|
الشباب العربي و السلطة الأبوية : عمليات التدجين و إرهاصات الثورة المضادة
عبد الرحيم العطري
الحوار المتمدن-العدد: 1197 - 2005 / 5 / 14 - 10:55
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
الشباب العربي والسلطة الأبوية عمليات التدجين وإرهاصات الثورة المضادة عبد الرحيم العطري باحث في علم الاجتماع من المغرب إن تفكيك سؤال العلائق في سوسيولوجيا الشباب، يتطلب قبلا الانفتاح على ما يعتمل في رحاب الأسرة من قيم وممارسات وظواهر، وما يتأسس في أبنيتها من سلط ووظائف تراهن واقع الشباب ومستقبله.وتحد بالتالي الكثير من قضاياه وأسئلته في باقي المؤسسات المجتمعية. فالأسرة في النهاية ما هي إلا نموذج مصغر للمجتمع الأكبر ! في طبيعة السلطة التي ترتكن إليها مؤسسة الأسرة في النهاية ؟وما هي آليات اشتغالها؟ وفيم تقوم وظيفتها المركزية بالنسبة للمجتمع؟ وكيف يتم في أحضانها استقبال عملية المرور الاجتماعي لسن الشباب ؟وما الذي ينسجم عن هذا المرور من صراعات وإختلالات؟ تمجيد الذكورة! يرى أسيل دور كهايم بأن الأسرة المعاصرة، وبالرغم من ..بالعلائقية، فإنها تظل فردانية ومفتقرة للأفق الاندماجي( ) فهذه المؤسسة التي تعتبر خلية أولية في النسق الاجتماعي، صارت تفقد يوميا جزءا أو ..وظائفها الأساسية، بل إنها تبدو في بعض الأحايين وكأنها استحالت فقط إلى مؤسسة بيولوجية إنجابية! لكن وبالرغم من تقلص مجالاتها الوظيفية، وذلك لصالح مؤسسات أخرى، فإنها تستمر في بصم الأفراد والجماعات بآثار خاصة، وتستمر بالتالي في إنتاج و إعادة إنتاج ما يخدم مصالح مالكي الإكراه والإنتاج في المجتمع. إنها خلية تدور في فلك النسق العام، تنضبط وإلى ما يؤطر اشتغال هذا النسق. وعليه فما يكاد يلقيه الشباب من جدل إدماج وتهميش في باقي المؤسسات تتواصل آثاره- وإن بدرجات متفاوتة- داخل المؤسسة الأسرية. فالأسرة المغربيةوالعربية عموما تتميز بسيادة النموذج البطريركي القائم على تمجيد الذكورة و تبخيس الأنثى، مع ما يستتبع ذلك من انتعاش لقيم وممارسات محددة ومن إنتاج أيضا وتكريس لسلوكات وظواهر تتجاوز المستوى الأسرى إلى مختلف المستويات المجتمعية الأخرى. إن هذا النموذج المفرز لسلطة أبوية متجذرة يعد مسؤولا بنسب هامة عن كثير من المشاكل العلائقية التي يعيشها الشباب. فأزمة الجنس والتي تأتي في مقدمة مشاكله، تتفاقم بسبب هذا النموذج، مثلما تتفاحش عن طريق القيم والممارسات القائمة على تبخيس المرأة وتكريس التمييز بين الجنسين. والواقع أن الأنثى يجري تمييزها على الذكر بصورة أساسية، فهو، أي ذكر، كسب للعائلة، وهي عبء عليها والبنت منذ نعومة أظفارها تدفعها العائلة إلى الشعور بأنها غير ضرورية وغير مرغوب فيها وتعلمها على قبول وضعها كأنثى. إن استقبال المولود الذكر يختلف عن استقبال الأنثى في أغلب مناطق المغرب، بل أن طقوس من الفرح بولادة الذكر تعلن الاختلاف البين عن ولادة الأنثى ومنه ينطلق سلسل التمييز، وبالمقابل تتقوى السلطة الذكورية الأبوية. في الولادة إذن تحدد ملامح الأسرة وتتواصل بعذئذ مهارات من النمو، ففي الطفولة تمنع الأنثى من اللعب وتشغل مبكرا في المطبخ في إطار تهييئها و "إنضاجها" للزواج، في حين تمنح للذكر كل الحريات والصلاحيات لتأكد ذكورته واختبار سلطته. إن وضعا كهذا لا يستفيد منه وكما يتبادر إلى الذهن أي من الجنسين، فلا الشاب الذي تتمثله الأسرة كدليل على الاستمرارية والحفاظ على الأسم العائلي، ولا الشابة التي تعي منذ البدء أنها انسانة من الدرجة الثانية. إن وضعا كهذا تنجم عنه مشاكل عدة تتصل باهتزاز الهوية وعدم فهم الذات والمحيط وعسر الاندماج. المرور الاجتماعي. إذن ينقذف الشباب إلى الأسرة، محاولا التخلص من طفولته الشقية، لتأكيد ذاته وكسب الاعتراف بفعاليته في المجتمع. يأتى الشباب إلى الأسرة بعد حيازته للشروط البيولوجية والنفسية والاجتماعية، وكل همه أن يتحرر من إشارات التبخيس والتصغير التي كانت له بالمرصاد خللا الطفولة، إنه لا يريد أن يسمع مجددا عبارات "البرهوش" " الدري" "دير عقلك" راك كبرت" وما إلى ذلك من ألوان العنف الرمزي. لكن هل تحدث القطيعة مع هذا العنف بمجرد المرور الاجتماعي إلى الشباب ؟ أم أن هذا العنف يتخذ صورا جديدة أكثر عتما وضراوة من السابق؟ إن المرور الاجتماعي للشباب يحدث بدءا في رحاب حقل يحتكم إلى قيم وممارسات تتمفصل كليا أو جزئيا مع حقول اجتماعية أخرى، فما يعني أنه ما يصيب الشباب داخل الأسرة تمثل امتداد لما يلاقيه أيضا في الحقول الأخرى. وهكذا يحل الشاب في حقل الأسرة حاملا مع رغبة قصوى في إثبات الذات وتأكيد الحضور. لكن هذه الرغبة تصطدم بالتمثلات الاجتماعية المترسخة في الوعي الأسري والجمعي أيضا. إن الشباب في نظر الأسر، هو طاقة إنتاجية لا يتوجب تعطيلها بأي حال من الأحوال، إذ على الشباب وبمجرد انخراطه الاجتماعي في هذه الفئة العمرية أن "يصفي ديونه " ويرد للوالدين تحديدا ما صرفوه عليه خلال صغره، ومن هنا فإن أية محاولة من هذا الشاب لتحقيق الاستقلال فإنها تقابل "بالسخط"، وهذا طبعا في حالة التي ينجح فيها الشاب في الحصول المبكر على العمل، أما في حالة العطالة، فإن التهميش والتعسف بكونه أبرز ردود فعل المؤسسة الأسرية. ولهذا فإن المرور الاجتماعي إلى جيل الشاب مغربيا غير مأمونه العواقب، إنه يكون في كثير من المؤسسات محفوفا بالحوادث الكارثية أحيانا. والتي تنجم بالضرورة عن الأنماط التنشوئية المعمول بها، ذلك أن الأنماط ممارسة الأهل لسلطتهم تتفرع إلى ثلاثة أساليب للمعاملة: الأسلوب المتشدد في المنع. والتحريم، أسلوب الحوار والتفهم ثم الأسلوب الضعيف والمتفكك ( ) وهذا يعني أن أزمة الشباب تظل في البدء والختام موضوعية وليست ذاتية نابعة من عدم فهم الذات، ذلك معطيات المحيط وطرائق التربية المتبعة هي المسؤولة عما يلاقيه ويعانيه من مشاكل اندماجية بالدرجة الأولى. خصوصا وأن أسلوب الحوار والتفهم هو أكبر غائب في أنماطنا التنشئوية بالعالم العربي. حيث نجد بالمقابل انتعاشا وانتشارا فادحا لقيم المنع والتبخيس أو اللامبالاة وعدم الانتباه لحاجيات الشباب. وهذا كله يفضي بنا إلى الاعتراف بأن المرور الاجتماعي إلى جيل الشباب، وفي رحاب الأسرة المغربية تحديدا يظل مفتوحا على احتمالات الخسارة وسوء الاندماج. السلطة الأبوية. إن رحلة اكتشاف الذات بالنسبة للشباب تصطدم منذ البدء بسلطة أبوية ساحقة تدعي امتلاك الحقيقة! وترفض النقد والمساءلة، وترفض رأسا مبادرات الشباب، ولهذا فإن هذه السلطة البطربركية ما تنفك تتهم الشاب بالنزف والتهور والمحدودية المعرفية. وبالرغم من أن النظام العائلي التقليدي والأبوي، تعرض لتغيرات أساسية بسبب التغيرات البنيوية في بعض المجتمعات العربية، فإن دور الأب لا يزال يقترنه بالطاعة والعقاب والسلطة والحزم فالصورة الغائبة حتى في مجتمعات التي حققت تقدما ملموسا في هذا المجال، لا تزال من النوع الأبوي الذي يتميز بسلطة الأب المطلقة( ). فالسلطة الأبوية المطلقة بكل أبعاده واحتمالاتها تتكرس فعليا في النسق الأسري المغربي، حصوصا وأن إمكانات الاستقلال الذاتي للشباب ومحاولات إثبات الذات بعيدا عن هذا النسق سرعان ما تقابل بمت.. الإحباط والإقصاء. فالفرد في المجتمع المغربي لا يوجد ولا يعترف بوجوده إلا داخل الجماعة، بل إن هذه الجماعة كيف ما كانت أطرها المرجعية تعمد في غالب الأحايين إلى خنق الجنوح نحو الفردانية الإيجابية طبعا، وعليه فإن الشباب لا يتوقف كثيرا في إثبات ذاتيته وإعلانه حضوره في أكثر من مؤسسة، وبأسلم المسالك. وفي المؤسسة الأسرية تحديد حيث تتألق السلطة الأبوية يكون للشباب لقاء مع قيم وممارسات تنهل مباشرة من أبعاد هذه السلطة وآلياتها المؤسسية. والواقع أنه لفظة "رب الأسرة" الأكثر شيوعا في مجتمعنا العربي تختزل الملامح الحقيقية لهذه السلطة الأبوية ولطبيعة اشتغالها في النسق الأسري."فهي تؤكد على قيم الطاعة والثقة وما يرافق ذلك من خوف وتردد وخضوع"( ). ففي مجتمعنا المغربي والذي يؤسس أبنيته وانتظاماته على ثنائية التقليدية والحديث في أنه واحد على اعتبار أن التركيب من أبرز خصيصاته، تعتمد السلطة الأبوية على مجموعة من القنوات لتصريف مفاعليها على مستوى الشباب، وذلك عبر الإنتاج الخضوع والامتثال لأن السلطة و من طبيعتها تقتضي وجود ممارسين ومالكين لوسائل الإكراه والسلطة. وبالمقابل خاضعين محتملين يفترض منهم الامتثال لضوابط ونواهي هذه السلطة. وإذا كان احتلال موقع معين في هيكلية المؤسسية.. يعطي من يحتل هذا الموقع القدرة على اتخاذ القرار والقوة في التوجه نحو الآخرين بالغرض أو الإقناع فإن من يفتقد إلى هذا الموقع وبالتالي إلى هذه السلطة المترتبة عنه لا يستطيع أن يملك سلطة ما لأن السلطة هي من نتائج الموقع الاجتماعي المؤسسي( ) وبما أن الشاب في الأسرة، وفي باقي المؤسسات المجتمعية- يصادر حقه في احتلال هذا الموقع، وامتلاك السلطة فإنه يظل واقعا من غير شكل تحت رحمة " السلطة الأبوية" التي تحد من الحرية وتساهم في إنتاج الظواهر المرضية المجتمعية في مستويات عدة. إذا كانت السلطة تستلزم الهيبة(autorité) باعتبارها الوجه الذاتي لسلطة أو النمط الشخصي لصاحب السلطة في الإدارة الجماعة وفي اتخاذ القرار( ) إذا كان الأمر كذلك فإن السلطة الأب في المجتمع المغربي تحاط بهيبة متقدمة تجمع بين احترام والرهبة في الوقت نفسه وذلك بالرجوع إلى التمثل الجمعي لهذا "الأب" والذي ينبني على معطيات دينية وثقافية و اجتماعية واقتصادية… ينهل من خلفيات وإطارات متناقضة أحيانا يحكمها ترجه الشباب واختياراته الفكرية. والواقع أنه هذه السلطة الأبوية تلوح في سباقات اجتماعية من خلال نظام كامل من الممنوع والمسموع- الذي يحتمل صفه المنح أيضا – يسعى إلى إنتاج شباب طيع يأتمر وينتهي بما يراه الأب صوابا ولو كأنه خطأ ! ولهذا فإنه هذه السلطة بما تؤسسه من وضعيات وما يترتب عنها من مواقف وتصورات تعد مسؤولة إلى جانب عوامل أخرى عن العلائقية المرضية للشباب في انفتاحه و انفلاته على المؤسسات المجتمعية. لكن كيف تستطيع هذه السلطة تصريف مفاعليها الرموزية و المادية؟ ولماذا يحاول الشباب دوما الفكاك من آلياتها التدجينية؟ وقبلا ما التدجين في اشتغال هذه السلطة؟ تدجين الشباب! إن التنشئة الاجتماعية ليست سوى تدجين اجتماعي للأفراد في ظل مؤسسات مختلفة المقاصد والوسائل، إنها سيرورة مجتمعية لإنتاج وإعادة إنتاج "الاجتماعي " الذي يريده مالكو وسائل الإكراه، فبالنظر إلى أساليب التنميط التي تتواصل أثارها الشائعة في المجتمع المغربي يتأكد أن هذه التنشئة التي تتواصل أثارها السليبة والإيجابية عبر مختلف القنوات المجتمعية، لا تكون في النهاية إلا تدجينا اجتماعيا يطمح إلى صنع أجساد طيعة تدمن المسايرة والمداهنة( ) إن الفرد الذي تريد إنتاجه مؤسسات المجتمع وشروط خاصة طبعا، وينبغي وإن يكون ذلك الفرد المغتصب، الفاقد لحرية الفعل والقرار، المنخرط قسرا في أقوى الجماعة، المؤمن بها حد العبادة والمنافع عنها حد الموت. ووصولا إلى هذا " الفرد" لا بد من التدجين، خصوصا وأنه النسق في شموليته يجنح إلى الحفاظ على إستمراريته وتلافي الاختلاف واللاتوازن، والاستقرار. فعن طريق الأسرة إذن وباقي المؤسسات التنشئوية الأخرى، يقوم المجتمع أداء وظيفة التدجينية للأفراد، ويطوعهم بالتالي وفق ما يخدم مصالحه وما يضمن وجوده، ومنه يستمر مسلسل إعادة الإنتاج الذي يأخذ مساره ومداه الطبيعي عبر التدجين الاجتماعي( ). ولهذا فالمطلوب من الشباب في المؤسسة الأسرية أن يكون أكثر انصياعا لسلطة الأبوية وأكثر امتثالا لقيمها ومعاييرها التوجيهية، وإن يكون أيضا ناقدا بالأساس لحرية القرار والفعل خارج نطاق الأسرة، فالولاء هو للأسرة في البدء والمنتهى. ومن يخرج عن هذه القاعدة فالمزيد من الفرملة وتقليم الأظافر له بالمرصاد. والشباب في الأسرة المغربية يطالب في كل حين بإعلانه الولاء وتقديم فروض الطاعة العمياء للسلطة الأبوية، ليس دائما من منطلق الاحترام والمسؤولية الاجتماعية، ولكن على أساس التخويف والترهيب. فالتدجين الاجتماعي ينطوي على الكثير من القهر والإلزام الذي يتخذ صيغة قوانين وقواعد جبرية يحتمل الخروج عليها أداء الثمن الباهض!ولأن الأسرة كما المؤسسات المجتمعية الأخرى تستحب الرهابة على الشباب وترفض بالتالي أية محاولة لإعلان الاستقلال وتأكيد الذات. ولأنها كذلك فإنها تراهن بنظام من الضوابط والقواعد الرمزية والمادية على تدجين الشاب في الاتجاه الذي يخدم مصالح المجتمع الأكبر، لكن هل الفعل التدجين للمؤسسة الأسرية لا يقابل بالمرة بالرفض الشبابي؟ أفلا يقوده عنف التدجين وما ينبني عليه من قمع وخنق للحرية إلى الثورة المضادة وإلى العنف المضاد؟!. إن موقف الإنسانية المتخلف من وضعية القهر هذه نجده يتراوح ما بين الرضوخ المستسلم، مع ما يرافقه من عقد نقص وعار ومهانة واستكانة وفقدانه للثقة بالنفس والجماعة، وبين العدوانية المفرطة التي تتخذ شكل علاقات اضطهادية تفرز مناخا عاما من العنف العلائقي، وبين التمرد المتفجر فرديا وبشكل عابر أو جماعيا بشكل يهز بنية المجتمع وقد ينتهي بتغييرها( ) وهذا يعني أن الفعل التدجين للأسرة وما يؤطره من سلطة أبوية يساهم في إنتاج ردود فعل فردية أو جماعية لا تتوقف عند حدود الطاعة العمياء والرضوخ السلبي بل تمتد إلى مستوى العدوانية والعنف والثورة المضادة بشكل فردي أو جمعي كما حدث في ماي68. الثورة المضادة. فما يلاقيه الشباب في رحاب المؤسسة الأسرية من ممارسات قمعية/تهميشية في الغالب، وما يتعرض له من عنف يساهم في إنتاج الشروط الاجتماعية لردود الفعل التي تتفاوت في درجتها بين السواء والخلل. في .. بسيطا في الفعل الشبابي المتصل بالمؤسسة الأسرية، لا يكون كذلك لحظة التفكيك والمقاربة، وما يتسم بالسكون والانتظام في المستوى العلائقي الشبابي- الأسري، قد يخفي في أعماقه ظواهر باثولوجية قائمة -الخطورة في بعدها الفردي والمجتمعي. وهكذا يصير التأخر في الالتحاق بالبيت وتنامي "الجليد" بين الأبناء والآباء وتجنب الاحتكاك بهم عنوانا بارزا على صراع قائم بين ثقافتين ووصول فعلي إلى درجة متقدمة من التنافر والتضاد، وإن كان ظاهر الأمور بيدي غير ذلك! إن جانبا من مشكلات الشاب يرجع إلى الكبت النفس الناتج عن ضيق الأجواء الاجتماعية وكثرة المعوقات العرقية إزاء الهوايات والميول( ) فالمؤسسة وأيا كانت طبيعتها، وفي مجتمعنا تحديدا تختص في الفرملة والمنع الذي تكشف نتائجه السلبية في واقع الشباب اليوم، والذي يمكن أن تقف فيه على نوعية التمثلات والتطلعات التي تتسم بالآنية والمحدودية وبالتقدم من كل شيء يرتبط بحياته، ويضخم من الاحباطات والحرمانات التي لا تنعكس بشكل إيجابي على سيروته النهائية( ) فعلاقه الشباب المغربي بأسرته تبقى سلبية قائمة على الرفض لأشكال التنميط الاجتماعي المبنى على الحشور والتدجين، فالنظام التربوية الاجتماعي يثنى الفرد عن الثقة في أرائه الخاصة ويشجعه على قبول أراء الآخرين دون تردد أو تساؤل وهذا ما ينمي في نفسه الإذعان السلطة الأبوية( ) وفي الآن نفسه ينثر في أعماقه بوادر الثورة المضاد والتي تتخذ صيغا مختلفة للتعبير من إمكاناتها ومساراتها. لتتكون معالم القطيعة بين الأجيال وتحدث أزمة التواصل التي تحيل الأسرة إلى مجرد أرخبيل من الجزر والعوالم المتناثرة والمتقوقعة على دواتها، وهو يؤدي إلى نمو النزعات الفردانية وما ينجم عنها من تهديد لمظاهر التضامن والتعاضد الأسري. إن الثورة المضادة تلوح ضمنا وعلنا في رفض ما هو أت من عند "الكبار" وهو ما يشكل إيهاما حقيقيا لنشوء القطيعة بين الأجيال أو ما عبرت عنه مركريت ميد هوة الأجيال*** ففي صراع الأجيال التقليدي لا يرفض الشباب إرث المجتمع، بل يرغب على العكس في أن يستأثر به لنفسه من دون أبيه وأن يتعجل الإرث، أما أزمة جيل الشباب كما نشهدها اليوم، فالشباب قد يرفض الإرث أصلا، قد يرفض أن يقلد النموذج الذي يقدمه الأب والكبار( ) وهنا يحتد الصراع بين الجيلين ويصل إلى مستوى القطائع السلبية التي تتهدد مجموع النسق المجتمعي. وعلى العموم فإن هذا الصراع يظل متراوحا بين الخفاء والتجلي، فقد يختفي في سلوكات انطوائية ومشاهد صامتة مثلما يتجلى بشكل واضح في "الخروج " على المؤسسة الأٍسرية والانقلاب على قواعدها وفي صراع الأجيال المتنامي باستمرار يتبن بأن الأمر يتعلق بثورة مضادة على سلطة أبوية مترسخة. فتمة صراع قائم بين ثقافيين تحاول كل واحدة منهما أن تسود على حساب الأخرى، بل وتحاول أن تخضع إحداهما الأخرى وتجعلها أكثر انتشالا لكل قيمها ومعايرها، وفي ذلك عنف واضح يؤجج الثورة والرفض الاجتماعي، وينتج في النهاية "هوة الأجيال" وما ينجم عنهما بالتبعية من ظواهر مرضية، ترد أسبابها خطأ وفي غالب الأحيان إلى جيل الشباب. إنه ليس مطلوبا من الشباب المغربي، وبمناسبة هذا المرور الاجتماعي غير تأكيد الإذعان لسلطة الأسرة وغيرها من السلط المتوزعة عموديا وأفقيا في المجتمع، بل وتأكيد هذا الانصياع عبر تقديم فروض الطاعة والولاء وفي كل اللحظة. وعليه يصير أي رفض محتمل لقرارات هذه السلطة، في نظر ماليكها والمستفيدين فيها من " الكبار" دليلا على أزمة ذاتية لجيل الشباب المرسوم أبدا بالنزف والتهور. وإن كأن الأمر عائدا بالأساس إلى أزمة موضوعية تتجاوز في أبعادها وامتدادتها سؤال الخاص إلى العام المفتوح على مكونات النسق الباثولوجية في شموليته التركيبية. نموذج مصغر! إن ما يجري داخل الكبانة الأسري من ممارسات سلطوية، وما يتفاعل في رحابها من أنماط تنشئوية، ويعتمل في أحشائها من صدقات وثورات مضادة، ما هو في النهاية إلا نموذج مصغر لما يجري بلا انقطاع في مجموع النسق المجتمعي، فالعلاقات السائدة في العائلة العربية هي العلاقات السائدة في المجتمع ككل وفي المؤسسات الاقتصادية والسياسية والتربوية، إن علاقة الأستاذ بالتلميذ، والعامل بصاحب العمل، والمواطن بالزعيم السياسي، والمؤمن بالزعيم الديني، تشبه إلى حد بعيد علاقة الولد بالأب، فهي في جميع هذه الحالات علاقات سلطوية أبوية تؤكد على قيم الطاعة والثقة وما يرافق-ذلك من خوف وتردد وخضوع( ) ولهذا فما يتعرض له الشباب من تبخيس وجدل إدماج وتهميش قصدي وعفوي يتعرض له بدرجات مختلفة في مؤسسات أخرى بعيدا عن سقف الأسرة، ذلك أن العائلة-هي في خصائصها الأساسية صورة مصغرة عن المجتمع، فالقيم التي تسودها من سلطة وتسلسل وتبعية وقمع هي التي تسود العلاقات الاجتماعية بصورة عامة( ) فأساليب التربية السائدة في الأسرة العربية القائمة على سحق شخصية الفرد إما عن طريق الاضطهاد والقساوة وإما عن طريق الافراط في الحماية( ) أي عن طريق الإدماج والتهميش كخيار مؤسسي في مواجهة حاجات الشباب وانتظاراتهم المعلقة. فالسلطة الأبوية التي يرتكن إليها النظام الأسري، وما يتساوق معها من تدجين اجتماعي وتمجيد للذكورة في إطار المرور الاجتماعي للشباب توازيه منظومات من السلط وآليات التدجين وإعادة الإنتاج التي تنتعش في ظل مؤسسات مجتمعية أخرى وبشكل حاد أحيانا. ليظل ما يصادفه الشباب في الأسرة اعتبارا لترابط الميكرو والماكروسوسيولوجي مجرد نموذج مصغر لألوان الإدماج والتهميش التي تحكم اشتغال النسق العام، وهذا ما نسعى إلى اختياره في الفصول القادمة.
#عبد_الرحيم_العطري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حقوق الإنسان الموقوفة التنفيذ : المهاجرون مواطنون من الدرجة
...
-
جينيالوجيا العقاب السجني : تاريخ التطويع القمعي للإنسان
-
المشهد الحزبي المغربي و مآزق الإفلاس
-
دار الشباب المغربية :إشكالية التأطير و هاجس الفرملة
-
ظاهرة الهجرة السرية : قطران الوطن أم عسل الضفة الأخرى
-
السجون المغربية : إعادة الإدماج أم إعادة إنتاج الجنوح
-
انتخابات 2007 بالمغرب: المخزن و القبائل الحزبية أمام الامتحا
...
-
المؤسسة العقابية و إعادة إنتاج الجنوح
-
المجتمع المدني بالمغرب : جنينية المفهوم و تشوهات الفعل
-
اعتصامات المعطلين بالمغرب : نجاح الحركات الاحتجاجية أم إفلاس
...
-
الشباب المغربي و المؤسسة الحزبية : جدل التهميش و الإدماج
-
الشباب و المؤسسة الحزبية : جدل التهميش و الإدماج
المزيد.....
-
كيف يرى الأميركيون ترشيحات ترامب للمناصب الحكومية؟
-
-نيويورك تايمز-: المهاجرون في الولايات المتحدة يستعدون للترح
...
-
الإمارات تعتقل ثلاثة أشخاص بشبهة مقتل حاخام إسرائيلي في ظروف
...
-
حزب الله يمطر إسرائيل بالصواريخ والضاحية الجنوبية تتعرض لقصف
...
-
محادثات -نووية- جديدة.. إيران تسابق الزمن بتكتيك -خطير-
-
لماذا كثفت إسرائيل وحزب الله الهجمات المتبادلة؟
-
خبراء عسكريون يدرسون حطام صاروخ -أوريشنيك- في أوكرانيا
-
النيجر تطالب الاتحاد الأوروبي بسحب سفيره الحالي وتغييره في أ
...
-
أكبر عدد في يوم واحد.. -حزب الله- ينشر -الحصاد اليومي- لعملي
...
-
-هروب مستوطنين وآثار دمار واندلاع حرائق-.. -حزب الله- يعرض م
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|