كاظم حبيب
(Kadhim Habib)
الحوار المتمدن-العدد: 1197 - 2005 / 5 / 14 - 11:00
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
سيدتي الفاضلة
سأحاول أغاثتك قدر المستطاع شريطة أن تكوني مستعدة لقبول الرأي الآخر وأن نمارس معاً حواراً ودياً هادئاً وموضوعياً, 1ذ ربما يسهم في فتح آفاق جديدة لفهم ما يجري اليوم في العراق, أو لفهم العراقيات والعراقيين, حواراً بين العرب وبين كل العراقيين من عرب وكرد وقوميات أخرى.
السؤال المنطقي الذي يطرح نفسه على كل إنسان يسعى للتعرف على شعب معين هو الآتي: هل درس تاريخ وتراث وحضارة هذا الشعب؟ هل مرّ بعناية على المحطات التي عاشها منذ فجر التاريخ المكتوب حتى يومنا؟ هل عرف ما فعله الحكام على امتداد تاريخه بهذا الشعب؟ وهل عرف أن هذا الشعب ليس شعباً واحداً, بل يتكون من مجموعة من القوميات والثقافات, وبتعبير أدق, مجموعة من الشعوب التي حافظت على تراثها وتقاليدها وعاداتها وثقافاتها, رغم التشابك والتداخل والتفاعل الذي جرى بينها؟ هل مر على الكوارث التي تسبب بها حكام العراق من فرس وأمويين وعباسيين ومغول وتتار وعثمانيين ومماليك وإنكليز وغيرهم حتى ابتلى هذا الشعب الطيب بطغمة صدام حسين؟
هذه الأسئلة يفترض أن يطرحها الإنسان على نفسه أولاً, ثم يتحرى عن الإجابة الواضحة من خلال قراءة التاريخ قراءة مدققة وموضوعية وهادئة. وهذا ما كنت أرجوه وأتمنى أن تقومي به يا سيدتي العزيزة.
أرى بأن بدايتك في الكلمة التي نشرتها جريدة الشرق الأوسط غير موفقة في طرح الموضوع أو في تلمس المشكلة القائمة في العراق. تقولين "... أن هناك بالعراق شعبا «واحدا» هويته الأولى «عراقي»، ضفيرة منسوجة من أمة الإسلام وأمة العرب، خيوطها ملمومة من أقدم الأعراق وأصل العقائد، فليس هناك عرق إنساني لم يدخل في تركيبة العراق، وليس هناك عقيدة إيمانية لم يحملها في قلبه، وكنت أرى ان هذا ما يعطيه التماسك ويحميه من الفرقة والتفرق والتحزب والتعنصر والطائفية، وليس العكس".
الإسلام يا سيدتي دين وليس أمة, بل يمكن أن تكون فيه الكثير من القوميات والأمم. كما أن العراق لا يتكون من مسلمين فقط, بل من مسلمين ومسيحيين وصابئة مندائيين وشبكيين وكاكائيين, لهذا فهم من هذا الجانب ليسوا أمة إسلامية. والعروبة كما تعرفين قومية أو أن العرب يشكلون أمة, وهذا صحيح, ولكن لا يوجد في العراق عرب فقط, بل فيه الكرد أيضاً وقوميات أخرى كالكلدان والآشوريين والتركمان. ولا يمكن أن تعيش هذه القوميات المتعددة في أجواء من السلام والصداقة والتآخي ما لم تتوفر المسلمات التالية:
1. الاعتراف لهذه القوميات بحقوقها المشروعة والعادلة. والاعتراف للقومية الكردية التي تشكل القومية الثانية من حيث النفوس في العراق بحقها في تقرير مصيرها بنفسها.
2. المساواة في حقوق المواطنة وفي الواجبات في مختلف المجالات والمستويات.
3. المساواة في توزيع الثروة لأغراض التنمية والتطوير لمختلف أرجاء العراق.
وهذا يتطلب سيادة النظام الديمقراطي والحياة الدستورية الديمقراطية والتعددية ..الخ.
ولم يعرف العراق كل ذلك, بل عرف الاستبداد والقسوة والشوفينية والعنصرية والتمييز بمختلف أشكاله, وخاصة التمييز القومي والطائفي والفكري والتمييز ضد المرأة. وعرف الكرد والكلدان والآشوريون الظلم والاضطهاد والعزل والتهميش قروناً وعقوداً متتالية.
وعند الحديث عن الهوية في العراق, لا يمكننا إلا أن نقول نعم هناك هوية عراقية ذات سمات وخصائص مشتركة, ولكن هناك أيضاً هويات أخرى في العراق, مثل الهوية العربية والهوية الكردية أو الهوية الآسيوية والشرق أوسطية. وعلينا أن نحترم هذه الهويات المختلفة في إطار الهوية العراقية التي ليست كلها عربية أو إسلامية. إن الاعتراف بكل ذلك واحترامه هو الذي يمكن أن يعزز اللحمة في صفوف الشعب, والعكس هو الذي يفرقها ويمزقها ويثير الصراعات فيها.
إن التمزق الراهن الذي يعيشه العراق هو ليس من فعل العراقيات والعراقيين, بل من فعل النظم الاستبدادية التي عاثت في العراق فساداً وعمقت الخلافات والصراعات وشددت من القهر الذي يفترض ويستوجب النضال من أجل الانعتاق منه.
لقد حكم صدام حسين العراق طيلة 35 عاماً. وكانت الهيمنة الاستبدادية رهيبة والقتل جار على قدم وساق. ولكن العرب من أخواتنا وإخوتنا كانوا يزورون العراق دون أن يعرفوا ما كان يجري فيه وعليه, أو ما كانوا يريدون أو يرغبون في معرفة ذلك.
هل يمكن تصور أن حاكماً يلقي بالأسلحة الكيماوية على شعب يحكمه ويقتل منه الآلاف كما حصل في حلبجة؟ وهل يمكن تصور أن حاكماً يقود حملة سميت بالأنفال ليغّيب ويقتل ما يزيد على 180 ألف إنسان كما حصل في كردستان العراق؟ وهل يمكن تصور أن حاكماً يمارس سياسة التهجير والتعريب القسريين على شعب آخر بالطريقة التي مارسها صدام حسين في عدد من المدن العراقية ومنها كركوك وخانقين مثلاً؟ وهكذا يمكن الحديث عن أفعاله الإجرامية في مناطق أخرى من العراق, كما هو الموقف من الكرد الفيلية أو عرب الجنوب والوسط. هل بعد كل هذا لا يمكن لإنسانة مثقفة وكاتبة بارعة مثل السيدة الكريمة صافي ناز كاظم أن لا تفهم ما كان يجري في العراق, ولم تفهم لِمَ كان الشعب العراقي يتخذ تلك المواقف وهو يرى التمايز في التعامل والتوظيف والتنمية...الخ؟
كنت أعرف جيداً الأستاذ الراحل جبرا إبراهيم جبرا, واتصلت به في آخر سفرة له إلى القاهرة قبل رحيله. وهذا الأستاذ الفاضل والذكي كان يعرف العراق جيداً ويعرف أمراض الواقع العراقي, ويعرف لِمَ القسوة التي تميز بها سكان العراق, والتي هي نتاج استبداد وشراسة وقسوة حكامه على مدى التاريخ, ونتاج التربية اليومية ...الخ.
سيدتي الفاضلة
خبريني بكل مقدساتك, لِمَ لا يتحدث العرب عن العراق الذي ابتلي بالمستبدين الساديين والنرجسيين والمصابين بداء العظمة والتجبر؟ هل احتج المثقفون العرب في مصر وفي غيرها من الدول العربية على مجازر الأنفال التي وقعت في العراق أو على مجزرة حلبجة أو على ترحيل بنات وأبناء العراق الكرد الفيلية إلى إيران, وكذلك بنات وأبناء العرب الشيعة إلى إيران؟ وهل وقف هؤلاء إلى جانب أولئك الذين أعدموا دون وجه حق في العراق من قبل نظام صدام حسين, سواء أكانوا من الكرد أم العرب أم من غيرهم من القوميات, أم عندما تقرر قطع الرؤوس أو جدع الأنوف أم صلم الآذان أو وشم الجبين في فترة صدام حسين؟ لنترك الماضي جانباً, ولنعد إلى الحاضر: هل من المعقول أن ينبري مثقفون عرب دفاعاً عن المجرمين الذين يقتلون الناس الأبرياء في شوارع وأزقة ومساجد وحوانيت وبيوت الناس بحجة الجهاد ضد الاحتلال, وهم نفس المجرمين الذي خدموا في نظام صدام حسين, ونفس المجرمين الذين فجروا الطائرات في نيويورك, وهم نفسهم الذين قتلوا السياح في مصر؟
لقد غاص بعض العرب في عمق الجريمة عندما سكتوا عن كل ذلك وغيره وعندما انبروا دفاعاً عن صدام حسين وهو في دست الحكم حين, عقدوا مؤتمره القومي العربي في بغداد عام 2000, وعندما اتخذوا مواقف الدفاع عن السيافين في العراق وقتلة الشعب العراقي في الوقت الحاضر باسم الجهاد.
أعرف تماماً بأن العراقيين الطيبين ليسوا هم من يقوم بمثل هذه الأفعال المخزية, بل أولئك الذين مارسوا الجريمة وأكلوا السحت الحرام وساندوا النظم الاستبدادية.
دعيني أسالك يا سيدتي سؤالاً بسيطاً: لِمً لا تستطيع كثرة من المثقفين العرب الاعتراف بحقوق القوميات الأخرى التي تعيش معهم في هذه المنطقة, ولكنهم مستعدون للنضال في سبيل حقوقهم القومية؟ إلا يدركون بأن للشعوب الأخرى حقوقاً متساوية؟ لِمَ نحرم الشعب الكردي من حقه في تقرير مصيره أو إقامة فيدراليته في إطار الجمهورية العراقية, ونحرم الشعب الأمازيغي في المغرب وفي الجزائر من حقوقه المشروعة والعادلة؟
أرى بأن العربي الذي يحترم نفسه ويحترم قوميته وشعبه سيكون قادراً على احترام الناس الآخرين والقوميات والشعوب الأخرى, والعكس صحيح أيضاً.
لا أدري ما هو موقفك من هذه الأمور. ولكني كمواطن عربي من العراق أتمنى أن أجدك إلى جانبي في هذه القضية الحساسة التي ستساهم في حل الكثير من المعضلات التي يعاني منها العراق, كما يعاني منها العالم العربي.
وكلمة أخيرة يا سيدتي الفاضلة, إذا كان أكل الشلغم في العراق يؤذيك, فهو غير مصنوع بالضرورة لكي تأكليه, ولكن هناك أكلات في مصر أو في غيرها من الدول لا يستسيغها العراقيون أيضاً, وهي ليست مشكلة ولا تعبر بأي حال من الأحوال عن سلوكية العراقي أو طبيعته الخشنة. وأكلة الثعابين و الديدان هم شعوب متحضرة أيضاً لا تستسيغ أكلها شعوب أخرى. وأكلة الكلاب في الفييتنام هم أيضاً اناس مثلنا لا يمكننا تصور أكلها في يوم من الأيام, والنباتيون يستغربون وربما يتقيأوون من أكل لحوم الحيوانات الحمراء ...الخ.
كم أتمنى أن تبذلي جهدك لفهم الشعب العراقي من خلال تاريخه وتراثه والأوضاع التي مر بها خلال العقود الأخيرة بشكل خاص.
الشعب العراقي بكل مكوناته القومية والثقافية والدينية والمذهبية والفكرية أو الفلسفية يتميز بروح نقدية صارمة, في حين يتميز الشعب المصري بروح نقدية ساخرة, وتعلم الشعب في العراق على عدم الثقة بحكامه لأنهم ما كانوا يوماً أهلاً بثقته, وهو شعب لا يطيق الظلم والاضطهاد والاحتلال والاغتصاب. وسنجدهم يدافعون عن سيادة وطنهم حالما ينتهون من الإرهاب الجاري ضدهم حالياً والذي يحصد الموت يومياً عشرات بل مئات الناس بين قتيل وجريح.
هل أعنتك يا سيدتي على فهم العراق والعراقيات والعراقيين أم زدت الأمر تعقيداً, في الحالتين هذا هو عراقنا, عراق الحضارات والقوميات والثقافات والأديان والمذاهب والفلسفات العديدة, ولكنه كان أيضاً عراق الاستبداد والاستغلال والقهر, وهو ما نسعى اليوم إلى الخلاص منه وبناء عراق جديد, ويأمل أن يجد العرب والعالم إلى جانبه وليس ضده.
يمكنك العودة إلى مقالاتي على الصفحة الإلكترونية صوت العراق والحوار المتمدن لتمدك بعون إضافي لفهم العراق.
برلين في 11/5/2005 كاظم حبيب
#كاظم_حبيب (هاشتاغ)
Kadhim_Habib#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟