدادت بعد شيوع ظاهرة " العرب الأفغان " الذين كانوا يقاتلون الجيش الروسي تحت توصيف " الجهاد الإسلامي ".
الجهاد الليبرالي ضد الجهاد الإسلامي: بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 شنَّ البرلمان الهولندي ما يسمى بـ " الجهاد الليبرالي " على " الجهاد الإسلامي ". وبحسب الإحصائيات الرسمية فقد بلغ عدد المساجد الإسلامية " 400 " مسجد، في حين وصل عدد المدارس الإسلامية إلى " 30 " مدرسة. يا تُرى أتستطيع الأجهزة الأمنية الهولندية أن تفرض رقابة مشددة على هذه المساجد والمدارس والمؤسسات الإسلامية التي انتشرت في عموم المدن الهولندية؟ العارفون بالشأن الهولندي يدركون أن الأجهزة الأمنية قادرة تماماً على ضبط الأمن والنظام في ربوع المملكة، ولكنها ليست قادرة بالتأكيد على كبح جماح بعض الناس المتشددين الذين قد يطلقون النار في وضح النهار على بعض الرموز والشخصيات السياسية أو الثقافية كما حصل لبيم فورتاون، الشخصية السياسية المثيرة للجدل، والذي كان يناصب الأجانب عداءً مُستحكماً، ويطالب بعودة المهاجرين إلى بلدانهم الأصلية، وكذلك مقتل تيّو فان خوخ، المُتهم بازدراء الأديان كلها، ولا يُقتصر ازدراؤه على الإسلام تحديداً، وإنما يمتد إلى المسيحية واليهودية أيضاً. وقد حققت بعض الجوامع الإسلامية شهرة كبيرة بسبب تداولها بين أوان وآخر في مختلف وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة. وبات الناس يعرفون الجوامع الممولة من قبل جهات أو مؤسسات غير مرغوب فيها في هولندا مثل جامع " التوحيد و " بدر " و " الرحمن " و " المسجد الكبير "في أمستردام، ومسجد " الفرقان " في آيندهوفن الذي وَصِف بأنه " حاضنة للإرهاب "، ومسجد " السنة " في لاهاي، ومساجد أُخَر في " بريدا، وتيلبيرخ " وكلها متهمة بأنها تستقطب أناساً متشددين، يغذون التطرّف والإرهاب، ويشجعون على أعمال العنف من وجهة نظر الهولنديين الذين يرون في رجل الدين المغربي أو المُنحدر من أصول عربية متطرفاً يهدد أمن المجتمع، بينما ينظرون إلى التركي أو الإندونيسي المسلم نظرة مغايرة لا تحمل بين طياتها هذه التهم الخطيرة مع ما أن العقيدة الإسلامية هي القاسم المشترك الذي يجمع الجاليات المسلمة برمتها. السؤال المهم هنا هو: لماذا تطرَّف المسلم المغربي، بينما لم يتطرف المسلم التركي أو الإندونيسي؟
ما أسباب تطرّف المسلم العربي؟ هذا سؤال يحتاج إلى إجابة متأنية، ودقيقة. وعلى رغم قناعتي التامة بأن إقصاء الشباب المغربي عن الحياة الهولندية العامة، وعدم توفير فرص العمل لهم، والضبابية التي اكتنفت مستقبلهم، وتفاقم العقد، ومركبات النقص لديهم، إضافة إلى مشاعر الإحباط التي بدأت تتحول إلى أعراض مرضية خطيرة أفضت بهم إلى الوقوع في خانق اليأس المطلق بحيث تحولوا إلى فرائس سهلة لدعاة التطرف، والمروجين له. وهولندا، من جهتها، بدأت تخشى الإرهاب بعد أحداث 11 سبتمبر، والمسلمون بدؤوا يخافون الإجراءات المتطرفة التي قد تتخذها الحكومة، وهم يتذكرون جيداً ما حدث للمسلمين واليهود في الأندلس عندما أقدمت السلطات الأسبانية على طرد المسلمين واليهود في القرن السادس عشر، بينما كان معتنقو الديانات السماوية الثلاث يعيشون في حالة من الوئام الاجتماعي الذي لا ينطوي على أي نوع من المخاطر الحقيقية. إن مقتل بيم فورتاون، في السادس من مايو 2002 في مدينة هيلفرسيم، السياسي الأكثر شعبية في هولندا، والذي كان الضحية الأولى للاغتيال السياسي في هولندا منذ 300 سنة، هو السبب الرئيس الذي كان وراء اختياره كأعظم رجل في هولندا على مر الأزمان. إذ استطاع أن يبزَّ كل من وليام أورانيه "(1533 – 1584) الذي قاد انتفاضة الشعب الهولندي لمناهضة الاحتلال الأسباني لهولندا. وفيلم دريز، رئيس حزب العمل الهولندي (1886 -1988) الذي أرسى أسس " دولة الرفاهية " بعد الحرب العالمية الثانية. وأوشك حادث الاغتيال أن يفجّر أزمة كبيرة في الشارع الهولندي لو لم تسارع الأجهزة الأمنية بالإعلان عن أن القاتل الحقيقي هو مواطن هولندي يدعى فولكيرت فان در خراف، وليس مسلماً ينتمي إلى أحد الجاليات الإسلامية. وقد أُسدل الستار على هذه القضية التي هزّت المجتمع الهولندي، لكنها لم " تتأبد " لمدة زمنية طويلة لأن القاتل لا ينتمي إلى إحدى الجاليات الإسلامية.
الفيلم الذي أوقد فتيل الجهاد الليبرالي: أما في قضية اغتيال الكاتب والمخرج، ونجم الحوارات التلفازية الحيّة، تيّو فان خوخ فإن الدنيا قامت ولم تقعد إلى الآن لأن القاتل مسلم، ويُدعى محمد بويري، ويحمل الجنسيتين المغربية والهولندية، وقد كشفت الصور التي نشرتها له الصحف الهولندية خلافاً لمواثيق العمل الصحفي بلحية طويلة توحي بأنه سلفي، متشدد، ولا ينتمي إلى طائفة المسلمين الشباب المعتدلين الذين يؤدون فرائض الإسلام، ولا يلحقون الأذى بالآخرين. وقد نشرت وسائل الإعلام الهولندية برمتها، أن السبب الرئيسي الذي كان يقف وراء مقتل هذا المخرج، سليط اللسان، هو إخراجه لفيلم " خضوع " الذي هزَّ مشاعر المسلمين في هولندا، وبقية بلدان العالم الإسلامي. ولو توخينا الدقة فإن هذا الفيلم كان أشبه بالشرارة التي فجرت " القنبلة الموقوتة "، فلقد سبق هذا الحادث المؤسف الكثير من المواقف السلبية التي تراكمت، وكبرت مثل كرة الثلج، ولعل أبرزها معاداة الثقافة الإسلامية، ونعتها بـ " المتخلفة " أو " عدم ملاءمتها لروح العصر " أو التهجّم على مقام الرسول الكريم، ووصفه بألقاب جارحة. ومن بين الشخصيات التي كانت طرفاً في هذا النزاع الزعيم الليبرالي فريتس بولكستاين، الذي يشغل الآن منصب مندوب الاتحاد الأوروبي للشؤون الداخلية، وعضو البرلمان خيرت وايلدز الذي ينتقد الإسلام بقوة، ويرفض انضمام تركيا إلى عضوية الاتحاد الأوروبي، ويتبنى مواقف صارمة إزاء اللاجئين الأجانب. وقد ترك العمل في الحزب الليبرالي أو " حزب الشعب للحرية والديمقراطية " والمعروف بالهولندية " VVD " في سبتمبر 2004، وشكَّل حزبه السياسي الخاص به، والمناوئ للأجانب علناً. إن مقتل الكاتب والمخرج السينمائي تيّو فان خوخ قد أذكى المشاعر العنصرية الثاوية في أعماق المجتمع الهولندي، وقد تجسدت هذه المشاعر المعادية عن طريق أعمال العنف التي شهدتها بعض المدن الهولندية كحرق ما يقارب من ثلاثين جامعاً ومدرسة ومؤسسة إسلامية، كما تم الاعتداء على بعض الكنائس وحرق محتوياتها أيضاً من قبل شباب هولندي متطرف. يستخلص الباحثون والمعنيون بالشأن الهولندي أن المتطرفين من المسلمين يتحملون قسطاً كبيراً مساوياً للقسط الذي يجب أن يتحمله السياسيون والمثقفون الهولنديون الذين يقفون وراء هذه الاستفزازات التي تمس بقوة مشاعر المسلمين.
ما حكاية الفيلم الذي أساء لمشاعر المسلمين في مختلف أرجاء العالم؟ لم يُثِر الفيلم الهولندي " خضوع " الجاليات الإسلامية في هولندا حسب، وإنما أدى إلى اغتيال مخرج الفيلم تيّو فان خوخ، ورميه بسبع طلقات نارية، وطعنه بسكين كبيرة، من قبل إسلامي متطرّف " 26 عاماً " يحمل الجنسيتين المغربية والهولندية. وهذا ما أعاد إلى الأذهان الطريقة البشعة التي أُغتيل بها السياسي الهولندي اليميني المتطرف بيم فورتاون في السادس من مايو 2002، والذي كان يجاهر بعدائه للمهاجرين واللاجئين الأجانب، ويدعو إلى طردهم تحت شعار عنصري مفاده " هولندا للهولنديين ". يا تُرى، ما حكاية هذا الفيلم؟ ولماذا أقدم القاتل على الإمعان في جريمته، وطعنَ المخرج تيّو فان خوخ، بسكين كبيرة مرتين، وغرز سكيناً أصغر في جانب صدره، بعد أن أرداه قتيلاً بسبع طلقات نارية؟ ويُقال إنه ذبحه من الوريد إلى الوريد حسبما ادعت بعض الصحف الهولندية! وما هو مضمون الرسالة التي تركها القاتل المتشدد فوق جثة الضحية في صبيحة الثاني من نوفمبر " تشرين ثاني " 2004 ؟ ولماذا لم يأخذ تيّو فان خوخ تهديدات القتل التي وردت إليه عبر الهاتف، والرسائل العادية والإليكترونية على محمل الجد، بينما لم تكن أيان هيرسي علي، كاتبة السيناريو، صومالية الأصل، تخرج من منزلها السري إلاّ بصحبة عدد من الحرّاس الشخصيين الذين يؤمِّنون لها الحماية الدائمية؟ ولماذا وقع اختيار مخرج الفيلم، المثير للجدل، والذي أثار حفيظة العائلة المالكة غير مرة مُوجهاً لها انتقادات حادة، على أيان هيرسي علي، العضو الناشط في الحزب الليبرالي الهولندي " VVD "، والتي تشغل منصب عضو في البرلمان الهولندي الحالي، والمعروفة بمواقفها المُستفزة للإسلام والمسلمين، وقد سبق لها أن هُددت بالقتل لأنها وصفت الرسول الكريم بأوصاف شتى لا تليق بمقامه من بينها أنه كان " مُستبداً، ومُعقداً، وعنيفاً، ويضيق بحرية الرأي، ويأمر بقتل معارضيه، ولا يؤمن بحرية المرأة. ". إضافة إلى نعوت مُخجلة أُخَر لا يمكن ذكرها في هذا المقال. كما تجاسرت على القول إن " الدين الإسلامي هو دين متخلف ". وقد سبق لها أن وجهت انتقادات شديدة إلى المدارس الإسلامية في هولندا والتي اعتبرتها بؤراً للتخلف تعوق اندماج المسلمين في المجتمع الهولندي المتحضر. هذا إضافة إلى برنامجها التلفزيوني الذي تتهجم بواسطته على الدين الإسلامي، وتشهِّر بأركانه وتعاليمه التي لا تقيم وزناً للمساواة بين الرجل والمرأة، وتطمس خيار المرأة الفردي، وتجعلها تابعة للرجل، ومحظية له ليس غير. وقد صدّرت كتابين في هذا الخصوص أثارا الكثير من الجدل وهما " مصنع أطفال " و " قفص العذراوات " وهي تقول إن المرأة المسلمة ليست غير موضوع جنسي بالنسبة للرجل المسلم، وحاضنة لتفريخ الأطفال، وأسيرة لبيت الزوجية الذي لا تغادره من دون محرم. وعلى وجه المناسبة فإن ثيمة الفيلم تحمل بعضاً من سمات السيرة الذاتية لأيان هيرسي علي التي كتبت السيناريو، وحشّدت فيه العديد من النقاط السلبية التي يمكن لها أن تثير كراهية الناس للإسلام، وتؤلّب غير المسلمين عليه. ومن بين هذه النقاط قضية " الزواج القسري ". فالمعروف أن أيان هيرسي قد أُجبرت من قبل والدها على الزواج من ابن عم لها مقيم في كندا، وفي طريق رحلتها إليه، توقفت في ألمانيا، وركبت من هناك القطار إلى هولندا طالبة حق اللجوء. لنتوقف عند بنية " الصدمة والذهول " التي يعتمدها المخرج تيو فان خوخ في العديد من أفلامه، والذي يعتبره الهولنديون مثل مايكل مور هولندا لأنه يتحرّش بالعائلة المالكة، ويتصدى في أفلامه ومسلسلاته التلفزيونية إلى الوزراء والمسؤولين في المملكة بجرأة نادرة بحيث جلبت هذه الشجاعة جمهوراً واسعاً يحبه على الصعيد الشخصي، ويتابعون أفلامه، وبرامجه التلفازية، ويقرؤون أعمدته المُستفزة في الصحف والمجلات التي ضاقت به ذرعاً. تقنية الصدمة والذهول في فيلم " خضوع ": تُوحي كلمة " خضوع " باستسلام المرأة لله بصورة عامة، وللرجل بصورة خاصة، ولقدَرِها بالمعنيين الحقيقي والمجازي، ما لم تحرّك ساكناً، وتثور على قمع الرجل المسلم، والتصدي لمحاولاته المستميتة لاضطهاد المرأة، وتحويلها إلى كائن ثانوي، تابع له. اختارت كاتبة السيناريو أيان هيرسي أربعة نماذج نسائية سلبية كلها من دون استثناء. وفي مفتتح الفيلم نرى امرأة مسلمة تؤدي فريضة الصلاة، وثمة راوٍ عليم يسرد لنا قصص النساء الأربع، وبينما تقترب الكاميرا من هذه المرأة المتلفّعة بحجاب أسود شفاف يكشف عن تفاصيل جسدها، ومفاتنه، إضافة إلى حلمتي نهديها، وأهم من ذلك تصدمنا الآيات القرآنية المخطوطة بعناية فائقة على جسدها، وبالذات على بطنها، وخصرها، وأخرى على ظهرها كله بما فيه أعلى الوركين. وقد انتقت هيرسي الآيات القرآنية التي تُنزل العقاب بالمرأة الزانية أو التي تخرج من دون علم زوجها، أو المرأة التي لا تطيع زوجها، ولا تستجيب لرغباته الجنسية في الفراش. وبحسب سيناريو الفيلم فإن المرأة الأولى زُوجت قسراً من رجل لا تحبه، وبالتالي فإن هذه المرأة مُرشحة لأن تكون " بغياً " لأنها تكره زوجها، ولا تجد متعة جنسية في مشاركته الفراش. والثانية تُغتصَب من قِبَل ابن عمّها، وتحمل منه جنيناً في رحمها، ولك أن تتخيل الوضع النفسي لامرأة مُغتَصَبة وحامل ممن لا تحب. والثالثة متزوجة من رجل يشبعها يومياً ضرباً بالسياط بعد الانتهاء من العملية الجنسية للإشارة بأن الرجل المسلم سادي، والمرأة المسلمة مازوشية، أما الرابعة فإنها تتعرض للضرب بسبب ومن دون سبب للقول إن الرجل المسلم يستعرض قوته على زوجته فقط، ويمارس وحشيته على المرأة المسلمة، وهذا ما يدفع ببعض شخصيات الفيلم إلى الانخراط في مونولوغ مع الله سبحانه وتعالى يشكينَ فيه ظلم الرجال بسبب هذه القوة البدنية التي منحها إياهم الله.، واحدة منهن، تمثيلاً لا حصراً، تقول " أنا أصلي من أجل الخلاص، وأنت صامت كالقبر الذي أتوق إليه " وأخرى تقول " يا أيها الرب العظيم، أنت تقول إن الرجال حماة المرأة وصائنوها لأنك أعطيتهم القوة أكثر من الجنس الآخر، أنا أشعر مرة، في الأقل، في كل أسبوع بقوة قبضة زوجي على وجهي. ". إحدى الشخصيات امرأة عروس ترتدي ثوب زفافها الأبيض، بينما ينكشف ظهرها بالكامل، وساقاها الملسوعان بالسياط، وقد خُطت على مفاتنها آيات قرآنية تتناول العقاب الذي يُلحق بالمرأة الزانية، أو التي تمارس الحب خارج إطار العلاقة الزوجية. وهذه الآيات التي نشاهدها مخطوطة على أجساد الممثلات هي " الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَد عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِين." 2 "سورة النور". " كما نقرأ على ظهر امرأة أخرى الآية التالية "الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً." 34 النساء ". وفي الآية الكريمة الثالثة نشاهد: "وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ." 222 "سورة البقرة ". أما الآية الرابعة والأخيرة فنقرأ: " وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الارْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. " 31 " سورة النور". أثار هذا الفيلم القصير " 10 دقائق " ضجة كبيرة بعد عرضه على القناة التلفازية الهولندية " VPRO " ليلة 29 أغسطس 2004، وهو الجزء الأول من ثلاثية، غير أن يد التطرف لم تعطه الفرصة لإنجاز الجزأين الآخرَين، فاغتالته واغتالت معه الأجزاء المتبقية أو الثاوية في مخططاته وأحلامه. وقد وصفه رئيس الوزراء الهولندي يان بيتر بالكننده بـ " بطل حرية الرأي "، وقد صُعق الجميع بمقتله بمن فيهم الملكة التي لم تسلم هي الأخرى من انتقاداته الحادة، ولسانه اللاسع، وبالذات بعد أن انتمى إلى مؤسسة ثقافية تناهض الملكية العداء، وتنتقد نهجها وأطاريحها في الميديا الهولندية. كان تيو فان خوخ، وهو قريب الفنان الهولندي المعروف فنسنت فان خوخ، مخرجاً، وكاتب سيناريو، ومونتيراً، ومُنتجاً، وممثلاً ناجحاً، وناقداً مهماً في الوسط الثقافي الهولندي. وعلى رغم صغر سنه " من مواليد لاهاي، 1957 " فقد أخرج أكثر من عشرين فيلماً منذ عام 1981 إلى الآن، وقد نال العديد من الجوائز على بعض أفلامه المثيرة للجدل، مثل فيلم " تاريخ أعمى " 1996، و " لمصلحة الدولة "، إذ حصل على جائزة " العجل الذهبي " مرتين متتاليتين، وهذه الجائزة الهولندية هي موازية للأوسكار في فرنسا. من أبرز أفلامه التي رسّخت سمعته كمخرج ناجح ذي حضور قوي في السينما الهولندية نذكر " يوم على ساحل البحر 1984، العودة إلى أوخستخيست 1987، ضوء كاذب 1993، إليزا تغيّر التاريخ 1993، " لمّ الشمل 1994، إيفا 1994، غاليري: يأس السيرانه 1994، تاريخ أعمى 1996، كيف قتلت أمي؟ 1996، لمصلحة الدولة 1996، نجيب وجوليا 2002، مقابلة 2003، رؤية 2004، خضوع 2004 ". وقبل وفاته كان تيو فان خوخ منهمكاً في إخراج فيلم آخر يحمل عنوان " 0605" ويتمحور حول قضية اغتيال السياسي الهولندي المعروف بيم فورتاون، فضلاً عن مجموعة أُخَر من الأفلام المشاكسة والمُثيرة للجدل. وفي مجال الدراما التلفزيونية أنجز تيو عدداً من المسلسلات الطويلة التي أحبّها الجمهور الهولندي، وتفاعل معها بقوة هو مسلسل" نجيب وجوليا " المستمد من مسرحية شكسبير المعروفة " روميو وجولييت " وقد جسدت دور جولييت لاعبة هوكي هولندية، بينما جسد دور روميو موزع بيتزا مغربي. وفي مضمار الكتابة النقدية الساخرة التي تنطوي على كوميديا سوداء أنجز تيّو أربعة كتب، أبرزها كتابه الأخير المعنون " الله أعلم " 2003 الذي ينتقد فيه الإسلام والمسلمين بعد أحداث 11 سبتمبر. كما يتفق الكاتب والمخرج تيو فان خوخ مع أيان هيرسي بضرورة إنقاذ المرأة المسلمة من العنف البدني، والنفسي الذي تتعرض له في المجتمعات الإسلامية. وجدير ذكره أن كاتبة السيناريو، أيان هيرسي، التي تعيش في مخبئ سري بعد مقتل المخرج تيو فان خوخ قد تتعرّض لفقدان منصبها البرلماني بعد تصاعد وتيرة المطالبات التي تؤكد ضرورة تنحّيها من هذا المنصب الحساس الذي يجب أن يوحد مختلف الشرائح الاجتماعية، ولا يفرق بينها، وأن يؤاخي بين الأجانب والسكان الأصليين، لا أن يُحدث الانقسامات الحادة والخطيرة، ويهدد أمن البلد، ويزعزع استقراره بواسطة الأطاريح المسمومة التي تساهم في تغذية المشاعر العنصرية التي تبغضها الإنسانية جمعاء. مستقبل الإسلام والمسلمين في هولندا: في عصر الفتوحات الإسلامية انتشر الإسلام في أكثر بقاع العالم حيوية والتي تمتد من الصين شرقاً حتى فرنسا غرباً، وبالرغم من اختلاف وجهات النظر فيما إذا كان المسلمون فاتحين محررين أو غزاة طامعين فإن الإسلام قد نشر قيم العدالة والمحبة والسلام، وساهم في بناء حضارة إسلامية عريقة يشهد بأهميتها القاصي والداني على حد سواء. وبعد سقوط " الأندلس " خرج المسلمون من أوروبا، ولم يعودوا إليها إلاّ في النصف الثاني من القرن العشرين، أي بعد خمسة قرون على وجه التحديد، ولكنهم لم يأتوا هذه المرة " لا فاتحين ولا محررين " وإنما جاؤوها " لاجئين، هاربين من ظلم أنظمتهم السياسية القمعية، وباحثين عن لقمة الخبز التي يسدّون بها رمقهم، وحالمين بمستقبل أفضل لهم ولأطفالهم، ومتمتعين بفضاء الحرية الذي يحترم إنسانية الإنسان، ولا يحطّ من قدره وكرامته. وإذا كانوا قد فرضوا في المرة الأولى قيمهم وتقاليدهم الثقافية على المجتمعات التي فتحوها، فإن عليهم هذه المرة أن يتقبلوا القيم والتقاليد الثقافية الجديدة، ويتفاعلوا معها من دون التفريط بهويتهم الثقافية والدينية، وهذا الأمر لا يتحقق من دون الانتباه إلى جملة من الشروط والخصائص التي يجب مراعاتها، والتعامل معها على وفق معطيات العصر الجديدة. ولعل أبرزها شعور الجاليات المسلمة بالمواطنة الحقيقة التي تترتب عليها حقوق وواجبات يكفلها الدستور الدائم للبلد الأصلي بحيث تزول عقدة الإقصاء والتهميش والخوف من كون الأجنبي مُهدداً بسحب الجنسية وأوراق الإقامة الرسمية وما إلى ذلك. فليس من حق الدول المانحة لحق اللجوء السياسي والإنساني أن تجرّد " المواطن الجديد " من أوراقه الرسمية لمجرد جريمة أو جنحة أو جناية يحاسب عليها القانون، بل هناك عقوبات تُفرض على المواطنين الأصليين والوافدين الجدد على حد سواء، وقد بدأت السلطات الرسمية تطرد بعض الوافدين الجدد المتجنسين بالجنسية الهولندية في حال تورطهم بجرائم " تهدد النظام العام، وتشكل خطراً على الأمن القومي " كما في حالة الأئمة الثلاثة المنحدرين من أصول بوسنية، وكينية، ومصرية. فاللاجئ المسلم بحاجة إلى الشعور بالاطمئنان، والتخلص من عقدة الخوف والاضطهاد والشعور بالدونية، كما يجب على المسلم أن يندمج بالمجتمع الهولندي من دون خوف على ضياع هويته، لأن ثقافته ليست هشة إلى هذا الحد بحيث يمكن للآخرين أن يطمسوها بمجرد خروجه من قوقعة الذات أو انفلاته مما يسمى هنا " بالغيتو الإسلامي ". وفي أغلب البلدان الأوروبية هناك جاليات من مختلف أرجاء العالم تعيش بحب ووئام ولا تشعر بهذه الخشية المفرطة على دينها أو ثقافتها، غير أنها سعت للاقتراب من المجتمع الهولندي، وانفتحت عليه، تماماً كما انفتح المجتمع الهولندي عليهم. ولهذا ظهرت توصيفات جديدة من قبيل " الإسلام الأوروبي " و " الإسلام الأمريكي " كما يذهب د. محمد نعمان جلال، وهو نوع من الإسلام الذي يتفاعل مع الحضارات الأُخَر، ويحتويها، ويستجيب لشروطها الحياتية والاجتماعية، وينفتح عليها من دون التضحية بالثوابت الأساسية للديانة الإسلامية السمحاء. إن الجاليات الإسلامية في هولندا، وفي عموم العالم الغربي مطالبة بنبذ العنف، والتشدد، ومقارعة الأصولية والجمود، والانفتاح على المجتمعات الغربية، والتخلي عن فكرة التقوقع والانعزال، والدخول في حوارات بناءة مع أبناء الديانات السماوية الأُخَر التي كان الرسول " ص " يحاورها، ويدخل معها في نقاشات مفيدة ومثمرة. خصوصاً وأن الأمة العربية والإسلامية قد شهدت في العقود الخمسة الأخيرة نهضة تنويرية جديدة مثّلها العديد من المفكرين الإسلاميين الذين يتمتعون بمنزلة مهمة في العالمين الشرقي والغربي على حد سواء. ونخض بالذكر منهم أولئك الذين يركزون على إبقاء باب الاجتهاد مفتوحاً، و يشجعون على إعمال الذهن، ولا يستهينون بالعقل البشري، فالإنسان خليفة الله على الأرض. " إذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة " 30 " سورة البقرة ". فالإنسان العالم، ورجل الدين المتفتح قادران على غربلة الفكر الإسلامي مما علق به من أوهام وتفسيرات خاطئة ألحقت بالإسلام أذىً كبيراً. فمنذ انقطاع الوحي ألقيت المسؤولية على كاهل رجل الدين المتفتح الذي يزن الأمور بميزان العقل الراجح الذي وهبه الله إياه من أجل خدمة الناس جميعاً بحيث تنسجم تأويلاته مع الحقبة الزمنية التي يعيشها، وتكشف طبيعة الحياة في الألفية الثالثة. وإذا كان بعض من المنظرين والساسة الغربيين يروّجون بأن الإسلام هو العدو الرئيسي لأمريكا والعالم الغربي برمته بعد انهيار الشيوعية، وانحسار الاتحاد السوفييتي السابق، وهيمنة أمريكا الشمالية بوصفها القطب الأوحد الذي يقود العالم، فإن على المثقفين ورجال الدين المتفتحين، والحريصين على الإسلام أن يوضحوا أن " الأصولية والإرهاب " هما أعداء الإسلام قبل أن يكونا أعداء أمريكا والعالم الغربي. وعلينا أن نسعى بشكل أو بآخر لتغيير هذه الصورة النمطية التي أضرت بنا كثيراً، وشوّهت سمعتنا أمام العالم برمته. علينا كمسلمين متفتحين أن ندعو إلى حوار الحضارات لا إلى صراعها، وأن نشجع على الاندماج في المجتمعات الغربية، لا أن نروّج إلى العزلة والتقوقع. وأن نتصف " بالمرونة والعقلانية والتحديث " كما يؤكد د. محمد نعمان جلال طالما أن هناك اعتقاداً سائداً لدى المسلم مفاده " أن الإسلام صالح لكل زمان ومكان " ويجب علينا ألاّ نكتفي بترديد هذه المقولة وإنما نسعى لتطبيقها في مختلف بلدان العالم. وكلنا يعرف أن البشرية فيها أديان سماوية متعددة، وأن الإسلام هو أحد هذه الأديان، وليس الدين الوحيد، ولنا في الآية الكريمة خير شاهد حيث يقول الله جل في علاه " ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم. " 22 "سورة الروم". وما يعزز هذا الرأي الآية الكريمة التالية التي تقول: " ولو شاء ربك لجعل الناس أمَّة واحدة. " 118 "سورة هود". لا بد من الإقرار أن الدين هو أحد المكونات الأساسية لأي شعب من الشعوب، وهو لا يقل أهمية عن اللغة، والتاريخ، والثقافة. والدين شأنه شأن المكونات الأُخَر في أي مجتمع لا يخلو من بعض المفهومات العصية، والشائكة، والملتبسة بحيث تحتمل الخطأ والصواب. وطالما أن الديانات السماوية تؤمن كلها بإله واحد، وتدعو إلى الخير والمحبة والعدل والسلام، فإن الحوار ممكن، وشرط لا بد منه. وهذا يعني من بين ما يعنيه أن ثنائية المركز والأطراف قد انتفت، وأن الأديان تكاد تسير في خطوط متوازية، وليست لأية ديانة امتياز على الأخرى، وربما تنسجم الآية الكريمة مع الهدف الأشمل عندما يقول الله سبحانه وتعالى " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا " الحجرات 13 " وهذا التعارف لا يلغي الآخر، بل يندمج فيه، ويتساوق معه، ويفيد منه، ويفيده. من هنا يجب علينا أن نطوّع ثنائية " المركز والأطراف " من أجل تخفيف النبرة الاستعلائية لأية مؤسسة دينية تمثل هذه الديانة أو تلك كي لا يتولد الإحساس بالضعف، أو الشعور بالدونية لدى القائمين على المؤسسات الدينية الأُخَر. علينا كمسلمين أن نعترف بحقيقة دامغة مفادها أننا لا نستطع أن نلغي أو نستبعد أو نقصي أية ديانة أخرى، وأننا لا يمكن بأي شكل من الأشكال أن ندعي امتلاك الحقيقة كاملة، ولا نستطيع أن نحتكرها لأنفسنا، بل يمكننا أن نفتح بجدارة حواراً متفتحاً، ليس على مستوى الدين حسب، بل أن نخوض في حوار حضاري يمتد من الثقافة والفنون، ويمر بالفكر والفلسفة، وينتهي بمختلف العلوم الإنسانية المتاحة أمام الكائن البشري. فنحن أبناء معمورة واحدة، وعلينا أن نرسّخ مفهوم الاحترام المتبادل بين الشعوب، وأن نسعى لإظهار الحقائق التي تمتلكها كل الأطراف المتحاورة بعيداً عن الدسّ، والتشويه، والتزوير متتبعين أدب الحوار الذي يحضُّ عليه القرآن الكريم كما ورد في الآية الكريمة التالية "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن.. إن ربك هو أعلمُ بمن ضلَّ سبيله، وهو أعلم بالمهتدين " 125 " سورة النحل ".
#عدنان_حسين_أحمد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المخرج فرات سلام لـ - الحوار المتمدن -:أتوقع اقتراب الولادة
...
-
موسوعة المناوئين للإسلام - السلفي - والجاليات الإسلامية - ال
...
-
التراسل الذهني بين فيلمي (ان تنام بهدوء) و(معالي الوزير) الك
...
-
الرئيس الجيورجي ميخائيل ساكاشفيلي والثورة الوردية: حليف أمري
...
-
فرايبيرغا، رئيسة لاتفيا الحديدية: تتخلص من تبعية الصوت الواح
...
-
-المخرج فرات سلام في شريطه التسجيلي الجديد - نساء فقط
-
صمت القصور - فيلم من صنع امرأة: كشف المُقنّع وتعرّية المسكوت
...
-
في زيارته الثالثة لأوروبا خلال هذا العام جورج بوش يحتفل باند
...
-
سمفونية اللون - للمخرج قاسم حول: شريط يجمع بين تقنيات الفيلم
...
-
الروائي بختيار علي لـ - الحوار المتمدن -: النص لا يخضع لسلطة
...
-
في جولته الجديدة لكل من لاتيفيا وهولندا وروسيا وجيورجيا جورج
...
-
التشكيلي سعد علي في معرضه الجديد - المحبة في مدينة الليمون -
...
-
الملكة بياتريكس في يبويلها الفضي: لا نيّة لها للتخلي عن العر
...
-
نزلاء حتى إشعار آخر - للمخرج فرات سلام: فيلم تسجيلي يقتحم قل
...
-
المخرجة الإيرانية رخشان بني اعتماد: - سيدة أيار - إدانة صارخ
...
-
التشكيلي ستار كاووش لـ ( الحوار المتمدن):أنا ضد المحلية البح
...
-
المخرج هادي ماهود في فيلمه الجديد - سندباديون - أو - تيتانك
...
-
جهاد أبو سليمان في فيلمه التسجيلي - أستوديو سعد علي -: رؤية
...
-
أول امرأة هولندية تُصاب بجنون البقر، وتسبب هلعاً جماعياً
-
المخرج العراقي ماجد جابر في فيلمه التسجيلي الجديد - المقابر
...
المزيد.....
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف تجمعا للاحتلال في مستوطنة
...
-
“فرحة أطفالنا مضمونة” ثبت الآن أحدث تردد لقناة الأطفال طيور
...
-
المقاومة الإسلامية تواصل ضرب تجمعات العدو ومستوطناته
-
القائد العام لحرس الثورة الاسلامية: قطعا سننتقم من -إسرائيل-
...
-
مقتل 42 شخصا في أحد أعنف الاعتداءات الطائفية في باكستان
-
ماما جابت بيبي..استقبل الآن تردد قناة طيور الجنة بيبي وتابعو
...
-
المقاومة الإسلامية في العراق تعلن مهاجتمها جنوب الأراضي المح
...
-
أغاني للأطفال 24 ساعة .. عبر تردد قناة طيور الجنة الجديد 202
...
-
طلع الزين من الحمام… استقبل الآن تردد طيور الجنة اغاني أطفال
...
-
آموس هوكشتاين.. قبعة أميركية تُخفي قلنسوة يهودية
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|