|
الاقتصاد والماركسية .. 4
فواز فرحان
الحوار المتمدن-العدد: 4179 - 2013 / 8 / 9 - 19:17
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
الاقتصاد والماركسية .. 4
حاول بعض مدعي الماركسية من الاقتصاديين التأكيد بأن الاقتصاد السياسي يدرس لا الناحية الاقتصادية في الانتاج الاجتماعي فقط ، بل والناحية التي تشكل موضوع العلوم التقنية ، وفضلاً عن ذلك وكمحصلة لأفكارهم يذهب هؤلاء الى أن موضوع الاقتصاد السياسي أنما يتناول القوى المنتجة كلاعب حاسم في العملية الاقتصادية ويُذيبون العلاقات الانتاجية ، أو يتعمدون تهميشها وعدم إعطاءها الاهمية اللازمة ، هؤلاء يسمون بالميكانيكيون على إختلاف مذاهبهم الاقتصادية ، من بغدانوفيون وبوخارينيون وغيرهم ممن حاولوا إستبدال الاقتصاد السياسي الماركسي ب (( العلم التنظيمي الاقتصادي الشامل )) البغدانوفي ، نسبةً الى بغدانوف .. مضمون هذا المذهب هو .. أن الانسان بحركتهِ وعملهِ لا ينتج شيئاً ، بل ( يُنظم الطبيعة ) وان تطور المجتمع هو نتيجة لنضال الانسان ضد الطبيعة ، لا نتيجة وحدة المتناقضات وصراعها ، من قوى منتجة وعلاقات إنتاجية كما تعلمنا الماركسية .. بعض الاقتصاديون في الاتحاد السوفيتي ودول المنظومة الاشتراكية في سبعينات القرن الماضي آمنوا بهذه الفكرة من حيث الجوهر وحاولوا مراراً تغطيتها بإسم الاقتصاد السياسي الاشتراكي ، وكانوا يرددوا بإستمرار بأن مهمة الاقتصاد السياسي الاشتراكي تنحصر (( لا في دراسة العلاقات الانتاجية فحسب ، بل في تطوير النظرية العلمية لتنظيم القوى الانتاجية )) ، وان (( علاقات الناس الانتاجية تدخل في تنظيم القوى المنتجة ، كوسيلة لهذا التنظيم ، أي كعنصر فيه )) .. لكن هؤلاء الاقتصاديون كانوا دائماً يصطدمون بشبح ماركس المبتسم أمامهم وهو يردد في مقدمة كتابه ( نحو نقد الاقتصاد السياسي ) .. (( الاقتصاد السياسي ليس هو التكنولوجيا )) .. وكذلك العودة الى لينين التي كانت تجعلهم يشعرون بخطأ تأكيداتهم تلك ، الذي أشار عند معالجتهِ الأخطاء النظرية التي وقع فيها البرجوازيون الشعبيون الروس ، في نهاية القرن التاسع عشر وتلامذتهم وانصارهم في خارج روسيا أشار الى .. (( الاقتصاد السياسي لا يهتم إطلاقاً بالانتاج ، بل بعلاقات الناس الانتاجية في سياق الانتاج ، بالنظام الاجتماعي للانتاج )) .. لينين .. المؤلفات . الجزء الثالث .ص 40 ، 41 هذا لا يعني ابداً أن الاقتصاد السياسي يتجاهل القوى المنتجة عندما يدرس العلاقات الانتاجية كما تحجج البعض على لينين في حينها ، والذين اعتبروا القوى المنتجة هي مقدمة فقط للعلاقات الانتاجية ، وان هذه العلاقات توجد مستقلة عن القوى المنتجة كما رأوا .. ان الاقتصاد السياسي لا يستطيع تجاهل القوى المنتجة لسبب واحد وهو .. ان العلاقات الانتاجية عبارة عن شكل تطور القوى المنتجة نفسها .. والشكل كما نعلم مرتبط دائماً بمحتواه إرتباطاً لا إنفصام فيه ، وبهِ يتحدد . أن القوى المنتجة وشكل تطورها يتحددان العلاقات الاقتصادية المتبادلة فيما بين الناس ، أي شكل مُلكية وسائل الانتاج . ويُحددان في نهاية الأمر ومن خلال هذه الملكية ما تبقى من حلقات العلاقات الانتاجية .. وعلى هذا الأساس ليست العلاقات الانتاجية سلبية اطلاقاً ، بل إيجابية فيما يتعلق بالقوى المنتجة دائماً ، فالعلاقات الانتاجية إما أن تؤمّن للقوى المنتجة حركة إندفاعية الى الأمام جبّارة ، أو انها تخفف وتعرقل هذا التطور ، وهي في ظروف معيّنة تعرّض القوى المنتجة للدمار ..
مثال .. قيام ثورة اكتوبر الاشتراكية في روسيا أمّن حدوث حالة إندفاع جبّارة للقوى المنتجة الى الأمام في حركة ايجابية ، وبالعكس تعرّضت القوى المنتجة للدمار عند حدوث إنهيار الدولة الاشتراكية .. والأمر ينطبق على بلدان المنظومة الاشتراكية الاخرى أيضاً ..
ولذلك تبرز العلاقات الانتاجية موضوعياً في شكل موجّه للانتاج ولاستخدام الخيرات المادية ، وعندما يدرس الاقتصاد السياسي العلاقات الانتاجية ، فإنهُ يدرس أيضاً كيف تستخدم القوى المنتجة .. إن تجاهل دور العلاقات الانتاجية الفعّال يؤدي الى أخطاء نظرية فادحة ، من بين هذه الاخطاء نظرية العفوية والسير الذاتي التي روّجت لها مجموعة بوخارينية في روسيا ضد تجميع الأرض في تعاونيّات ووقفوا الى جانب منح الاستثمارات الفلاحية إمكانية السير الذاتي العفوي نحو الاستثمارات التعاونية وذلك حسب قواها المنتجة ودرجة تطوّرها .. والعودة الى ماركس تؤكد خطأ هذهِ الطروحات النظرية .. فإنتصار العلاقات الانتاجية الاشتراكية كما ذكرت يؤمّن نهوضاً سريعاً في القوى المنتجة ، وليست قوى المجتمع الانتاجية سوى الشروط التي لا يمكن التغاضي عنها ، عند دراسة العلاقات الانتاجية كظاهرة اجتماعية ، خاصة مع كل ما يلازمها من نوعية مميّزة ، ثم أن استخدام وسائل الانتاج هذهِ ، المشروط بعلاقة ملكيتها أصبح بحد ذاته علاقة اقتصادية ، فلا بُد في هذه الحالة من دخولهِ في موضوع الاقتصاد السياسي ..
لقد اشار ماركس الى هذا العامل بدقة في رسالتهِ الى أنينكوف عام 1846 عندما قال .. (( ان الآلة شأنها شأن الثور الذي يجر المحراث ، قبل أن تعتبر مقولة اقتصادية ، وإستخدام الآلات في هذا العصر هو احدى علاقات نظامنا الاقتصادي المعاصر ، إلاّ أن اسلوب استثمار الآلات هو أمر يختلف كل الاختلاف عن الآلات ذاتها . )) .. ماركس وانجلز .. المختارات .. باللغة الالمانية طبعة 1953 المجلد الثاني عشر ص 26
ان الاقتصاد السياسي عندما يدرس العلاقات الانتاجية ، وعندما يدرس اسلوب الانتاج الاجتماعي ، واسلوب إستخدام وسائل العيش كشكل تطوّر القوى المنتجة ، ينظر الى تقنية الانتاج ، والنقل (( متغاضياً طبعاً عن الناحية التكنولوجية الانشائية )) والوسط الجغرافي (( متغاضياً عن تاريخ طبيعتهِ )) كوسائل أو شروط ضرورية لكل مجتمع وهو يستخدمه لبلوغه أهدافه المعيّنة .. أي ان العلاقات الانتاجية لا تعطي المجتمع تاريخياً ، نظام إنتاج إجتماعي معيّن فحسب ، بل وبنية إجتماعية معينة .. فالملكية الشخصية لوسائل الانتاج تستدعي تقسيم المجتمع الى كتلتين إجتماعيّتين متعارضتين وغير متساويتين هي الطبقات ، ورغم أن أشكال إستغلال الانسان للإنسان متباينة إلاّ أن المستثمِرين هم الذين يحوزون دائماً نتاج عمل العمال ..
لقد عرّف لينين الطبقات تعريفاً علمياً دقيقاً عندما قال .. (( الطبقات هي جماعات كبيرة من الناس ، متمايزة فيما بينها ، بمكانها في نظام إنتاج إجتماعي معيّن تاريخياً ، وبعلاقاتها بوسائل الانتاج ( وهي علاقات يتوطد قسم كبير منها ويأخذ شكلهُ في القوانين ) ، كما تتمايز فيما بينها بدورها في التنظيم الاجتماعي للعمل ، وبالتالي بمقدار وطريقة نوال ما تحوزه من الخيرات الاجتماعية ، الطبقات هي هذهِ الكتل الانسانية التي تستطيع إحداها الاستئثار بعمل الآخرين ، نتيجة تباين مكان كل منهما في التشكيلة المعيّنة من الاقتصاد الاجتماعي . )) .. لينين .. المؤلفات .. الجزء 29 ص 388
بيد أن الطبقات ليست ظاهرة خالدة ، فقد بدأ المجتمع الانساني طريقه كما هو معلوم ببنية إجتماعية غير طبقية ، وفي المرحلة الشيوعية ستختفي الطبقات نهائياً ، حتى بقايا الفوارق الطبقية التي ستكون ما تزال موجودة في المجتمع الاشتراكي قبل تحولهِ الى صيغتهِ النهائية ( الشيوعية ) .. وبذل نظريوا البرجوازية السابقون والمعاصرون كل ما في وسعهم لدحض مفهوم الطبقات الماركسي ، ومفهوم الصراع الطبقي ، بإعتبارهما وسيلة أساسية للتغلب على قوى المجتمع الحديث ( من مالكي وسائل الانتاج وتفرّعاتهم ) ، والتي تقاوم بقوة إدراك الجماهير المتعاظم على سطح كوكبنا طريقة عمل هذهِ القوى وحركتها وأهدافها ، أي تقاوم التحول الاشتراكي .. يذهب هؤلاء النظريون الى أن مفهوم ( الطبقة ) أصبح بالياً ، فقد محتواه الموضوعي ، وانهُ لم يعد بالامكان الآن إدراك من هو الذي ينتمي االى طبقة البرجوازية ، ومن ينبغي تصنيفهُ الى طبقة العمال ، بإعتبار أن العامل الآن أصبح يعيش أوضاعاً شبيهة بوضع الطبقة البرجوازية ( يرتدي بدلة أنيقة ، يمتلك داراً سكنية ، يمتلك سيارة حديثة ، واجهزة حديثة ، وبإمكانهِ الاستفادة من خدمات الدولة الرأسمالية كما يستفيد منها البرجوازي نفسهُ ) وغيرها .. وإستعانوا بعلماء الاجتماع من عندهم لتأكيد هذا التوجه النظري ، فعلماء الاجتماع هؤلاء يقسمون المجتمع لا الى طبقات ، بل الى ( أوساط ) و ( فئات ) ، أي جماعات إجتماعية يتحدد كيانها لا بعلاقاتها بوسائل الانتاج ، ولا بإختلاف المكان الذي يحتلونه في التشكيلة الاجتماعية من الاقتصاد الاجتماعي ، بل بمقدار مداخيل الناس ، ومنهم ومستوى تعليمهم ، ومكانهم في سلم الخدمة ، وغيرها من المقاييس الخاطئة .. العمل المأجور .. كما يدل الواقع ، يبقى عملاً مأجوراً والانتقال من الفئات الدنيا الى العليا يحدث نتيجة تقديم مالكي وسائل الانتاج المزيد من التنازلات لاستيعاب غضب الطبقة العاملة في المجالات المتقدمة في عملية الانتاج ، وكذلك لاحتواء الغضب المتصاعد من تزايد عدد الفقراء وانتشار الجوع في بلدان عديدة من العالم ، ، وهذا ما يحدث في عصرنا الحديث في بلدان الرأسمالية الاحتكارية المتقدمة ، ولكن يجب الانتباه الى أننا هنا لا نتحدث عنها كما لو أننا نتحدث عن قانونية اجتماعية ، بل على العكس ، أي تنازل يحدث تحت ضغط الصراع الطبقي حتى ولو جرت محاولات كما شرحت لتسطيح شكل الصراع وادخالهُ قوالب اخرى .. فالتحوّل البروليتاري ، أي تحوّل عناصر برجوازية ( من حرفيين ، وأصحاب ورش فنية ميكانيكة متوسطة ، وأصحاب مطاعم ، وأصحاب فنادق ) الى عمال مأجورين وأكثر من ذلك الى عاطلين عن العمل هي ظاهرة أصبحت ( نتيجة الغربلة التي تجريها الرأسمالية الاحتكارية ) واسعة الانتشار وتقع دائماً كلما وقعت الرأسمالية في أزمة من أزماتها المتكررة .. لكننا في بعض الأحيان ننظر نظرة ايجابية لهذه الظاهرة على إعتبار أن جيش البروليتاريا في تعاظم ، وفي المقابل ، ننظر نظرة سلبية لانتقال البروليتاريا في داخل موقعها من متأخر الى متقدم ونصفه بالبرجوازي نتيجة استثمار دخلهِ لتطوير أفكارهِ وتحقيق بعض حاجياته الضرورية ، فالطبيب الذي لا يمتلك وسيلة انتاج تمكنه من إستثمار عمل الانسان هو بروليتاري في نهاية المطاف ، وعندما يقوم هذا الطبيب بتأسيس مجموعة عمل تطوعية لإستقطاع جزءاً من رواتب هذه المجموعة والقيام بشراء أدوية وتوزيعها على المرضى في بقاع عديدة من العالم أنما بعملهِ هذا يشكل طليعة للبروليتاريا ، ليس بسبب تبرعاتهِ ، بل لشعورهِ العال بالانسانية وحجم الظلم الذي يتعرض له البشر نتيجة الاستغلال ، ربما لا يكون هذا الطبيب ماركسياً ، لكن وقوفهِ مع الطبقة العاملة ومبادرتهِ لعمل شئ تفرض علينا احتسابه على طبقة العمال .. وينطبق الأمر على العاملين في مجالات اخرى كالهندسة الوراثية ، والهندسة الطبية ، وعمال في مجال الفضاء وابحاثهِ ، هندسة الاتصالات وغيرها ، فطالما انهم لا يمتلكون وسيلة للانتاج ، أو أداة تمكنهم من إستغلال الآخر حتى ولو تقاضوا دخلاً مرتفعاً بعض الشئ لا يمكن اعتبارهم على البرجوازية إلاّ في حالات معيّنة تحدث بوعي قسماً منهم لخدمة الطبقة المتنفذة ، لكن بشكل عام تعول الماركسية على تصاعد الحسّ والضمير الانسانيين لدى هؤلاء للتسريع بإنضمامهم الى طلائع البروليتاريا ( حدث هذا الأمر مرات عديدة بتمرّد علماء ومهندسون وأطباء نتيجة إكتشافهم أن ما يقومون بهِ يهدف الى تطبيقات علمية لأغراض لا إنسانية ) التي ستسرّع عملية تحوّل المجتمعات الى الاشتراكية .. دراسة الأمر من هذهِ الزاوية يقودنا الى العودة لتعريف البروليتاري ، فالمعاجم الألمانية عرفتهُ على الشكل التالي (( الانسان الذي لا يمتلك تأهيلاً مهنياً ، فج ، وخشن ، لا يمتلك سوى قوة عمل عضلية يبيعها في الأسواق والساحات )) ..
وهذا التعريف كما هو معلوم تضعه وزارات التعليم التابعة لدول المنظومة الرأسمالية ، ويتمكن القارئ ببساطة إدراك الخلفيات التي تدفعهم لنشر هذا التعريف ومن هذه الخلفيات ، نقض ماركس .. لكن العودة لماركس وسؤاله ُ تجعلنا نتقرب من الحقيقة بشكل سلس وبسيط .. من يمتلك وسائل الانتاج ؟ وعلى هذا الاساس نسأل ، هل يمتلك هذا الفرد العامل ( المهندس والطبيب والعامل في مجالات الاتصالات والمعلومات والعامل في مجالات أبحاث البحار والجيولوجيا الارضية وغيرها ) وسيلة أو أداة للانتاج تمكنه من إستغلال أخيه الانسان ؟ لذا أرى أن التعريف الأقرب لماركس هو ( الشخص الذي لا يمتلك وسيلة إنتاج ) .. وكذلك العودة للنظر لحركة هذا الصراع بشكل عام تجعل المرء يقترب من فهم موضوعهِ وجوهرهِ بشكل سليم ، فكلما تعاظم الحس الانساني عند البروليتاريا المتقدمة ، كلما ضغطت بقوة على مالكي وسائل الانتاج ، سواء من خلال تمردها ، أو كشفها للأهداف اللاإنسانية لحوربها ، أو حملاتها الثقافية والانسانية الفكرية بشكل عام ، وبهذا الضغط تسحب البروليتاريا المتأخرة معها في الصراع وتحقق تقدم ، وعندما تذكر البروليتاريا بصفة المتأخرة هنا لا يعني ذلك الانتقاص من قيمتها في الصراع ، بل تعريف القارئ بشكل من أشكال الصراع ، فهذا التأخر تتسبب به الرأسمالية نفسها عبر حروبها التوسعية وتدميرها لبلدان ومجتمعات وبذرائع مختلفة لتحقيق أهدافها ، فهذهِ الحروب دمّرت البنى التحتية للعديد من بلدان العالم وساهمت في تعطيل حركة التأهيل المهني والدراسي والتقدم في مختلف المجالات العلمية ، تارة من أجل إخضاعها وتارة من أجل إعادة صياغة المجتمعات إنطلاقاً من وجهة نظر هذهِ الرأسمالية .. إن الاقتصاد السياسي عندما يدرس علاقات الناس الاقتصادية في مجتمع طبقي ، لا بُدَّ لهُ أن يدرسها قبل كل شئ كعلاقات بين طبقات ، ولهذا فهو لا يستطيع إغفال بحث هذا الشكل من العلاقات القائمة بين الطبقات المتمثل في الدولة ..
والدولة كما عرّفها انجلز هي ... (( الدولة من حيث العموم والشمول ، ليست أكثر من تعبير في شكل مكثف عن المطالب الاقتصادية للطبقة السائدة في الانتاج .. )) .. انجلز ( لودفيغ فورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية ) ص 46 ــ 47
لقد مارست الدولة وما تزال هذا التأثير ، ايجابياً كان أم سلبياً على تطور الاقتصاد ، فمن ناحية يعمد الرأسمال في الظروف المعاصرة الى إستخدام الدولة بتفنن متزايد ، في أهداف الدفاع عن العلاقات الانتاجية الرأسمالية ، وتوطيد مراكزه الاقتصادية عبر العالم ، ليس عن طريق الشركات الرئيسية فحسب ، بل عن طريق تأسيس لشركات فرعية تعود الى الاصل لها ، وعن طريق تأسيس حكومات بكاملها تعمل لها عمل شركة لإستثمار وإستغلال موارد بلدان بأكملها ، متحولاً بذلك الى رأسمالية إحتكارية حكومية .. وعند دراسة حالة الاشتراكية الغربية ودعاتها في الغرب اليوم ، نرى أن هؤلاء يعتقدون بأن الدولة الرأسمالية فوق الطبقات ، وهي التي ستقود تحول المجتمع تدريجياً الى الاشتراكية دون شك ! إن فكرة الدولة الرأسمالية فوق الطبقات هي فكرة تجد صداها عند كل من يهتم بتجاهل الصراع الطبقي ، وبالتالي تجاهل الماركسية وتحليلها الدقيق لحالة الصراع الطبقي ، وفكرة سير الدولة آلياً نحو الاشتراكية دون الحاجة للصراع الطبقي تجد تعبيرها كثيراً على ألسنة أغلب قادة هذهِ الاشتراكية المزعومة ..
يقول انجلز .. (( الثورة التوجيهية ، وتبخر الملكية ، وتحوّل الرأسمالية الى مجتمع جديد الى ما هنالك ، لم تذهب بعد بعيداً ( كما يفترض التحريفيون ) ، وان القيادة في المجتمع الرأسمالي ، سواء أكان في السياسة أم في الاقتصاد بين أيدي كبار الرأسماليين المساهمين . )) .. انجلز .. بنية الصناعة وادارة المؤسسات في بريطانيا والولايات المتحدة .. ص 332 طبعة عام 1958
ولو توقفنا قليلاً مع انجلز ونظرنا الى مقولته التي تم استخدامها فعلاً فيما بعد لتشويه صورتها ، سنجد أن الرجل كان مُحقاً فيما يقول ، ففي مطلع سبعينيات القرن العشرين ظهر الى الوجود تقرير لأكبر مؤسسة إقتصادية بريطانية يُرّوج لتبخر الملكية من يد كبارها ، وأن المجتمع الجديد الذي سيصير عليه النظام الرأسمالي هو مجتمع خدمات ، وأن الطبقة التي تتحكم بمصير العالم هي طبقة البرجوازية الوسطى ( كما يصفها التقرير ) وأن الاقتصاد لم تعد تتحكم بهِ مقولات إقتصادية قالها ماركس وكلاسيكيو الماركسية ، وبالتالي لم يعد الصراع الطبقي موجوداً أصلاً بسبب هذا التغيير في بنية الرأسمالية الاحتكارية ، وان مواضيع الماركسية ومبادئها إستناداً لهذا التقرير عفى عليها الزمن ولم يعد بإمكانها الصمود أمام هذهِ التحولات .. ومن المؤكد أن العديد من أنصار ترويج هذهِ المقولة تناسوا ولو للحظة أن انجلز توقع بإستخدام هذه الاساليب لتركيع الطبقة العاملة واخضاعها بطريقة ملتوية الى طروحات أعداءها على إعتبار أنها تمتلك القوة الاعلامية والفكرية الكافية للترويج لها .. وكذلك العودة لماركس اليوم جعلت حاملي هذهِ الطروحات يحاولون سواء في الدول الغربية أم في مختلف بقاع العالم إخفاء أغراضهم النظرية الدنيئة تحت شعار الماركسية ، وكلما تقدم الزمن تجد الأغلبية في المجتمعات المتقدمة أجوبة على أسئلتها عند ماركس الذي أصبح العالم اليوم بحاجة لهُ أكثر من أي وقت مضى .. ان تدخل الدولة الرأسمالية في الاقتصاد ، أخذ في الوقت الحاضر شكلاً واسعاً ، أصبح من الصعب حتى على مثقفي الماركسية اليوم متابعتهِ وإدراك أهدافهِ ، فهذا التدخل يحدث وفقاً لرغبات الرأسمال الإحتكاري وفي سبيل أهدافهِ ، وليس من أجل الطبقة العاملة ، فتوسيع الملكية الحكومي في البلدان الرأسمالية المتقدمة لم يقضِ كما هو معلوم على سيطرة الملكية الرأسمالية التي تمثل الاساس الاقتصادي لها والبنية التحتية لمجتمعها ، ولكي نحدد طابع الملكية الحكومية لا بد من توضيح أيةِ علاقة متقابلة بين الناس تختفي وراء هذا الشكل ؟ وأية طبقة تلعب الدور الأول والأساسي في الدولة ؟ ومن الواضح أن حكومة الدولة الرأسمالية هنا بإعتبارها مالكة لوسائل الانتاج تبرز كرأسمالية جماعية لا يمكن إسقاطها بسهولة ، أي أنها ببساطة تمثل طبقة الرأسماليين الكبار ، وهذا النموذج جعلها تخلق خطوط دفاع رصينة وقوية لا تتهاوى بسهولة كما يبدو لنا للوهلة الاولى ، وأن هذه الخطوط كما أسلفت تخضع لعمليات غربلة دورية تبقي على الاقوى في الساحة للحفاظ عليها وتدفع بالضعفاء الى ساحة البروليتاريا في أزماتها المتكررة .. ولو تابعنا عمليات التأميم في نطاق الدول الرأسمالية ، وتدخل الدولة لإدارة ملفات الاقتصاد الشائكة الى هذا الحد أو ذاك ، بحجة صالح التقدم الاجتماعي والعدالة الاجتماعية ، سنجد أنهُ ظاهرة مرتبطة إرتباطاً وثيقاً بسير الصراع الطبقي وقوة الطرف الآخر فيه ، وبالظروف المحيطة وبالزمان والمكان اللازمين للاقدام عليه ( طبعاً لا يخفى على القارئ أن عمليات التأميم هذهِ يتم تدميرها فيما بعد بخصخصة المؤسسات المؤممة تدريجياً ) .. فالطبقة العاملة في بعض الظروف تستطيع بمساعدة التأميم إنتراع تنازلات من الرأسمالية ، في حين يؤول التأميم في ظروف اخرى الى تردي أوضاع الطبقة العاملة ، وقد يؤدي الى تدميرها .. فلا التأميم ولا تدخل الدولة الرأسمالية هنا في العملية الاقتصادية يخرج عن نطاق اسلوب الانتاج الرأسمالي ، وتصبح عملية التأميم بالتالي عبارة عن نقل ملكية شركات من مالك كسول الى آخر مجتهد يعمل ضمن الآلة الرأسمالية للدولة ، وفي الدول الرأسمالية المتقدمة كألمانيا ودول الاسكندنافيا وبعض البلدان الاوربية في العصر الحديث يمكن لنا أن نرى في هذهِ الدول إعداد المقدمات الاجتماعية والمادية للإشتراكية بوضوح .. لكن .. دون أن يتبدل طابع العلاقات الانتاجية الرأسمالية ، ويتم التحكم بقوة بهذه المقدمات تبعاً لأهداف الدولة الرأسمالية وطبيعة الصراع الطبقي ( قوتهِ ، وضعفهِ ) .. أما الحديث عن الأهمية التي تتمتع بها دراسة دور الدولة الاشتراكية فلهُ شأن آخر ، ومفهوم الدولة الاشتراكية تعرّض الى هجمات مركزة من المدافعين عن الرأسمالية ، ونقطة الانطلاق في هذه الجمات تركز على مبدأ ( عدم التوافق بين الاشتراكية المتطورة مع وجود الدولة ذاتها ) ، لكن يجب أن ألفت الانتباه الى أن شكل الدولة الذي تعرّض لنقد هؤلاء كان الدولة الاشتراكية السوفيتية .. لا شك أن دراسة قضية الدولة ليست هدفاً بذاتها في الاقتصاد السياسي ، فالدولة كشكل أساسي من البنيان الفوقي السياسي ، تدرس من قبل علم آخر وهو الحقوق ، لكن الاقتصاد السياسي يدرس الدولة كقوة اقتصادية فعالة تولدت عن البنيان التحتي للمجتمع .. بالاضافى الى ذلك فإن بحث علاقات الناس الاقتصادية ممكن فقط عند الأخذ بنظر الاعتبار تأثير الدولة المعاكس على البنيان التحتي للمجتمع ، وقد أشار ماركس صراحةً الى ان الاقتصاد السياسي ينبغي أن يدرس تأثير الدولة على العلاقات الانتاجية ، فعندما تحدث عن تقسيم موضوع معالجة النظام الرأسمالي معالجة اقتصادية سياسية أشار الى أنهُ (( بعد تحديد بنية المجتمع الطبقية الداخلية ، ينبغي دراسة الدولة ، بإعتبارها التعبير المكثف عن المجتمع البرجوازي )) .. ماركس وانجلز .. المؤلفات .. الجزء 12 ص 735
ولو أردنا إدراك مهمات الاقتصاد السياسي بإعتبارهِ علماً للبروليتاريا ، ودرسنا طابعهِ الطبقي والنظري الذي أراد ماركس من العمال إدراكهُ ، لوجدنا أن الاقتصاد السياسي يدرس العلاقات الانتاجية والاقتصادية في حركتها التاريخية وتبدلاتها وتطوّرها ، في صلاتها المتواصلة المتبادلة بالقوى المنتجة ، وبالبنيان الفوقي الناشئ عن البنيان التحتي الاقتصادي .. فكما نعلم أن عصري السرعة والتطور اليوم جعلا العلاقات الانتاجية كل يوم وكل ساعة تنشأ على نطاق واسع بأشكال مختلفة ومتباينة وتراكيب عجيبة تجعلنا نتوقف عندها طويلاً لفهمها ، فمن المعلوم أن شكل الظهور يخفي دائماً جوهر العلاقات الانتاجية ، لهذا فإن الاقتصاد السياسي الماركسي القائم على النظر الى العالم نظرة مادية ديالكتيكية ، يجعل مهمته عندما يدرس العلاقات الانتاجية ، لا وصفها فقط وصفاً بسيطاً ، ومن ناحيتها الخارجية فقط ، بل النفوذ الى أعماق وجوهر موضوع الدراسة ذاتها .. فالاقتصاد السياسي خلافاً للعلوم الطبيعية لا يحوز أية أجهزة ميكانيكية ، أو فيزيائية ، أو كيميائية تمكنهُ من العبور الى ماوراء ظواهر البحث الخارجي ، كل ما شابه هذه الوسائل تستبدل في الاقتصاد السياسي بتفكير تجريدي يتم خلال سياقه تحرر الجوهر خطوة .. خطوة من تأثير الاطار الخارجي .. وفي التفكير التجريدي تتكون المفاهيم المنطقية التي تعكس الواقع الموضوعي المدروس ، دون ان تتمكن من الاحاطة به كلياً ، ان المفاهيم المنطقية التي تعكس بشكل عام شروط الحياة الاقتصادية في المجتمع ، تسمى بمقولات الاقتصاد السياسي ، وهذهِ المقولات الاقتصادية هي دائماً تاريخية ، حيث تنعكس الفوارق الأساسية في المقولات نفسها ..
مثال .. السلعة ، وقوة العمل ، فائض القيمة ، الاجور ، الارباح ، وسعر الانتاج ، والرأسمال هي مقولات الاقتصاد السياسي الرأسمالية .. تخطيط الاقتصاد ، المنافسة الاشتراكية ، الحساب الاقتصادي ، الكولخوز والسفخوز هي مقولات الاقتصاد السياسي الماركس وتعكس الشروط التي تتميز بها الاشتراكية ..
والى جانب الفوارق بين المقولات الاقتصادية هناك تسمية واحدة لبعض المقولات تنتمي الى الطرفين ، مثل مقولة الاجور ، فمقولة الاجور في المجتمع الاشتراكي لا تعبّر عن علاقة الرأسمالي بالعامل المأجور ، بل عن علاقات الناس الذين يمتلكون وسائل الانتاج بصورة جماعية ، تقوم بينهم علاقات التعاون الأخوي والمساعدة المتبادلة دون ان يعرفوا استغلال الانسان للانسان .. وفضلاً عن ذلك فإن المقولات الاقتصادية بإعتبارها مقولات تاريخية ، يمكن أن تبرز الى الواقع الموضوعي قبل أن تظهر تمام الظهور العلاقات الاقتصادية المتطورة ، المعبرة عنها تلك المقولات ، مثلاً أن مقولة ( النقد كرأسمال ) ظهرت قبل أن تظهر العلاقات الرأسمالية المتطورة .. يجب ان نلاحظ ان بعض المقولات تبقى موجودة حتى في الظروف الجديدة ، مع علمنا انها قد تتعرض لبعض التبدلات ، فمفهوم السلعة مثلاً يبقى حتى في الاشتراكية طالما كان الانتاج قائماً على التبادل ، لكن هذا المفهوم تطرأ عليه تبدلات هامة ، فالانتاج السلعي فيها مثلا ( أي في الاشتراكية ) لا يتمتع بطابع شامل ، لأن المنتجين الأساسيين للسلع هنا ليسوا الملاكون الفرديون ، بل إتحادات المنتجين القائمة على أساس الملكية الجماعية لوسائل الانتاج ..
أسئلة تتعلق بصلب الموضوع .. ــ كيف تنشط القوانين الاقتصادية للرأسمالية ؟ ــ ما الدور الذي يلعبهُ تحليل السلعة في دراسة الرأسمالية ؟ ــ ما هي شروط ظهور الانتاج السلعي ؟ ــ ما هي الخصائص التي تحتويها السلعة ؟ ــ مالذي يحدد العلاقات الكمية التي يتم على اساسها تبادل السلع ؟ ــ بماذا تتحدد كمية العمل الضروري لانتاج سلعة ؟ ــ ما هي طبيعة العمل المجسدة في السلعة ؟
#فواز_فرحان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الاقتصاد والماركسية .. 3
-
الاقتصاد والماركسية .. 2
-
الاقتصاد والماركسية .. 1
-
كيف تعمل الرأسمالية اليوم ... 2 6
-
كيف تعمل الرأسمالية اليوم ..؟ 1 6
-
ماركس .. وترجمة الأفكار
-
حوار مع الاستاذ علي الاسدي ..
-
بقايا الستالينية ..!
-
كيف ساهم العراق في النصر السوفيتي على النازية ؟
-
اليهود خلف ستالين ..!
-
العالم عام 2030 !!!
-
حول موت الرأسمالية …!
-
حلف دكتاتوريات العصر ..
-
شكل التحوّلات في العالم العربي ..
-
الثورات العربية ومستقبل الديمقراطية ..
-
مبارك ... وتيان آن مِنْ ..
-
قبل سقوط الأنظمة الصوريّة ...
-
حكومة بلا نساء في العراق الجديد !!!
-
العقل المُحرّك للكون …
-
أسئلة وأجوبة في الماركسية .. 10
المزيد.....
-
الديمقراطيون لا يمتلكون الأجوبة للعمال
-
هولندا: اليمين المتطرف يدين مذكرتي المحكمة الجنائية لاعتقال
...
-
الاتحاد الأوروبي بين مطرقة نقص العمالة وسندان اليمين المتطرف
...
-
السيناتور بيرني ساندرز:اتهامات الجنائية الدولية لنتنياهو وغا
...
-
بيرني ساندرز: اذا لم يحترم العالم القانون الدولي فسننحدر نحو
...
-
حسن العبودي// دفاعا عن الجدال... دفاعا عن الجدل (ملحق الجزء
...
-
الحراك الشعبي بفجيج ينير طريق المقاومة من أجل حق السكان في ا
...
-
جورج عبد الله.. الماروني الذي لم يندم على 40 عاما في سجون فر
...
-
بيان للمكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية
-
«الديمقراطية» ترحب بقرار الجنائية الدولية، وتدعو المجتمع الد
...
المزيد.....
-
الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي )
/ شادي الشماوي
-
هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي
...
/ ثاناسيس سبانيديس
-
حركة المثليين: التحرر والثورة
/ أليسيو ماركوني
-
إستراتيجيا - العوالم الثلاثة - : إعتذار للإستسلام الفصل الخا
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية(أفغانستان وباكستان: منطقة بأكملها زعزعت الإمبر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رسالة مفتوحة من الحزب الشيوعي الثوري الشيلي إلى الحزب الشيوع
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية (الشيوعيين الثوريين والانتخابات) دائرة ليون تر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
كرّاس - الديمقراطيّة شكل آخر من الدكتاتوريّة - سلسلة مقالات
...
/ شادي الشماوي
-
المعركة الكبرى الأخيرة لماو تسى تونغ الفصل الثالث من كتاب -
...
/ شادي الشماوي
-
ماركس الثورة واليسار
/ محمد الهلالي
المزيد.....
|