السبت 02 نوفمبر 2002 18:25
تعود ليلى العثمان، وكتاباتها الأدبية لواجهة السجال الثقافي والفكري في الكويت، فبعد أزمتها الأولى مع الرقابة، وتقديمها للمحاكمة، هاهي روايتها "العصعص" الصادرة حديثا عن دار "المدى" يُعرقل فسحها في بلدها الكويت، والسبب هذه المرة هو "الرقابة" التي طلبت منها أن تطمس حوالي 35 صفحة من الرواية، لكي يتم فسحها. وهو الأمر الذي رفضته العثمان، لأن الطمس معناه توشيه النص، وولادته بشكل "هجين" و"ناقص" يفقده الكثير من جمالياته، وقيمته الفنية والمعرفية، فضلا عن كون منطقي "الطمس"، و"الحذف" يعدان تجاوزا للحرية الشخصية والإبداعية، المكفولة شرعا، ودستورا، وأخلاقيا، للكاتب، طالما أن النص لم يحتوي على أي تجاوز قانوني، أو يوجه الإهانة أو القذف لأي شخص أو جهة.
الرقابة، وفي تعاملها مع ليلى العثمان، أرادت أن تخلي نفسها من مواجهة محتملة مع "الإسلاميين" الذين ضاقوا ذرعا بالعثمان وكتاباتها، وهي بذلك -أي الرقابة- تحاول أن تتخلص من مسؤولياتها على حساب النص الإبداعي، دون أن تضع في اعتبارها ما للنص من قيمة فنية ومعرفية ينبغي احترامها والتعامل معها بشكل حضاري، بدلا من هكذا تعامل برغماتي نفعي، يخضع للحسابات الاجتماعية والحساسيات السياسية.
من مجمل ما لاحظته الرقابة على رواية "العصعص" يُقرأ ثمة تقصد لمنع النص، وثمة تقصد ليلى العثمان بالذات، وكأن المنع موجه لها شخصيا، بحيث لو صدر النص عن أي ذات مبدعة أخرى، فربما فسح، ولم تسجل عليه أي ملاحظة، وهذا مأزق آخر، تقع فيه الذات المبدعة وما تبدعه من نصوص ضحية وضع سياسي أو اجتماعي أو فكري قائم، لا دخل لها به، وليست جزءا من تعقيداته.
الرقيب، راح يتوقف عند أجزاء كثيرة، صغيرة وهامشية، فتارة يطلب حذف اسم "قمرية" من جميع أجزاء الرواية، بحجة إمكانية وجود شخصية في الكويت بهذا الاسم، مما قد يسبب لهذه الشخصية إحراجا ومشكلات، وتارة يدعي أن الرواية من الممكن أن تثير أزمة مع "عرب إيران" (الهولية) لذا على الروائية أن تحذف هذا المسمى، فيما يتساءل الرقيب عن سبب امتلاء الرواية بـ "الذيول" ، العصاعص"!!..وسواها، وكلها بمجملها قيود يراد منها عرقلة فسح الرواية لا أكثر، خصوصا مع كون عدد من المثقفين رشح "العصعص" لتنال جائزة "المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب" في حقل "الرواية" لهذا العام، وعدم فسحها سيعرقل حصولها على الجائزة.
لو رُجع لموضوع ومتن الرواية، وبُحث بين أسطرها بشكل متمعن ودقيق، فسيستغرب القارئ منع النص، كونه نصا خاليا من أي إثارات: سياسية، أو دينية، أو اجتماعية، أو جنسية...فالعثمان لم تتطرق للسياسة إلا بشكل عابر وإيجابي جدا تجاه الموقف من القضية الفلسطينية، حضرت ضمنه المرأة الفلسطينية بشكل إيجابي، تتعاطى فيه بحنان وإخلاص مع الأم والعائلة الكويتية التي وقفت معها، فيما "سلوم" الطفل الكويتي الذي يمثل نموذجا لأطفال الكويت يتمنى أن يموت دفاعا عن فلسطين.
دينيا، لم تتطرق الرواية لأي مفهوم عقدي، ولم تنتقد أي سلوك مقدس يمارسه الناس، بل على العكس تراها تعجُ في كثير من مقاطعها بالتوكل على الله وحمده وشكره والتوسل إليه، فالله حاضر بشكل واضح في النص. وحتى عندما مرض "سلوم" وأخذه والده "معيوف" لـ"الملة" (الشيخ) ليقرأ عليه آيات من القرآن ويصنع له (حجابا) يعلقه على صدره عن "مس الجن"، وفي المشهد الآخر عندما أخذت الأم ابنتها "شمة" إلى "السيف" لتفك عنها "السحر" بأن "تقفز على سفينة جديدة" كحل للمشكلة، في هذين الموقفين لم تقف ليلى العثمان موقفا سلبيا ومتشددا منهما، رغم كونهما في نظر كثر - حتى من مناوئ العثمان- ضروبا من الجهالة في العقل والتصرف الغير عقلاني، بل تعاملت بإيجابية مع الحدثين بقولها: " يعطي الجاهل على قدر نياته. والنية سليمة. المطلوب أن يفك ربط شمة لا إيذاء أحد".
أما اجتماعيا، فالنص أتى ليعبر عن "الذاكرة الخليجية الشعبية" بكل ما تكتنزه من صفات: النقاء، والبساطة، والنخوة، ومحبة الخير، والتعفف...وسواها من الخصال الاجتماعية الحميدة التي راح النص يؤكد عليها. فالنص عالج الكثير من القضايا، مبرزا سلبياتها وإيجابياتها، معززا قيما فاضلة مثل: العفة، تربية الأبناء، قيمة التكافل الاجتماعي حتى مع من يسئ التعامل مع جيرانه، أهمية الترابط الأسري، قيمة الصدق في حياة الناس، الصلاة التي تهتم بها الأسرة وتحضر كأساس من أسس الأسرة الكويتية المسلمة. وهذا يتضح من خلال الإيجابية التي أضفتها على شخصيات روايتها مثل "سلوم" وما يتمتع به من حب لأخته ووالديه، ومثابرة على مساعدة أهل الحارة ودفع الضرر عن الآخرين. وحتى مسألة قص "سلوم" لـ"عصاعص الحيوانات" جيرتها العثمان لتبين سلبية هكذا تصرف تجاه "الحيوان"، رابطة إياها بموضوعة أكبر تتعلق بكون هذه "العصاصع" (الذيول/ الأذناب) ما هي إلا سلوك اجتماعي يفضح ما يمارسه كُثر من الناس من تبعية وتملق واستجداء للآخرين، ولمن هم أعلى منزلة منهم، بغية الحصول على مكاسب مادية ونفعية، تتم على حساب الآخرين وبطريقة ملتوية. وهذا ما أبرزته العثمان من خلال نموذج الطالب "رويشد"، وهو "عصعص" لمدرس "الدين" الذي بدوره "عصعص" لـ"ناظر المدرسة" والذي هو بدوره "عصعص" لشخص آخر...وهكذا تمتد سلسلة من "العصاصع" تمثل نسقا اجتماعيا يقوم على "النفاق" و"الوصولية" حاولت العثمان أن تفضحه عبر روايتها.
قيمة الترابط الأسري تظهر من خلال تتبع سيرة عائلة "جسوم" وعلاقة الأبوين مع الأبناء، وحتى بعد موت الأبوين، عبر علاقة "نوره" مع أخيها "معيوف" والتي تؤثر نفسها عليه، كابتة رغباتها الجسدية والنفسية في الزواج، إلى أن يتزوج أخوها، لأنها ترى نفسها مسؤولة عنه وفي موقع "الأم". أضف لذلك سيرة عائلة "معيوف" وعلاقته مع زوجته "سعاد"، وأبنائه: جسوم، وضحى، سلوم.
في المقابل، أكدت الرواية على سلبية قيم "الشر" و"الرذيلة"، منتقدة السلوك الجنسي المنحرف لـ"قمرية"، وحتى عندما يضعف "معيوف" أمام رغبات جسده، ويستسلم لنزوات "قمرية"، فإن هذا المشهد ورغم سخونته، إلا أنها تبرز حال العذاب النفسي الذي تلبس "معيوف" لأنه خالف تعاليم ربه وأبيه، وانساق لشهواته، وكيف أنه سبح في البحر، وظل جليس الدار، من أجل تطهير نفسه.
ذات الأمر انسحب على شخصيتي "فرزانه" وابنتها "فطوم" الشخصيتان الثقيلتان الماجنتان، المنشغلتان بغواية الرجال والصبيان، واستجداء حاجيات الجيران. فهاتين الشخصيتين مثلتا مثالا واضحا للشر، والعثمان في روايتها، لم تضفي عليهما مشروعية أو تمتدح سلوكهما، بل جعلت من سلوكهما كاشفا عن انحرافه، منبئا عن عدم سوية ما تقومان به من أفعال. بل أكثر من ذلك جاء النص ليحذر من عاقبة الأعمال السيئة، وما يصيب الإنسان من عقاب دنيوي جرائها، وهو ما يُلتمس من مصير "عائشة" التي ماتت محترقة، نتيجة أفعالها الشريرة.
جنسيا، لم يحضر الجنس بوصفه قيمة أساسية في النص، بمعنى أن النص لم يرتكز على الجنس، ولم يستخدمه لتمرير السرد، أو إضفاء مزيد شبقية على الرواية. بل حضر الجنس في مواضع محدوده، وبشكل خجول ومؤدب جدا، استخدمت فيه العثمان الكناية أكثر من التصريح، غير متناولة إياه بشكل مباشر. وحتى في المقطع الأسخن جنسيا، بين "معيوف" و"قمرية" لم يُكتب هذا المشهد بابتذال، وصراحة مكشوفة، بل حاولت قدر الإمكان أن يكون مواربا.
من ناحية فنية، جاءت الرواية متوترة من بدايتها وحتى خاتمتها، عبر تسلسل أحداث قائم على الترابط والاستذكار، مازجة بين أزمنة مختلفة، دون أن تتداخل هذه الأزمنة بشكل سلبي. فيما كان السرد يتكئ على توتر الأحداث والحوار، الذي اعتمد على ثلاث مستويات: صوت الراوي، وصوت المروي عنه، وصوت الشخصية ذاتها عبر "الحوار". والحوار بين الشخوص، اعتمدته العثمان كأساس هام للعمل، جاعلة من هذا الحوار ببنيته المتوترة، ركيزة لتوالي الأحداث وتتابع الأفكار.
اعتمدت الرواية على اللهجة "الخليجية/الكويتية" في أحاديثها التي دارت على لسان شخوصها، والعثمان حاولت أن تمزج بين العربية الفصحى والمحلية "العامية" في حديث شخوصها، لكي يسهل على القارئ العربي فهم العبارات، لكنها لو تركت الشخوص يتحدثون بلهجة محلية طوال السرد، لأخرج ذلك الشخوص من ارتباك المزج بين الفصحى والعامية.
مشاهد النص، جاءت تلقائية، والشخصيات ترك لها هامشها دون تدخل من الكاتبة، مما يجعل حرية وفسحة تحركها أكبر، وهو ما يلحظ في مجمل الرواية، عدا موضعين: الأول، عندما تحدثت عن "الليلة الأولى"، "ليلة الدخلة" فاضحة "ذكورية " هذه الليلة، وموقف الفتاة فيها. والثاني: عندما تحدثت عن "العصعص" بوصفه سلوكا اجتماعيا، ساردة نماذج تدلل بها على تفسيرها، وهي في هذين الموضعين وقعت في فخ المباشرة والخطابية.
تلك هي "عصعص" ليلى العثمان، بما تحمل من قيم فاضلة ونبيلة، وترسخ من ذاكرة خليجية شعبية يحن لها الكثيرون، فلماذا تتجرأ الرقابة في الكويت و"تقصه"، أم لا يحق لها أن تتباهى بـ"عصعصها"!، أم هو حكر على الرجال فقط!.