عزمي عاشور
الحوار المتمدن-العدد: 1197 - 2005 / 5 / 14 - 10:35
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
نائب مدير تحرير مجلة الديمقراطية
علي الرغم من أن ظاهرة علاقة المثقف بالسلطة قديمة قدم ظهور الإمبراطوريات والدول , إلا أنها شأن كثير من الظواهر, تغيرت سماتها بفعل التغير الذي لحق بمجمل الحياة وانتقل بها من مرحلة إلي أخري حتي وصل بها إلي هذا القدر من التطور الإنساني. وهذه الظاهرة بكل إشكالاتها تبرز في المجتمعات المتخلفة عنها في المجتمعات المتقدمة لظروف مرتبطة في بنية السلطة فيها . فالبيئة العربية علي مدار القرنين الماضيين جسدت هذه العلاقة بشكل يستحق الوقوف عندها , فالدولة المصرية -علي سبيل المثال- شهدت بزوغ هذه الظاهرة في وقت متزامن مع بزوغها في المجتمعات المتقدمة .. وهو ما يثير اكثر من علامة استفهام عند النظر إليه الآن .. فهذه العلاقة بشكلها العصري, تم تدشينها منذ قرنين, وبالتحديد يوم 13 مايو 1805عندما تولي محمد علي باشا مقاليد الحكم في مصر, بسيناريو يشكل أبجديات كيفية بناء الشرعية بين الحاكم والشعب في البدايات الأولي لنهضة مجتمع خارج لتوه من ظلمات العصور الوسطي. والقيمة هنا لا تكمن في الحدث في ذاته بقدر ما أنها تكمن في الأسلوب والطريقة التي استطاع بها الشعب بزعامة عمر مكرم إجبار الحاكم (أحمد خورشيد) أن يتخلي عن الحكم وينصبوا مكانه حاكما آخر اختاروه بشروطهم . وهذا الحدث برهن علي حقيقة تاريخية بأن ظاهرة مثقف السلطة قد ولدت من نفس ضلع مثقف الشرعية , فالأخير كان بدوره مشروعا ليصبح مثقف سلطة وعندما رفض أطيح به ولم يغفر له الجميل الذي قدمه للحاكم الجديد نظرا لأن عمر مكرم آثر أن يظل المثقف صاحب القضية حتي وإن كان قد لعب دور مثقف الشرعية , في البداية وهذا الموقف من المثقف مثل إشكالية حقيقية في الحياة السياسية العربية,والمصرية علي وجه الخصوص , فمنذ ذلك الوقت وحتي الآن, فالمتغير الأخير -مثقف الشرعية- مشترك بين الاثنين المثقف صاحب القضية و مثقف السلطة . علي اعتبار أن الإثنين قد يلعبان دور مثقف الشرعية مع الاختلاف في التوظيف, فقد نجد المثقف صاحب القضية يلعب دور مثقف الشرعية كما في حالة عمر مكرم مثلا وحالات أخري كثيرة مشابهة في أواخر القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين نتيجة طبيعة المناخ السياسي والثقافي التعددي. كما نجد مثقف السلطة نفسه يلعب دور مثقف الشرعية في النظم الديكتاتورية, وهو ما بدا واضحا في الدول العربية في النصف الثاني من القرن الماضي مع اختلاف التأثير لكلا النموذجين .
ويمكن القول أننا أمام معادلة أساسية طرفاها المثقف سواء كان مثقف السلطة أو المثقف صاحب القضية من ناحية والسلطة أو النظام السياسي سواء كان نظاما سلطويا أو نظاما ديمقراطيا من ناحية أخري.
وفي الآتي سوف نحاول التعرض لفترتين برز فيهما وجود هذين النموذجين, والظروف التي هيأت لوجود كل من المثقف صاحب القضية ثم مثقف السلطة .
أولا: بزوغ الحياة الليبرالية والمثقف الحر :
من المفارقات النادرة في التاريخ -إن لم تكن المستحيلة- أن يولد المثقف الحديث في مصر من خضم العلاقة المعقدة بين حاكم عسكري أجنبي ظل أميا حتي الأربعين من عمره وهو محمد علي (1769-1849) ونقيب أشراف مصري تعلم قليلا في الأزهر ولم يؤلف كتابا واحدا ولم يشتغل بالفكر أو الكتابة هو السيد عمر مكرم (1755-1822). ولكن الاثنين -محمد علي وعمر مكرم- قاما بتأسيس سلطة جديدة علي أرض مصر بإرادة الشعب, عندما توجه عمر مكرم في عام 1805 مع مجموعة من مشايخ الأزهر إلي دار محمد علي في الأزبكية وعرضوا عليه منصب الولاية بالشروط التي فرضوها علي الحاكم السابق . وقالوا له جميعا لقد اخترناك لذلك برأي الجميع والكافة, والعبرة رضا أهل البلاد (1), ومن هنا نلحظ ظاهرة ولادة مثقف الداعية مثيرة للتساؤل, فهو يولد في وقت واحد مع ولادة الدولة ذات المشروع التحديثي الخاص بها, حتي لو كان هذا النوع من المثقف لم ينسجم مع مشروع محمد علي فيما بعد , فهو قد بسط نفوذه ولم يعد في حاجة الي اجتلاب الشرعية من العلماء, كما أن مشروعة التحديثي تطلب نوعية أخري من المثقفين.
يمكن القول إن انقلاب محمد علي, علي مثقف الشرعية , كان له ما يبرره من كون أن مشروعه التحديثي تفوق علي رؤية مثقف الشرعية بحكم قدراته المحدودة, في حين أن مشروع محمد علي كان مشروعا عصريا يحتاج الي عقول جديدة مطلعة علي العلوم الحديثة التي ظهرت نتائجها مع الحملة الفرنسية علي مصر في عام 1798, ومن هنا كان من الطبيعي أن يهتم بالمثقف الخبير الذي يرسله في بعثات إلي الخارج, وكان النموذج الأول لهذا المثقف هو عثمان نور الدين الذي أوفده محمد علي إلي ايطاليا في عام 1809 والذي مهد بدوره الطريق للبعثة التي كان علي رأسها رفاعة الطهطاوي في عام 1826. وإن كان رفاعة الطهطاوي (1801-1873) صاحب المشروع المغاير لمشروع الدولة وليس المعارض لها أو المعترض عليها, فهو لم يكن بـ المثقف الخبير إلا أن وجوده علي رأس بعثة علمية مهمتها الأولي هي تأهيل هذه النوعية من المثقف جعله يكون صاحب مشروع ورؤية مغايرة وليست متعارضة, وتم الاستفادة بعد ذلك بشكل كبير من مشروعه. واستمر هذا النهج من قبل محمد علي في تأهيل المثقف, وسار علي نفس النهج أيضا خلفاؤه من الأسرة العلوية(2). إلا أن الحياة السياسية المصرية ومشروع نهضتها شهد أيضا تأثير ثلاث مؤسسات في تكوين المثقف : وهي مؤسسة الأزهر في القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين والجامعة المصرية في بداية القرن الماضي , فضلا عن المؤسسة الثالثة وهي الصحافة, والتي كانت ساحة نضال لهذه الفئة من المثقفين بكافة تياراتهم وإنتماءاتهم .
وعلي قدر ما هناك تفاصيل كثيرة في هذا الشأن إلا أن القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين كانا يمثلان بحق فترة المثقف صاحب المشروع, حيث أنه علي مدار هذا الوقت برزت أسماء تركت أثارا عظيمة فيما كانت تنادي به في مشروعها النهضوي, فبخلاف رفاعة الطهطاوي, وعلي مبارك كان هناك أيضا في بداية القرن الماضي قادة فكر يحملون مشعل التنوير أمثال قاسم أمين, وأحمد لطفي السيد, وغيرهم من المفكرين الليبراليين, وأيضا الاشتراكيين أمثال سلامة موسي وتظهر هذه القيمة بشكل كبير عند مقارنة هذا الأمر بالفترة التي أعقبت الاستقلال مع منتصف القرن العشرين, والتي اختفي فيها ليس فقد المثقف التقني , وإنما أيضا المثقف صاحب المشروع ليظهر علي الساحة بدلا منهما مثقف السلطة , في وقت كانت هذه المجتمعات في أمس الحاجة إلي هذين النوعين في فترة المخاض لبناء دولة وطنية.
ثانيا: الديكتاتورية ومثقف السلطة :
بدأت هناك إشكالية حقيقية تتعلق بالحالة التي آلت إليها الحياة السياسية والثقافية العربيتين في أعقاب حصول أغلبها علي الاستقلال منذ ما يزيد عن النصف قرن, وهي تتجسد في حالة الازدواجية والانفصام التي بدت واضحة بشكل كبير لكل فئة علي حدة أو بالنسبة للعلاقة فيما بينهما .. فبالنسبة للمثقف كان الانفصام داخل المثقف الواحد, وبين المثقفين وبعضهم البعض: هذا ليبرالي وذاك أصولي والثالث اشتراكي والرابع قومي فضلا عن مثقف السلطة وهكذا. (3)
ومن هنا, فبعد الاستقلال بقليل انتهي شهر عسل معظم المفكرين مع أنفسهم, ومع مجتمعهم ومع الحكام الجدد, مفرزا واقعا جديدا تجلي في سلبيتين: الأولي: سلطوية النظم والثانية: مثقف السلطة والتي ارتبطت بالأولي في كونها ترعرعت في هذا المناخ الكابح للحريات وكان مجرد انتشار كلا النموذجين ضمنيا يعني اختفاء أي بارقة أمل في وضع أسس صحيحة لنهضة المجتمع بعد هذا الانقطاع المتعمد الذي حدث في مسيرتها لأسباب ترتبط كما يفسرها علماء الاجتماع بتعانق مايسمي بـ البداوة الفكرية التي تجسدت في أنصاف المثقفين والمتهافتين منهم علي السلطة مع البداوة السياسية والتي ترجمتها علي أرض الواقع الأنظمة المستبدة مولدة في النهاية بيئة سياسية مفككة علي مستوي القاعدة ومنفصمة علي مستوي القمة عن المجتمع .
ويكون السؤال المنطقي هنا هو , لماذا تسيد هذا المناخ بعد الاستقلال علي الرغم من وجود فترات سابقة تشهد علي سمو وسبق هذه المجتمعات في أن تخطو خطوات نحو التقدم, مصر علي سبيل المثال؟ وما هي الظروف والعوامل التي جمعت الطرفين ليسيرا في نفس الطريق؟
1- استبداد السلطة الحاكمة :
إن المعضلة الأساسية التي وقع فيها المجتمع المصري عقب الاستقلال تكمن في أن النظام الجديد قضي علي كل مظاهر الليبرالية التي نضجت في الفترة السابقة مثل التعددية السياسية (إلغاء الأحزاب) والتعددية الفكرية (تأميم الصحف علي سبيل المثال), فظهرت حالة من التنافر والكره لكل المؤسسات التي نضجت علي مدار المائة والخمسين سنة السابقة للثورة, في سابقة خطيرة لو لم تحدث لكان لمصر شأن ريادي آخر. فعملية الهدم والتحول من التعددية الي التوحد في كيان ونظام واحد فكريا وسياسيا, قد جففت وأوقفت حركة النهضة المصرية وأخرجتها من الطريق الممهد لتسير في طريق وعر غير واضح المعالم .. وفرض هذا الواقع شكلا جديدا للحياة السياسية والفكرية علي خلاف ما ساد في الفترة السابقة, فظهرت حاجة السلطة الجديدة لإيجاد مثقف يقوي من شرعيتها المنقوصة وكان اقرب سبيل إلي ذلك هو تجنيد أشباه المثقفين.. حيث أن الطرفين كانا في حاجة إلي خلق شرعية لكليهما لافتقادهما إليها في مجتمع احتل فيه المثقف الحر منزلة كبيرة علي مدار فترة طويلة, ومن هنا كان طبيعيا أن يستخدم النظام السياسي أدوات التهميش والإقصاء تجاهه ليحتل مكانه مثقف السلطة .
2- الشرعية المشوهة بين الحاكم ومثقف السلطة :
تحتاج السلطات السياسية إلي الشرعية الأساسية التي يزودها بها المثقفون الدينيون والعلمانيون والنخب الأخري في المجتمع .. حيث يقوم المثقفون بصياغة نسق من الرموز ونسيج من الأفكار المبررة للشرعية السياسية للممارسة المتعلقة بالسلطة, ومثل هذه الأنساق المتعلقة بالتبرير يمكن تصنيفها إلي مجموعتين فرعيتين, فالمثقفون قد يقومون بصياغة تبريرات جديدة في مواقف تاريخية لم تعد المبررات القديمة كافية لتدعيم مؤسسة السلطة, أو أنهم قد يخلقون نسقا جديدة كلية من التبريرات , وذلك لتبرير نسق جديدة للسلطة .. وفي هذا الشأن قدم جرامشي تحليلا مفصلا لأهمية دور المثقف في خلق شرعية السلطة وذلك من خلال إيضاحه لوظيفة المثقف العضوي .. حيث اعتبر جرامشي أن المثقفين العضويين يمثلون ضرورة لازمة لصعود طبقة حاكمة جديدة لأن هؤلاء المثقفين يقومون بتزويد هذه الطبقة بإحساسها بالتجانس ووعيها بوظيفتها ليس فقط فيما يتعلق بالميادين الاقتصادية , ولكن أيضا في الميادين الاجتماعية والسياسية(4).
كما أن عمل المثقف يرتبط بالسلطة بأساليب عديدة , فعن طريق الأفكار يستطيع المثقف أن يؤيد أو أن يبرر وجود السلطة أو أن يثير الشكوك حولها علي أنها سلطة متعسفة وظالمة , وعن طريق الأفكار يستطيع المثقف أن يتستر علي القائمين علي السلطة أو أن يكشف أمرهم كما يمكنه أيضا أن يحول الانتباه عن مشاكل السلطة وعن الواقع الاجتماعي بصفة عامة. حيث في المجتمع البيروقراطي تتمثل وظيفة المثقف في أن يقوم بإنتاج ونشر رموز التبرير وتحويل الانتباه , وأن يقوم بإنتاج أساطير مناسبة لتبرير شرعية ذلك المجتمع وتهدئة مخاوف ومشاعر قلق الطبقة المتوسطة الناجمة عن الأزمات الحالية في المجتمع البيروقراطي, وحيث أن قرارات السياسة الاجتماعية في المجتمع البيروقراطي يتم صنعها علي نحو غير مسئول بواسطة القلة الحاكمة , لذلك تكون هناك حاجة الي عدد كبير من الرجال والنساء المؤهلين ثقافيا, وذلك في داخل وخارج الأجهزة البيروقراطية لتضليل وخداع وتهدئة الجماهير. وهو الأمر الذي يؤدي الي أن يصبح المثقف في المجتمعات المتخلفة بوقا دعائيا(5)بالدرجة الأولي قبل أن يكون مثقفا صاحب قضية.
3- مثقف التشيع والقولبية (Stereotypes)(6):
إن تجارب التاريخ الفكرية تكشف أن الفكر الخلاق كان دائما مقصورا علي عدد قليل. والذين لا يستطيعون الإسهام فيه بطريقة مباشرة أو غير مباشرة يفرزون هذه القطاعات الدنيا التي لا تعرف حدودها الفكرية أو تعترف بقصورها الفكري , وتحاول التعويض عن هذا النقص الفكري فيها بالمواقف الديماجوجية زي عالية الصوت والمزايدات الشعاراتية , والضغوط النفسية والسياسية علي الآخرين(7). فأنصاف المثقفين يكونوا عادة بعيدين ليس فقط عن المعرفة الناضجة الغنية, بل تكون أفكارهم انعكاسا للذاتانية القولبية Stereotype أو التكرار المتواصل شبه الميكانيكي لأراء مقبولة عن شخص أو قضية. فأفكار كهذه تخدم الطبقات الحاكمة وليس المجتمع. إن الإدانة الأولي للفكر القولبي أو النمطي هي أنه يملأ الصفحات دون نهاية بالألفاظ الفارغة , والإدانة الثانية هي أنه فكر يعتمد بشكل واضح علي إرهاب الآخرين (8) والصاق تهم الخيانة بهم .
ومثل هذه النوعية من المثقفين سمة تميز المجتمعات في حالة سيطرة نخب سلطوية عليها , علي اعتبار أنه من السهل أن يحدث توافق بينها وبين هذه النخب . فمثلا هذه الظاهرة نجدها انتشرت في روسيا في عهد ستالين, وألمانيا في عهد هتلر, وإيطاليا في عهد موسيليني, وفرنسا في وقت هزيمتها ... الخ. حيث كانت الانتليجنسيا غير قادرة وغير راغبة في أن تقدم نمو ذجا للمقاومة الأخلاقية, هذا إن لم نقل القيادة الأخلاقية للشعب(9). وهذه هي السمة الأساسية التي ميزت المجتمعات العربية في النصف الثاني للقرن العشرين ببروز هذه الفئة بشكل طغي علي المثقف صاحب القضية, وإذا كانت هناك نماذج ايجابية , فهي نتيجة أن تكوينها وتأهيلها تم في مراحل سابقة كان يسود فيها مناخ تعددي حر ساعد بشكل كبير علي تكوين أمثال توفيق الحكيم, نجيب محفوظ, طه حسين, حتي وإن تم استخدامهم كرموز في هذه المرحلة.
4- صناعة حروب طواحين الهواء :
طبيعي أن يدافع أي نظام سياسي عن مصالحه ويسخر في سبيل ذلك الإعلام وبعض المثقفين للدفاع عنه وترويج هذا المبدأ , إلا أن الخطورة تكمن في أنه عندما تنحرف هذه النظم عن أداء دورها الطبيعي ينعكس ذلك , بالأساس , بالسلب علي المجتمع , فالنظم الديكتاتورية تسخر الميديا لتبجيل أفرادها حتي لو كان ذلك علي حساب المجتمع, ومثلما يكون هناك قولبة أو نغمة واحدة يرددها أشباه المثقفين , هناك نفس الظاهرة تنطبق علي النظام السياسي الذي تنتشر فيه , حيث أن السلطة تتحكم في المجتمعات المتخلفة بالثقافة وتفرض صياغاتها المؤدلجة لخدمة أهدافها, مما يؤدي إلي تعطيل سبل الإبداع. كما أن السلطة تعمل جاهدة علي تجييش أو حشد أدوات الثقافة . وهذه الخاصية خلقت معسكرا لمثقفي السلطة في مقابل جبهة من المبدعين الرافضين لهذا النهج الذي لايخدم في النهاية الا المصالح الذاتية , في حين أن المهام الأساسية للمثقف تظل دائما في الوقوف إلي جانب الحق والدفاع عن مصالح شعبه ورفع مستوي الوعي لدي الفرد في المجتمع بغرض المطالبة بحقوقه كفرد وكعنصر أساسي من عناصر التنمية والبناء في المجتمع.(10).
إذا كان المناخ الثقافي والسياسي في مصر إبان أواخر القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين قد ساعد وصنع المثقف صاحب القضية .. فانه في المقابل, الحقبة الممتدة من منتصف القرن الماضي وحتي الآن كانت شاهدة علي اغتيال واختفاء هذه النوعية من المثقفين الأمر الذي جعل المجتمع والمثقف ضحية في الحالتين, فتم اختصار الكل في واحد في مفهوم أمني ضيق , ومن ثم فالمثقف والمجتمع لا يجب أن يحيدا عن الزعيم أو الدولة حتي لو أخطأ .. حيث أن هذا التفويض التي أعطته بعض الزعامات لنفسها برر لها أن تدخل في مهاترات وحروب من أجل خلق شرعية مصطنعة , فهذه الظاهرة باتت من الأمور المألوفة في المجتمعات العربية في الخمسين سنة الماضية, نتيجة ضعف الشرعية للنظم مما كان يدفعهم ليدخلوا في منازعات وحروب بعيدا عن الهدف الأساسي الذي كان يجب أن تعمل له هذه النظم من تنمية داخلية وغيرها .. ومثل هذا الوضع خلق حالة بلبلة للمثقف بشرائحه المختلفة, فحالات الحروب المستمرة جعلت الصورة غير واضحة وجعلت الهدف يجب أن يكون واحد ا لدي صانع القرار والمثقف والمجتمع مبتسرا في عبارات كــ الدفاع عن أمن الوطن وهو مايعني ضمنيا أن محاولة ابداء وجهة نظر تخرج عن هذا الخط هو خيانة للوطن , وهذه النظرةالأحادية جعلت بعض النظم السياسيةالعربية بمختلف تنويعاتها تستغل هذه الشعارات .كأداة لخلق الشرعية لها. ووسط هذا المناخ الضبابي كان يسهل تسييس المثقف حتي وإن بدا صاحب قضية .. وتم تجسيد هذه العلاقة بشكل كبير في أكثر من نظام عربي كان أبرزها فترة حكم الرئيس صدام حسين 1979-2003 . فبعد أن تم تفريغ النخبة المثقفة العراقية المعارضة للنظام بدأ يستعين بمثقفي السلطة لبناء شرعية مفقودة سواء من داخل العراق أو من خارجه تحت إغراءات مادية ومعنوية .فقد وظف هذا بشكل جيد حتي قبل دخوله في مغامرات في حروبه. فهو الذي التقط حالة الرفض والمعارضة لما أقدم علية الرئيس السادات بتوقيع اتفاقيات سلام مع إسرائيل, واستغل ذلك في توظيفها لخدمة ليس نظامه فقط, وإنما أيضا الأنظمة التي تسمي بـ الراديكالية , واستطاع أن يلعب علي هذه الجزئية مستغلا حالة اللاموقف لمجموعة كبيرة من المثقفين التي تاهت وسط شعارات الأمن القومي والحروب والتحديات الخارجية هروبا من مواجهة تحديات الداخل , معتبرة ما أقدم عليه السادات يمثل خيانة بالدرجة الأولي, ومن ثم كان من الطبيعي أن تنطلق قاطرة المثقفين لتسير في ركب صدام حسين, فلم يكن يمضي أسبوع واحد, علي سبيل المثال , دون أن تحمل الطائرات العراقية عدة ألوف من المدعوين من رجال الأحزاب والإعلاميين والكتاب والصحفيين والفنانين ورجال الدين لحضور هذا المؤتمر أو ذاك في بغداد, ينزلون في الفنادق الفاخرة ويغرقون في العطايا والهدايا ثم يعودون إلي بلادهم فلا يرون شيئا من مظاهر الطغيان والديكتاتورية والقسوة .. بل إن بعضهم عاد ليكتب عن جنة صدام حسين (11).
وقد أدي ذلك إلي تعاظم ظاهرة المثقف المؤدلج الذي لا يحارب من أجل فكرة بمقدار ما أنه يحارب من أجل أشخاص . هذا الالتحام بين الديكتاتورية وشبه المثقف أوجد ما يعرف بصك الشرعية الذي يمنح بشكل متبادل بين الطرفين ليتحول مثقف السلطة الي جلاد يمسك بسياط السلطة لينال من المثقف الحقيقي.
ومن هنا نلاحظ أن المثقف الحقيقي يخوض صراعين كبيرين هما: صراع السلطة المعيبة وصراع الطارئين علي الحركة الثقافية من مثقفي السلطة (الانتهازيين) وهو (الأقسي والأشرس) للمثقف الحقيقي, فالأخير يستخدم آليات قمع متعددة: الإلغاء والتهميش ورفض الآخر, وهو الأمر الذي يصبح مقدمة لاغتيال المثقف الحقيقي معنويا قبل أن يكون جسديا, ومن هنا يصبح الصراع الذي يخوضه المثقف الحقيقي ليس دفاعا عن نفسه فقط وإنما دفاعا عن المجتمع بأسره حيث أن المثقفين يدافعون عن جوهر وجودهم ومغزاه, لكنهم أيضا يناضلون في تخليص المجتمع من آفات القمع والإرهاب التي تكبله وتستنزفه وتشوهه(12).
ثالثا: المثقف صاحب القضية أم مثقف السلطة ؟
إذا كانت مجتمعاتنا قد تأثرت بالإيجاب بالمثقف صاحب المشروع والمثقف التقني . في نفس الوقت التي أضيرت من مثقف السلطة, فإن التساؤل يدور حول هل هذه النوعية الايجابية سوف تظهر من جديد؟ وبالأخص في ظل الواقع الجديد الذي يفرض علي هذه المجتمعات.
بالنظر إلي الأوضاع السياسية في الوطن العربي الحالي نستطيع أن نحكم علي مستقبل هذين النموذجين من المثقفين. فإذا كانت الخمسين سنة الماضية قد عظمت من مثقف السلطة أو المثقف الانتهازي علي حساب المثقف صاحب المشروع .. نتيجة العلاقة غير المشروعة التي تبحث عن المشروعية بين الديكتاتورية أو الاستبداد وبين هذه النوعية من المثقفين, فان كل المؤشرات تقول أن صوت هذه النوعية سوف يخبوا ويعود صوت مثقف صاحب القضية والمثقف الخبير يعلو مرة ثانية, فالأرضية مازالت مهيئة لاستقبال هؤلاء, وخصوصا أن مساهماتهم مازالت قائمة علي الرغم من عوامل الاقصاء التي تعرضوا لها , فا النموزج الأول لعب دورا كبيرا في صناعة النهضة المصرية الحديثة في الفترة من أواخر القرن التاسع عشر وحتي منتصف القرن العشرين, وهو قادر الآن علي أن يلعب هذا الدور في هذا الواقع بكل المستجدات التي تجتاحه, والثاني المتمثل في المثقف التقني والذي كان محمد علي باشا سباقا في تقدير أهميته وقيمته والذي أقام علي فكره دعائم نهضة مصر الاقتصادية والصناعية في ذلك الوقت. ومن هنا, فمن باب أولي في الوقت الراهن بالتحديات الموجودة في مجتمعاتنا ,أن يلعب المثقف الفعلي أي صاحب القضية والمشروع هذا الدور من جديد حتي لو لم يغب مثقف السلطة .
الهوامش :
1- د. غالي شكري, المثقفون والسلطة في مصر, دار اخبار اليوم, الطبعة الأولي, القاهرة, ص46.
2- نفس المرجع السابق, ص52.
3- نفس المرجع السابق , ص.28
4- د. محمد احمد اسماعيل علي, دور المثقفين في التنميةالسياسية, دراسة نظريية مع التطبيق علي مصر, رسالة ماجستير, كلية الاقتصاد والعلوم السياسية, 1985, ص508.
5- نفس المرجع السابق , ص510-511.
6- د. نديم البيطار, المثقفون والثورة (الانتبليجنسيا كظاهرة تاريخية) بيسان للطبع والنشر, الطبعة الثانية, بيروت 2001, ص112.
7- نفس المرجع السابق, ص111.
8- نفس المرجع السابق, ص114.
9- http://www.rezgar.com/debat/show.art.asp?aid=29653
10- نفس المرجع السابق.
11- سلامة أحمد سلامة, جريدة الأهرام 19 أغسطس 1990.
12-http://www.arabicwata.org/Forums/topic.asp? TOPIC-15- ID=1788
#_عزمي_عاشور (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟