مصطفى الصوفي
الحوار المتمدن-العدد: 4175 - 2013 / 8 / 5 - 07:23
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
ليس هناك شك أن التماثل بين الإنسان والحيوان في الغرائز كبير وواضح . ويمكن من ملاحظة متفحصة لسلوك الإنسان والحيوان فيما يتعلق بمسألة التحرش الجنسي اكتشاف أن الاثنين يعمدان لآليات واحدة غرضها الإيقاع بالأنثى في شراك الذكر سواء كان حيوانا أو إنسانا . لنرَ أولا الملاحظات الآتية : تتخذ الكثير من الكائنات ثنائية الجنس سلوكيات عديدة سعيا منها للحصول على شريك حياة أو تجربة جنسية لغرض التكاثر أو للوصول إلى علاقة قصيرة المدى ، وفي كوكبنا الأزرق أمثلة عديدة على هذا السلوك كسلوك الطاووس الذكر الذي يفتح ريش ذيله ويطلق صيحات عالية محاولا جذب الإناث أو يكون بشكل رقصات يؤديها الحيوان أمام الأنثى. وقد يصل في أنواع أخرى لحد التنافس الجسدي والقتل، ومن أطرف الأمثلة على ذلك السلوك هو العصفور الأفريقي النسّاج حيث تقترب أنثى العصفور من عش الذكر الذي يبدأ بالتعلق في اسفل العش رأسا على عقب ويصفق بجناحيه بقوة. فإذا أثر الذكر على الانثى فأنها تقترب من العش ، تدخل له، تتفحص مواده وعن طريق نقرها وشدّها لمدة قد تتجاوز عشر دقائق . وخلال تفحصها للعش يغني لها الذكر من مكان قريب، وقد تقرر في أي لحظة أن هذا العش لا يستوفي معاييرها، وبالتالي تغادر وتنطلق في الفضاء الى عش ذكر اخر. وغالبا ما يقوم الذكر بتدمير عشه اذا رفضته عدة إناث، ويبنى عشا أخر من بقاياه. أما البشر وباعتبارهم من بين الكائنات الاكثر ذكاءً على هذا الكوكب فهم ايضا يحملون لهذا السلوك ، وسيكون بالتأكيد أكثر تعقيدا لديهم. لكنه ليس مختلفا كثيرا عن سلوكيات الكائنات الأخرى، حيث يتدرج هذا السلوك من التحرش (وهو سلوك غير مرغوب في المجتمعات البشرية عامة) الى الغزل (الجانب الايجابي من هذا السلوك) وهذا يعتمد على مدى تقبل أو رفض الطرف الاخر لهذا الفعل. يعرف التحرش الجنسي على انه مضايقة جنسية أو فعل جنسي غير مرحب به. كما إنه يتضمن مجموعة من الأفعال والانتهاكات البسيطة قد تصل الى درجة المضايقات الجادة التي من الممكن أن تتضمن التلفظ بتلميحات جنسية أو إباحية، أما أقصى ما تتمثل فيه فهو النشاطات الجنسية الجسدية. التحرش الجنسي بعد إذن فعلا مشيناً بكل المقاييس الاخلاقية البشرية، وتعاني الأنثى في عالمنا العربي من مشكلة التحرش بشكل كبير، ولفترة طويلة ، تم اعتبار التحرش الجنسي من المحرمات التى لا يجب التحدث عنها بل ولا يحب الناس حتى ذكر كلمة "تحرش". لكن هذا ليس مبررا لأن نتجاهل التحرش أو نتظاهر بأنه غير موجود ، والأهم من هذا أن التحرش الجنسي ليس من الأمور غير المألوفة أو البعيدة عنا ، فنحن نراه يحدث يوميا في شوارعنا ومؤسساتنا وقد نادت الكثير من منظمات حقوق المرأة بسن قوانين رادعة لكل من يجرؤ على التحرش جنسيا، للتقليل من هذه الظاهرة التي باتت في ازدياد دائم. شخصيا ، صادفتني الكثير من المقالات من هذا النوع وهي تتخذ البلدان الغربية كمثال لانخفاض هذه الحالة وتحاول مقارنة البلدان العربية بها. والحقّ أن هذه الظاهرة ليست جديدة لا في الغرب ولا في الشرق، وهي بكل تأكيد لم تظهر فجأة في شورعنا وتختفي من شوارعهم ! لقد قلنا سابقا أن هذا السلوك هو سلوك لثنائيات الجنس بصورة عامة، ويتدرج سلوك الرجل بين الغزل والثناء (برضى المقابل) وقد يصل الى حد المضايقة والتحرش وهو كثيرا ما يعتمد على ثقافة ووعي وامكانيات الرجل أو الأنثى في التعبير عن انجذابه للطرف الاخر. التحرش الجنسي بصورة عامة ليس سوى شكل سلبي لتكتيكات الجذب الجنسي لدى الذكور، لكن هذا لا يعني انه منعدم في الإناث. ولعل السبب في قلة التحرش الجنسي الذي تقوم به الاناث يرجع الى تعلق التنافس الجنسي عند البشر بالذكور دون الإناث، حيث يكون على الذكور عند محاولته الحصول على الاناث أن يقوم باستخدام احدى التكتيكات التي تتضمن استثمار الثروة والأملاك والشكل والامكانيات، مثل كتابة الشعر او العزف او الغناء او غيرها. وقد يشكل التحرش الشكل المتطرف للغزل بالمفهوم اللغوي للغزل.
هل تذكرون سلوك عصفورنا النساج الافريقي الذي تحدثنا عنه سابقا ؟ سأضرب مقاربه لهذا السلوك في المجتمع الامريكي فهو مشهور بكلاسيكية هوليودية سلوكية للغزل او محاولة الحصول على انثى: يخرج الرجل بكل اناقته وقيافته الى البار المفضل ليجلس على احدى المساطب، يبدأ بالبحث والنظر الى أن تقع عينه على احداهن ، فتبادله النظرات ويبتسم لها. حينها تكون هذه الاشارة الاولية للقبول وهو ما يدفعه للاقتراب منها. يلقي التحية، أن استجابت لها فهذا مؤشر ايجابي اخر يجعله يتقدم خطوة اخرى ليسألها حول رغبتها بتناول الشراب معه ، فأن استجابت، سيتقدم خطوة اضافية ويلاطفها ... الى نهاية السلسلة. وفي أي مرحلة تستطيع الانثى قطع تلك السلسلة والمغادرة فوراً. اما في عالمنا العربي فلا وجود لهذه المساحات من الحرية ، وهذا السلوك لثنائيات الجنس يعتبر من المحرمات بفعل العادات الاجتماعية والثقافة الشرقية التي يحملها المجتمع. لذلك يختلف سلوك الافراد وينعكس سلبا بفعل التردي الثقافي والاجتماعي الذي يعاني منه الفرد العربي. لكن ما الذي يدفع الذكر الى هذا السلوك؟ ان الذكر بصورة عامة ينجذب جنسيا بشكل اسرع للإناث والنفس الانسانية اكثر تعقيدا من الكائنات الاخرى، لذلك يكون تقبل هذا السلوك او فعله مختلفا من فرد لأخر وحسب ثقافة المجتمع او الافكار التي يحملها هذا الانسان . لذلك سنجد دوما أن هناك طقوسا اكثر تعقيدا مما ذكرنا سابقا، يكون التعبير عن الغزل متباينا ومختلفا من أنسان الى اخر وحسب الامكانيات الفردية لهذا الانسان، فقد يسلك الانسان سلوكا طريفا ومحببا ولائقا اخلاقيا لتوضيح هذا الاعجاب وقد يسلك سلوكا قبيحا غرائزيا يسيء لحريه ومشاعر الاخر. لعل أكثر الأشياء التي تنعكس على هذا السلوك هي البيئة التي تحتوي الانسان, كما ان انعدام وسائل التعبير وقلتها في الشرق والاندفاع والتغيير في طريقة حياة وعيش المجتمع في هذا الزمان هي من ابرزت تلك المشكلة وجعلتها تتضخم بشكل واضح, فالمجتمع العربي مأزوم بين تقاليده واعرافه المقدسة وبين الحياة الحديثة الحضارية السريعة التي لا تتوافق مع تلك التقاليد, لذلك يكون الغزل بشكل ردة فعل لا اخلاقية وانفجارية ذكورية (بفعل السيطرة الذكورية على المجتمعات العربية) كل هذا ناتج عن الكم الهائل من الكبت والتحريم الذي يغلف ويغطي اي اختلاط او اقتراب بين الجنسين, لينتهي الامر بمضايقات جنسية كثيرة مؤذية نفسيا للانثى، وقد سجلت حالات عديدة من التحرش والاغتصاب وهي ترتفع وتنخفض حسب الاماكن والتباينات الزمنية. يخطئ من يعتقد ان سن قانون سيجعل هذه الحالة تختفي من شوارعنا، فحتى في ارقى البلدان واكثرها تحضراً تسجل نسب للتحرش في الاماكن العمومية كالقطارات او الاسواق والخاصة كالشركات او غيرها, لكن بالإمكان تقليلها عن طريق نشر التوعية والتثقيف وتلطيف هذا السلوك بما يتناسب مع الحياة الحديثة المتحضرة عن طريق اتاحة مساحة للحرية وفهم الاخر لتتكون صورة واضحة عن السلوك الافضل والاكثر قبولا لدى الاخر. وانا اكتب هذا المقال اسمع زقزقة عالية لشجار نشب بين عصافير حديقة المنزل وانا ابتسم واتذكر تلك الميثولوجيا* العراقية القديمة التي تقول بأن هناك ضيفا سيزور هذا المنزل اذا ما تشاجرت العصافير فيه, وهي تشبه الكثير من فلكلوريات قديمة لتراثنا العراقي, لكن اليوم لم نكن نبحث في تراثنا الشيق المليء بالقصص المستمدة من عمق التأريخ والحضارة الانسانية, انما عن حقيقة سلوك التحرش، فكما يبدوا ان هناك مشاجرة ذكورية تدور في حديقتنا بسبب تحرش عصفور شرقي بعصفورة شرقية فلا تقلقوا عليهم, فالعمام سيحلوها عشائريا.
#مصطفى_الصوفي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟