|
العقل والعقلانية بين الإسلام والغرب
توبي أ. هاف
الحوار المتمدن-العدد: 1196 - 2005 / 5 / 13 - 09:13
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
الفصل الثالث من كتاب ’’ فجر العلم الحديث، الإسلام- الصين- الغرب ‘‘ ترجمة: د. أحمد محمود صبحي إصدار: سلسلة عالم المعرفة- الكويت، العدد 219. يمكن القول بالمعنى الواسع إن مصادر العقل والعقلانية في أي حضارة إنما تلتمس في الدين والفلسفة والقانون، إذ تتفاعل هذه المجالات للمقال والبحث لتتيح أمشاجاً متنوعة من التوجه الفكري القائم على الأمثال والمجاز والحصيلة اللغوية، في بعض الحضارات كاليونان في عصرها الكلاسيكي كانت الفلسفة بلا شك هي سيدة الحياة الفكرية، الأمر الذي دعا كثيراً من الملاحظين الى القول بأنه حيثما يسود الفكر اليوناني فإنه يشكل خيالات الانسان وقدراته تشكيلاً عقلانياً في شتى الاتجاهات، وأن أثره ما زال باقياً الى يومنا هذا. وربما كان نادراً اعتبار أثر المصادر الدينية على العقلانية، كما لاحظها ماكس فيبر بدقة، لأنه ما أن يتخيل المرء الأهداف السليمة للحياة الدينية حتى يشرع في إقامة ما قال عنه كليفورد جيرتز Clifford Geertz مزاجاً قوياً نافذاً طويل الأمد، ودوافع لتشكيل تصورات من نظام عام من الوجود، بعد أن ترتدي هذه التصورات ثوب الحقيقة حيث تبدو هذه الأمزجة والدوافع كما لو كانت حقيقة واقعية، فقد خلقت هذه الصور الدينية في العالم الغربي إيماناً غير متوقع بالعقل والنظام العقلاني للعالم الطبيعي، وقد استمرت هذه الميتافيزيقيا والعقلانية لتتبطن الرؤية العلمية منذ اليونان. وفضلاً عن النظام الديني الصارم عن الأشياء، يحتاج المرء الى أن يضع في اعتباره التصورات التشريعية التي تغدو بوسائل شتى الآلية الفعالة، بينما الأمزجة والدوافع الدينية تقوم بدورها في المؤسسات إنه التزام واجب، ولا بد أن تضع في الإعتبار التأثير المستقل للقوانين والإجراءات للعقل التشريعي في تكوين النماذج السلطوية للعقل والعقلانية في الممارسة اليومية لحل ما يثير الجدل. ولكن من وجهة أخرى كان لمؤرخي العلم رؤية أكثر تحديداً لمعرفة مصادر العقلانية العلمية في الفنون والحرف أو في التقنيات السائدة في الحرف، فقد اتخذ ماكس فيبر هذا الطريق في مناح كثيرة من تفكيره، حيث بيّن أنه منذ فنون عصر النهضة ظهر منهج التجريب، وكذلك في ((دين الصين))، كما يقول أن الفن العظيم لتجريبية عصر النهضة كان وليد رابطة فريدة بين عاملين: المهارة التجريبية للفنون الغربية القائمة على الحرف، والطموحات العقلانية التي حددتها عوامل تاريخية واجتماعية، فقد التمسوا دلالة متوارثة لفنهم وتقديراً اجتماعياً لأنفسهم برفع قيمة الفن الى مستوى ((العلم)) وكذلك كثيرون، مثل ادجار زيلسل وجوزيف نيدهام، حتى عصرنا الحاضر ينسبون ظهور الأشكال المتباينة للتجريبية الى الحرف والفن. ولكن في ملاحظاتهم تجاهلاً بدرجات متفاوتة للممارسة التجريبية في العلم العربي، فبينما يعطي جوزيف نيدهام قيمة كبرى ((للحرفي الخبير)) بسبب ميوله للماركسية القديمة والتي يشاركه فيها زيلسل فإن جميع هذه الآراء تضفي قيمة للقضايا الواضحة لمنطق العلم التجريبي الذي اتبعه العلماء العرب في ثلاثة علوم مختلفة على الأقل قبل عصر النهضة، هذا الى أن هذه المناقشات عن هذه التقنيات قد تسربت الى الغرب في القرنين الثاني عشر والثالث عشر. وخلاصة القول إن أثر فن الحرف القائم على الخبرة في تطور الفكر والعمل العلمي إنما يأتي في الدرجة الثانية بعد القضايا الدقيقة للتجريبية والتي صاغها فلاسفة الطبيعة والعلماء أنفسهم. مثلاً، لقد تتبع الدكتور صبرة مصطلح ((التجربة)) في العلم العربي فأرجعه الى القرن الحادي عشر والى كتاب ابن الهيثم (ت 1040م) في البصريات، ومع أن ابن الهيثم استخدم اللفظ ومشتقاته بمعنى مستحدث، فقد لاحظ الدكتور صبرة أن المترجم اللاتيني في العصر الوسيط لم يتردد في أن يترجم لفظ ((الاعتبار)) بالخبرة أو التجربة والمعتبر هو المجرب. ومن ثم فإننا نستطيع أن نمسك بالمصدر الديني للعقل والعقلانية في ينابيع الدين والشريعة وليس بالعلم النظري أوالتجريبي فقط، إذا افترضنا أن الشريعة الإسلامية هي تمثيل دقيق لأثر القانون على الحياة الاجتماعية وعلى التنظيمات، ومن الخطأ افتراض أن القانون في الغرب كان أقل أثرأً على مجالات الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والفكرية، أو بتعبير آخر لكل حضارة أن تصوغ شكل ميتافيزيقاها بكل ما يترتب عليها من نتائج سوسيولوجية، ومن ثم فإن المحصلة لابد أن تكون متباينة في حضارتين مختلفتين، وبأكثر من مجرد القول إن أثر التشريع كان مختلفاً فإنه يمكن القول إن القانون قد أدى دوراً مركزياً في تطور الحياة الاجتماعية والثقافية، وإنه بينما لاقى التشريع في الغرب في القرنين الثاني عشر والثالث عشر ثورة تشريعية حيث التربة الخصبة التي لم تتوافر في مكان آخر، بما في ذلك حضارتا الإسلام والصين، حيث المؤسسات الحرة والمجالات المستقلة للتوجه العلمي. إن عملنا الأول هو مقارنة البدائل الأنثربولوجية عن أنساق كل من الحضارتين لتحليل تصوراتهما المتباينة عن العقل والعقلانية، ثم سنكشف بعد ذلك عن وضع القانون في الصين، وسنعنى في الحالات الثلاث بتوضيح الآثار المتبادلة لهذه التصورات البديلة على العقل والعقلانية والقانون فيما بينها والنتائج المترتبة على النظام الاجتماعي بوجه عام. الخلفية التشريعية الإسلامية التشريع الإسلامي قانون مقدس من مصدر علوي مقتبس من القرآن وأحاديث النبي محمد كما جمعها أتباعه فيما بعد، وباعتبارها تعاليم مقدسة يُفترض في التشريع الإسلامي أن يكون كاملاً غير متغير، ومع أن المشرعين يرون أن ذلك لا يمكن أن يكون نظرياً صحيحاً فإنهم مع ذلك تصرفوا على هذا الأساس وأقاموا مجموعة من التشريعات وأخرى من استنباطات فكرية حتى يتسنى تطبيق الشريعة على الحالات المماثلة التي لم يرد فيها نص من الكتاب والسنة. وهنا تكمن المفارقة، فمن جهة: الشريعة وهي القانون المقدس في الإسلام، عمل كامل ومهمة المشرع والمؤمن هو فهم هذا الأمر، ولفظ ((فقه)) يفيد أنه علم ((الفهم)) ومهمة أصول الفقه وضع الأسس العقلية التي تحكمه من استنباط القواعد، ومن جهة أخرى كما لاحظ ق.ج. كولسون لا يشكل القرآن والسنة معاً مجموعة شاملة من التشريع، إذ المادة الثانوية هي مجموعة إرشادات لحالات جزئية متناثرة متعلقة بمجموعة عريضة من الموضوعات المختلفة أبعد من أن تعد هيكلاً تشريعياً عظيماً لنسق قانوني. ولما كانت القضية كذلك، فقد كان عمل الفقهاء الدائم استنباط أحكام شرعية من نص مقدس لمواقف متجددة حيث لا يتوقع أن توجد حالات استثنائية. ووفقاً للنظرية التشريعية في الإسلام فإن مصادر التشريع أربعة: القرآن والسنة والقياس والإجماع، وتؤكد النظرية أن الأمر الإلهي يشمل القرآن والسنة، ومع أن الله لا يرضى لعباده الانحراف عن الطريق المستقيم أو الشريعة فإنه ينبغي أن تكون هناك قاعدة للإرشاد في كل الظروف، ومن ثم كان الإجتهاد ضرورياً لفهم الشريعة فهماً كاملاً ولتطبيقها على المواقف المعقدة التي تواجه المسلمين. وخلال تطور النظرية التشريعية فإن الصيغ المقبولة من الاستدلال كانت تخضع للقياس، أي إيجاد النظير تحاشياً لفكرة الرأي الشخصي وبخاصة مبدأ الاستحسان، وكان الشافعي (ت 820م) أكثر الشخصيات التي صاغت تقنين الفكر التشريعي في الإسلام، فهو الذي شكل صيغ الاستدلال المأخوذ بها في الفكر التشريعي بإرجاع الاجتهاد الى القياس. أنه يقول: القياس على نوعين: الأول، إذا كانت القضية مماثلة في المعنى للمقيس عليه، والثاني، إذا كانت القضية موضوع السؤال مماثلة لمقدمات عديدة فإنه يمكن تطبيق القياس الى أقرب المقدمات شبهاً وأكثرها ملائمة، ولكن من يطبقون القياس غالباً ما يختلفون. من حيث القاعدة تلتمس عملية الاستدلال القياسي عادة مبدأً عاماً أو أمراً أو آية من القرآن ثم موقفاً جديداً، وقد كان الشافعي على وعي أن هناك صوراً مختلفة من القياس الذي هو حسب التعبير العربي الأداة التي بها ُيستخلص حكماً من أمر أو نهي إلهي أو من الرسول، وهذه الأحكام الإلهية أو النبوية عديدة، وبالقياس تطبق على حالات أوسع مدى حتى يتسنى أن يصبح لها نفس قوة الأمر أو النهي، تماماً كما أن توصية بفعل صغير من التقوى يتضمن توصية بفعل كبير منه. والتوجه في هذه الحالات قائم على بيان المماثلة التي تسمح باستخلاص نتيجة سليمة، وقد عبر الشافعي بوضوح أنه فيما يمس حياة المسلم فإما أن يوجد حكم ملزم أو إرشاد الى الجواب الصحيح، فإن وجد نص فيجب اتباعه، فإن لم يوجد النص فلا مناص من الإجتهاد الذي هو القياس، وقد قاد هذا النمط من التفكير الى الاعتماد الكامل على العقل في التشريع الديني. وحيث توجد آية محكمة أو حديث منسوب الى الرسول أو إجماع المسلمين فلا يسمح بالخلاف، حيث لا اجتهاد مع النص، أما حيث لا يوجد نص، فعلى الفقهاء أن يستنبطوا للوصول الى الحكم بالاستناد الى هذه المصادر الثلاثة، أما إن كان للمشكلة حلان فإنه الرأي اللازم عن الاستدلال المنهجي السليم، على أن ذلك نادراً ما يحدث. وباختصار فإن البواعث العقلانية في الفكر الإسلامي المبكر والذي شكل الشريعة في بنيان منهجي متسق من المعرفة ومن ثم فقد حال دون أن يضل المؤمنون عن الطريق المستقيم، والذي لزم عن وضع العقل كمصدر للقانون، وقد يتخذ الاستدلال حين التطبيق في الحالات الجزئية صوراً مختلفة، ولكن أياً كانت الصورة التي يتخذها فإن التفكير القضائي في العصور الأولى لم يكن ينظر اليه على أنه عملية منفصلة عن اتباع الأوامر الإلهية، فقد تبنى الشافعي موقفاً كان المجتمع الإسلامي -ككل- قد احتفظ بالسنة النبوية التي لا تضيع، فضلا عن اجماع المجتمع لا يتعارض مع السنة، ومن ثم فلا مجال لرأي مخالف. ومبدأ الإجماع قد وضع ليمكن من وصول المستدل الى الحكم السليم المستنبط من السنة. وبذلك فقد أغلق باب الاجتهاد فلا إضافة لمباديء جديدة، ولا يعني ذلك أنه لا مجال للقضاة والفقهاء لإصدار فتاوى للإجابة على المشكلات في الحالات الفردية، وإنما يعني أنه لا مجال لاستحداث مباديء قانونية أو تصورات جديدة يمكن أن تضاف الى الشريعة الإسلامية، لأن هذه قد صدرت مرة واحدة حاسمة من الله في القرآن ومن السنة مشمولة بإجماع الفقهاء، (( وهذا يوضح لماذا افتقد التشريع الإسلامي وجود مدونة قانونية كاملة ولماذا لم يعرف القانون الإسلامي فكرة المسؤولية الشخصية أو الاهمال، ولماذا لم تتطور فكرة الشهادة أو البيّنة على الاطلاق، ولماذا لم يعد قانون الجزاءات الإسلامي والمدونة الإسلامية في مسائل الإرادة العامة غير الملائمة إطلاقاً مع العصر الحديث. وفي العصور المتأخرة تطورت فكرة المصالح المرسلة، ولكن بمعنى محدود هو وجود دولة متسقة مع القانون المنزل -السياسة الشرعية-، والتي استخدمت لمنح سلطات مطلقة للحكام دون أ، تضع قيود عليهم مادامت هذه السلطة المطلقة تتجاوز جميع الحدود)). ** إن التطورات المبكرة في التشريع الإسلامي توحي -من وجهة نظر معينة- الى فكرة اتباع طريق يؤدي الى إجماع قضائي، ولكن ليس علينا أن نقرأ الواقع الإسلامي من خلال تصورات غريبة، فبينما قدس الشافعي إجماع الفقهاء - سواء نظرياً أو عملياً- فإن هذه الفكرة تفتقر الى الصراحة: فحيث لا توجد محاكم مركزية، وحيث لم يكن للقضاء كيان مستقل كوظيفة حتى القرن التاسع عشر، فليست هناك آلية مؤسسات تمكن من إثبات الأحكام القضائية السابقة للإسترشاد بها. حقيقة هناك مجموعة أقوال منسوبة الى النبي - كما هي مدونة في صحيح البخاري-، ولكن هذه تفتقر الى الاتفاق الجماعي والى تنظيم نسقي باعتبارها مباديء قضائية، وإنما تدور حول رؤوس بعض موضوعات، كالإيمان والطهارة والصلاة والزكاة والصوم والحج ثم التجارة، والمواريث وأحكام الوصية والقسم والجرائم والقتل. ثم إجراءات قضائية تتعلق بالحرب والصيد وشرب الخمر، ومثل هذه تعد خطوة أولى في تطور نسق قضائي ولكن دون إعداد وتنسيق ما يتطلبه النظام القضائي فإنها تشكل مجرد أفكار دينية وأخلاقية وقانونية، والواقع أن هذه الأفكار الملزمة للإنسان كأحكام قضائية لم تكن إسلامية مادام ما يعد إسلامياً لابد أن يوجد في القرآن أو الحديث، أو بمعنى آخر لقد عدت الرسالة منتهية بموت الرسول ومن ثم يعد الحديث ضئيلاً عن أي شيء خارج نطاق الكتاب والسنة، فلا يتصور وجود حكم قضائي كهذا مسبقاً وُملزماً وإنما مجرد تطبيق للقانون القائم، إنه لا بد أن تسجل الأحكام القضائية في مدونة من التشريعات القضائية ليحدد المكان الصحيح للقرآن والسنة. فضلاً عن أن مدارس الفقه الأربعة - الشافعية والحنفية والحنبلية والمالكية- وقد أضيفت اليها مدارس فقهية فيما بعد بقيت مناطق منفصلة للقوانين، فلم تكن تدرس ككيانات مستقلة في المدارس وإنما كأنساق متخارجة تضفي الفردية على الموقف، لأن المدعي أو الخصم قد ينتسب الى مذهب فقهي بينما ينتسب خصمه الى مذهب آخر، ولذا يشير هربرت ليبسي H. Libesny الى دخول فكرة الأولوية الى القانون الإسلامي وذلك بعد الإحتلال الأوربي للهند والشرق الأوسط في القرن التاسع عشر، هذه الطبيعة المختلفة للتطور القانوني ومزايا الاستدلال التمثيلي في القانون الغربي يمكن أن نلاحظه في المؤلفات عن هذا الموضوع. وواضح من تقارير إدوارد ليفي E.H. Levy وملفن ايزنبرغ Melvin Eisenberg أن المتغير في التشريع قد أدخل لإيجاد أحكام قانونية، ولإلتماس مباديء عامة يمكن أن تمتد الى التصورات القانونية والمقولات التي تتجاوز الأحكام القديمة، ولكن شيئاً من ذلك لم يحدث في القانون الإسلامي، ففي الممارسة العملية تتفاوت المدن أو القرى في فهمها للمثال، ولم ينجب تعطشها الأول نسقاً كاملاً للقانون يتكافأ مع مدونة قانونية، كما لم يؤد الى ثورة في القانون الإسلامي كالتي شهدها الغرب. وكما سنرى في الفصل الرابع فإن رفض القانون الإسلامي لفكرة تراكم الأسبقيات إنما يقترب من نظرية وإيديولوجية القانون المدني في القارة، ولكن علينا أن نتذكر أن القانون الإسلامي قد حال دون تغير جوهري وإجرائي من خلال هيئة أو برلمان، ويرجع ذلك الى إفتراض الكمال والثبات في الشريعة الى حد أن الأفكار الإسلامية التي سعت الى التحديث قد قيدت تطبيق الشريعة على مجال الأسرة والمواريث متبنية المدونة المدنية في الغرب مع بعض التعديلات، وذلك للتطبيق في سائر المجالات. العقل والإنسان والطبيعة في أوربا من منظور طول مدة ما حملته القرون الطويلة من صور الثقافة الإسلامية، لم يكن لأوربا في القرن الحادي عشر شيء من ذلك، وإنما كانت صغيرة بسيطة مبتدئة بالنسبة للعالم العربي الإسلامي، تماماً كما كانت الولايات المتحدة بالنسبة لأوربا في عام 1776، فقد فقدت أوربا الكثير من تراث روما وبخاصة تقاليد القانون الروماني فضلاً عن نصيب وافر من التراث اليوناني، وذلك بسبب الفوضى التي غرقت فيها جراء غزو القبائل الجرمانية البربرية في القرنين الرابع والخامس الميلاديين، ومن ثم فإنه لا عجب أنه حين شرح المترجمون الأوربيون مثل جيرارد كرموريا (1114-1187) وميشيل سكوت (1277-1335)، بين آخرين، بداؤا في مواجهة التراث الفكري الخصب للشرق الأوسط وكان أكثره في اسبانيا. وكان من المسلم به في العصر الوسيط أن اكتشاف التراث الروماني في التشريع مع نقل التقاليد اليونانية المفقودة منذ مدة، والتي عرفت عن طريق الاتصال الجديد بالثقافة العربية الاسلامية في القرن الثاني عشر قد أنتج نهضة في أوربا، وقد أثر هذا التفجر الجديد للطاقة والابتكار في كل مجالات النشاط الفكري، وكان ذلك واضحاً في القانون والفلسفة واللاهوت والبحث العلمي، ويتضح ذلك في إقامة الكليات والجامعات وكذلك في إنشاء المدن والبلدان الجديدة. لقد كان ذلك يعني أن هناك مولوداً جديداً، وقد صاحب ذلك تطور اقتصادي هائل ليعزز ما يحوم في الجو من فكر وخيال، إنه يمكن القول إن هذه الروح الجديدة كانت من القوة بحيث ولدت واحدة من أشد المفارقات حدة بين مفكري أوربا والشرق الأوسط في ذلك الحين، بل إنه بين الصفوة الدينية المسيحية من كان أكثر تعبيراً عن ذلك. لقد كان ذلك ملاحظاً في مؤلفات المشرعين وتلاميذ القانون في العصر المدرسي الوسيط والذين أرادوا إحياء القانون الروماني، وفلاسفة اللاهوت مثل بيتر أبلارد P. Abelard ووليم كونشوس W. of Conches وثيري أوف شارترس Thierry of Charles وآخرين، وقد عبرت هذه عن نفسها في روح جديدة من العقل وملامح العقلانية التي شرعت تفرض النظام في كل مجال، وتسود كل مظاهر الحياة الفكرية، كما لو كان مفكرو العصر قد وضعوا على أعينهم منظاراً من العقلانية. وقد كانت محاورة ((طيماوس)) لأفلاطون أهم مصدر للدافع العقلاني لدى اليونان أحيا موات التعلم بعد تدهور الإمبراطورية الرومانية، والذي ترجمه الى اللاتينية كاليكدوس Chalccidus في نهاية القرن الثالث الميلادي، والذي أعجب به سان أوغسطين ثم تحمس له مفكرو القرنين الثاني عشر والثالث عشر. ومع أن العرب كانوا قد عرفوا ((طيماوس))، إلا أنهم لم يتحمسوا له كما فعل مسيحيوا الغرب، وكان من أكثر ما أثار إعجاب المفكرين الأوربيين في الفترة المبكرة من ذلك العصر الجديد تلك الصور المنظمة المتكاملة عن الطبيعة، فقد بدأ العالم الطبيعي كنموذج من النظام العقلاني من الأسباب والنتائج، بينما سما الإنسان -وهو جزء من النظام العقلاني- بفضل العقل. إنه من الصعب تقدير أثر أصول الفكر الأفلاطوني على مسيحي العصر الوسيط في تلك الحقبة السابقة على معرفة أرسطو الجديد، إذ أثرت الأفلاطونية في كل مجال من البحث يتضمن دراسة الطبيعة تماماً كتأثير الكتاب المقدس. إنه إنجاز له وزنه عن تلك الفترة في الغرب حين اكتشفوا الطبيعة وفصلوا وميزوا بين مجالات الطبيعة وما بعد الطبيعة أو ميزوا ما بين المعجزات وبين قوى الطبيعة. وربما كان وليم أوف كونشيس (ت1154) هو ذلك المهندس الرائد لفلسفة الطبيعة ذات طابع علمي، فهو يؤكد في تعليقه على طيماوس: ’’ بعد أن بين أن لا شيء يوجد دون سبب، فلقد حصر أفلاطون البحث في العلة والمعلول، إنه يجب أن نعرف أن أي عمل إنما هو عمل الخالق الطبيعة أو عمل إنسان وفنان يقلد الطبيعة. إن عمل الطبيعة هو إنجاب الشبيه من الشبيه أو من البذور، لأن الطبيعة طاقة وراثية في الأشياء تنجب الشبيه من الشبيه‘‘. يتضمن هذا التصور للطبيعة فكرة النظام (أو التسلسل) وفكرة القانون، لقد اكتشف رجال العصر الوسيط العالم ككون مترابط الأجزاء، ومن ثم فإن هونوراس اف اوتان يتحدث عن المهندس الأعظم ((الذي جعل الكون كأنه قيثارة كبرى حيث تولد الأوتار مجموعة متنوعة من الأصوات )) والذي قسم العالم الى قسمين متكاملين (الروحي والمادي)، لأنه قسم العالم الى قسمين يضاد كل قسم الآخر، الروح والمادة، وهما متضادان في الطبيعة ولكنهما متلازمان في الوجود كجمع من الرجال والأولاد في نغم متناغم وأصوات متفرقة، وتقلد الأشياء المادية ذلك التمييز في الكورال، فتقسم الأشياء الى أجناس وأنواع وأفراد الى أشكال وأعداد، ثم تمتزج هذه جميعاً في انسجام كما نلحظها بمقدار بموجب قانون يتحللها وكذا كما يصدر عنها صوت متناغم. ويتكرر التأكيد على فكرة كون موحد منظم متسق حيث يفترض في قوانين وقوى الطبيعة أن تعمل جميعاً مستقلة عن أي مصدر خارجي، ونجد مثل هذا التعبير في مؤلفات هوج أوف سان فكتور Hugh of St. Victor (ت1141) حيث الحديث عن العالم كوحدة مرتبة، وحيث ميل الأشياء بطبعها الى النظام من أعلاها الى أدناها في شبكة هذا الكون كل في نظام، ولا شيء مشتت أو منفصل بين الأشياء الموجودة بطبعه، وكل مثل ذلك لدى أبوت تيري أوف شارترس Abbot Thierry of Chartres (ت1156) الذي يؤكد أن العالم يعود كما لو أن هناك عللاً لظواهر وأنه نشأ في تتابع للزمان، ويدلنا وجوده ونظامه على عقلانية. وخلاصة القول لقد شكل أفلاطون في القرن الثاني عشر صورة للبحث تقوم على كل شيء طبيعي أو فوق الطبيعة لا بد له من علل حتى نجد سبباً لوجوده، أوله هذا ما كان معروفاً ويصعب أن نجد وسيلة لإنكاره من جانب المتشددين دينياً، هذا وقد تبنى إدلارد أوف باث Adelard Of Bath فلسفة جديدة للطبيعة ومع أجهزة تحدد مجال علم الفيلسوف: إن وظائف الحواس والترابط بينها واضح في كل الكائنات الحية...أما كيف تعمل وما الصلات بينها وما أسلوب عملها، إنه فقط الفيلسوف هو الذي يمكن أن يوضحه، لأن مسببات هذه التفاعلات وارتباطاتها بعللها والعلاقات بين العلل نفسها معقدة على نحو يجعل معرفتها خافية على الفلاسفة أنفسهم بفعل الطبيعة ذاتها. وكان وليم أوف كونشيس William Of Conches أكثر صراحة حين أكد أنه ليس من شأن الكتاب المقدس أن يدلنا على طبيعة الأشياء، فذلك هو من شأن الفلسفة. ولم يقف التحديث عند هذا الحد، بل الى حد نقد الكتاب المقدس ذاته، إذ ناهضت نصوص الكتاب المقدس العقل ونظامه فينبغي ألا يفهم النص على ظاهره. وقد ذهب وليم أوف كونشيس الى أبعد من ذلك حين أكد أولوية الاستدلال الفيزيقي، بينما تقول صفحات الكتاب المقدس: ((ثم قسم المياه التي تحت الفلك عن تلك التي فوق الفلك)) وحيث إن عبارة كهذه متعارضة مع العقل ومن ثم فإنها لا يمكن أن تكون كذلك، ويبدو أن هؤلاء الرجال من العصر الوسيط كانوا رواداً في إقحام العقل وأدوات الاستدلال المنطقية على الكتاب المقدس والتقارير التاريخية، أو بمعنى آخر بداية النقد الشديد في دراسة الكتاب المقدس. وحيث يبدو تصور العالم ككل متحد، فالإنسان جزء من هذا العقلاني، ومن ثم فإنه ُوهِبَ العقل ويستطيع أن يقرأ ويحل رموز أنماط العقل أو بالأحرى أن يقرأ كتاب الطبيعة، ويمكنك أن تجد هذه الفلسفة العقلانية أو الأنثروبولوجية عن الإنسان وقد دونها كتاب كثيرون منهم إدلار أوف باث Adelard Of Bath : ’’ ومع أن الإنسان لم تسلحه الطبيعة ولا هو بقادر على الطيران، فإن لديه ما هو أفضل وأهم: إنه العقل، لأنه بامتلاك هذه الملكة تفوق على الوحوش الى حد أن أخضعها له، ومن ثم فإنك ترى كيف أن منحه العقل ليست مجرد زاد فيزيقي.‘‘ وهكذا وجدنا أفكاراً كثيرة عن تكوين الطبيعة وعن وضع الفلسفة وعن عقلانية الإنسان كلها قد ظهرت مع النهضة في القرن الثاني عشر، وقد واجهت هذه تفصيلات كثيرة مع وصول التيار الأرسطي الجديد والترجمات من اليونانية والعربية، غير أن عقلانية أفلاطون هي التي وضعت الأساس بصدد التصور الفيزيقي والميتافيزيقي عن العالم ككل منسق. وأهم من ذلك كله، أنها أقامت اعتقاداً ثابتاً عن المقدرة العقلية للإنسان كي يفهم ويشرح الطبيعة، وبالمثل أن يفسر ويشرح الكتاب المقدس، وهكذا أعلنت الفلسفة المسيحية واللاهوت في القرنين الثاني عشر والثالث عشر أن الإنسان كائن حاصل على العقل وقد مكنته تلك المقدرة على أن يحل طلاسم الكلمة المقدسة نفسها دون عون من الوحي ودون حاجة الى تحايل على النص. وكانت هذه الرؤية على نقيض من التفكير الإسلامي في ذلك الوقت، سواء تعلق الأمر بالفلاسفة أو المتكلمين، لأنه من بين المتكلمين هناك الرؤية الأشعرية عن الإنسان والطبيعة القائمة على فكرة الذرية الإسلامية (المعروفة باسم العلل العرضية) تعارض تماما النظام الكوني كما عبرت عنه مؤلفات علماء اللاهوت في القرنين الثاني عشر والثالث عشر، ومع أن كلا من الفارابي وابن سينا قد تأثرا بأفلاطون فإنهما لم يجدا ذلك الإلهام الذي وجده اللاتين في ((طيماوس))، لقد طور هؤلاء الفلاسفة العرب الرؤى الفلسفية الأفلاطونية التي تتعارض مع تفكير صفوة المفكرين في الإسلام ولكنهم لم يعلوا من شأن التصور العقلاني والميكانيكي للعالم الذي وجده الأفلاطونيون الأوربيون في القرن الثاني عشر في الصرح الأفلاطوني، بل ما هو أبعد في المفارقة أن المتكلمين لم يستوعبوا التصور الطبيعي عن العالم والمكّون من القوى العلية عن العالم، بل إنهم لم يتسامحوا في مسألة أن نفس الوقائع الواردة في القرآن بتفسيرات طبيعية كما فعل ثيري Thierry ووليم أوف كونشيس W. Of Conches في الكتاب المقدس في أوربا في القرن الثاني عشر، بل إنه حتى في القرن العشرين يروي هاملتون جيب حالة الشيخ المصري، محمد أبو زيد، في عام 1930؛ ذلك أنه بعد أن نشر طبعة عن تفسير القرآن فيها انتقادات للمفسرين القدامى فسر المسائل الغيبية بوسائل طبيعية، ومع أن الغاية كانت تشجيع الشباب على دراسة القرآن، فإن الكتاب قد صودر، كما صدرت التعليمات بمنع الكاتب من الوعظ أو عقد اجتماعات دينية. ونفس المشاعر كانت في إدانة رواية سلمان رشدي، آيات شيطانية، بحيث يمكن القول إن تقليد نقد الكتاب المقدس إنما هو تقليد ديني غربي متأصل منذ القرن الثاني عشر والثالث عشر في أوربا، والذي وجد تطوراً قوياً أثناء عصر التنوير، وعلى العكس فإن مثل هذا التقليد لم يتطور في الفكر الإسلامي، وكان غيابه مصدر اعتراضات على أخيلة الناس وعن حوادث تاريخ الإسلام. ودون الدخول في تفاصيل أعمق، فإنه يمكن القول إن النهضة في القرن الثاني عشر في أوربا وضعت أسس برنامج البحث العلمي بعد أن نقل وهذب، وقد طورته الصفوة الدينية التي سيطرت على الحياة الفكرية والتي تتضمن كما يرى تينا ستيفال Tina Stiefel القضايا الآتية: 1- إن البحث العقلي والموضوعي للطبيعة من أجل فهم عملها ممكن ومرغوب فيه. 2- إن مثل هذا البحث يوظف التقنية والرياضيات والاستدلال الاستنباطي. 3- إن الباحث عن معرفة عمليات الطبيعة أو بالأحرى العالم ينبغي أن يفكر منهجياً وأن يتحلى بالرزانة. 4- على العالم أن يتجنب كل أصوات السلطة والتقليد والرأي العام بصدد كيف تعمل، إلا على المدى الذي يكون فيه الخبر متحقق منه وعقلاني. 5- على العالم أن يمارس الشك المنهجي وأن يتحمل حالة من التشكك في بحثه من أجل فهم الظاهرة الطبيعية. وبهذه العناصر من النزعة الطبيعية والعقلانية بل الآلية في الفلسفة الطبيعية يقوم العلم، فليس عجباً أن هذه الحركة الكاملة التي عززتها الأرسطية الجديدة أثارت رد فعل لدى بعض رجال الدين التقليديين في الكنيسة، على أن رد الفعل هذا سرعان ما تلاشى وبالتالي لم يؤثر في الحرية الأكاديمية من أجل منع تدريس أرسطو أو أن يحول دون التفكير العلمي، على العكس فإن تدريس كتب الطبيعة لأرسطو وكذلك كتابه للنبات والحيوان والآثار قد تم في الجامعات الرئيسية في أوربا واستمر حتى القرن السابع عشر. هذا ويجب أن لا يفوتنا ذكر أن الجهود الرامية الى جعل اللاهوت علما كانت حركة أساسية خلال هذه الفترة من الزمن، وأنها بدورها دفعت الحياة الفكرية الى وجهة نسقية والى اتجاه على وعي بما تقتضيه المنهجية، وقل مثل ذلك على القانون أيضاً. بينما يسعى الفكر الكلاسيكي في التشريع الإسلامي الى أن يحد العقل ويقيده بإحكام كمصدر للتشريع، فإن القانون الغربي والأوربي قد تطور في الطريق المخالف. وبالمقارنة لقد رأينا أن علماء الكلام والتشريع أقاموا تصوراً مخالفاً عن الإنسان، رؤية تقيد العقل والقوى الباطنية فيه، والعالم أعقد من أن يدركه مخلوق فانٍ، ومن ثم لا بد من الحد من سلطة العقل. ففي كتابات الشافعي، المنظر الرئيسي للمدرسة السنية في التشريع، فإن الصور المختلفة للعقل من رأي واستحسان ومما يندرج تحت القياس قد أهمل، ولم يدع الفقهاء إلا تصوراً ضيقاً من الاستدلال في القياس، فلم يخطر بالبال أن يأتي بعد الشافعي شخص يضع مباديء تقنن تطبيق الجزئيات تحت كليات أعلى وأعمق، سواء ما يتعلق بالشهادة والإجراءات أو صميم التشريع. فالأمر الإلهي قد نزل مرة واحدة، كاملاً لا يعتريه الخلل، وعمل الإنسان هو أن يفهمه وليس أن يضيف مباديء جديدة، كما أن الإجماع قد حلّ كل المشكلات الأساسية فلم يدع شيئاً للأجيال القادمة. كما لم يستوعبوا فكرة الإنسان والطبيعة كما هي في ((طيماوس)) إن كانوا قد توصلوا إليها. لقد كانت المعركة الأساسية في الفكر الإسلامي الإعتراف بعلم الكلام الذي أدانه الكثير من الفقهاء، فلم يعد هناك تفكير إلا في الدفاع عنه ما دامت تحيطه الشكوك، وقل مثل ذلك في الرؤية الفلسفية للإنسان ككائن عقلي يمكن أن يصل الى الحقائق الأخلاقية بدون مساعدة الوحي، فلا مجال إلا لفلسفة خادمة للإلهيات. لقد كان في الزمن المتقدم للإسلام عقلانيون هم المعتزلة، وكان هؤلاء مستعدين لمنح العقل كل القوى، بل والفصل بين العقل والوحي، وأن العقل لديهم هو الصفة التي تجعل الإنسان خالق أفعاله وأن يميز بين الخير والشر، هذه القوى المنسوبة الى الإنسان والتي جعلته حاكماً داخلياً على أفعاله، وقد قادهم هذا التفكير الى الإعتقاد أن الله لا يقدر على فعل الشر والظلم. ولكن هذا التوجه العقلاني قد هزمه انتصار أهل السنة بسبب تعاليم الأشعري (ت935) في القرن العاشر، فلقد أضفى الأشعري - مثله في ذلك مثل سائر المتكلمين- السلطة المطلقة على الشريعة الى حد أن كل الممارسات العملية بما في ذلك القانونية والأخلاقية التي تتدرج في الممارسة العملية قد غدت من سلطة الشريعة. وقد أدى هذا - كما أشار فضل الرحمن- الى طلاق بين علم الكلام من جانب، وبين القانون والأخلاق من جانب آخر. لقد جُمد القانون والفكر الأخلاقي الى حد لم يعد حراً في تقديم حلول عملية لأزمات الحياة وملماتها، أو أن يقدم رؤية أكثر خبرة للحياة الأخلاقية. لقد أعلنها الأشعري صراحة، أن هناك فاصلاً حاسماً بين العقل والنقل. وبينما أعلن الأشعري صراحة أنه لا يصح الخلط بين العقل والنقل، فإنه ينبغي ملاحظة أن تصور الأشعري للعقل (وربما من الأفضل ترجمته بالذكاء أو الفهم) ليس هو نفس مفهوم الفلاسفة للعقل الفاعل ولا هو مماثل للتصور الغربي عن النور الداخلي، وإنما كما صاغها الفارابي (ت950م) أنه حين يتحدث المتكلمون عن العقل فإنما يتحدثون عن شيء يمكن أن ُيقبل أو ُينكر أو لا يقبله العقل، وهذا يعني أنه شيء يقبله الجميع منذ الوهلة الأولى أو بالبداهة، إنهم يشيرون الى العقل كتصور أولي لما يقبله الكل أو ما يقبله معظم الناس، ومع أن المتكلمين يظنون - كما يقول الفارابي- أن العقل الذي يتحدثون عنه هو ما ذكره أرسطو فإنك إن فحصت المقدمات ستجد أنهم جميعاً بلا استثناء يجعلونه ما يقبله الكل منذ الوهلة الأولى، ومن ثم فقد رفض الأشعري عقلانية المعتزلة. كذلك فقد تبنى الأشاعرة مبدأ العلة العرضية وفكرة الجبر، حيث يمسك الله العالم في كل لحظة وفق إرادته، وأن إرادته نافذة في كل الأمور، وأن االفعل الواحد للإنسان يرد الى فاعلين: الى الله الذي خلقه والى الإنسان الذي اكتسبه، ومن ثم فإنه بمقتضى هذه النظرية فإن الله هو الفاعل على الحقيقة لأفعال الإنسان. وقد بيّن الدارسون للمذاهب الإسلامية، من أمثال مونتغمري واط وهاري ولفسون وآخرين، أن المتكلمين كانوا في حيرة من أمرهم بشأن قضية رد مسؤولية أفعال الإنسان الى كل من الله والإنسان، إذ سيبقى الله في نهاية الأمر هو الغالب، بينما تبقى مسؤولية الإنسان مبهمة. إن الإنسان سيحاسب على أعماله، سواء ما تعلق منها بالله أو بالآخرين، ولكن ستظل مسألة مهمة متعلقة بإهمال النظرية لمسؤولية الإنسان عن الأعمال التي أضر بها الآخرين، وكيف يمكن الأخذ بها كنسق في تقييم الجرائم، ولكن موقف الأشعري الذي لا يعبأ بالمسؤولية يجعل الله خالقاً للفعل ولديه القدرة على أن يجبر الإنسان عليه، ولكن حين يجبر الله الإنسان على الفعل فإن الإنسان يفقد مسؤوليته عنه وتبقى الصفات الإلهية الأخرى المتعلقة بالعدل محل تساؤل، سواء ما تعلق منها بالحساب في الآخرة أو العقاب في الدنيا، ذلك أنه إذا لم يكن الإنسان مسؤولاً عن عمله فإنه من الظلم عقابه، وقل مثل ذلك بالنسبة لأولئك الذين يقاسون ويعانون الحرمان في الدنيا، فذلك أيضاً يلحق الظلم بالله. والواقع أن المشكلة لا تجد حلاً من زاوية المشيئة الإلهية المطلقة، وتبقى الأخلاق الإسلامية والفلسفة الخلقية قاصرين عن التقدم تجاه نظرية ذات نسق في القصد كتلك التي شرع فيها بيترا بلاك في القرن الثاني عشر في الغرب. ثم جاءت الصورة النهائية للمشكلة حين قدمت تصوراً ميتافيزيقياً عن العلّية في أفعال الإنسان كما قدمها الغزالي والتي حاول ابن رشد ردها ولكن من دون جدوى، فحسب عبارات الغزالي: إن الصلة بين ما تعتقد أنه علّة وما تعتقد أنه معلول لا تتضمن ضرورة بينهما، إذ لكل منها ذاتيته، فلا إثبات أحدهما ولا نفيه، ولا وجوده ولا عدمه يتضمن إثبات الآخر أو نفيه، ولا وجوده أو عدمه، فلا الري متضمن في الشرب ولا الشبع متضمن في الأكل ولا الحريق متضمن في النار، ولا الضوء في شروق الشمس، ولا حز الرقبة والموت، ولا الشفاء من تعاطي الدواء، وهكذا في كل الارتباطات في الطب والفلك والعلوم والحرف، إذ الرابطة بين هذه الأشياء قائمة على إرادة الله أن يجعلها على النحو المتتابع، ولا ضرورة بينهما في ذاتها، والله قادر على أن يخلق الشبع دون أكل، وعلى الموت دون جز الرقبة، وأن يجعل الحياة تستمر مع جز الرقبة، وهكذا الأمر في الصلة بين الأسباب والمسببات. ويمكن أن نلحظ الأثر السيكولوجي لهذا الموقف الكلامي حين يسجل الطبيب وصفة طبية، فكما هو مسجل في تقارير جنيزة Geniza في القاهرة، سجل الأستاذ س. د. جويتين S.D. Goitein عبارات تثير الأسى ولا تكاد تخلو منها وصفة طبية، مثل: ’’ يتعاطى هذا الدواء على بركة الله ‘‘، أو مستهلة بالصيغة الإسلامية: ’’ بسم الله الرحمن الرحيم ‘‘، وتنتهي عادة بعبارات: سيعين الدواء على العلاج بإذن الله أو الشكر لله وحده. وقد انقسم علم الكلام بعد هذه الفترة - حسب عرض فضل الرحمن- الى قسمين: النظرية العقلانية الشكلية للكلام، ثم الإلهيات التأملية في التصوف، وقد أبقت الأولى على جبرية المصادفة وجريان العادة حيث لا قدرة للإنسان على فكر أو عمل أصيل، وقد أراد علم الكلام في هذه الحقبة أن يبين أن العقل لا يقدم في الحقيقة أي مباديء شاملة، وأنه - كما عبر عنها الغزالي- لا تلزم الواجبات عن العقل وإنما عن الشريعة، والتحليل الأخير - طبقاً لما أورده المفكر الإسلامي فضل الرحمن- احتكر علم الكلام كل ميدان الميتافيزيقيا بحيث لم يسمح لفكر خالص أن يطالب بالتنقيب عقلانياً سواء عن طبيعة الكون أو في طبيعة الإنسان. ومع أن الآثار البعيدة لجدليات الغزالي بصدد الفلسفة قد جعلت المتكلمين من بعده يعتادون معرفة وظائف ومزايا كل من الفلسفة والمنطق من أجل موازنة الحجج، فإنه ينبغي القول أن الغزالي قد حطم أي فكرة عن الفلسفة باعتبارها علماً استدلالياً ، وذلك بعد أن قيد تماماً قيمة العلوم الطبيعية في نظر أهل السنة، ومع ذلك فقد بقيت جوانب من التأمل الفلسفي في الإسلام في التصوف وكذلك في بعض المدارس الصغيرة من فلاسفة المتكلمين، ويعتبر المفكر الإسلامي فضل الرحمن أنه بفضل مؤلفات فخر الدين الرازي (ت 1209م)، استمر التفكير الفلسفي بعد القرن الثاني عشر، فهو يعتبر أنه كان هناك مجال واسع في استخدام العقل النظري في مؤلفات الرازي. ومع ذلك فإن الرازي ومن جاء بعده من مفكري القرن الثالث عشر والقرون المتأخرة، بينما كانوا يحاولون الدفاع عن الفلسفة فقد تقبلوا أفكار أهل السنة في معظم المسائل الساسية في علم الكلام والعقيدة. واستمر الوضع المتأزم بين الفلسفة وجماعة أهل السنة متخذاً صورة هجوم عنيف من أهل السنة على العقلانية، وقد بلغ هذا الهجوم ذروته في النقد المعارض للعقل الذي قاده ابن تيمية (1263-1328)، إذ تقوم قضيته على توطيد الشريعة والقيم الدينية...، فرؤيته لعلم الكلام - كما يقول ف.م. بيتر- أشد عتمة من الغزالي، فحين أراد التوفيق بين النقل والعقل انتقد بعنف كلا من الفلاسفة والمتكلمين، ، وبذلك كان امتداداً لتيار يقيم عداءً صريحاً بين الفلسفة والدين، والنتيجة الملموسة لذلك هي استبعاد مادة الفلسفة من كليات الأزهر حيث ظل مبعداً حتى قدوم تيار التحديث في أواخر القرن التاسع عشر.
#توبي_أ._هاف (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
من زاوية جديدة.. شاهد لحظة تحطم طائرة شحن في ليتوانيا وتحوله
...
-
أنجلينا جولي توضح لماذا لا يحب بعض أولادها الأضواء
-
مسؤول لبناني لـCNN: إعلان وقف إطلاق النار بين حزب الله وإسرا
...
-
أحرزت -تقدمًا كبيرًا-.. بيان فرنسي حول وضع محادثات وقف إطلاق
...
-
هجوم صاروخي روسي على خاركيف يوقع 23 جريحا على الأقل
-
-يقعن ضحايا لأنهن نساء-.. أرقام صادمة للعنف المنزلي بألمانيا
...
-
كيف فرض حزب الله معادلة ردع ضد إسرائيل؟
-
محام دولي يكشف عن دور الموساد في اضطرابات أمستردام
-
-توجه المحلّقة بشكل مباشر نحوها-.. حزب الله يعرض مشاهد من اس
...
-
بعد -أوريشنيك-.. نظرة مختلفة إلى بوتين من الولايات المتحدة
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|