|
آدم وحوّاء في رؤية جديدة - قراءة نقديّة لرواية -الكون في راحة اليد-
كلكامش نبيل
الحوار المتمدن-العدد: 4180 - 2013 / 8 / 10 - 20:33
المحور:
الادب والفن
لطالما تساءلت عن الصورة التي ستكون عليها قصّة خلق آدم وحوّاء فيما لو تمّت مناقشتها من وجهة نظرة إمرأة وكيف كان يمكن أن تكون عليه عقليّة شعوب العالم التي يهيمن عليها الفكر السامي، هل سيكون في إمكان مناقشة القصّة بطريقة أخرى أن تغيّر المفاهيم لتنصف المرأة من جديد، المرأة التي تشير الأدلّة التاريخيّة إلى أنّها كانت تحظى بمكانة عظيمة في العصر السومري في العراق فنرى الملكة كوبابا التي حكمت طوال مئة عام وكذلك الأميرة السومريّة بو-آبي ومقابرها الثريّة هذا بالإضافة إلى ملكات مصر واليمن وسوريا وغيرها من أصقاع العالم القديم قبل سيادة الفكري الأبوي والعقليّة الذكوريّة، حيث تشير تماثيل الإلهات الأم وإلهات الخصب في عصور ما قبل التاريخ في شتّى أصقاع العالم إلى حداثة ذلك الفكر نسبة إلى ذلك الماضي الغابر. ظلّت هذه الأسئلة تراودني حتّى لعب الصدفة دورها عندما بدأت البحث عن رواية لأقرأها في مكتبتي فعثرت على ظالّتي بعد أن قامت الكاتبة والشاعرة النيكاراغويّة جيوكوندا بيلي بالمهمّة بشكل مثير للدهشة عندما جاءها الإلهام بالصدفة لتعيد سرد الحكاية برؤية جديدة تماما وإن إستندت في إطارها العام على القصّة التوراتيّة الواردة في سفر التكوين وكذلك كتب أخرى ككتاب أخنوخ ورؤى باروخ وأناجيل محرّمة والميندرا ولفائف البحر الميّت ومخطوطة نجع حمّادي، فقد مزجت رؤاها الخاصّة بمعلومات إستقتها من هذه الكتب وزاوجت كل هذا الكم المعرفي والخيالي مع رؤيتها الخاصّة والغريبة أيضا لنظريّة التطوّر. ولكن جاء كل ذلك بإسلوبها الشاعري الخاص والذي لا يسعنا إلاّ أن نشر المترجم والروائي أحمد عبد اللطيف الذي حفظه لنا بشكله الجذّاب من خلال ترجمته المتميّزة.
من أبرز ما لفتني في باديء الأمر إهداء الكتاب فقد جاء في نص الإهداء على ما يلي: "أهدي هذا الكتاب إلى ضحايا حرب العراق المجهولين. ففي مكان ما من تلك الأرض، كان هنالك فردوس ذات مرّة بين دجلة والفرات." فعلى أرض العراق قامت جنّة عدن يوما ما كما يخبرنا بذلك سفر التكوين ودجلة والفرات هما أحد أنهار الجنّة الأربع ونجد لذلك صدى في الآداب السومريّة وكلمة "إدينو" السومريّة التي تعني السهل أو جنّة عدن، كما أنّ أحداث الرواية والألم والتيه والقتل تذكّرنا بمعاناة مواطني الفردوس المفقود عبر التاريخ وبمأساتهم المستمرّة لحد اليوم. فلا يسعنا أن نتذكّر الفردوس من دون أن نتذكّر سومر وختم الإغراء العائد للعصر الأكدي – حوالي القرن الثالث والعشرين – الثاني والعشرين ق.م. – والمحفوظ في المتحف البريطاني الآن والذي يصوّر بجلاء إمرأة ورجلا يحيطان بشجرة وخلف المرأة يقف الثعبان المذكور في سفر التكوين، لتكون بذلك ما يعتقد الباحثون بأنّه أقدم وصف لحادثة الإغراء وشجرة المعرفة.
إسم الرواية مثير للإهتمام ويوحي للقاريء بأنّه على وشك الغوص في مغامرة فلسفيّة عميقة والأمر كذلك فعلا ولكنّ لغتها الشاعريّة والمناسبة والإسلوب البسيط في عرض تلك القضايا يجعله قادرا على إلتهامها بسرعة، لأنّ بساطتها تتناسب مع بساطة فكر تلك المرحلة البدائيّة وإن كانت نقاشات آدم وحوّاء في الرواية تعبير عن أسئلة أزليّة لم تحل حتّى يومنا الحالي. دوّنت الكاتبة في البداية إقتباسات تعبّر بوضوح عن فكرتها الرئيسيّة في الرواية وهي أنّنا سنعود في النهاية لنقطة البدء، فقد دوّنت فكرة تي. إس. إليوت القائلة "نهاية إكتشافاتنا الوصول إلى المكان الذي منه بدأنا وعرفناه للمرّة الأولى." وترافق هذه الفكرة أحداث الرواية حتّى النهاية وإن كنت أشعر فيها أحيانا تجسيدا لفكرة الدائرة وأنّنا ندور طويلا لنعود لنقطة البداية، فكما أنّنا نولد من العدم الذي لا نعرف ما سبقه فإنّنا نعود إلى تلك الظلمة المجهولة عندما يأتينا الموت. أمّا العنوان فقد جاءت فكرته من أبيات شعريّة جميلة للشاعر ويليام بليك: كي ترى العالم في حبّة رمل والسماء في زهرة بريّة، حِط بالكون في راحة يديك وبالأبديّة في ساعة زمنيّة.
في البداية تتكلّم الروائيّة عن اللحظة التي وجد فيها آدم نفسه وحيدا وكيف أنّه بدأ يستكشف نفسه والمكان المحيط به وتسرد لنا شعوره بالوحدة وكيف توصّل لذلك الشعور من خلال حاجته إلى أن يكون نافعا أو أن يجد لنفسه وظيفة أو مسؤوليّة وتصف ذلك كالآتي "ولم يكن يحتاج إلى شيء ولا شيء كان يبدو في حاجة إليه. فشعر أنّه وحيد." وتلقى الكاتبة على عاتق الشعور بالوحدة أو الخوف منها مسؤوليّة الكثير ممّا حدث وإن بصورة غير مباشرة وغير محسوسة في أحيان أخرى.
فيما بعد زال ذلك الشعور بعثور آدم على حوّاء بعد أن إستيقظ من نومه الأوّل، أو لربّما يكون قد عرف ذلك الشعور بعد أن زال بلقاءه بها وإستكشافه للشبه بينهما، وعندها بدأ يشعر بأهميّته عندما بدأ يأخذها ليعلّمها أسماء الكائنات وما قام بإكتشافه في الجنّة. وفي تلك الأثناء بدءا يشعران بأنّهما مراقبان وبأنّ هنالك من يقف وراء سبب وجودهما، فنقرأ تساؤلاتهما الأولى "من يمكنه أن يشرح لنا من أين جئنا؟ الآخر. وأين الآخر؟ لا أعرف أين هو. أعرف فقط أنّه يحيط بنا." وقد إستمرّا في البحث عنه رغبة منهما في معرفة ما الذي يريده منهما، وهنا يبرز دور الرغبة في المعرفة والبحث كمحرّك رئيسي للأحداث، الفضول وحب الإستطلاع هي ميزة البشر ومن دونهما يصيب الركود حياتهم. وبعد فشلهما في العثور على الآخر يحاول آدم تفسير ذلك بأنّهما "ربّما يستطيعان رؤيته فقط عندما تنضج عيونهما وتصير أكثر قِدما." ونقرأ في هذه محاولة لإعطاء الزمن الفرصة كي يكشف لنا المزيد وبأنّه لا يمكننا أن ندرك كلّ شيء بسرعة وقد تتطلّب المعرفة أجيالا بشريّة كاملة فهي عمليّة بناء شديدة البطء وقد تتسارع وتيرتها أحيانا وقد تركد في أحيان أخرى وفقا للحريّة التي توفّرها الحقب الزمنيّة المتعاقبة.
ثم يأتي عثور حوّاء التي تنصفها الكاتبة فتجعل منها السبب الرئيسي للتساؤل وبأنّها هي من رأت شجرة معرفة الخير والشر عند منبع النهرين وهو الأمر الذي فاجأ آدم الذي لم يرها رغم إستطلاعه المسبق للجنّة، وهناك إلتيقا بالأفعى التي تصفها الكاتبة بشكل يشابه أفعى حضارة المايا المزوّدة بريش في رأسها، وتبدو الحيّة حكيمة جدّا وأو كما وصفتها حوّاء "يروق لها أن تظهر بمظهر العارف بالأشياء" وتخبرهم الأفعى عن أصل حوّاء الذي أخبر آدم زوجته به من قبل، إذ تقول، "أنتِ كنتِ بداخل الرجل. حفظك إلوهيم في أحد أضلعه؛ لا في رأسه، حتّى لا تكتشفي تكبّره، ولا في قلبه، كيلا تشعري برغبة التملّك." وهذه القصّة الواردة في سفر التكوين تجد لها نظير في الأدب السومري أيضا من خلال قصّة نِن-تي سيّدة الضلع أو سيّدة الحياة. وتحاول الكاتبة من خلال هذه الفكرة تفسير الصلة القويّة بين الرجل والمرأة وبأنّهما شيء واحد غير قابل للإنقسام ويتوق للإتّحاد والإلتحام دائما وأبدا، وبأنّهما يكمّلان بعضهما البعض ولا يمكن لهما أن يفترقا أو يستغنيا عن بعضهما البعض.
تواصل الرواية تصوير حوّاء المفعمة بالأسئلة والراغبة في المعرفة عندما تخبرهما الحيّة بأنّه لا يمكن أن يأكلا من هذه الشجرة ولكنّها في الوقت ذاته تغريهما وتحاول دفعهما للقيام بذلك مستغلّة في ذلك الرغبة الجارفة في الإستكشاف المغروسة في داخلهما، ولكنّها تحاول تخويفهم من العقاب بالموت عندما تقنعهما بأنّ إلوهيم " يفضّل أن تبقيا هادئين وسلبيّين، مثل القط والكلب. المعرفة تولّد القلق والتمرّد. تجعل المرء يرفض قبول الاشياء كما هي ويسعى لتغيّيرها." كانت الأفعى تحاول إغراقهما في حيرة بما تقوله فهي تقول لهما أشياء تحثّهم فيها على أكل الثمرة وأخرى تثير فيهم المخاوف، حتّى أنّهما لم يعرفا إن كانت الأفعى صديقا أم عدوّا.
تثير تلك الأحداث نقاش الحريّة الأزلي وكون الإنسان مسيّر أم مخيّر ويبدو التناقض العميق والأزلي والغير القابل للحل في ضوء القصّة الدينيّة فالحيّة تخبرهم أنّه في إمكانهم أن يأكلا وأن يرفضا الأكل ولكنّها تؤكّد لهما بأنّ الإختيار الذي يناقض إرادة إلوهيم سيعرّضهما للعقاب، وبهذا لم تفهم حوّاء ولا آدم أيّ نوع من الحريّة هذا، ولكن يمكننا أن ندرك أنّنا وبإيجاد القوانين التي تحكم دولنا نخلق وضعا مشابها لمفهوم الحريّة المنقوص هذا، أي حريّة الوقوع في الخطأ والتعرّض للعقاب، وتذكر لهما الحيّة في موضع آخر من الرواية بأنّ " الحريّة الممنوحة لكما لها حدود." ولكنّ الحكم المسبق بأنّ حواء يجب أن تأكل من الشجرة وطرح الرواية للفكرة وكأنّها أمر مبيّت يجعل من عاقبهما أمرا غير مفهوم ويتّسم بغياب العدالة كما رآه آدم وحوّاء، فأن يعاقبا على أمر قدّر عليهما يبدو غير مفهوما ألبتّه ولكن الرواية تلمّح إلى إمكانيّة لتفسير ذلك وهو أنّ إلوهيم كان يريد لهما الحياة على الأرض منذ البدء ولكنّ شقاء الحياة هناك كان سيؤدّي إلى نقمتهما ولهذا أراد أن يضع سيناريوها يبدو فيهما أنّهما المسؤولان عن ذلك الخيار من خلال معصيتهما لأوامره.
في البدء يترك الزوجان الشجرة ولكنّ حوّاء التوّاقة للمعرفة والتي تتّضح فكرة الكاتبة من خلال عدّة مواضع في الرواية تصوّرها كذلك، ففي إحدى المواضع تعبّر عن رأي آدم فيها بقوله، " فالإنقياد لم يكن في طبيعتها. أجمل ما فيها عجزها عن البقاء ساكنة، حيويّتها التي بها نظرت وسالت عن كلّ شيء منذ البدء." وكذلك في نص آخر " كانت طبيعتها تأبي القبول بأنّ الغرض من خلقها هي وآدم ليس إلاّ مجرّد الجلوس على الصخرة لتأمّل تلك الأبديّة التي صارت مؤخّرا من سكينة إلى إنتظار كثيف، والخضوع لنظرة الآخر المستمرّة التي تحاصرهما." وهي تتساءل عن سبب وجودهما. لكل هذه الأسباب في شخصيّة حوّاء عادت لتأكل من الشجرة في غياب آدم كما تصوّر الرواية وقد إستغربت الحيّة عودتها السريعة أو لربّما أظهرت ذلك، وقد أخبرتها بأنّها شاهدت في رؤيا عند حافّة النهر ما هو أكثر واقعيّة من حياتها هي، شيئا تريد معرفة إذا م كان موجودا حقّا أم لا، لتتذكّر ما أخبرتها الحيّة به بأنّ " التاريخ سيبدأ فقط عندما تستخدمان هذه الحريّة." وبذلك تتوصّل لنتيجة تبرّر فيها إقدامها على المغامرة وهي القدر، " إنّه التاريخ، حدّثت نفسها. لقد رأته. كان هذا ما سيبدأ إن أكلت هي الفاكهة. كان إلوهيم يريد أن تقرّر هي وجود أو عدم وجود كل هذا. هو لم يرد أن يكون مسؤولا. كان يريد أن تكون هي من يتحمّل مسؤوليّة هذا." وتصوّر لنا الكاتبة بأنّ القرار جاء بعد أن غمرتها فترة كان فيها " التردّد والقرار تيّاران متضادّان يصعدان ويهبطان في جسدها." وفي النهاية إنتصر في داخلها الفضول وحب المعرفة والإستطلاع فأكلت من شجرة التين.فإنتصر ذلك الفضول على خوفها من الموت عندما قالت للحيّة " لن أموت. إنّه يتمنّى أن آكل الثمرة. لهذا جعلني حرّة" ولم تكترث لقول الحيّة لها بأنّه " بإمكانك أن تقرّري عدم الأكل." ولكنّ ذلك لم يقنع حوّاء كما يبدو، إذ تصر حتّى النهاية على طرح نفس التساؤل، "كيف ستحيا الحريّة إن تحتّم عليهم التصرّف على عكس ما تمليه عليهم قلوبهم ليطيعوا أقدارا يجهلونها مثل هذه؟ ولماذا مواجهتهم – دوما – بضيق تلك المعضلات، الطاعة أو العصيان، ومواجهة العقابات؟" وهو التساؤل الذي لا يزال يأرّق أذهان الكثير من أبناءها.
فيما بعد تناقش الكاتبة دوافع آدم لأكل الثمرة وترجعها إلى الإنتماء لحوّاء والخوف من الوحدة والفراق والحب العظيم الذي يكنّه لها بشكل قرّر فيه أن مرافقتها في رحلة الموت أفضل من البقاء وحيدا وبهذا أدرك انّ المرأة هي فردوسه الحقيقي وتتردّد الفكرة في الرواية كثيرا، ونقرأ في ذلك " لم يرد أن يفكّر. هي كانت لحمه وعظامه. ولم يكن مسموحا له أن يتركها وحيدة. ولم يكن يرغب في أن يبقى وحيدا." فعطّل خوفه من الوحدة وشعوره بالإنتماء وحبّه لحوّاء كل تفكيره وعلم أيضا بأنّه " بدون المرأة لن يكون نفس الرجل." بعد أن أقدما على تناول الثمرة خافا من الموت وتساءلا عنه فقالت لهم الحيّة بأنّه فقدان الشعور بكل شيء، " لن تشعري بشيء. هنا تكمن المشكلة تحديدا. أبدا لن تشعري مجدّدا. فالموت ذو بساطة فظيعة." ولكن هنا أيضا تبدو المرأة وكأنّها أكثر عمقا وتفكيرا إذ كانت على يقين بأنّهما لن يموتا معتقدة بأنّ البداية قد جاءت في تلك اللحظة معلّلة ذلك بأنّ " إنّ الآخر ليس بسيطا لهذه الدرجة. كان يكفي رؤية عمله." وفيما بعد تلا ذلك تغيّر نظرة آدم وحوّاء لبعضهما البعض وإدراكهما للشهوة وغرائز الجسد لدرجة تناقش فيها الكاتبة على لسان آدم وحوّاء بعد ممارستهما للحب في الكهف إذا ما كانت تلك هي العرفة التي كان إلوهيم يريد حجبها عنهما.
بعد أن تمّ طردهما من الجنّة بدءا يشعران بالجوع والعطش وتصوّر الكاتبة بطريقة جذّابة تلك المشاعر أوّل مرّة وكيفيّة التعامل معهما وخوفهما من تجربة كل شيء وكذلك تحاول إيصال فكرة أنّهما ووفق تعريف الحيّة للموت فإنّهما الآن قد بدآ الحياة فعلا عندما بدآ إختبار تلك المشاعر المختلفة، كما تصوّر حالة التخبّط التي عاشاها وكيف أنّهما وإن إفترض بهما أن يعرفا كل شيء إلاّ أنّهما غارقان في الجهل ولا يستطيعان حتّى معرفة إذا كان ما يمرّان به أفضل أم أسوأ، " لم يستطع أن يقرّر إن كان يفضّل هذا الإدراك الجديد على الخفّة المعتادة، إن كان يفضّل بطء وجوده على إتّخاذ القرار ووضوح الهدف الذي يقوده الآن إلى مغارة بين الصخور." وتكرّس الكاتبة بهذا فكرة الرواية " إنّ لغز نهاية كل ذلك هو إمكانيّة العودة للبدء."
بعد لقاءهما بمسخ الأفعى نقلت لهم الكثير من المعلومات عن هدفهم الجديد على هذه الأرض، وأخبرتهم قائلة، " ستعيشان وتكبران وتتناسلان وتموتان، من أجل هذا خلقتما، من أجل معرفة الخير والشر." وحاولت الحيّة إقناعهما بقبول واقعهما الجديد مخاطبة حوّاء "لا تظنّي أنّ الخلود هديّة. سيكون لكما حياة عابرة، لكنّكما لن تملاّ بالتأكيد. ولأنّه لا حياة أبديّة لكما سيتوجّب عليكما التناسل والبقاء، وهذا سيشغلكما." كما أخبرتهم الافعى بأنّه " الأرض الآن ملككما. بوسعكما إعادة خلقها وتعريف الخير والشر كما يبدو لكما." وفي آخر لقاء لها بهم أخبرتهم بأنّ كل الخير والشر ينبع من داخلهم. وقد إخبرت حوّاء ذلك من خلال شوك الأزهار وأدركت بأنّ " الخير والشر يكمن في كلّ شيء." في الرواية تركيز لفكرة واقعيّة وهي أنّ مفاهيم الخير والشر غير واضحة وتخضع لكثير من التفسيرات وإن صوّرت هذه الفكرة على لسان الحيّة " الخير والشر طرفان، وبينهما الكثير من المستويات."
حاولت الأفعى تبرير غضب إلوهيم بأنّه " ربّما آلمه أنّهما عندما خُيّرا، هي وآدم، إختارا ما لا يعرفانه." وهو يعكس ايضا روح حوّاء المتمرّدة والعالمة والمناقضة للأغلبيّة الساحقة من بني جنسها الآن والتي تفضّل الركود على التغيير وتفضّل ما تعرفه على ما تجهله، ويتجلّى شغفهما في تجربة كلّ شيء وفق رؤية الكاتبة عندما إقترح آدم هزيمة الموت بتجربته، " ربّما الأمر يستحقّ المغامرة، لعلّها أفضل طريقة للخروج من الشكوك والتحقّق إذا ما كان الموت فظيعا جدّا، معرفته أفضل من تكبّد ريب الجهل به." فتصوّر الكاتبة بأنّ المعرفة خير وبأنّها افضل من الجهل ولكنّ محاولة إنتحارهما من قمّة الجبل تفشل بعد أن تحملهما الريح إلى النهر وتخبرهما الحيّة بأنّ الموت سيأتي في وقته وبأنّهم سيتمنّون تأخّره في حينه.
يذكّرني الحلم الذي قصّه آدم على حوّاء "لقد رأيت أيضا ذريّتي. سيعيشون، لكنّهم سيموتون بذنبنا، سيتساقطون مثل القطع المهشّمة واحدا وراء الآخر." بتوصيف أستعمل في الأدب السومري بأنّ الإنسان يموت ويتهشّم كوعاء فخاري على تلك الصلة بهذه الأرض التي صنعت أولى الحضارات من الطين وكان ذلك الطين المادّة الأولى والتي يمكن أن يصنع منها كل شيء وفق الفكر السومري القديم، فكانت تلك الحضارة بنت هذه الأرض الأصيلة.
تفرد الرواية حيّزا كبيرا لمناقشة المعرفة بالتدريج وتقر بما يراه أغلب الأدباء، على سبيل المثال لا الحصر، أنطون تشيخوف وأرنست همينغواي بأنّ في المعرفة شقاء ومعاناة وزوال للسعادة ولكنّها تصر بانّها هدف الإنسان وقدره وبأنّه من خلاله يحقّق ذاته، عن هذه الأفكار نقرأ قول الأفعى لحوّاء " المعرفة والألم لا يفترقان." ولكنّها تؤكّد لهما بأنّها ضروريّة من أجل البقاء، " الخلود لا يحتاج إلى معرفة، الحياة والبقاء يستلزمان المعرفة." كما أخبرتهما في آخر لقاء لهما بعد أن عادت إلى شكلها الأصلي بأنّ " المعرفة بداخلكما. فقط عليكما العثور عليها." وكأنّها تناقض فكرة نظريّة الصفحة البيضاء أو لكأنّ أكلهما من تلك الشجرة كوّن لهما خزينا معرفيّا لا يدركانه إلاّ تدريجيّا. لكنّ حوّاء توصّلت إلى أنّ " المعرفة ليست النور الذي تخيّلته سيفتح سريعا عقلها، وإنّما إلهام بطيء، تتابع من الأحلام والاحاسيس المتراكمة في مكان سابق على الكلمات." وذلك بعد أن لاحظت بأنّهما يتعلّمان الكثير من الطبيعة والحيوانات وبأنّ فيهما ميزة عن تلك الكائنات. وبما أنّ الرواية تنصف المرأة فهي تصوّر حوّاء كباحثة عن المعرفة لا تكلّ ولا تتعب وتصوّر ذلك من خلال جوابها لآدم عندما حاول أن يهدّيء من روعها وإستغرب كثرة أسئلتها، " إن خطر ببالي أسئلة فلأنّ لها إجابات. وينبغي أن نعرفها، أكلنا الثمرة وفقدنا الجنّة ولا نعرف بالكاد سوى ما كنّا نعرفه." وتصوّر الكاتبة أنّ آدم كان معجبا بطبيعة حوّاء تلك ولربّما كان يشعر بالغيرة منها، " كانت هي واثقة جدّا من نفسها بينما لا هو يعرف فيما ولا فيمن يثق. في المقابل كان يعرف بأنّه يحتاج إليها."
عن بزوغ الفكرة الأبويّة ولوم حوّاء على أكل الشجرة تسرد الكاتبة قول آدم لحواء بعد أن طردا من الجنّة، " قال لها أنّه إتّبعها في أكل الثمرة. والآن يجب أن يجب أن تتبعه هو." ولكنّها توضّح غضب حوّاء من ذلك في موضعين، توضّح في إحداها أنّ آدم لا يمكنه نسيان ذلك عندما تشتد معاناتهما ولا يجد من يلقي عليه باللوم "يغضبني أن تذكّرني بأنّني أكلت الفاكهة كلما أردت أن أطيعك. قالت حواء. عندما أيأس لا يمكنني تفادي ذلك. أجاب آدم". ولكنّها تصوّر حزن حوّاء على تجاهل آدم لها عندما جاعا وجاءها طائر الفينيق بثمار التين فأصرّ هو على عدم المعصية من جديد وقام بدفن الثمرتين، وتصوّر ذلك الغضب كالآتي، " ما كان يمكن أن يكون في فمها، صار مفقودا بسبب تطرّف الرجل وقسوته، قسوة أن يجبرها أن تنظر كيف يدفن الثمرة وقسوة أكبر أن يقرّر لكليهما. لقد تصرّف كأنّ كلماتها لا وزن لها ولا رنين، كأنّه لم يستمع إليها، وكانت هي وكلماتها شيئا واحدا فعدم الإستماع إليها نفيّ لوجودها." ولكنّها تصوّر في مواقف أخرى طاعة حوّاء لآدم وفقا ما يقنع فكرها ويلبّي حاجتها وتصف تعجّب آدم من ذلك من خلال تفكيره،." إنّها لا ترضى بأنصاف الحلول، إمّا أن تثق به أو تتحدّاه.
تفرد الرواية حيّزا كبير لموضوع صيد الحيوانات وقتلها وتشرح موقف حوّاء الرافض للقتل مهما كانت الأسباب والتبريرات بينما يصرّ آدم على تقبّل الأمر من أجل البقاء وبأنّه شاهد حيوانات أخرى تفعل ذلك وبأنّ ما تهبه لهم زروع الأرض لا يستطيع إسكات جوعهم. حول هذا الموضوع يمكننا رؤية حوّاء التي تعتقد بأنّ الإنسان أسمى من الحيوان والتي ستتغيّر في نهاية الرواية لتتنازل عن كبرياءها. في البداية عندما تعلّم آدم الصيد من كلبه "قابيل" سخرت منه الحيّة لما وصل إليه قائلة، " أنظر إلى ما صرت إليه. الآن يجب أن تقتل حتّى تأكل." ليس الهدف القتل من أجل القتل، بل القتل من أجل البقاء." هكذا برّر آدم ما فعله عندما إصطاد أرنبا وعرضه على حوّاء، لكنّها رفضت ذلك ورفضت قوله بأنّ الأرانب كثيرة كتبرير للقيام بصيدها لتجيبه كالآتي، "أؤكّد لك أنّ الأرنب الذي تقتله لا يعينه في شيء وجود أرانب أخرى كثيرة، وماذا لو قرّر حيوان آخر أنّنا أرنباه؟" ولكنّه دافع عن قراره وأصرّ بأنّه قادر على التنبّؤ بتحرّكات الحيوانات وهذه ميزته التي ستحميه. لكنّ التناقض يبرز من خلال بدء حوّاء الحامل بصيد السمك ورؤيتها تموت وأكلها وهي تتذكّر في لحمها الأبيض الطري بتلات الجنّة البيضاء وفي هذا تجسيد لصورة قدسيّة السمكة في كثير من الأديان القديمة والحاليّة وكذلك تعرية للإنسانيّة التي تبرّر تبدّل مواقفها أحيانا وتحيد عن مبادئها تحت ضغط الضرورة والحاجة. فحوّاء التي حذّرت آدم من تقبّل الوحشيّة وإعتيادها عندما قتل أوّل أرنب قائلة له، " يضايقني الإضطرار للقتل." فيجيبها، "هذا قدرنا الذي لم نقدّره لأنفسنا." لتردّ عليه، "سيتحتّم عليك الخشونة لتفعل ذلك. ستتعلّم الوحشيّة." إذ أنّها حاولت إقناع نفسها بأنّ الموت يختلف من كائن إلى آخر، " أقنعت نفسها حتّى لا تشعر بالذنب أنّ كائنات الماء لا تعاني من نفس نوع الموت الذي تعانيه كائنات الأرض." رغم معرفتها أنّه واحد وشاهدت الأرنب الميّت وطائر الفينيق الذي يبعث من الموت بعد أن أنقذها من الحريق بعد أن وهبتهما الحيّة النار ليعدّا طعامهما. لأنّ الحيّة أقنعتهما بضرورة أكل اللحوم وأعطتهم النار ليطهوها عليها قائلة لهم بأنّ " الحياة تتغذّى على الموت."
تفرد الكاتبة مساحة واسعة لدور الحيّة فيما يغيب إلوهيم عن المشهد فهما لم يشاهداه قط ولكنّه تقبّل قربان هابيل وشعرا بغضبه ولكنّهما لم يرياها، ونلاحظ تساؤلات كثيرة تضعها الكاتبة على لسان آدم وحوّاء وفرضيّات لتفسير طبيعة العلاقة بين إلوهيم والحيّة، فنقرأ " ربّما هي صورته. هي قالت إنّنا نحن صورة إلوهيم. مثلما شجرة المعرفة صورة شجرة الحياة." ونقرأ ايضا، ""من هو الآخر؟ من هي الحيّة؟ من هما هذان المخلوقان يا آدم؟ أحدهما يخدعنا والآخر يعاقبنا. يسعيان لصداقتنا لكنّهما يتضادّان فيما بينهما." ولم يدركا حتّى النهاية وفقا للرواية إذا ما كانت الحيّة صديقا أم عدوّا يتلاعب بهم فقد بدت تساعدهم في كثير من الأحايين ولكنّها تسخر منهم في الوقت ذاته وفي النهاية طلبت من حوّاء أن تنسى وجودها ووجود إلوهيم وتعيش الواقع وتدرك بأنّها وذريّتها وحيدون منسيّون، لكنّ حوّاء تتساءل، " نحن وحدنا؟ فتجيبها الحيّة، اليوم الذي فيه تقبلون ذلك ستكونون أحرارا بحق." لكنّ حوّاء ترفض ذلك في إحدى تأمّلاتها عندما نقرأ، " كانت حوّاء تنصت للريح. من أين تراها تأتي؟ إنّها مثل إلوهيم، غير مرئيّة لكنّها موجودة." وبذلك نرى بوضوح فكرة الصراع بين الخير والشر التي تجسّدت بوضوح أوّل الأمر في الزرادشتيّة وكذلك عدم تقرير الكاتبة جيوكوندا إذا ما كان كلّ شيء حقيقة أم محض خيال لتترك الأمر كلّه للقاريء.
الكاتبة تجعل من نصيب حوّاء إبتكارات كثيرة منها القارب، وصيد السمك، والرسم على جدران الكهوف، وقد جسّدت بذلك قدم الفن وعمق وظيفته التي تعبّر عن دواخل الإنسان وتجسّد أحلامها واقعا يمكن مشاركته، وتبعد عنه شبح الوحدة، فنقرأ عن وصفها لمشاعر حوّاء الفنّانة الأولى تجاه ما قامت برسمه على جدران الكهف ما يأتي، " عرفت حينئذ سعادة مختلفة وغامضة جعلتها تشعر أنّها أقلّ عزلة. كل ما كان مختبئا بداخلها خرج وإصطحبها." وقد سعد آدم بذلك وبدأ يحكي لها قصص صيده ويضيف إليها بعض التفاصيل فكان الروائي الأوّل وإن لم تكتب الكاتبة ذلك صراحة، وقد عبّرت عن أهميّة تلك الرسومات في تخليد الذكرى وتدوين حياتهما وبأنّ ما يخلّد بتلك الطريقة لن يطويه النسيان أبدا، كما ناقشت كون الفنّ الأوّل تعبير عن جوهر الأشياء لا حقيقتها وهي ما أراه نمط الفن الحديث الذي يعود لتلك البدائيّة ونجح في إحياءها بعد قرون من سيادة الواقعيّة بكل كمالها الذي يضاهي الحقيقة.
ومن جملة ما عرفته حوّاء لوحدها الدورة الشهريّة مع نزيفها الأوّل الذي خشيت معه موتها وأخفى آدم ذعره لكي لا يزيد من مخاوفها، إذ لاحظت تكرار ذلك وتوافقه مع القمر، "أعرف أنّ بداخلي بحرا يعبّؤه القمر ويخويه." فقد كانت حوّاء توّاقة للمعرفة وكذلك آدم وكانوا يخشون ما يجهلونه ولهذا نرى وصفهم لأوّل ليلة عايشوها عقب الطرد من الفردوس، " إعتقدت أنّ الليل هو الموت. الموت يخيفنا لأنّنا لا نعرف كينونته."
وعن حمل حوّاء والولادة والأمومة نقرأ فصولا رائعة وإن سيطر فيها الرعب الناجم عن الضعف والعجز وتكبّر حوّاء في البدء بأنّها لا تشبه الحيوانات ولن تلد مثلهم ولكنّها وفي لحظة الولادة وبعد صراخ الزوجين في ألم وعجز ساعد مجيء كلّ الحيوانات إلى مغارتهما ولكأنّهما لا يزالان في الفردوس قبل أن تخشاهما الحيوانات، أعاد إليهما الثقة بالنفس، ولا يمكن هنا إغفال ذكر "ملحمة كلكامش" وكيف أنّ أنكيدو المتوحّش والذي قضى عمره مع الحيوانات في البراري قد عانى من خوفها منه ونبذها له بعد أن تعرّف على المومس التي أرسلها إليه ملك أوروك "كلكامش" وبذلك يمكن ملاحظ تأثير نهريني آخر على القصّة. عندما ساعدت حوّاء الفرس في أن تلد صغيرها ونظرت الإنثيان إلى بعضهما البعض شعر آدم بشعور لم يفهمه فنقرأ ما يلي، " ما الذي يعرفانه ولا أعرفه أنا؟ فكّر آدم. وأحسّ بنفس القدسيّة التي أحسّ بها لمّا رأى شجرة الحياة للمرّة الأولى." وفي ذلك إشارة جليّة إلى أنّ المرأة تهب الحياة وفيها يكمن سرّ البقاء. ونقرأ أيضا ما ذكرته عن مشاعر آدم عندما عرفا بأّنّ الأم تلد الأطفال وعليها إرضاعهما أيضا، " لم يستطع أن يتجنّب الشعور بالغيرة من طريقتها المميّزة التي بها، خلافا له، ترتبط بالأرض، كشجرة مجتثّة من جذورها." وفي هذا إشارة إلى أنّ الأم والأرض شيء واحد لا يمكن فصله عن جوهره، فقد شعر في حينها بأنّ الأم معجزة حقيقيّة.
أمّا عن رؤى حوّاء نفسها لذلك الألم والعبء وبأّن عليها أن تكرّره لتعمر الأرض ويبقى نسلهما على وجه البسيطة، فقد أصابها الجزع في باديء الأمر معتقدة بأنّ ذلك عقاب لها على أكلها الثمرة، فنقرأ تساؤلاتها المحبطة، " لماذا هي من ستعمّر العزلة التي يعيشان فيها؟ والحياة أهي نعمة أم نقمة؟ ولماذا يجعلها إلوهيم شريكا في خلقه." لكنّها سرعان ما أدركت تلك الغريزة الفطريّة التي يدين لها العالم ببقاءه، بفضل أمّهات محبّات يصررن على أن يشقين من أجل البقاء فنقرأ، " كانت رؤية صغيريها يتفاعلان مع سلواها ومداعبتها وتعرّفهما عليها، ورؤية طرب عيونهما وأيديهما الصغيرة عندما يقتربان، تجعل من الصعب مع مرور الوقت أن تواصل تفكيرها في أنّها ضحيّة لعقاب متعسّف وعظيم." وبذلك نرى أنّ الكاتبة ترفض الفكرة التي تقول بأنّ ألم الولادة عذاب من أجل تلك الخطيئة، وفيها تمجيد للأمومة وقوّة العاطفة والمحبّة التي تهزم كلّ شيء، " لم ترسّخ الأمومة الصورة الخارجيّة فحسب، وإنّما رسّخت الوعي بسلطة أكبر بكثير من القوّة." وتعبّر الكاتبة عن أعمق مشاعر الأمومة في وصفها لمشاعر حوّاء عقب مقتل هابيل فنقرأ، " صار بطنها أجوف، وشعرت بخواء مكان الإبن كأنّه إنفصل عنها في التو." ففي تلك اللحظة فقط فقدت إبنها فعلا وربّما ذكّر هذا الكاتبة بأبناء العراق اليوم وضحاياهم بالإضافة إلى الرابط المكاني لأحداث القصّة لتهدي القصّة لهم.
من الأمور الأخرى التي يجب الإلتفات إليها هو تصويرها لفزع آدم وحوّاء من مدى جهل طفليهما وكيف أنّ صغار الحيوانات تنضج وتكبر بسرعة ولكأنّ الإنسان المتفوّق يولد أضعف من أضعف مخلوق، فنقرأ ما تقوله لهما الحيّة، " الخلق يجب أن يعود لنقطة يمكن البدء منها." وهي بذلك تكرّس نفس الفكرة التي إنطلقت منها بأنّ البداية والنهاية واحدة، وتفسّر بذلك نظريّة مغايرة للتطوّر العكسي، إذ أنّ آدم وحوّاء لم يمرّا بتلك المراحل ولكنّ نسلهما - وبعد أن لم يكن مقرّرا لهما التناسل قبل الطرد من الفردوس – توجّب عليه أن يعود من جديد إلى الضعف وفقدان النطق والسير على أربع. وقد أخبرتهما الحيّة بأنّ التناسل هو الوسيلة الأخرى للبقاء بدل الخلود، وهي فكرة مترسّخة في أذهان البشر، وتعاكس فلسفة ملحمة كلكامش في هذا الخصوص، ولكن هنالك إشارة واحدة في الرواية إلى أنّ الجهل بالأمور قد يجلب الراحة أحيانا، فنقرأ قول حوّاء، " ربّما لم نكن أبدا خالدين. ربّما كنّا نجهل فقط أنّنا سنموت. ربّما كان هذا هو الفردوس." أي أنّها تعتقد أنّ الجهل بالموت قد صنع فردوسهما ولكنّهما رغم ذلك أصرّا على المعرفة وإشباع فضولهما وفضّلا شقاء المعرفة على راحة الجهل.
ناقشت الرواية مفهوم النوستالجيا وفق نظرتين ففي باديء الأمر نقرأ عن مخاوف آدم على إبنيه المرتقبين، " أتعتقدين أنّه سيروق لهما الحياة خارج الجنّة؟ أعتقد أنّه بدون معرفتهما للجنّة لن يشتاقا إليها. وهنا تصوّر حوّاء الجهل كراحة للمرّة الثانية في الرواية، فيما نرى مفهوم الحيّة المتناقض تماما عندما قالت لحوّاء، "من الممكن أن نشتاق لشيء لم نعشه أبدا. ربّما غرس فيك إلوهيم الحنين حتّى تأكلي الثمرة." ولكنّ الفرق يكمن في أنّ الحالة الأولى نوستالجيا مكانيّة واقعيّة والأخرى نوستالجيا معرفيّة يمكن أن نطلق عليها الفضول أو الرغبة في الإستكشاف.
تذكر الكاتبة بأنّ الحياة هي أن تشعر بكل شيء وتتضمّن المعرفة تجربة كلّ شيء أيضا بما في ذلك الألم والجوع والعطش والخوف والقلق، أي أن نجرب ما هو سلبي وما هو إيجابي فما الراحة إلاّ شكل من أشكال الركود، وهنا نرى تفكير حوّاء في أنّ للحزن سبب يبرّر وجوده، وكذلك قلقها الناشيء من إدراكها للمشكلة التي سيسبّبها رفض أبناءها وبناتها لإرادة إلوهيم في عدم إختلاط الدماء، وهنا ندرك أنّ المعرفة ككل شيء تحمل الخير والشر في جوهرها فهي تجلب الشقاء وفي إمكانها أن تنجينا من كثير ممّا قد يلم بنا من صعاب هذه الحياة. وقد أجادت في وصف الحزن الذي أعاق حوّاء عن إتّخاذ القرار وأرّق نومها عندما كتبت على لسان آدم مخاطبا زوجته ذات البديهة المتحفّزة دوما ليقول لها، " الحزن مثل الدخّان لا يسمح بالرؤية."
عندما قتل قايين "قابيل" أخاه هابيل بدأت حوّاء تلوم آدم على القتل وقبول الوحشيّة وسيلة للحياة، وعندما حزن على لومها له أجابته، " أنا لا ألقي عليك ذنبا، لكن بمجرّد أن قبلنا القتل لنحيا، سمحنا للضرورة أن تسيطر على ضميرنا، وقبلنا الوحشيّة، وأنظر الآن كيف حلّت الوحشيّة وإستقرّت في حياتنا." وهنا تحليل رائع للضرورة التي تحكم عالمنا حتّى يومنا هذا والتي خضعت لها حوّاء هي الأخرى عندما أكلت السمك. وكانت حوّاء قد لامت آدم على ذلك لأنّ قابيل "قايين" وآدم لاماها على أكل الثمرة وبأنّ كلّ شيء ممّا يلاقيانه كان بسببها هي، لكنّ الكاتبة توضّح موقف حوّاء القويّة – وكأنّ في ذلك دعوة ضمنيّة لكل النساء لأن يكنّ مثلها، عندما قالت، " أنا وهبت الحياة يا آدم. وأنت من بدأت القتل." وهي بذلك تصوّر حقيقة ماثلة حتّى اليوم فمعظم من يقتل في الحروب والجرائم اليوميّة هم من الرجال، وهي وإن برّأت المرأة من مسؤوليّة الطرد من الجنّة في باديء الأمر فإنّها هنا تحاول وضعهما في حالة تعادل، لتوقف بذلك النقاش المستمر من قبل الهيئات الدينيّة حول دور المرأة في تلك الجريمة بصورة تصرّ على تبرئة الرجل من تحمّل المسؤوليّة، قد يبدو الأمر سخيفا أن تتحمّل المرأة هذا العبء ولكنّ الكثير من الدول لا تزال تعامل المرأة وما تقترفه من جرائم وفق منظور أشد قسوة من تعاملها مع ما يقترفه الرجال من جرائم مماثلة. كما أنّ الرواية تسرد هنا الأسباب الأساسيّة الأولى للقتل وهي الأكل "أي الضرورة" وفقدان المنطق "أي الغضب والإنتقام" والغيرة، وأدانت حوّاء ما قام به آدم عندما قتل أنثى الدب التي فتكت بكلبه فقالت، " عاتبته حواء على قسوته. فبيديه، كي ينتقم لموت كلبه، قتل دبّة كانت تدافع عن صغيرها. لقد عرف الغضب غير المنطقي الناتج عن فقدان حبيب." وبذلك توضّح الكاتبة فكرة حديثة جدّا وهي أنّنا لو تمكّنا من وضع أنفسنا مكان الطرف الآخر فإنّنا سنلتمس له الأعذار المنطقيّة – ليس دائما طبعا – ولكنّ تمكّن الإنسان من تقدير مشاعر الآخرين سيكون عاملا مهمّا في خلق عالم أفضل خالٍ من العنف والقتل والدمار، فلا يوجد أبشع من التبرير للقتل كما يقول ألبير كامو. وهنا نقرأ عن مشاعر آدم، "تذكّر زمنا كان فيه من المستحيل تخيّل عالم تسكنه مخلوقات تهدّد بعضها بعضها وتجبرها الحاجة إلى البقاء على تبادل الشك." فلا يفسد عالمنا شيء بقدر ما يفسده التنافس ولكنّه يبدو كقدر أسود فرض علينا إلى الأبد، لكنّ آدم الأوّل شارك حوّاء في تمنّي تحقيق حلمها في قدوم الزمن الخالي من الوحشية."
رغم أنّ الرواية تأخذ من الحكاية الدينيّة إطارا عاّما إلاّ أنّها تحاول المزاوجة بين وجهة النظر الدينيّة والعلميّة، فهي تناقض من جهة كل الأدلّة الأثريّة فيما يخص إستعمال الأدوات وإكتشاف الزراعة وإستئناس الأغنام والكلب والقط – الذي لم يحدث في الواقع إلاّ في زمن الفراعنة – وكذلك إكتشاف النار وصناعة الأبر من العظم وغيرها، فإنّها تحاول بطريقة ما إيجاد طريقة تفسّر فيها وجود إنسان متقدّم تدهور فيما بعد من خلال جنس إبنتهم التي تفتقد الجاذبيّة "لبودا" والتي كانت سببا في الوقيعة بين أخويها بعد أن أصرّ آدم على عدم تخالط الدماء برفض زواجها من أخيها هابيل وأن تتزوّج قايين "قابيل" شقيق إقليما فكانت الجريمة الأولى والتي كما تتخيّل الكاتبة أدّت إلى فقدان لبودا لعقلها وللنطق وتدهور شكلها لتشابه القرود مرّة أخرى. الإشارات إلى التطوّر موجودة في الرواية منذ البدء، حيث نقرأ عن ضياع حوّاء وعدم قدرتها على الرجوع إلى المغارة وعندها تلتقي بالغوريلاّ –التي لم تذكر بالإسم – فنقرأ ما يأتي من وصف لمشاعر حوّاء تجاه تلك القرود التي أعادتها إلى مغارتها، " أذهل حواء أنّ وجوهها معبّرة، شبه بشريّة، وعيونها العذبة التي تنظر بها إليها كانت ممتلئة بالفضول. لم تشعر أبدا أنّ حيوانا آخر قد نظر إليها من قبل بتلك الطريقة." وهنا أيضا نلمح إشارات لفكرة تجعل من الفضول والمعرفة علامات على التميّز والتطوّر. وتؤكّد الرواية تلك الفكرة في الفصول الأخيرة فعندما شعرت لبودا أنّ أحدا لا يحبّها ويرغب في الزواج منها كلّمت والدتها عن القرود ورغبتها في الذهاب للعيش معهم، فترفض الأم قائلة لها بأنّها ليست منهم، " لكنّك تفكّرين؟" فتتساءل لبودا، "وكيف تعرفين أنّ القردة لا تفكّر؟". لكنّ حوّاء تتنازل عن ذلك الغرور في النهاية بعد أن قُتل هابيل وحُكم على قايين "قابيل" وإقليما بالرحيل وفقدت لبودا عقلها، فنقرأ لقاءها الأخير بالحيّة على شاطيء البحروهي تقول لها بأنّ لبودا هي المستقبل: أنظري إلى الصغيرة لبودا. الماضي والمستقبل يهرولان معها على الشاطيء. ماذا تقصدين؟ عادت إلى البراءة يا حواء؛ براءة ما قبل الفردوس، واللاحقة للفردوس. لقد قفز التاريخ منك إليها الآن وزمن طويل وبطيء في حالة البداية."
وتحاول الكاتبة إيضاح فكرتها أكثر من خلال سردها لأجوبة الحيّة على مخاوف حوّاء من أن يتدهور نسلها فتقول ما يجسّد فكرة الرواية الرئيسيّة، " في البدء تكمن النهاية. نهاية نسل لبودا سيكون الوصول للبدء. والإعتراف به كذاكرة ودّوا لو وجدوها تصنع وتدمّر تاريخها الخاص." فيرعب ذلك حوّاء أكثر فتتساءل إذا ما كان في الإمكان العودة إلى الفردوس أيضا وفقا لنفس المفهوم، لكنّ الكاتبة تحاول تصوير إستحالة تحقيق ذلك، وبأنّ بنيها سيبنون فردوسهم المنشود بالهبتين التي يتمتّعان بها، ألا وهما الحريّة والمعرفة، فنقرأ، " لن يعانوا من عمى البراءة، ولا الحنين لمعرفة الجهل. لن يحتاجوا لقضم الثمرات المحرّمة ليعرفوا الخير والشر. سيحملونها بداخلهم وسيعرفون أنّ الفردوس الوحيد؛ حيث الحياة واقعيّة هو هذا الفردوس الذي يتملكون فيه الحريّة والمعرفة." وبعدها تطلب منها الحيّة أن تنساها وتخبرها بأنّ المرأة ستستعيد مكانتها يوما ما، " سيدينك نسلك القادم، لكن بمجرّد إكتسابهم مزيدا من المعرفة ستستعيدين هيبتك. في المقابل لن يدافع أحد عن حيّة حزينة. وسأصير تجسيدا للشر." وبعدها ترحل الحيّة نهائيّا. أمّا حوّاء فإنّها تقوم بأخذ إبنتها لبودا لتودعها مع القردة مودّعة إيّاها قائلة، " ذات يوم ستتكلّمين من جديد." وبذلك ندرك أنّ الرواية تحاول التوفيق بين العلم والدين من خلال إقرار القصّة الدينيّة ومن ثمّ إيجاد ما يبدو تراجعا في الجنس البشري ونهضة مستقبليّة أخرى وبذلك ندرك عمق الرواية على الرغم من أسلوبها الشاعري الغارق في السلاسة التي لا تفقدها الجاذبيّة رغم ذلك ولا تضفي عليها التعقيد أبدا. هي رواية تستحقّ القراءة وأعتقد أنّها ستصبح من كلاسيكيّات الأدب مستقبلا.
بقلم كلكامش نبيل
التاسع من آب عام 2013
#كلكامش_نبيل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
دراسة توضّح بأنّ أحد أجناس قردة قديمة منقرضة لم يمشي كالإنسا
...
-
دراسة تفترض بأنّ إنسان النياندرتال قد شارك بني البشر اللغة و
...
-
إحياء جعّة سومريّة عمرها 5000 عام - موضوع مترجم
-
مومياء الأنكا المراهقة تعاطت الكحول والمخدّرات - موضوع مترجم
-
محاطا بكل تلك الضجّة - قصيدة مترجمة للشاعر ألفريد بريندل
-
لبوة نينوى
-
ضائعٌ في الغابة - قصيدة مترجمة للشاعر بابلو نيرودا
-
عندما ترتدي الخيانة زيّ الوطن
-
إمكانيّات محاكاة التجربة المصريّة في العراق
-
بعد أن ضُربنا في الحرب - قصيدة يابانيّة مترجمة
-
فتوحات أم غزوات
-
تهويدة طفل - قصيدة سومريّة مترجمة
-
رجل قلبي - قصيدة سومريّة مترجمة
-
وحدة العراق التاريخيّة والجغرافيّة والثقافيّة
-
التحزّبات العابرة للحدود وخطرها على المواطنة
-
رسالة الأرض
-
الديمقراطيّة الحقّة بالضرورة علمانيّة
-
الفيدراليّة، حل أم مشكلة جديدة؟
المزيد.....
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|