المفهوم، أو الأفهوم كما يفضل البعض تعريب مفردة الـconcept، هو ما آلت اليه استخدامات المفردة بصيغة معانٍ اصطلاحية كثيرة ومختلفة، الي ان رست علي منظومة من المعاني والدلالات تترابط في ما بينها، في ما يمكن ان نسميه إطاراً لمجموعة متداخلة من المعاني تفترض وتستدعي حضورها وتداخلها معاً، كما تكون قابلة للتجريد والتعميم. فإذا افترضنا ان المواطنة هي مفهوم فإن الافتراض بهذا المعني يستدعي الي الذهن أسئلة تردنا الي بنيات وتاريخ تحولات في فقه اللغة والمصطلحات، والي مآلات جديدة في الاستخدام خلال التجربة التاريخية.
أضحي تعبير المواطنة جزءاً من ثقافة اجتماعية وسياسية جديدة يعبر عنها بالحداثة، وجزءاً من نظام سياسي يقوم علي الدستور، ودولة وطنية تقوم علي السيادة الوطنية، سيادة شعب علي أرض محددة، وجزءاً من حقوق وواجبات ينتظم فيها الفرد بموجب عقد اجتماعي يضحي الفرد فيه مواطناً في دولة.
تحقق ذلك في التاريخ الغربي الحديث، وكان أبرز تجلياته اعلان الاستقلال الأميركي (6771) وأفكار الثورة الفرنسية وقبلها أدبيات التنوير، وفي صورة خاصة اعلان حقوق الإنسان والمواطن في العام 9871.
هذه الإحالات لاستحقاقات حصلت نسبياً في شكل متفاوت في غضون القرن التاسع عشر في أوروبا والولايات المتحدة يجعلها الدارسون أسساً مكونة للمفهوم، مفهوم المواطنة. بل ان الانتكاسة التي منيت بها أوروبا في غضون حربين عالميتين خلال القرن العشرين وظهور الدول التوتاليتارية والفاشية والنازية، جعلا من المسألة الديموقراطية المتمحورة حول حقوق المواطن، مسألة محورية، بذلت جهود فكرية ودستورية لحمايتها كمكسب تاريخي ولتطويرها باتجاه توسيع أطر الحريات والحقوق للمواطن - الإنسان. فكان توسيع شرعة حقوق الإنسان باتجاه حقوق المرأة والطفل والعمل والمعوقين والمهمشين ومؤسسات المجتمع المدني والاعتراف بنسبية الثقافات وتعددها، واحترام حقوق الأقليات. يكتب آلان تورين Alain Touraine في ما هي الديموقراطية؟ وتأسيساً علي هذا الهاجس الذي يهدف الي اعادة احياء المجال السياسي للديموقراطية وتطويره في النصف الثاني من القرن العشرين بل في أواخره: ينبغي تحديد الديموقراطية لا بوصفها تغلب الجامع والشامل علي الخصوصيات، بل بوصفها تمثل الضمانات المؤسسية التي تتيح الجمع بين وحدة العقل الوسائلي وبين تنوع الذاكرات، الجمع بين التبادل والحرية، فالديموقراطية هي سياسة الاعتراف بالآخر كما قال شارل تيلور (تورين ص 8). وهي كما يشير عنوان كتابه بصيغة السؤال: هي حكم الأكثرية أم ضمانات الأقلية؟ .
والخلاصة ان مفهوم المواطنة يحيل الي شرطين أساسيين:
- الدولة الوطنية، وما يستتبع ذلك من اقامة مجتمع قومي، (وطني) يقوم علي اختيار ارادة العيش المشترك بين أبنائه.
- والنظام الديموقراطي واستداعاءاته الكثيرة علي مستوي التوازن بين الحقوق والواجبات، بين الخاص والعام، وبين الخصوصيات والشمول.
تلك هي مرجعية مفهوم المواطنة كما استقرت تأسيساً علي تجربة تاريخية أضحت عالمية، مهما اجتهدت أطراف بحصرها بالغرب، تارةً بحجة المغايرة والخصوصية القومية أو الدينية كما يفعل بعض الإسلاميين والقوميين، أو بحجة اختلاف طبائع الثقافات وصراعاتها الأبدية (هنتنغتون) أو تارةً أخري بحجة التفاوت في درجة التطور والتقدم بين عالم تاريخي محكوم عليه بالصراعات العضوية والدموية والأهلية (ومنه العالم الإسلامي) وبين عالم أنهي فصل التاريخ فدخل مرحلة ما بعد التاريخ، وهو العالم الديموقراطي الغربي، (فوكوياما).
ولا نرغب هنا في مناقشة مثل هذه الأطروحات، ذلك ان الإشارة لها تستهدف تقديم تصور conception لمفهوم المواطنة عبر احالتها الي مرجعيتها التاريخية أي الي التجربة التاريخية - الغربية التي أضحت، علي الرغم من المقاومات الايديولوجية لها في الاطراف أو في المركز وعلي الرغم من التنظير الاتنولوجي أو التاريخاني الأحادي الجانب والحصري عند بعض الدارسين الغربيين، تجربةً تنحو لأن تصبح نموذجاً عالمياً، ومن هنا نعتها المواطنة بصفة المفهوم بالمعني الفلسفي، أي الفكرة بوصفها مجردة وعامة أو علي الأقل قابلة للتعميم .
لكن هذا التجريد أو التعميم، لفكرة المواطنة لا يستبعد ضرورة المقارنة بين المرجعيات المختلفة وكذلك بين التواريخ المختلفة، ذلك ان الوعي التاريخي، وبما هو وعي لحال انعطاف أو تحوّل أو تغير سريع أو بطيء في مسار الذهنيات والعقليات والأفكار وكذلك في المفردات والمصطلحات وفي المؤسسات والهياكل وطبيعة السلطات والدول وعلاقات الانتاج والتبادل، يفترض (أي الوعي) وضع المسارات التي تختزنها وتحفظها الذاكرات الفردية والجماعية عبر الرواية الشفهية أو النصوص المكتوبة أو السلوك المعيش، أو الرموز اللغوية الواعية أو غير الواعية في مجال البحث التاريخي والاتنولوجي لإدراك أوجه الاختلاف والتمايز بين التصورات المختلفة للمفهوم الواحد الذي أضحي عاماً وبالتالي عالمياً وهو مفهوم المواطنة . من هنا قد يكون مفيداً ان نجري مقارنة بين مصطلح مواطن في المرجعية العربية، ومفردة Citoyen في المرجعية العربية:
تعطي القواميس الأجنبية لمعني citizenship أو citoyen أي عضو المدينة ، معني الانتماء الي المدينة La citژ. وتعبير المدينة يفيد في الاصطلاح اليوناني واللاتيني القديم، معني التنظيم السياسي في منطقة، فالمدينة citژ قبل ان تكون أرضاً (أي مدينة وريفاً مجاوراً) هي هيئة جماعية un organisme collectif: يجمع بين أعضائها وحدة تاريخية ونمط من العبادات والشعائر Culte. والمنتمـي الـي هـذه الـهيـئـة هو ما يسمي عضو المدينة أيCitoyen.
فثمة علاقة حميمة بين الهيئة والعضو فيها: المدينة الحقة تنجب العضو الحق، كان هذا ما عبّر عنه أفلاطون في الجمهورية عندما شدد علي العلاقة الحميمة بين السياسة والأخلاقيات Ethique et politique. كذلك فإن أرسطو كان يميز الإنسان عن الحيوان بانتماء الأول الي مدينة. وهذا المفهوم للمدينة اليونانية (المدينة - الدولة) كان يحيل الي مبدأ سيادة القانون الذي عرف باليونانية بتعبير nomos الناموس.
ومهما يكن من أمر نظام المدينة اليونانية الذي وزّعه هيرودوت علي أنماط ثلاثة: النظام الديموقراطي والأوليغارشي والملكي monarchie، فإن مدينة أثينا الديموقراطية هي التي استحوذت علي الاهتمام في دراستها كنموذج للديموقراطية اليونانية القديمة وكمرجعية لتوصيف العضو فيها أي المواطن، سواء لناحية الانتماء أو لناحية حق المشاركة في الحياة السياسية فيها. حيث تمارس حرية الفرد بحماية المدينة . علي ان المرجعية اليونانية التي شدد عصر النهضة الأوروبية (بدءاً من القرنين الخامس عشر والسادس عشر)، علي العودة اليها في الآداب والفنون والأفكار السياسية، لم تكن إلاّ ذريعة لمواجهة الكنيسة القروسطية التي كرّست مبدأ الحق الإلهي في الحكم، ولمقارعة وظيفة الاستقواء السياسي بالدين ورفض خلط الأدوار في السلطات، وهي الحالة التي مثلتها قروناً في أوروبا الامبراطوريات الشاملة والملكيات المطلقة، وفيها زال المفهوم الأثيني للمواطن والذي يرتكز انتماؤه الي مبدأين: الحرية والمساواة أمام القانون، ليسود في المجتمعات القروسطية الأوروبية، مبدأ الانتماء الي الكنيسة والطاعة المكرسة للملك، وذلك وفقاً لخطوط طبقية حادة كان يمليها نظام الاقطاع السائد. والمقصود بالذريعة أو الوسيلة هنا ان العودة الي التاريخ اليوناني والروماني أيضاً، كانت بمثابة الاستجابة لظروف تاريخية جديدة أطلقتها عملية نشوء المدن التجارية وحركة الاكتشاف والتوسع والأنسنة ونتائج الحروب الدينية المدمرة التي جيّشت الحشود البشرية علي قاعدة الانتماء المتعصب للفرقة الدينية، فكانت أفكار مكيافيللي للفصل بين السياسة والدين، ودعوة لوك الي التسامح من خلال الفصل بين السلطتين الدينية والمدنية، ودعوة هوبس الي الدولة - الحكم (الأقوي في المجتمع) وصولاً الي مبدأ الفصل بين السلطات عند مونتسكيو - كانت كل هذه التحولات في الأفكار بمثابة المواكبة لتاريخ جديد يصنع في أوروبا وفي العالم الجديد (الولايات المتحدة). وجدّته تكمن في حداثته ، أي في قطيعته عن الماضي. صحيح انه كان يجري الحديث عن مرجعية يونانية ورومانية للقوانين والتشريعات ونظام المدينة من قبيل التواصل مع هذا التاريخ القديم، باعتباره تاريخاً توسلياً ، لكن التاريخ الحديث كان يبني من جديد ولا يزال حتي اليوم قيد البناء وكما نلاحظ من خلال ما يكتب اليوم حول الدولة والديموقراطية والمواطنة والمجتمع المدني وحقوق الإنسان.
لقد تماثل مفهوم الدولة الوطنية والقومية (المتعارف عليها بمفهوم الدولة - الأمة) مع مفهوم الدولة - المدينة، وحل بذلك بصورة تدريجية محل الدولة الامبراطورية، كما حلّ في شكل تدريجي مفهوم المواطن - الفرد محل مفهوم الحشد والكتل الجماهيرية والرعية.
ومع الثورات الديموقراطية في غضون القرن الثامن عشر والتاسع عشر، وقيام دساتير الدول الديموقراطية تأسيساً علي شرعة حقوق الإنسان والمواطن بدأ يتكرّس حق الاقتراع العام القائم علي الصوت الواحد، أي علي قيمة المواطن، كفاعلية في المشاركة السياسية وآليات اتخاذ القرار.
لم يكن ذلك طفرةً أو نهاية للنهضة الأوروبية، أو صيغة شكلية أضحت كما يري البعض بلا مضمون، بل كان مساراً مؤسساً لمفهوم المواطن الحديث، ببعده الإنساني العالمي المنفتح القابل للتطور الدائم، بفعل التطورات والتحولات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية ومواكبة الفكر لهذه التحولات.
بيار رونسافالون مؤلف كتاب تكريس المواطن، تاريخ الانتخاب العام في فرنسا . يدحض الحجج التي يثيرها بعض القائلين بتحول الديموقراطية التمثيلية الي آلية شكلية، فيري ان مبدأ الانتخاب العام ليس محض حرية شكلية، فهو يؤسس نوعاً من المساواة بين البشر، بل هو يؤسس المجتمع نفسه . صحيح ان مبدأ الانتخاب العام لم يكن موضع إجماع حتي منتصف القرن التاسع عشر، ولم يطبق تطبيقاً شاملاً واجتماعياً حتي منتصف القرن العشرين، إلا أن منطلق فلسفته التي تقوم علي حقوق المواطن - الإنسان الفرد (الطبيعية)، يظل منفتحاً علي التطوير والتوسيع. وكما حصل في التاريخ فعلاً، بدءاً من تجاوز قانون الانتخاب الفرنسي مثلاً شرط الفروقات الطبقية والمهنية (الخدامة والرهبنة) وتجاوز شرط النصاب المالي الضريبي، وشرط السن (من 52 الي 81)، الي تجاوز شرط الجنس في قانون 4491 الذي أعطي المرأة حق الاقتراع، الي المطالبة الدائمة في توسيعه اعتماداً علي فلسفة الحق الطبيعي للإنسان - المواطن.
علي ان إشكالية اليوم تظل بالنسبة الي المواطن الفرد الذي يعيش في دولة ديموقراطية (عريقة) هي في مدي القدرة علي التوافق من خلال المعادلة الصعبة، لكن الغنية، بين تطلب مزيد من حماية الحرية التي قد تتعارض مع العدالة في بعض وجوهها، وبين ضرورات تطلب العدالة التي قد تتعارض مع بعض أنواع من الحرية. إنها إشكالية غنية لأن المواطن يستطيع من خلالها ان يطوّر أشكال علاقته بالمجتمع والدولة، كما تستطيع الدولة والمجتمع أن يتوازنا عبر ما تتيحه الديموقراطية التمثيلية، من مشاركة في القرار، ومن تعددية حزبية، ومن حريات وتفكير ونشر وإبداء رأي، ونشاطات مجتمع مدني.
جاء في لسان العرب في تعريف الوطن: الوطن هو المنزل الذي تقيم به، وهو موطن الانسان ومحله (...) ووطن بالمكان وأوطن أقام، وأوطنه اتخذه وطناً، والموطن، تفعيل فيه، ويسمي به المشهد من مشاهد الحرب وجمعه مواطن، وفي التنزيل العزيز: لقد نصركم الله في مواطن كثيرة (...) وأوطنت الأرض ووطنتها توطيناً واستوطنتها أي اتخذتها وطناً، وتوطين النفس علي الشيء كالتمهيد... .
وتعج أدبيات التراث العربي بالكلام عن حب الوطن والموطن والاشتياق له والحنين لأهله وإلي مكان اقامة الانسان في صباه وشبابه. ومن ذلك قول لابن الرومي في قصيدة وجهها لسليمان عبدالله يستعديه علي رجل من التجار أجبره علي بيع داره:
ولي وطن آليت أن لا أبيعه / وأن لا أري غيري له الدهر مالكا
إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم / عهود الصبا فيها فحنوا لذلك
إذاً، المشاعر الوجدانية والرومانسية طالما كانت رابطاً بين الانسان والمكان، ولكن، من دون اكتسابها معني حقوقياً محدداً. السؤال متي اكتسبت مفردة مواطن، المعني الحقوقي أي المعني الذي يجعلها مرادفة لمعني Citoyen أو Citizenship؟
أرجح أن أول استخدامات عربية تفيد معني Citoyen وCitoyennet في الأدبيات العربية جاء في كتابات رفاعة رافع الطهطاوي (1081 - 3781) وكتابات بطرس البستاني (9181 - 3881) وهي جاءت بصيغة ابن الوطن و الوطني و الوطنية .
يقول الطهطاوي في الباب الرابع في الوطن والتمدن والتربية من كتاب المرشد الأمين للبنات والبنين : ثم ان ابن الوطن المتأصل به، او المنتجع إليه، الذي توطّن به واتخذه وطناً، ينسب اليه تارة الي اسمه فيقال وطني، ومعني ذلك انه يتمتع بحقوق بلده وأعظم هذه الحقوق التامة في الجمعية التأنسية، ولا يتصف الوطني بوصف الحرية إلا إذا كان منقاداً لقانون الوطن ومعنياً علي إجرائه، فانقياده لأصول بلده يستلزم ضمناً ضمان وطنه له التمتع بالحقوق المدنية والتمزي بالمزايا البلدية. بهذا المعني هو وطني وبلدي، يعني انه معدود عضواً من اعضاء المدينة، فهو لها بمنزلة احد اعضاء البدن، وهذه اعظم المزايا عند الأمم المتمدنة ... إلي ان يقول: فصفة الوطنية لا تستدعي فقط ان يطلب الانسان حقوقه الواجبة له علي الوطن، بل يجب عليه أيضاً ان يؤدي الحقوق التي للوطن عليه، فإذا لم يوف احد من ابناء الوطن بحقوق وطنه ضاعت حقوقه المدنية التي يستحقها علي وطنه .
وللمعلم بطرس البستاني (9181 - 3881)، المعاصر للطهطاوي، مقالات صدرت في نشرته نفير سورية في العام 0681 بعنوان وطنيات ، وعلي رغم تأرجحه آنذاك بين التابعية العثمانية والوطنية السورية يقول في الوطنية الرابعة ( نفير سورية ، العدد 4، بيروت 52/01/0681): فسورية المشهورة ببلاد الشام وعربستان هي وطننا علي اختلاف سهولها ووعورها وسواحلها وجبالها، وسكان سورية علي اختلاف مذاهبهم وهيئاتهم وأجناسهم وتشعباتهم هم أبناء وطننا . ويعطي لهذه العلاقة بين الفرد والوطن معني حقوقياً، يقول: يا ابناء الوطن لأهل الوطن حقوق علي وطنهم، كما ان للوطن واجبات علي أهله (...) ومن الحقوق التي علي الوطن لبنيه الأمنية علي افضل حقوقهم وهي دمهم وعرضهم ومالهم، ومنها الحرية في حقوقهم المدنية والأدبية والدينية، ولا سيما حرية الضمير في امر المذهب .
ما معني العودة الي التاريخ عبر هذين النصين:
الذهاب الي التاريخ هو من قبيل التقاط لحظة التحول في استخدام المفردة العربية وإكسابها معني ودلالات مستعارة من حقل دلالي لمصطلحات التجربة الديموقراطية الوطنية الغربية والتي أفادت، بفعل تعبيرها عن حقوق إنسانية طبيعية، معني الفكرة القابلة للتجريد والتعميم والعالمية اي ان تحمل المفردة العربية دلالات مفهوم الـCitoyen.
فالطهطاوي والبستاني في استخداماتهما الأولية لمصطلح الوطن والوطني والوطنية كانا يحمّلان المفردات العربية ذات المعاني التراثية القديمة دلالات جديدة معاصرة اكتشفها الوعي التاريخي المقارن، للتواريخ المختلفة والثقافات المتنوعة، ويعيدان انتاجها في استجابة لعملية التثاقف الجارية آنذاك، فاقتربا من المفهوم الحقوقي الذي يحدد وضعية الفرد المقيم علي أرض يسودها مجتمع ودولة لناحية الحقوق والواجبات في صيغة الوطني و ابن الوطن . ثم ما لبث هذا المعني الاصطلاحي ان استخدم بصيغة مواطن ومواطنية بعد اعلان الدستور العثماني في العام 8091، وبصورة خاصة مع اعلان دساتير العشرينات في المشرق العربي في كل من مصر والعراق وسورية ولبنان حيث اكتسبت المواطنة المحلية للمقيمين علي ارض كانت عثمانية، تأسيساً علي مبدأ الجنسية Principe de Nationalit المستمد من بنود معاهدة لوزان التي نظمت اوضاع البلدان العربية التي خضعت سابقاً للحكم العثماني، وحمل سكانها سابقاً صفة التابعية العثمانية ، وكانت هذه الكلمة تعني ضمناً وفقاً لمنطوق دستور 8091، المواطنة العثمانية .
ودساتير العشرينات في المشرق العربي، أعادت صوغ هذه المنطلقات، انطلاقاً من الواقع التاريخي المستجد الذي يمكن وصفه بأنه كان حالة (تحوّل من مفهوم الرعية الذي يعبّر عن العلاقة بين الدولة السلطانية وجماعات مجتمعاتها، الي مفهوم الجنسية (الناسيوناليته) او الهوية Nationalitژ الذي أسست له الدولة الوطنية الحديثة. وهذه الأخيرة هي الكيان السياسي المستجد الذي عبّرت عنه الأدبيات القومية العربية بصيغة الدولة القطرية ، تأسيساً علي ايديولوجيا العروبة التي كانت تنزع الي القول بأمة عربية وتطالب بدولة عربية تتطابق مع مفهوم الدولة/ الأمة.
ومهما يكن من امر هذا الإشكال الأيديولوجي (بين الدولة القومية العربية المتوخاة والدولة القطرية المنبثقة عن تداعيات الواقع الدولي والاقليمي والاجتماعي المحلي) فإن الاشكالات الجديدة التي أثارها هذا التحوّل في الاجتماع السياسي العربي، (أي التحوّل من حالة الرعية الي حالة اكتساب الجنسية التي تتضمن بدورها حق المواطنة في دولة)، أثارت مسائل معقدة في وعي النخب العربية وفي ذهنيات الناس وعقولهم ومسلكياتهم وردود فعلهم تجاه المستجدات المتمثلة بشكل أساسي بالتحول الي مواطنين.
أسئلة جديدة
يمكن هنا ان نشير باختصار الي عدد من الاسئلة التي قد تطرحها الاشكالات الجديدة: الدولة الوطنية الجديدة عينت لمواطنيها انتماء محدداً يحمل اسم المنطقة (الوطن) الذي تحوّل الي دولة أو أقيمت عليه دولة، بفعل عوامل دولية وإقليمية وداخلية وجيوسياسية معقدة ومركّبة. هذا الانتماء يوصف بالوطنية علي مستوي الحمولة الثقافية والسياسية والاجتماعية والوجدانية التي يقدمها اهل الدولة ونخبها، وبالمواطنة علي المستوي الحقــــوقي، لكن، مع هذا الانتماء ثمة تداخلات لانتماءات اخري قد تضــــعف وقـــد تقوي، لكنها تبقي ماثلة وحاضرة ومؤثرة.
هذه الانتماءات قد تكون شمولية فتتجاوز حدود الانتماء الي الجنسية Nationalit التي تعطيها الدولة للفرد فيكتسب حق المواطنة، كالانتماء القومي العربي لأمة عربية متخيلة بدولة - أمة او الانتماء الإسلامي السياسي لأمة إسلامية متخيلة في خلافة او مشروع سياسي متجاوز للدولة القطرية، وقد تكون الانتماءات فرعية ووسطية فتخترق الانتماء المواطني للدولة شأن الانتماءات الطائفية والمذهبية والقبلية داخل الدولة. ويحضرني مثال علي هذا الاختراق مثال الانتماء الطائفي في لبنان ومثال الانتماء القبلي في اليمن.
وسواء كانت الانتماءات اوسع من الانتماء الي الجنسية (الهوية التي تعطيها الدولة لمواطنيها) او كانت اصغر منها، فإن هذه الانتماءات تطرح سؤالاً حول أحقية التعدد الثقافي والمشروعية التاريخية لهذه الانتماءات، وفقاً للسؤال: كيف يمكن التوفيق بين معطيات هذه الانتماءات، التي يفسرها التاريخ وتصف خصائصها الإتنولوجيا، مع الانتماء الي هوية الدولة Nationalitژ مع التشديد علي أولوية انتماء المواطن الي الدولة؟
ويُدرج تحت هذا السؤال سؤال آخر ومكمّل: كيف يمكن تحويل الانتماءات المختلفة سواء كانت كبيرة أم صغيرة الي تراكم غني في شخصية المواطن حيث تصبح شخصية المواطن العربي وفي أية دولة عربية وإلي اي هوية انتمي فرعية او شاملة، شخصية تغتني من خلال ممارستها لمواطنيتها المحلية بالذات؟ مع العلم ان شرط هذه الأخيرة ممارسة الديموقراطية في اطار من التوازن الدقيق بين الحقوق والواجبات، بين الحرية والعدل. ذلك ان حداً فاصلاً دقيقاً قد يؤدي الشطط عنه إما الي انفلات الانتماءات الفرعية الوسيطة وتحولها الي سلطات اهلية مشتتة ومتنازعة (وهذا خطر الحرب الأهلية) او الي اشتداد قبضة الدولة وتحولها الي نظام عسكري وأمني او الي دولة استبداد سلطاني.
إذاً، هل نحن امام مأزق تعبّر عنه المفارقة التالية: ديموقراطية من دون ديموقراطيين؟ وهل يعني ذلك ان ثمة نخباً عربية تتحدث عن الديموقراطية ولكن لا تمارسها ولا تستدخلها كسلوك وقيمة وثقافة بل تمارس عكس خطابها؟ ام ان الأمر يتعلق بثقافة سياسية شعبية (اهلية) لا تمهد ولا تساعد علي عملية التحول الديموقراطي ولا علي استيعاب الشروط الاجتماعية والقانونية التي تفترضها صيغة المواطنة؟ والتي من اهم مقوماتها، المشاركة السياسية عبر الاقتراع العام وعبر المؤسسات التمثيلية وأهمها البرلمان؟ أم ان ثمة امراً متعلقاً بخصوصية دينية، يراها البعض في الاختلاف البنيوي بين الاسلام والديموقراطية؟ وأن المشكلة هي ممانعة الثقافة السياسية المحلية للتحوّل الديموقراطي وبالتــالي لتــكوين المواطــن؟
عندما بدأت الدولة العثمانية بالتحوّل الي دولة تنظيمات، ولاحقاً الي مملكة دستورية (عندما أعلن الدستور العثماني مرتين: مرة في العام 6781، ثم علّق بعد عام، ومرة في العام 8091 ثم باغتته الحرب وعسكرة الحكم) كان التحوّل ينبئ بآمال كبار لدي النخب العربية التحديثية، لكنه كان ينبئ أيضاً بصعوبات وعوائق من طرف أهلية المجتمعات. يسجل الأديب سليمان البستاني الذي كان نائباً عن ولاية بيروت في البرلمان العثماني ملاحظاته حول بدايات العمل البرلماني في العالم الاسلامي، فيري ان ثمة خللاً في مفهوم التمثيل يكمن في عقلية المواطن الناخب الذي يري في النائب مجرد سلطة وسيطة للخدمات والمنافع الشخصية والفئوية، لا سلطة رقابة وتشريع. يقول البستاني في كتابه عبرة وذكري: الدستور العثماني : لقد أيّد لنا الاختبار باجتماع المجلس الأول سنة 6781 ان أبناء كل ولاية كانوا يظنون مبعوثهم منتدباً عن منتخبيه لا غير، ومأموراً بإنفاذ جميع رغائبهم وإبلاغ تشكّيات افرادهم مهما كانت، حتي لقد كانت الرسائل في بعض الولايات تنهمر كالمطر علي رؤوس مبعوثيها حاملة من المطالب ما لو طرحه المبعوث للبحث لما ناله إلا هزء رفـــاقه أجمعين، فمن طالبٍ عزل خصم له وإحالة مأمــــوريته اليه. ومن ملتمسٍ رتبة ونيشاناً، ومن راغبٍ في اصدار امر لوالٍ بإلقاء نظرة عليه او الي مشيرٍ يجعله ملتزماً للأرزاق العسكرية. حتي كان من جملة تلك المطالب أن مكارياً سرقت دابته فكتب الي منتدب ولايته ان يأمر بإعادتها إليه .
علي ان هذه البداية لا تفسر الاستمرار التاريخي لمفهوم التمثيل البرلماني كما كانت بدايته، فلا شك ان الماضي وحده لا يفسر الحاضر كمــــا ان الحاضر وحـــده لا يفسر الماضي. لكن حركة الذهاب والإياب الدائمة بين الزمنين تساعد علي بلورة الأفكار باتجاه المقاربة العلمية والتي قد ينتج عنــها بعض الأفكــار المفيدة (...).
ما يصفه البستاني في العام 8091 هو تأريخ فعلي للحظة التقاطع بين المفهومين وبالتالي بين زمنين تاريخيين، علي ان البستاني يراهن علي تغير الأوضاع نحو الأحسن بعد ربع قرن ومن خلال تعميم التعليم والتربية والترقي والنهوض الاقتصادي. وإذ مضي علي هذا الرهان اكثر من ثلاثة ارباع القرن يترك البستاني الباب واسعاً للتساؤل حول شروط التحول الديموقراطي من خلال بناء المواطنة في العالمين العربي والإسلامي. وحقل هذا التساول بقي ويبقي حتي اليوم مجال بحث عن اسباب هذا التعثر، (تعثر الانتقال من الاجتماع السلطاني العصباني الي الاجتماع الدستوري الوطني) وعن شروط التجاوز لهذا التعثر؟
لا نظن ان ثقافة من الثقافات او ديناً من الأديان، ملك (او ملكت) قابلية للديموقراطية او عدم قابلية لها. إذ يشيع اليوم افتراض خاطئ ان الثقافة المسيحية ملكت قابلية تحويل مجتمعاتها الي دول ديموقراطية، وأن الثقافة الإسلامية هي بطبيعتها ممانعة بل ومعادية لهذا التحوّل. لا شك ان هذه الفرضية تخدم اغراضاً متباينة، فهي تخدم من جهة النظرة المركزية الغربية محتكرة الحداثة ومروجتها علي طريقتها الاستهلاكية، وهي تخدم من جهة اخري النظرات الأصولية الطرفية التي تحاول احياء الماضي في الحاضر، بأسلوب دفاعي سلبي للمركز الغربي غير فاعل، فتخلط المراحل التاريخية وأزمنتها، وتقيم سدوداً متوهمة بين الحضارات، فتبطل تفاعلها في تصور وهمي جامد للماضي، ولكن النتيجة العملية لهذا المنطق ان تعود الدولة السلطانية القديمة بثوب جديد في الحاضر، فيتم تحديث الاستبداد السلطاني بالحكم البيروقراطي والعسكري او حكم الحزب الواحد، او تقديس القائد الزعيم من خلال اعتبار اي نقد له خطاً أحمر.
والواقع ان كل الثقافات، بل الأديان، أنتجت تأويلات وقراءات مختلفة لنصوصها في مراحل التاريخ. هذه القراءات ما لبثت ان أضحت ايديولوجيات لأنظمة وعهود وعلاقات وجماعات وفرق، اي لقوي اجتماعية ومن الطبيعي ان تقـــاوم هذه القـــوي التحولات الجديدة في منظومة السلطة وهياكلها.
علي ان هذه الإيديولوجيات التي غالباً ما تتحول الي خطاب تعبوي وسجالي تحت عباءة فكر سياسي معين، ليست هي جوهر الثقافة الذي لا يتغير ولا يتحول. فكما ان قراءة للثقافة المسيحية في القرون الوسطي تحوّلت الي ايديولوجية اجتماعية وسياسية مناهضة للعقلانية ومعادية لتحوّل الفرد الي مواطن حر في دولة حيادية. فثمة قراءة اخري كانت آخذة بالتشكل مع حركة الإصلاح الديني وحركة الإحياء والأنسنة والثورة الصناعية وحركة التنوير وصولاً الي بذل الجهد في بناء لاهوت علماني في غضون القرن العشرين. لقد تعلمت المسيحية كما يقول البعض، الديموقراطية واستوعبت فكرة المواطنة او حق الفرد علي الجماعة وحق الجماعة علي الفرد عبر حركة التاريخ وتحولاته الاجتماعية والاقتصادية وحاجات الواقع ووطأته وفاعلية العمل السياسي وتعددية القوي الاجتماعية، لا بفعل القابلية او عدمها.
وعليه، فإن الثقافة الإسلامية ليست بعيدة من هذا المنطق، في التحول والتكيف والمواكبة.
لقد بدأ الاجتهاد في هذا الاتجاه، في غضون القرن التاسع عشر، مع أعلام النهضة الأوائل وكما نلاحظ لدي الطهطاوي والجيل الإصلاحي اللاحق والانقطاع الذي حصل ليس مؤشراً لفشل او استحالة او ممانعة ثقافية، بل لأن ثمة عوامل يمكن دراستها ووعيها أدت الي هذا الانقطاع.
تناول الكاتب في الحلقتين السابقتين مفهوم المواطنة وتاريخ تحققه ووقائعه في الحضارة الأوروبية (والغربية) وبحث في مسألة الوطن والمواطن كما عالجتها المرجعيات العربية القديمة والحديثة. ويتابع هنا في حلقة ثالثة اخيرة.
الحديث عن مرجعيتين للديموقراطية والمواطنة، لا يستدعي الفصل بين الحضارات بحجة اختلاف البني والأنساق، بل علي العكس، ان الدراسة التاريخية التي تجمع بين مفهوم البنية ومفهوم التاريخية من شأنها ان تبرز حالات التفاعل والسيرورة والتحولات في التواريخ، باتجاه القول بمنهج التاريخ العالمي القائم علي التعدد المنفتح.
وعليه فإننا نسوق الملاحظات التالية:
أولاً: ان المرجعية اليونانية لم تكن مرجعية للحضارة الأوروبية الحديثة وحدها، فالحضارة العربية تعاملت مع هذه الأخيرة كإحدي المرجعيات العالمية آنذاك، جنباً الي جنب المرجعيات الفارسية والهندية، وبصيغة انها كانت (اي الحضارة العربية) المشروع الحضاري العالمي (الحديث) المستوعب آنذاك لعملية التلاقح، والتثاقف، والتواصل. ان مفهوم المدينة ومفاهيم السياسة العقلية والوضعية للحكم، مفاهيم نجدها بغزارة في الفكر الفلسفي والفقهي العربي الوسيط.
ثانياً: ان الدراسات الحديثة للحضارات القديمة - ما قبل اليونانية والهلينية، بدأت تبحث فرضية جدية وتبرهنها، وهي ان الحضارة اليونانية لم تكن أماً للحضارات الإنسانية (او معجزة فريدة)، بل هي نتاج لتأثيرات حضارية متنوعة تمركزت في حوض المتوسط.
ثالثا: ان عملية الانقطاع في التطور التاريخي العربي والإسلامي والتي بدأ المؤرخون المعاصرون يدرسونها بمنهج المقارنة التاريخية لمعرفة اسباب التجاوز الذي حصل في اوروبا بدءاً من القرنين الخامس عشر والسادس عشر وأسباب الجمود الذي عاشت فيها مجتمعاتنا، هي عملية تاريخية معقدة ومركبة تفترض دراسة عناصرها من زوايا عدة.
رابعاً: إن تأسيس الدولة السلطانية علي مفهوم العصبية وعلاقة هذه الأخيرة بالدعوة الدينية كوسيلة استقواء (وفقاً لتعبير ابن خلدون)، وممارسة الحكم السلطاني في مجتمع رعية وعبر وسائط من السلطات الأهلية: كالأخويات والحرف في المدينة، والعصبيات العائلية الفلاحية والبدوية في الأرياف، وسلطات البطريركيات للملل غير الإسلامية، كل هذا كان بمثابة مؤسسات نشأت في التاريخ وانبنت تلبية لحاجات اقتصاد الجباية، والخراج، ومواصلات القوافل في التجارة البعيدة، والإنتاج الحرفي المنتظم في تنظيمات اجتماعية أشبه بالفرق الدينية السرية وطرق الصوفية. إنها اذاً مرحلة تاريخية وليست قدراً مؤبداً في ثقافة ثابتة.
خامساً: عندما تحدث الطهطاوي وبقية النهضويين العرب والمسلمين عن وطنية ووطن وأبناء الوطن في غضون القرن التاسع عشر، ومطلع القرن العشرين فإنما كانوا ينقلون مفهوم الدولة/ الأمة ومفهوم المواطن عضواً في هيئة اجتماعية سياسية هي هيئة المدينة التي نسيت من التراث العربي المتأثر باليونانية، لتحل محلها ثقافة الدولة السلطانية وفقهها وصوفية اوليائها، كما كانوا يستجيبون لحاجات في التطوير الاقتصادي والتحديث الإداري والتنظيمي كان يحفز إليه الاطلاع علي التجارب الأوروبية، وصولاً الي تبني مفهوم الدستور والمواطنة في مطلع القرن العشرين.
علي أن هذا النقل لم يكـن تقليـداً اعمي، كان مقصوداً بفعل قناعات تري أن الاقتباس شرط من شروط الترقي والتقدم والنهوض وبمنطق لا يري حرجاً من عملية التثاقف وتحميل المفردات والمصطلحات معاني جديدة من تاريخ آخر. هكذا مثلاً تعامل رشيد رضا مع مصطلح الشوري ومصطلح الحكم الدستوري والبرلماني، فرأي ذلك استجابة لتنبيه اوروبي مذكّر بوجود مبدأ الشوري في الإسلام بعد ان نسيه الفقهاء المسلمون طوال عصور الدولة السلطانية. وهكذا تعامل ايضاً حسين نائيني مع مفهوم البرلمانية والجمعية التمثيلية في المشروطة الإيرانية عام 9091 (الدستور الإيراني)، إنها في رأيه من إبداع الفكر الإنساني لتحديد سلطة الحاكم الفرد، وهي في اجتهاده الإسلامي اعادة الولاية الي الأمة باعتبارها جماعة مواطنين، لا رعايا سلطان.
هذه المظاهر لثقافة وطنية ودستورية (حديثة) نجدها ايضاً في الكثير من الأقطار العربية، وبأشكال قد تتفاوت بالزمن ولكنها تتواتر في نمط الاستجابات الواحدة علي مسألتين: تأكيد السيادة الوطنية في مواجهة المحتل، وتأكيد المشاركة السياسية عبر مجالس تمثيلية.
الخلاصة ان دروس التجربة التاريخية الغربية تسمح بالاستنتاجات التالية:
لقد وعي فقهاء إصلاحيون وكتاب وناشطون في العمل السياسي في مجتمعات الدول السلطانية وفي مجتمعات خضعت للاحتلالات الأجنبية سبل نهوض الدولة ومجتمعها في غضون القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، وأهم هذه السبل: إشراك الأمة في الحكم من طريق الانتخاب والاقتراع العام والعمل من اجل السيادة الوطنية وتقييد الحاكم بدستور للبلاد. كان هذا بداية التأسيس لمفهوم المواطن وحقوقه في ظل دولة تقوم علي الدستور.
لكن البداية، عادت فتعثرت. وتعثرها جاء من ابواب عدة:
- من باب السياسات الغربية التوسعية التي اظهرت للشعوب ايديولوجياتها العنصرية والقمعية والتخريبية وحدها، فبهتت في الوعي المقارن المحلي لدي النخب صورة الفكر التنويري العالمي وسادت صورة التعصب الغربي لا سيما بعد احتلال فلسطين والمصائب والكوارث التي تداعت بفعل السياسة العدوانية الإسرائيلية ودعم السياسات الغربية لها.
- ومن باب سياسات الأعيان المحليين الذين فضّلوا استمرار النظام القديم فحافظوا علي العلاقات الرعوية وأدخلوها في منطقهم علي حساب بلورة فكرة المواطنية وحقوقها وواجباتها، مستثمرين الديموقراطية التمثيلية والبرلمانية لحسابهم ومصالحهم، خالطين بين التمثيل الوطني والتمثيل الرعوي.
- ومن باب ردود الفعل المحلية علي هذه وتلك، كانت صورة التاريخ العالمي تتقلّص وتتجزأ الي صور تستحضر فيها الذاكرة التاريخية وحدها، فيبحث عبرها عن هوية مقطوعة الصلة بالآخر، وعن ماض غني يكون معوضاً لخسران الحاضر.
ونتيجة لكل هذا، كان رد الفعل علي الديموقراطية التمثيلية وفكرة المواطنة في الكثير من الأقطار العربية التي نما فيها التيار القومي العربي في الخمسينات (مصر، سورية، العراق...) رد فعل سلبياً.
- فصل آخر من فصول التاريخ العربي المعاصر، قطع عن سابقه الذي بدأت فيه ارهاصات الحياة السياسية عبر مبدأ التمثيل والاقتراع، والعمل الحزبي. وها نحن امام زمن ثالث يعاد فيه تأسيس المجتمعات السياسية العربية، من خلال اعادة اكتشاف لأهمية المسألة الديموقراطية، والتي تقوم علي ركيزتين أضحتا مفهومين عالميين:
- المجتمع السياسي المستمد من مفهوم المدينة ومفهوم الوطن بحمولته دلالات المعاني الجديدة.
- فكرة المواطن التي تحيل الي البعد المدني civilitژ والبعد الوطني لهوية المجتمع السياسي الذي ينتمي إليه الفرد nationalitژ.
لكن إعادة الاكتشاف وإعادة التأسيس والتي نلاحظها بدينامية في الكثير من المجتمعات العربية، تتمان بظروف صعبة وقاسية: عولمة تنحو عبر قوي عالمية كبري متسلطة، الي تنميط الحياة الثقافية واختزال الحياة السياسية بقرارات مركزية مستقوية بالقوة العسكرية والمالية الممركزة، وردود فعل عليها طرفية تنحو نحو التقوقع في هويات صغري دفاعية وأصولية متقهقرة وأحياناً مدمرة للذات وقاتلة كما يري بحق الكاتب اللبناني امين معلوف في كتابه الهويات القاتلة .
مع ذلك، فإن فسحة للعمل كبيرة تكمن بين حيز الحدين وتتحداهما، حيث يستفاد أولاً من دروس التجربة التاريخية ويستفاد ايضاً من العالمية الجديدة، أو العولمة بوجهها ووسائلها الإيجابية...
فإذا كانت تجربتنا التاريخية العربية، ابانت عقم النظرة الأحادية للديموقراطية حيث لم ير الأعيان العرب والرأسماليون العرب إلا وجهها الليبرالي الوظائفي فاستثمروها في تثبيت سلطات وراثية وتضخيم ثروات فردية في مرحلة اولي، وحيث لم تر الطبقة العسكرية والتكنوقراطية والنخب الثورية الجديدة إلا وجهها الرجعي في مرحلة ثانية فاقترحت إلغاء المواطنة وما تتطلبه من استقلالية في الرأي والنقد والمحاسبة لمصلحة مركزية القرار بحجة الهام القائد و حكمته و عصمته ، فإن إعادة اكتشاف الديموقراطية اليوم يعيدنا اولاً الي اعادة اكتشاف مفهوم المواطن من خلال استحضار مجموعة من الأبعاد التي يحيل إليها هذا المفهوم.
1- البعد الإنساني: فالمواطن ليس فرداً فحسب، وليس رجلاً فحسب، وليس عمراً محدداً، او مهنة معينة، انه المواطن - الإنسان، فالمفهوم الحقوقي يحيلنا بالضرورة الي مفهوم اوسع: مفهوم حقوق الإنسان المفهوم القابل دائماً للتجريد والتعميم وبالتالي للتطوير كلما برزت عقبة في وجه المساواة والعدالة في مجتمع من المجتمعات.
هذا البعد الإنساني، يتطلب نظرة ثقافية وتربوية تقوم بشكل اساس علي التسامح وتعلم قبول الآخر والتعامل معه بذهنية اخوة المواطنة وأخوة الإنسانية معاً.
لكن مبدأ التسامح ليس منة من فوق، يمنحها القوي كمنحة العفو ، انه موقف خلقي آدمي وجزء من اخلاقيات واجبة علي الإنسان وفقاً لمبدأ التحسين والتقبيح المشهور عند المعتزلة، ومبدأ الحقوق الطبيعية عند الفلاسفة. ولكي يستدخل هذا الخلق في مسلكيات المواطن، تبرز اهمية شروط التنشئة الوطنية الإنسانية التي تفترض استيعاب المناهج النقدية في الدراسات الإنسانية: نقد العنصرية والتمييز علي اختلاف اشكاله، ونقد العقلية الخرافية، وتفسير المسلكيات اللاعقلانية... الخ. والسؤال هل اخذنا في الاعتبار هذا التوجه في مناهجنا التربوية والتثقيفية في مدارسنا وجامعاتنا ومؤسساتنا؟
2- البعد التنموي البشري: راوحت تجربتنا التاريخية بين اعتماد صيغة الليبرالية الاقتصادية والتي ادت الي مزيد من التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية والجنسية، علي مستوي المناطق، والجماعات، وبالتالي علي مستوي المواطنين، الأمر الذي أدي بدوره الي نوع من التمايزات الطبقية والمناطقية التي فاقمت حدة الانقسامات الطائفية والمذهبية في مجتمعاتنا وأدت الي خلل خطير في فكرة المواطنة والتي تتطلب اولاً وقبل كل شيء حق المساواة والعدل قبل حق الاقتراع العام. وإذ حلت الأنظمة العسكرية ذات الحزب الواحد أو الإيديولوجيا الواحدة في السلطة باسم الفقراء والمستضعفين اي باسم الاشتراكية، فلم ينتج عن ذلك إلا تنمية احادية تجلت في تضخم قطاع عام غير منتج صحت تسميته رأسمالية دولة وهو نظام لا يقيم اعتباراً للمبادرة والإبداع وحسنات الاستثمار في القطاع الخاص. والنتيجة ان التجربتين اغفلتا البعد الشامل والتكاملي في التنمية، وهو البعد البشري الذي يحيل بدوره الي حلقات مترابطة في معاني المفهوم الجديد للتنمية وشروطه:
- تنمية وعي المواطن السياسي كإنسان مسؤول في المشاركة في الحياة السياسية.
- تنمية حس النقد والبحث عن الحقيقة ليكون الخيار والرأي عقلانياً.
- اعتبار مستوي التعليم ومستوي الصحة ومستوي الوعي البيئي ومستوي المشاركة معايير اساسية في درجات التنمية.
كل هذه الأمور شكلت رافعات جديدة للوعي بأهمية المواطن إنساناً فاعلاً في السياسة والثقافة والتنمية معاً.
3- البعد العالمي للمواطنة: ليس المقصود بالبعد العالمي للمواطنة، القول بالمواطنية العالمية، وكأنها استجابة للنزوع الذي تنحو نحوه العولمة الاقتصادية والسياسية والإعلامية اليوم، ولا الاعتقاد بالفكرة الداعية الي توحيد العالم في ظل حكومة عالمية، والتي طالما نادي بها فلاسفة ومفكرون منذ كانط وحتي فوكوياما اليوم. فمثل هذه الدعوة عدا طوباويتها فهي خطرة لناحية ان المؤهل للقيام بهذا الدور هي الدولة المسيطرة الأقوي عسكرياً واقتصادياً وتقنياً، أو هو التحالف الأقوي بين الدول العظمي ذات القبضة العسكرية كالحلف الأطلسي او هو مجموعة قليلة من الشركات المالية العملاقة التي تتحكم في السوق العالمية وفي حركة الأموال والاستثمارات في العالم عبر مجالسها الإدارية وخبرائها وشبكة اتصالاتها المحكمة. فكل هذه الأشكال العالمية هي خطيرة بالفعل وتهدد الديموقراطية وتهمّش فعل المواطنة حتي في بلدها. وإنه لواضح هذا التأثير في تقلص المشاركة في الحياة السياسية حتي في البلدان الديموقراطية العريقة. ويظهر ذلك في استنكاف المواطن الأميركي او البريطاني او الفرنسي عن المشاركة في الحياة السياسية او علي الأقل فتور حماسته للاقتراع والمشاركة في الندوات والمهرجانات السياسية التي طالما كانت قوة رافعة لوعي المواطن السياسي. بل يبدو التأثير السلبي ايضاً في لا مبالاة المواطن الغربي بمصائر العالم والقضايا الكبري البعيدة عن همومه اليومية.
مع ذلك فإن هذا المنحي الخطير للعولمة، وهذا التأثير السلبي لنتائجها علي الحياة السياسية الوطنية، تجابهه عولمة من النوع المقاوم، والتي تتسلح بما انجزته حداثة الحياة السياسية في مرحلة ازدهارها من ايجابيات وسلبيات لتثبيت ايجابياتها وتجاوز سلبياتها بالمزيد من التسامح والانفتاح والاهتمام بمصائر الإنسان والكون والثقافات المختلفة.
فثمة من يدعو اليوم الي اعادة تأسيس مجال المواطنة وثقافتها بعد ان شابها في مرحلة ازدهار دور الدولة القومية، مشاعر قومية، وأحياناً شوفينية وعنصرية كان لها دورها التسعيري في حربين عالميتين. بل ان هذه المشاعر الشوفينية والعنصرية عادت فتفاقمت بعد ان حوّلت العولمة الاقتصادية والإعلاميـة المواطـن الي مستـهلك شره، وحوّلت المنطق السياسي الي منطق سوق، فاستنفرت الهويات الذاتية في مواجهة الهويات المغايرة حتي في الوطن الواحد ولدي المواطنية الواحدة بذريعة البحث عمّن يحمل مسؤولية الأزمات الاجتماعية والضائقة الاقتصادية.
يدعو آلان تورين وبعد ان يعاين الحالات المستنفرة في المجتمع الفرنسي في مجال العلاقة بين اصول المواطنين الفرنسيين، اي بين من هم من أصل محلي وبين من هم من اصل مهاجر ، الي اعادة تركيب العالم علي قاعدة الاندماج الوطني، ولكنه الاندماج المنفتح علي التعارف والاغتناء بالثقافات المتنوعة وبالتواريخ المختلفة، وبالإثنيات المنتشرة في العالم وداخل الوطن الواحد. إنها حركة تعمل علي إعادة تركيب العالم بمواطنة في مجتمع ديموقراطي يسعي الي المزيد من تنوعه ، لا الي المزيد من شموليته ووحدته، وكما كان الأمر في مرحلة بناء الدولة القومية او في مرحلة حركات التحرر القومي او الحركات الثورية الراديكالية. حتي المدرسة في رأيه ينبغي ان تكون متباينة ثقافياً ومجتمعياً وغير متجانسة . يعلّق الكاتب علي الأزمة التي اثارها لبس الحجاب في بعض ثانويات فرنسا وأدت الي طرد فتيات مسلمات فرنسيات من إحدي الثانويات: ما فائدة المدرسة إذا هي لم تكن قادرة علي جعل فتيان وفتيات نشأوا في اوساط مجتمعية وثقافات مختلفة يتقاسمون الذهنية القومية والتسامح والرغبة بالحرية؟ ولماذا تكون المدرسة علي هذا الجانب الضئيل من الثقة بالنفس، حيث تري أن عليها اغلاق ابوابها في وجه الذين يختلفون ويختلفن عنها بأمر من الأمور؟ .
هذا جانب من جوانب البعد العالمي لمواطنة اضحي عليها ان تستوعب اختلافاً قريباً او بعيداً عنها، ولكن محيطاً بها بصورة دائمة، لا بفعل انعدام المسافات فحسب، بل بسبب حضور هذا الاختلاف في العيش والحياة اليومية. ولئلا يؤدي عيش هذا الاختلاف الي توترات وأزمات وسوء تفاهم، بل لكي يؤدي الي الاغتناء والثراء، فإن برامج التعليم يمكن ان تسهم في وجهة حل، ولكن شرط ذلك أن يضع التعليم علي مستوي البرامج، لنفسه ثلاثة اهداف كبري: التمرّس بالفكر العلمي، التعبير عن الذات، والاعتراف بالآخر . ويعني تورين بالاعتراف بالآخر الانفتاح علي ثقافات ومجتمعات بعيدة عن ثقافته ومجتمعه، سواء من حيث المكان او الزمان، وذلك بغية العثور فيها علي القوي الإبداعية التي يسميها تاريخ تلك الثقافات والمجتمعات وإيجادها لذاتها عبر نماذج من المعرفة والعمل الاقتصادي والأخلاق .
هذه الدعوة لإطلاق حركة تعيد تركيب العالم، من خلال تجديد الفكر الديموقراطي لجعل فكرة حقوق المواطن والإنسان في حال القدرة علي محاربة كل تسلط واستبداد ونفي وظلم في اي مكان ليست طوبي أو بعيدة المنال، بل ان ما يُطرح علي مستوي اغتناء المواطن بالثقافات الأخري، تطرحه بل تمارسه حركة الدفاع عن الحريات وحقوق الإنسان من خلال ما أضحي يسمي عولمة القضاء ، اي الاغتناء بقوانين البلدان الأخري الديموقراطية، وذلك باللجوء الي اي قضاء وطني في العالم تتيح قوانينه مقاضاة مجرمي الحرب. هذا ما حصل بالنسبة الي بينوشيه في بريطانيا ويحصل اليوم بالنسبة الي شارون في محاكم بلجيكا. فهل يمكن الحديث عن مواطنة عالمية جديدة تحمي نفسها بواسطة قضاء عالمي وتحتكم إليه؟
يلاحظ اليوم سعياً حثيثاً يبذل لتمكين القانون الدولي لحقوق الإنسان . والمقصود بالقانون الدولي مجموعة الإعلانات والعهود والمواثيق والبروتوكولات المتعلقة بحقوق الإنسان والتي صدرت منذ العام 8491 وحتي اليوم. وهدف هذا السعي توفير الوسائل الدولية لتقديم شكاوي لمحكمة دولية ضد اي طرف وأي دولة وأي جهة تمارس التعذيب وإهانة الإنسان سواء كان ذلك داخل سيادتها وأراضيها أم خارجها .
ويذكر هنا ان مؤتمر روما الذي عقد في تموز (يوليو) 8991 دعا الي تكوين محكمة دولية مستقلة تنظر في الجرائم المتعلقة بحقوق الإنسان، فإذا خرجت معاهدة روما التي حملت هذا المشروع الي حيز التنفيذ، من خلال اكتمال عدد الدول الموقعة عليها (اذ تصبح نافذة وقانوناً دولياً بعد توقيع 06 دولة علي كامل بنودها) فإن آفاقاً واسعة ستنفتح امام تكوين المواطن العالمي و القضاء العالمي .
وهكذا، ففي مواجهة الإرهاب العالمي، الذي عانت منه الشعوب الفقيرة والضعيفة وعاني منه البشر الذي يطمحون ان يصبحوا مواطنين كغيرهم من مواطني العالم الغربي تبرز ضرورة قيام العدل العالمي بديلاً عن سياسات القوة واستراتيجيات التهميش والتهديد. ان ما تصوره فوكوياما حول انجاز الحضارة الغربية مرحلة التاريخ، اي تجاوزها مرحلة الصراع والحروب والعنف بدا بعد حادثة 11 ايلول (سبتمبر) المروعة، سراباً. وبدا فعلاً ان ثمة مواطناً عالمياً ينشد العدل في كل مكان لأنه يتعرض لعنف من اي مكان. المفارقة المؤلمة التي نعيشها في هذه الايام ان المواطن الأميركي لم يكن يعرف ماذا يحدث في العالم بسبب عزلة سعادته وأن المواطن الأفغاني لم يعرف ماذا حدث في نيويورك بسبب عزلة شقائه . بين العزلتين علاقة كامنة ومستورة يجب ان تكشفها العولمة العادلة. إن ما كشفه حادث 11 ايلول، تناقضات مرعبة كان يختزنها القرن العشرون. لكن هذا القرن يحمل ايضاً بواكير حلها عبر قوانين ومؤسسات حقوق الإنسان في العالم. الأمل يكمن اليوم في قدرة إرادات القرن الواحد والعشرين علي تغليب قوانين ومؤسسات العدل العالمي للإنسان وللمواطن العالمي.