|
حقوق الإنسان الموقوفة التنفيذ : المهاجرون مواطنون من الدرجة الثانية
عبد الرحيم العطري
الحوار المتمدن-العدد: 1196 - 2005 / 5 / 13 - 10:36
المحور:
الهجرة , العنصرية , حقوق اللاجئين ,و الجاليات المهاجرة
حقوق الإنسان الموقوفة التنفيذ المهاجرون مواطنون من الدرجة الثانية عبد الرحيم العطري في هذه الورقة أشياء من ذلك الملتهب والشقي الذي نعانقه باستمرار كلما تناهت إلينا أخبار الموت في المالح ، و كلما صفعتنا وسائل الإعلام بمتاهات الهجرة والحقوق المغتصبة! فالإنسان المهاجر الهارب طبعا من قطران البلاد طمعا في عسل الآخر وفردوسه المفقود، يصطدم في الهنا والهناك بما يؤكد له بالملموس بأنه مواطن من الدرجة الثانية، وأن حقوقه المشروعة تظل دائما على كف عفريت! قد لا يستطيع إليها وصولا!! قطران البلاد ها قد عاف الجميع قطران البلاد، الكل ضاق ذرعا بهذا الفساد وهذه العفونة الطافحة، أطفال وشباب وكبار بلغوا من الكبر عتيا، يصرون اليوم على ركوب الخطر، على حجز مقعد بائس في قوارب الموت، وبمبالغ خيالية أيضا، موسم الهجرة نحو الشمال انطلق منذ زمن بعيد، وليس هناك في الأفق ما يدل على أنه سينتهي أو تتقلص نتائجه الكارثية. الكثيرون من أبناء هذا الوطن ما صاروا قادرين على تجرع قطران الوطن، فالأحلام هنا والآن فقدت نضارتها وبهاءها، وما عاد الحلم ممكنا في زمن التزوير والقمع والإصدار العلني للطاقات، لقد حان وقت الرحيل وبأي طريق ممكن ولو كان سيفضي إلى مقبرة المتوسط! هكذا إذن ينطلق مسلسل الهجرة في مطلق الأحوال، فالهجرة هروب قسري من إفك الضياع والتهميش، لتذوق عسل البلدان الأخرى، فهل يحدث الإلتذاذ بهذا العسل؟ أم أن المهاجر يصادف في رحلة عذاباته قطرانا آخر حتى في الشمال المعسول؟ . إن الهجرة في وجهيها القانوني وغير القانوني تكون في الغالب دليلا على إفلاس المشروع المجتمعي وفشله في ضمان العيش الكريم لأفراده وجماعاته، وهي دليل آخر على حجم التهميش وعمر الإدماج في النسق المجتمعي العام. الستار الحديدي ان المقاربة الأمنية لسؤال الهجرة، وما يرتبط بها عضويا وعمليا من شن نظام قاس وفادح للتأشيرات وإجراءات العبور، وما تنطوي عليه تلك الإجراءات من تطبيق حر في سياسة الستار الحديدي، إن ذلك كله يجعل الهارب من القطران إياه أمام واقع آخر من الإذلال والتبخيس، ويطرح أمامه بدائل وخيارات جبرية أحيانا لبلوغ المشتهى أي الضفة الأخرى! فدول الشمال صارت اليوم في غنى عن كل هذه الأعداد الغفيرة من اليد العاملة، هي اليوم في حاجة إلى الكفاءات والأدمغة، أما زمن القوى العضلية فقد انتهى، والثورة التكنولوجية كفيلة بالإنتاج وبأقل الخسائر، وفضلا عن ذلك فهذه الدول ذاتها لها حساباتها المصلحية التي تدعوها إلى بناء ستار حديدي في وجه النازحين نحوها من الجنوب! إن الأمر أشبه ما يكون بحرب طويلة المدى، فإسبانيا مثلا تسخر مئات الطائرات والردارات، والأسلاك الشائكة والقوات الخاصة المستنفرة دوما، لمواجهة الهجرة السرية، والتي تستعملها كفزاعة في وجه الإتحاد الأوربي، تحصد بواسطتها الملايين سنويا، لكن ومع تنامي سياسة الستار الحديدي، فإن سيول الهجرة مستمرة في التدفق نحو الشمال، والقوارب ملأى عن آخرها تبغي وطء يابسة الضفة الأخرى، الشيء الذي يؤكد محدودية المقاربة الأمنية، ويبرز في الآن ذاته وجوب التفكير في مقاربات تشاركية إنسانية - تتأسس على الحوار والتفاهم. العسل المر ولنفرض جدلا أن الهارب من القطران بشكل قانوني أو سري قد نجح في هزم سياسة الستار الحديدي وحل ضيف لا مواطنا على الآخر، فما الذي يحدث عندئذ؟ ما الذي ينتظره في ذاك الهناك؟ العسل أم القطران؟ ليس هناك غير العسل المر، فالتهميش والتحقير طعام لا غنى عنه في العمل والشارع وباقي المرافق الإجتماعية، ليس هناك غير ما يدل على أنه "مواطن" من الدرجة الثانية يصلح فقط للاستغلال، وبأقصى الحدود وأبشع الأشكال، أو ليس الوعي القاسي بهذا الألم هو ما يجعل كثيرا من المهاجرين أثناء عودتهم إلى "الوطن" يفجرون مكبوتاتهم باستعراض السيارات الفارهة وموسيقاها العالية؟ إن التأمل النقدي لسلوك المهاجر بين ذويه أثناء قضائه للعطلة يقود إلى الاقتناع بأن هناك محاولات جادة للتنفيس عن المكبوت والتعويض عن شهور عديدة من الحرمان والتبخيس، ولا عجب في هذا السياق، أن يظهر المهاجر في هذه المناسبة الوحيدة في السنة للآخرين من بني جلدته الذين لم تكتب لهم الذهاب إلى هناك بعد، أنه أعلم الناس بما يجري ويدور، وأنه أغناهم وأفضلهم في كل شيء، وله العذر في ذلك كله، فعلى مدى شهور عديدة سيكون على موعد يومي مع كل ألوان الإقصاء والتحقير فقط لأنه قادم من الجنوب! إنه العسل المر الذي نلهث جميعا وراءه هربا وخوفا من قطراننا ومن ضياعنا في زحمة الوطن، فعن أي حقوق نتحدث؟ ولأي إنسان أو مهاجر نتوجه؟ وفي ظل أية شروط سوسيوسياسية؟ ما بعد 11 شتنبر ثمة عالم جديد قد تشكل بعد الحادي عشر من شتنبر، وثمة صورة نمطية قد تم تسويقها وعلى نطاق واسع للإنسان العربي، فبعدما كرس الإعلام الغربي فائق الجهود في سنوات خلت لاختزاله في صورة المهووس بالحبس والليالي الحمراء والغطرسة وانعدام الأخلاق، ها هي ذي الآلة الإعلامية الغربية تجعل إسمه ووجوده لصيقا بالإرهاب! فالعربي ما بعد انهيار البرجين متهم وللأبد بالضلوع في خلايا نائمة أو مستيقظة، فهو الإرهابي الذي يستبيح دم الآخر، وهذا فعلا ما يروج له أباطرة الصورة والأخبار اليوم، بل إن الدول العربية بانخراطها المشبوه في "الحرب على الإرهاب" تساهم في ترسيم هذه الصورة النمطية، حتى تبدي الولاء والطاعة العمياء للنسر الأمريكي الذي ما زال يلعق جراح شتنبر المشهود! إذن في ظل هذه الإفرازات وهذه الإمتدادات أي معنى محتمل لأن يكون الإنسان مهاجرا؟ هل يمكن الحديث والحالة هذه عن مواطنة كاملة؟ وهل لا يغدو النقاش حول حقوق الإنسان واحترامها تحديدا في دول الشمال بأنها للمساواة والعدالة والإخاء مجرد ترف فكري يراد منه التلميع لا غير؟! قد يبدو أن الهجرة مباشرة بعد هذا التاريخ انتكاسة حقوقية، فحتى المكتسبات المتواضعة التي تم الوصول إليها من ذي قبل، تعرضت للإنتقاص والتراجع، وبدا للمهاجر وكأنه عاد إلى درجة الصفر في حقوق الإنسان، فإجراءات المنع آخذة في الإرتفاع، وإمكانات العيش في إطار الإختلاف بدأت تتضاءل، وفداحة العنصرية الجديدة بدأت ترمي بظلالها القاتمة على مشهد الهجرة. من الدرجة الثانية! وهكذا كله يسير في اتجاه التأكيد على أن المهاجر في الهناك هو مواطن من الدرجة الثانية إن جاز علينا أن نطلق عليه صفة المواطنة! فهو محروم من أبسط الحقوق الإنسانية، يتم تمثله كطاقة إنتاجية خاملة، ليس من حقه أبدا أن يساهم في صنع القرار وتقرير المصير! بل إن سياسات الهجرة في دول المهجر لا تنأى عن منطق المقاربة الأمنية والتدبير الخالص لليد العاملة، هذا التدبير الذي يفرغ قصدا من محتواه الإنساني، مما يخلق بالتبعية ظواهر التمييز والإقصاء وما يستتبع ذلك من تجريد كامل من حق الإحساس بالمواطنة الكاملة! وإذا كان المهاجر القانوني يبدو إلى حد ما متمتعا بدرجة من هذه المواطنة المفترضة من خلال المشاركة السياسية والتمكن من بعض الحقوق، فإن المهاجر الآخر "الحارك" يلاقي جانبا مهما من الهوان والإذلال، والإنتهاك السافر لحقوقه الإنسانية، ولأنه كذلك فهذا يجعله معرضا للإستغلال من طرف مافيات الجنس والمخدرات والعنف، ويجعله أيضا مدمنا للخسارات في كثير من جوانب حياته، إنه العسل المر! إن المواطنة - المبتورة للمهاجر في دنيا الآخر تنفضح بشكل مكشوف في العديد من المجالات والمناسبات، ففي السكن يبدو الأمر شبيها بغيتوهات العزل، وفي العمل كأن الأمر يتعلق بعبودية جديدة لم تقطع مطلقا من قيم الإقطاع! وهذا يجعل المشهد الهجروي في شقه غير القانوني - وللأسف فهو الأعم والغالب - يؤشر على انطلاق عهد عبودي جديد يبدو فيه المهاجرون كأقنان وإماء ليس من حقهم تذوق عسل المواطنة وحقوق الإنسان التي ركبوا من أجلها قوارب الموت! عمالنا / عملاتنا بعد كل هذا الألم الباذخ، بعد كل هذا الضياع في زحمة أوطان لا تؤمن شروط المواطنة، يعود المهاجر إلى بلده الأصلي، لتمتين الأواصر وأداء الواجبات العائلية، يأتي مثخنا بجراح التهميش، فبعد يافطات الترحيب التي تختزله فقط في عملة صعبة، الآن فقط صار مهما يخصص له موسم عبور متطور، وتنشر في طريقه لافتات الإعتزاز به وبإنجازاته من أجل ملء الخزينة بعملته الصعبة! رحلات إشهارية في البر والبحر، في الجرائد وعلى الأثير تقول للمهاجرين جميعا "عمالنا/عملاتنا الصعبة مرحبا بجيوبكم لا بالإنسان القابع فيكم"!! وبالنظر إلى ما يعانيه المهاجر في ديار الهجرة، فإنه يأتي إلى بلده، أكثر إلحاحا على التخلص من كل ذلك التهميش والتبخيس، ولهذا يصر على استقدام أحدث السيارات واستعمال أحدث الصيحات في اللباس والمأكل والموسيقى، وإن كان ذلك كله يتعارض جذريا مع موقعه الإجتماعي وإطاره المرجعي، فالمهم بالنسبة إليه في شهر العطلة هو تأكيد الإمتياز والتفوق ومحو آثار السياط التي تلهبه في الهناك! وهنا والآن أيضا يظل المهاجر مواطنا من الدرجة الثانية، محروما من الحق في المشاركة السياسية ومختزلا في العملة الصعبة، إنه قطران البلاد دائما! قانون الهجرة وفي الوقت الذي يطالب فيه الجميع الإتحاد الأوربي بالتراجع عن سياسة الستار الحديدي والمقاربة الأمنية لملف الهجرة، يغرد المغرب خارج السرب ويقوم بسن قانون للهجرة على المقاس لمواجهة النزوح الإفريقي، وبذلك تشتغل الآلة الترويعية وتقوم بإنتاج قانون لا ينضبط لخلفية حقوق الإنسان ولا يساير ما يدعو إليه المغرب في شأن الهجرة مع أوربا، فقط لأن المعنيين به هم من دول الفقر والفاقة والحروب الأهلية التي لا تنتهي. إن الحاجة اليوم باتت ملحة لإعادة النظر في هذا القانون المعروض حاليا على البرلمان، لأنه يستهدف المساس بحق التنقل الذي يعتبر حقا رئيسيا منصوصا عليه في مختلف العهود والمواثيق الدولية، بل إن هذا القانون وفي صيغته الحالية يضع المغرب في خانة الكيل بمكيالين، فمن جهة هناك مطالبة دائمة للتخلي عن المقاربة الأمنية للهجرة وإعمال حقوق الإنسان خصوصا في جانب حرية التنقل، ومن جهة أخرى، هناك جهاز مباشر على هذا الحق بالنسبة لقادمين من جنوب الصحراء، فكيف نطالب الآخر باحترام حق نجهز عليه قبلا؟ هذا ما رقد في الأعماق جراء الإنغماس في مناقشة الهجرة وحقوق الإنسان على مدى يومين بين فرقاء متنوعين، أجمعوا ختاما على أن مسألة الهجرة مؤجلة الحسم إلى حين الإعتراف بالكرامة والحق في المواطنة وإلى حين التحرر النهائي من قطران البلاد واستحالته إلى "عسل محلي الصنع" يعفي جحافل المعطلين والمهمشين وغيرهم من التفكير، ولو خطأ، في النزوح نحو الشمال/لكن متى يحدث ذلك؟ باحث في السوسيولوجيا.
#عبد_الرحيم_العطري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
جينيالوجيا العقاب السجني : تاريخ التطويع القمعي للإنسان
-
المشهد الحزبي المغربي و مآزق الإفلاس
-
دار الشباب المغربية :إشكالية التأطير و هاجس الفرملة
-
ظاهرة الهجرة السرية : قطران الوطن أم عسل الضفة الأخرى
-
السجون المغربية : إعادة الإدماج أم إعادة إنتاج الجنوح
-
انتخابات 2007 بالمغرب: المخزن و القبائل الحزبية أمام الامتحا
...
-
المؤسسة العقابية و إعادة إنتاج الجنوح
-
المجتمع المدني بالمغرب : جنينية المفهوم و تشوهات الفعل
-
اعتصامات المعطلين بالمغرب : نجاح الحركات الاحتجاجية أم إفلاس
...
-
الشباب المغربي و المؤسسة الحزبية : جدل التهميش و الإدماج
-
الشباب و المؤسسة الحزبية : جدل التهميش و الإدماج
المزيد.....
-
رقمٌ قياسيّ لعملة فضية نادرة سُكَّت قبل الثورة الأمريكية بمز
...
-
أهمية صاروخ -MIRV- الروسي ورسالة بوتين من استخدامه.. عقيد أم
...
-
البرازيل.. اتهام الرئيس السابق جايير بولسونارو بالضلوع في مح
...
-
اكتشاف عمل موسيقي مفقود لشوبان في مكتبة بنيويورك
-
وزيرة خارجية النمسا السابقة: اليوم ردت روسيا على استفزازات -
...
-
الجيش الإسرائيلي يوجه إنذارا إلى سكان الحدث وحارة حريك في ال
...
-
أين اختفى دماغ الرئيس وكيف ذابت الرصاصة القاتلة في جسده كقطع
...
-
شركة -رايان- للطيران الإيرلندية تمدد تعليق الرحلات الجوية إل
...
-
-التايمز-: الغرب يقدم لأوكرانيا حقنة مهدئة قبل السقوط في اله
...
-
من قوته إلى قدرة التصدي له.. تفاصيل -صاروخ MIRV- الروسي بعد
...
المزيد.....
-
العلاقة البنيوية بين الرأسمالية والهجرة الدولية
/ هاشم نعمة
-
من -المؤامرة اليهودية- إلى -المؤامرة الصهيونية
/ مرزوق الحلالي
-
الحملة العنصرية ضد الأفارقة جنوب الصحراويين في تونس:خلفياتها
...
/ علي الجلولي
-
السكان والسياسات الطبقية نظرية الهيمنة لغرامشي.. اقتراب من ق
...
/ رشيد غويلب
-
المخاطر الجدية لقطعان اليمين المتطرف والنازية الجديدة في أور
...
/ كاظم حبيب
-
الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر
/ أيمن زهري
-
المرأة المسلمة في بلاد اللجوء؛ بين ثقافتي الشرق والغرب؟
/ هوازن خداج
-
حتما ستشرق الشمس
/ عيد الماجد
-
تقدير أعداد المصريين في الخارج في تعداد 2017
/ الجمعية المصرية لدراسات الهجرة
-
كارل ماركس: حول الهجرة
/ ديفد إل. ويلسون
المزيد.....
|