|
الهدف الأسمى هو وحدة العالم الإنساني
راندا شوقى الحمامصى
الحوار المتمدن-العدد: 4183 - 2013 / 8 / 13 - 00:39
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
إن العالم الإنساني ليتمنى فعلاً أن يحقق الإتحاد والـتآلف لعل وعسى أن تنتهي دورة عذاباته وعنائه الممتدة منذ القدم. أما وحتى الآن فإنه مازال يرفض الإرتماء في أحضان النور ويستكبر عن وضع جبهته على عتبة قدرته ليطلب النجاة من كل هذه البلايا والمتاهات.
كم هي رهيبة هذه النبوءة العظيمة التي إشتد طنينها في بيان حضرة بهاءالله التالي: "إنا قد جعلنا ميقاتاً لكم فإذا تمت الميقات وما أقبلتم إلى الله ليأخذكم عن كل الجهات ويرسل عليكم نفحات العذاب عن كل الأشطار وكان عذاب ربك لشديد...".
على هذا الأساس فهل على هذه البشرية يا ترى أن تتحمل بلايا أخرى قد تصفي وتتأهب للدخول في الملكوت الإلهي المرتقب متى ما إستقر على هذه البسيطة؟ هل من المفروض لمثل هذا العصر الملكوتي الواسع المتلألئ -الفريد من نوعه في تاريخ البشرية- أن لا ينبلج إلا بعد أن تعاني البشرية عذاباً أليماً يفوق مرات عدة المصائب التي أفضت إلى سقوط الإمبراطورية الرومانية في القرن الأول المسيحي؟ وأخيراً هل هو مقدر يا ترى أن تقع زلزلة في أركان العالم لتقلب كيانه رأساً على عقب قبل أن يثبت حضرة بهاءالله خيمته في قلوب الناس وأفئدتهم وقبل أن يعترف العالم أجمع بعظمته وقبل أن يرتفع بنيان نظامه العالمي إلى عنان السماء؟
لقد إنتهى منذ الآن فصاعداً زمن طفولة العالم، وعالم اليوم قد أبتلي بهيجان وإلتهاب متلازمين ومترافقين مع أصعب مراحل تكامله وبلوغه. مرحلة سكن فيها غرور الشباب وجموحه بعد أن بلغ ذروته ليحل محله الهدوء والتعقل والمتانة التي تتناسب ودورة البلوغ الحالية ليصل العالم الإنساني بعدها إلى مرحلة الرشد والنضج والكمال كي يتمكن من حيازة قوى وإستعداد وقابلية وجاهزية تتوقف عليها ترقياته النهائية.
إن إتحاد العالم الذي يتجه الناس نحوه لهو من أكثر المراحل تلألؤاً وتوهجاً. إن وحدة الأسرة، الوطن، المدينة، القومية إنما هي مراحل خلفتها البشرية وراءها بنجاح نسبي وإن إتحاد عالم اليوم هو الآن هدف هذه الإنسانية الحائرة. لقد طوى عصر بناء القومية وبلغ الهرج والمرج -الناتجان عن تكون الدول القومية المختلفة- أوجهما، لهذا فيجب على العالم الذي سيصل إلى البلوغ أن يخلص نفسه من شرور هذا الوثن وأن يقبل بترابط وتآلف وإنسجام جميع العلاقات الإنسانية ويوجد دفعة واحدة آلية يتجسد فيها هذا المبدأ الوحدوي الأصيل.
تفضل حضرة بهاءالله بما مضمونه: "إن روحاً بديعة قد حركت في هذا العصر كل شعوب العالم وإلى الآن لم يكتشف أحد علته ولم يتعرف شخص إلى محركه". كما يوجه هذا الخطاب لجيله المعاصر بما مضمونه: "يا أبناء الإنسان. إن دين الله ومذهب الله هما لأجل حفظ العالم وإتحاده ومحبته وإتفاقه وألفته...ذاك هو الطريق القويم والأس المحكم المتين. إن ما يوضع على هذه اللبنة لن تحركه حوادث الدنيا ولن يذيبه طول الزمن". كما ويتفضل أيضاً بما مضمونه: "إن إصلاح العالم وراحة الأمم سوف لن يظهرا إلا بالإتحاد والإتفاق". وبالإضافة إلى كل ما سبق فإنه يشهد بأن "الآفاق ستتنور بنور الإتفاق وكان الله عليماً وعلى ما أقول شهيداً...هذا الهدف هو سلطان الأهداف وهذا الأمل هو أعظم الآمال". وأخيراً يتفضل بما يلي: "إن ربكم الرحمن يحب أن يرى من في الأكوان كنفسٍ واحدة وهيكلٍ واحد، أن إغتنموا فضل الله ورحمته في تلك الأيام التي ما رأت عين الإبداع شبهها".
إن وحدة العالم الإنساني بالشكل الذي قرره حضرة بهاءالله يستلزم تشكيل جامعة عالمية متحدة تضم جميع الأمم والأعراق والطبقات والأديان في وحدة متكاملة، إلا أنها وحدة تحفظ -في الوقت نفسه- إستقلالية كل فرد وحريته وإبداعاته الشخصية. وإلى القدر الذي يمكن لخيالنا أن يشطح فإن هذه الجامعة العالمية المتحدة يجب أن تكون ذا هيئة قانونية مشرعة يملك أعضاؤها تحت أيديهم -بصفتهم أمناء البشرية جمعاء- موارد كل دول الجامعة العالمية لسن قوانين ضرورية لازمة من أجل تنظيم الحياة وسد الحاجات وترميم روابط جميع الأقوام والشعوب. وفي مثل جامعةٍ كهذه تقوم هيئة تنفيذية -مسنودة بقوة الشرطة الدولية- بتنفيذ كافة قرارات وقوانين الهيئة المشرعة وحفظ وحدة الجامعة العالمية. ويجب أيضاً أن تشكل محكمة عالمية تفصل في الدعاوي المرفوعة من أعضاء ذلك النظام العالمي وتكون أحكامها نهائية وملزمة، إلى جانب أن يتم خلق شبكة إتصالات ومخابرات دولية تقوم بعملها في سرعة مدهشة ونظام كامل مرتب، وتغطي هذه الشبكة -والتي ستكون محررة من كل القيود القومية- كافة أرجاء العالم ويتم تحديد عاصمة دولية لتكون بمثابة نواة أعصاب المدنية العالمية للوحدة والتحكم وتوجيه القوى الموحدة لينفذ من خلالها أنوار باعثة للقوة ومنعشة للروح إلى جميع الجهات. كما يبتكر لسان دولي أو تنتخب أحد الألسنة الموجودة لتدرس في دول العالم الفيدرالي جنباً إلى جنب مع لغة الأم. يعين خط واحد وآداب واحدة ونظام مشترك للعملة والأوزان والمكاييل مما يسهل بالتالي من عملية الترابط والتفاهم بين الأعراق المختلفة وشعوب العالم، وفي ظل جامعة كهذه يتاح للمطبوعات مجال واسع لإظهار الأفكار والعقائد وستأبى أن تكون أداة طيعة للإستخدام السيء من قبل المغرضين سواء بصفة شخصية أو عمومية كما لن تكون تحت نفوذ أية دول متخاصمة أو سيطرة شعب معين. تنظم الموارد الإقتصادية العالمية للإستفادة القصوى منها، كما تتوسع سوق العرض للمنتجات والسلع وتلاقي الإنسجام وتتوزع بشكل منصف حسب الأولويات.
تنتهي كل العداوات العرقية بالمحبة وحسن التفاهم والتعاون. ترفع كل أسباب الخصومات الدينية وتلغى كل القيود الإقتصادية ويتلاشى الإختلاف الطبقي الفاحش. ينقضي الفقر والعوز المدقع كما تزول الثروات والأملاك الباذخة وتخصص من بعد ذلك الجهود الجبارة المصروفة في الحروب الإقتصادية والسياسية على نحوٍ لائق في أهداف بنّاءة من قبيل: توسعة الإختراعات والتطورات الحرفية والتقنية، رفع معدلات الإنتاج البشري، إزالة الأمراض وتكثيف الأبحاث العلمية ورفع مستوى الصحة وشحذ العقول البشرية، إستغلال المنابع المجهولة في الأراضي البكر، إطالة الأعمار والقيام بترويج أي وسيلة من شأنها تقوية أساس الحياة الفكرية والأخلاقية والدينية لبني الإنسان.
وفي مثل جامعةٍ كهذه سوف يستقر نظام فدرالي عالمي يحكم جميع البلدان ويكون القائد الأول بلا منازع لكل موارده الضخمة ويأخذ تحت ظله الأيديولوجيات السامية في الشرق والغرب ويحطم تعويذة الحرب والتعاسة ويكون راغباً كذلك في الإستفادة من جميع المنابع والموارد الموجودة في الأرض. وفي ظل نظامٍ كهذا ستكون القوة خادمه للعدل والقضاء، وسيستند بقاؤها على معرفة الله الواحد وإتباع دين عمومي. هذا هو الهدف الذي تساق البشرية نحوه مدفوعة بقوى الوحدة المحيية بشكل لا مفر لها منه.
وفي ذلك السياق يتفضل حضرة عبدالبهاء بما مضمونه: "من جملة الوقائع العظيمة التي ستقع في يوم ظهور هذه الغرسة التي لا مثيل لها هو إرتفاع علم الأمر بين جميع الأمم بمعنى أن جميع الشعوب والقبائل ستأتي تحت ظل تلك الراية الإلهية والتي هي نفسها ذلك الغرس الرباني لتصبح شعباً واحداً وستزول كل الخصومات المذهبية والطبقية والعرقية فيصبحون بمثابة دين واحد ومذهب واحد وجنس واحد وقوم واحد ويعيشون في وطن واحد ألا وهو هذه الأرض". كما يتفضل أيضاً بما مضمونه: "لقد وضع أساس هذه الموهبة الكبرى والمنقبة العظمى بمنتهى المتانة بيد القدرة الإلهية في عالم الإمكان وسيظهر بالتدريج ما هو مكنون في هوية هذا الدور المقدس. الآن هي بداية الإنبات وظهور الآيات البينات. وفي آخر هذا القرن سيظهر أنه كم كان ربيعاً روحانياً وكم كانت موهبة سماوية".
أدلى حضرة أشعيا -وهو من أعظم أنبياء بني إسرائيل- بحديثٍ ساحر قبل 2500 سنة حدد فيه مصير البشرية وما سيحدث في دورة بلوغها بما يلي: "وتسير شعوبٌ كثيرة ويقولون هلم نصعد إلى جبل الرب إلى بيت إله يعقوب فيعلمنا من طرقه ونسلك في سبله لأنه من صهيون تخرج الشريعة ومن أورشليم كلمة الرب، فيقضي بين الأمم وينصف لشعوبٍ كثيرين فيطبعون سيوفهم سككاً ورماحهم مناجل. لا ترفع أمة على أمة سيفاً ولا يتعلمون الحرب فيما بعد". "...ويخرج قضيب من جذع يسي وينبت غصن من أصوله...ويضرب الأرض بقضيب فمه ويميت المنافق بنفخة شفتيه ويكون البر منطقة متينة والأمانة منطقة حقوية فيسكن الذئب مع الخروف ويربض النمر مع الجدي والعجل والشبل والمسمن معاً وصبي صغير يسوقها والبقرة والدبة ترعيان. تربض أولادهما معاً والأسد كالبقر يأكل تبناً ويلعب الرضيع على سرب الصل ويمد الفطيم يده على حجر الأفعوان. لا يسوئون ولا يفسدون في كل جبل قدسي لأن الأرض تمتلئ من معرفة الرب كما تغطي المياه البحر...".
كما يوجد بيان مشابه لصاحب المكاشفات في العهد الجديد في مقدمة مقاله الذي يتحدث عن جلال اليوم الموعود الذي يفوز فيه العالم الإنساني بما هو علة فلاحه وسعادته ما يلي: "ثم رأيت سماءً جديدة وأرضاً جديدة لأن السماء الأولي والأرض الأولي زالتا، وما بقي للبحر وجود وأنا يوحنا رأيت المدينة المقدسة أورشليم الجديدة نازلة من السماء من عند الله كعروس تزينت وإستعدت للقاء عريسها وسمعت صوتاً عظيماً من العرش يقول: "ها هو مسكن الله والناس يسكن معهم ويكونون له شعباً. الله نفسه معهم ويكون لهم إلهاً. يمسح كل دمعة تسيل من عيونهم. لا يبقى موت ولا حزن ولا صراخ ولا وجع لأن الأشياء القديمة زالت".
من هو ذاك الذي سيشك في أن الوصول لنقطة الكمال هذه -أي تحقق بلوغ العالم الإنساني- سوف لن يكون بدوره فاتحة مدنية عالمية لم تر لها العين مثيلاً ولم تخطر على بال أحد؟ من ذا الذي بإمكانه أن يرسم في ضميره صورة لعظمة مقام المدنية التي من المقدر لها أن تنبلج تدريجياً؟ وهل من أحد يستطيع تخمين علو الأوج الأعلى الذي هو مستقر طيور الفكر الإنساني الهاربة من القفص؟ وأخيراً من منا يملك قدرة تصوير الفضاء البرح الذي يكشف الروح البشرية تحت ظلال الأنوار المتلألئة لحضرة بهاءالله؟
وكم هم جميل أن نجعل مسك ختام مقالنا هذا بيان حضرة بهاءالله ذاك الذي يتحدث فيه عن العصر الذهبي لدينه المبارك الذي ستنقلب كرة الأرض من تشعشع أنواره إلى جنة الأنوار قوله تعالى: "هذا يومٌ لا يرى فيه إلا الأنوار التي أشرقت ولاحت من أفق وجه ربك العزيز الكريم. قد قبضنا الأرواح بسلطان القدرة والإقتدار وشرعنا في خلق بديع فضلاً من عندنا وإنا الفضال القديم. هذا يومٌ يقول فيه اللاهوت طوبى لك يا ناسوت بما جعلت موطئ قدم الله ومقر عرشه العظيم، ويقول الجبروت نفسي لك الفداء بما إستقر عليك محبوب الرحمن الذي وعد به ما كان وما يكون". (النظام العالمي لحضرة بهاءالله)
#راندا_شوقى_الحمامصى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الروحانية نهج للحياة
-
الخطبة المباركة(لحضرة عبد البهاء) باللّغة العربيّة في تونون
...
-
نقطة تحول في مسيرة الحضارة الإنسانية
-
شمس الحقيقة
-
الإنسان وفصول الطبيعة
-
الأمم المتحدة تفحص اسباب العنف ضد المرأة والفتيات
-
موازين إدراك حقائق الأشياء
-
السلام أيها الإنسان في كل مكان
-
نحو الاتّحاد
-
لماذا تتعدد الأديان وما سبب الاختلاف بين أتباعها2-2
-
لماذا تتعدد الأديان وما سبب الاختلاف بين أتباعها1-2
-
تحزّب العالم تحت عباءة الدين 3-3
-
تحزّب العالم تحت عباءة الدين 2-3
-
تحزّب العالم تحت عباءة الدين 1-3
-
الدين واحد
-
الإنسانية وصراعها اليوم
-
وادي الفقر الحقيقي والفناء الاصلي- السفر السابع للسالكين إلى
...
-
وادي الحيرة السفر السادس للسالكين إلى الوطن الالهي من المسكن
...
-
وادي الإستغناء السفر الخامس للسالكين إلى الوطن الالهي من الم
...
-
وادي التوحيد السفر الرابع للسالكين إلى الوطن الالهي من المسك
...
المزيد.....
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
-
إيهود باراك يفصح عما سيحدث لنتنياهو فور توقف الحرب على غزة
-
“ألف مبروك للحجاج”.. نتائج أسماء الفائزين بقرعة الحج 2025 في
...
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|