|
-الإسلام السياسي-.. -حقيقة- تَعرَّت من -الأوهام-!
جواد البشيتي
الحوار المتمدن-العدد: 4174 - 2013 / 8 / 4 - 10:47
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
مصطلح "الإسلام السياسي" يَدُلُّ على معانٍ عدَّة، أهمها أنَّ الإسلام (دِينَاً) ينطوي ويشتمل على جُمْلَة من "المبادئ (والمفاهيم والأحكام) السياسية"، التي بعضها على هيئة "النَّص"، وبعضها يأتي به "فقهاء"، أو يتأتَّى من طريق "التأويل"، أيْ من طريق البحث عن "المعاني الخفية" وراء "المعاني الظاهرة" في الكلام الدِّيني، أو النُّصوص الدِّينية؛ ولا بدَّ للمشتغلين بتسييس الدِّين من أنْ يتوفَّروا على إقامة الدليل للعامَّة من المسلمين على أنَّ القضايا والأمور والشؤون السياسية جميعاً لا تُسْتَثْنى من الدِّين، أو من "حُكْم الشَّرع"، أو ما يشبهه، منزلةً، وينبغي لهم (أيْ للعامَّة من المسلمين) أنْ يعتادوا فَهْمَها وتفسيرها دينياً، وأنْ يَقِفوا من كل أمْرٍ سياسي يعنيهم موقفاً دينياً، وكأنَّ ميزان "الحلال والحرام" الدِّيني (الإسلامي) يَصْلُح، أيضاً، لوَزْن "الموقف السياسي"، للفرد، أو الجماعة، به. وفي "التصويت"، على وجه الخصوص، نرى "الثمرة المُرَّة" لِمَا بذلته قوى "الإسلام السياسي" من جهد في تسييس الدِّين، والذي هو تسييس يتفاوت سوءاً بين هذه القوى، التي بعضها يتمادى فيه بما يجعل ضحاياه في "ظلامية سياسية تامَّة". "المُصوِّت"، الذي نفثوا في روعه أنَّ تصويته إمَّا أنْ يكون من "الحلال" وإمَّا أنْ يكون من "الحرام"، مع ما يعنيه له "الحلال" و"الحرام"، دنيا وآخرة، لن يمارِس من "إرادته (الانتخابية والسياسية) الحُرَّة" إلاَّ ما يشبه "الظِّلال" منها؛ إنَّه "يملك" صوته؛ لكنَّ غيره، أيْ المشتغلين بتسييس الدِّين، وتديين السياسة والتصويت، هو الذي "يَسْتَعْمِل (ويَسْتَخْدِم)" صوته بما ينفعه ويفيده هو، وبما يعود بالضرَّر والأذى (على ما ثَبُت وتأكَّد في تجارب عِدَّة) على "صاحب الصَّوْت"، فَيْصلى هذا بالنَّار الكبرى في دنياه، ليَنْعَم ذاك بالجنَّة الأرضية! بهذا التسييس للدِّين، أو التديين للسياسة والانتخابات، تَفْسُد كثيراً "الإرادة الحُرَّة" للناخب، أو المُصَوِّت؛ فَمَنْ ليس مع "الإسلام السياسي"، على وجه العموم، هو، حتماً، مع "الفسطاط الآخر"، وما أدراكَ ما "الفسطاط الآخر"! الأمْر إنَّما يحتاج إلى "إصلاح ديني"، يتجشَّمه مفكِّرون إسلاميون من نمط مارتن لوثر، فيأتون إلى العامَّة من المسلمين بما يجعلهم مُقْتَنِعين بأنَّ النأي بـ "السياسة (وعالَمِها، وسؤونها كافَّة)" عن "الدِّين (الإسلامي)" هو من الدِّين، أصلاً وأساساً وجوهراً، ومن الإيمان الدِّيني القويم؛ وأحسبُ أنَّ فَتْح باب الاجتهاد (في هذا الأمر) على مصراعيه، مع تَكَلُّل هذا المسعى بهذه "الثمرة الطَّيبة (دينياً وسياسياً)"، هو مهمَّة تَتَحَدَّانا "الحضارة السياسية" و"الديمقراطية" أنْ نُنْجِزها الآن؛ فعندئذٍ فحسب نستطيع النأي بـ "صندوق الاقتراع" عن ميزان "الحلال والحرام"، ويستطيع الناخِب، أو المُصوِّت، أنْ يَنْظُر إلى كل شأنٍ سياسي يعنيه بعينٍ يَقِظَة لا تغشاها أوهام، فيُعيد وَصْل ما انفصل بين مصالحه وحقوقه وبين صوته. لا جدال في أنَّ "الإرادة الحُرَّة" للشعب (أو للأمَّة) هي الأصل والأساس في النِّظام الديمقراطي؛ لكن أليس ممكناً أنْ يُعبِّر الشعب (وعَبْر "صندوق الاقتراع" الشفَّاف والذي لا ريب في نزاهته وسلامته) عن "إرادته الحُرَّة" بما يأتي بنظام حكم منافٍ للمبادئ والقِيَم الديمقراطية، أو بما يؤسِّس لدولة ليست مِنْ جِنْس "الدولة المدنية الديمقراطية"؟ وهذا "التناقض" يمكن أنْ نراه، على وجه الخصوص، في مجتمعنا العربي (الإسلامي) فالغالبية الشعبية الانتخابية (الحُرَّة تماماً في إرادتها، وفي تصويتها) يمكن أنْ تُمَكِّن حزباً دينياً إسلامياً من الوصول إلى السلطة، ومن إحكام قبضته على الدولة وسلطاتها ومؤسساتها، ومن "أسْلَمة" كل مناحي وأوجه حياة المجتمع؛ وهل من "ديمقراطي واقعي" يستطيع إنكار أنَّ غالبية الناس عندنا تُؤْمِن إيماناً لا يتزعزع بأنَّ "الإسلام هو الحل (لكل مشكلاتنا)"؟! حتى الفشل (والفشل الذريع) الذي مُنِيَت به تجارب إسلامية عدة في الحكم، يُفْهَم "شعبياً" على أنَّه دليل (أو دليل سلبي) على أنَّ "الإسلام هو الحل"؛ فالذي فَشِل، على ما تعتقد العامَّة من المسلمين، إنَّما هو "صاحب التجربة"؛ ولقد فشل؛ لكونه أساء فَهْم الأمور، وإدارة الشؤون، بما يوافق "الإسلام الحقيقي"، الذي يشبه "جوهر" الشيء عند كانط؛ و"جوهر" الشيء، عند هذا الفيلسوف، هو أمْرٌ يستحيل على البشر إدراكه! وأحسبُ أنَّ هذا "التناقض (أو هذا الإشكال)" لا يُحَل بعبارات من قبيل "الشعب جاهل"، أو "لا يعي مصالحه الحقيقية"، أو "مُسَيَّر من الداخل بوعيٍ لا يسمح له بوعي حقوقه ومصالحه"، أو "يتوهَّم أنَّه حُرٌّ في إرادته واختياره"، أو "يستخذي لقوى فكرية يكفي أنْ يستخذي لها حتى يتصرف بما يجعله عدواً لدوداً لنفسه". وأحسبُ، أيضاً، أنَّ "الشرعية" في الحكم، أو "الشرعية السياسية" على وجه العموم، ليست كمثل "الشرعية" في "الفيزياء"؛ فهي إنَّما تُسْتَمَدُّ من "الشعب بما هو عليه من وعي وثقافة وشعور وإرادة.."؛ فكما تكونوا يُولَّى عليكم؛ وليس من حكومة إلاَّ وتشبه شعبها (أو مجتمعها) مهما تعالت الأسوار بينها وبينه. "التناقض" إنَّما يُفسَّر ويُحَل، على ما أرى، في القول الآتي: كل نظام حكم ديمقراطي يجب أنْ يَصْدُر عن "الإرادة الحُرَّة" للشعب؛ لكن ليس كل ما يَصْدُر عن "الإرادة الحُرَّة" للشعب يجب أنْ يكون نظام حكم ديمقراطي. وأحسبُ أنَّ من الأهمية بمكان أنْ نتمثَّل معنى هذا القول حتى نُحْسِن فَهْم وتفسير كثيرٍ من "الخِلال" و"السلبيات" التي نراها في تجربة ثورات "الربيع العربي"، والتي لم تنتهِ بَعْد. وللذين يدينون ببمبادئ وقِيَم الديمقراطية (الغربية، والتي منها "العلمانية") وأنا منهم، أقول إنَّكم لا تستطيعون إسباغ (و"إسباغ" هنا بمعنى "فَرْض") نِعْمة الديمقراطية (الغربية) على مجتمعاتنا من غير أنْ تُقَوِّضوا بأنفسكم الديمقراطية نفسها؛ فماذا يبقى من الديمقراطية إذا ما سعيتم في إكراه الناس على الأخذ بمبادئها وقِيَمها (الغربية والتي تزداد عالميَّةً)؟! "الدِّين" بَيِّنٌ و"الدولة" بَيِّنة، وبينهما أُمور متشابهات لا يَعْلَمها كثير من الناس؛ وينبغي لنا جميعاً الحَذَر من الوقوع في الشُّبهات؛ ولقد وَقَع بعضنا في الشُّبُهات إذْ قال (جاعِلاً كثيرين من العامَّة من المسلمين يقولون معه) بوجود، وبوجوب وجود، "نظام سياسي إسلامي (خالص)"، عابر للتاريخ، لا عابِر تاريخياً؛ وكأنَّ التاريخ لم يكن شاهِداً على أنَّ كل النُّظُم السياسية (وغير السياسية) هي نُظُمٌ عابرة، يتخطَّاها التاريخ، الذي لم يَعْرِف، ولن يَعْرِف، نظاماً سياسياً يتخطَّى التاريخ، ولا يتخطَّاه التاريخ. إنَّ أوَّل ما ينبغي لنا حَسْم أمره، في أذهاننا السياسية؛ لأنَّه محسوم في العالم الواقعي للسياسة، هو أنْ لا وجود الآن، أيْ في زماننا، لـ "حُكْمٍ إسلاميٍّ"، يقوم على "مبادئ سياسية إسلامية خالصة"، وإنْ وُجِدَ (أو ظلَّ ممكناً الوجود) حُكْمٌ (أو نظام حُكْم، أو نظام سياسي) يَنْسِبَهُ أصحابه إلى "الإسلام"، ويُلْبِسونه (من طريق الاجتهاد والتأويل) لبوس "الإسلام"؛ فَلْنُمَيِّز "الحُكْم الإسلامي (الخالص، والذي أصبح أثراً بعد عين)" من "حُكْم الإسلاميين"؛ فالأوَّل ما عاد ممكناً الوجود؛ أمَّا الثاني، فيُوْجَد الآن؛ وقد يُوْجَد مستقبلاً. الأمر يلتبس علينا، ويختلط؛ لأنَّ طُلاَّب الحُكْم (أو السُّلْطَة) في عالمنا العربي والإسلامي يجتهدون دائماً في انتزاع مبادئ وطرائق ومفاهيم للحُكْم من أمكنة وأزمنة مختلفة؛ لكنَّها تَصْلُح، على وجه العموم، ولأسباب واقعية، لابتناء نظامٍ سياسيٍّ (عندنا) منها، فيتوفَّرون، من ثمَّ، وبمعونة "مُفَكِّرين إسلاميين"، على كَسْو هذه "العِظام" الأجنبية، أو العالمية، "لَحْماً (أو شيئاً من اللَّحْم)"، هو كناية عن "مفردات" و"عبارات" و"تسميات".. إسلامية، وإنْ تَسَبَّب عملهم هذا بكثير من التنافُر بين "محتوى (جُلُّه له مثيل عند غيرنا)" وبين "تشكيلهم له تشكيلاً إسلامياً"، أيْ وَضْعِهم له في شكلٍ، أو قالَبٍ، إسلامي؛ وليس أدل على ذلك من تصالحهم الفكري (عن اضطِّرار) مع نَزْرٍ من "الطريقة الديمقراطية في الحُكْم"؛ فَهُم، وبشيء من "التأويل"، الذي يجيدون لعبته، جعلوا الفَرْق بين "الشورى" و"الديمقراطية" من الضآلة بما كاد أنْ يجعلهما شيئاً واحداً؛ وإنْ اعتبر بعضهم "الشورى" أوسع وأشمل وأعمَّ من "الديمقراطية (حتى في درجتها العليا)". هُمْ، وعن اضطِّرار، وفي رُبْع السَّاعة الأخير من القرن العشرين، اكتشفوا "الشَّعْب (أو الأمَّة)"، بمفهومه المتواضَع عليه عالمياً؛ واكتشفوا أنَّ هذا "الشعب" يَصْلُح لاتِّخاذه (بإرادته) مَصْدَراً (مع مصادِر أُخرى) للسُّلطة، ولـ "الشرعية السياسية في الحُكْم"؛ واكتشفوا أنَّ "اتِّخاذ صندوق الاقتراع طريقاً إلى الحُكْم" ليس من الكفر في شيء؛ لكنَّهم لم يكتشفوا بَعْد أنَّ كل هذا الذي اكتشفوه ليس بذي أهميةٍ ديمقراطية جوهرية إذا لم يكتشفوا أهمية وضرورة "القِيَم والمبادئ الديمقراطية كافَّة"، والتي لا انفصال بينها (وبصفة كونها "الجوهر") وبين "الإجرائي" من "الديمقراطية"، أو "الديمقراطية الإجرائية"، وفي مقدَّمها "الانتخاب". وشتَّان الآن ما بين "أَسْلَمة" نظام سياسي (أو اقتصادي، أو اجتماعي) ما، و"نظام سياسي (أو اقتصادي، أو اجتماعي) إسلامي خالص"؛ فـ "الأَسْلَمَة" ممكنة، وواقعية؛ وليس بالأمر المستعصي على المرء أنْ يَجِدَ، إذا ما فَكَّر أو اجتهد قليلاً، في "النَّص"، أو "الظاهرة"، مدار اهتمامه، ما يرغب في وجوده. إنَّ "الأَسْلَمَة" ليس إلاَّ، هي "حقيقة" جماعات وأحزاب "الإسلام هو الحل"؛ وكأنَّ التعبير عن "المشكلات نفسها"، و"الحلول نفسها"، بـ "لغة إسلامية" يكفي للقول بشعار "الإسلام هو الحل"؛ فأين هي الآن "المشكلة الكبرى" التي أَعْجَزت غيرنا عن حلها، ولَمْ تُحلَّ إلاَّ على أيدي أصحاب هذا الشعار، والقائلين به؟! وفي "العولمة"، وبها، تتَّسِع، في استمرار، دائرة المشكلات المتشابهة المتماثلة بين الدول والشعوب كافَّة، وتتَّسِع معها دائرة الحلول المتشابهة المتماثلة؛ والدِّين، أيُّ دِين، ليس في وسعه إلاَّ أنْ يقف على الحياد من هذه المشكلات وحلولها، لأنَّها تَقَع في الخارج من نصوصه، ومن معانيها الحقيقية؛ فإنَّ لكلِّ عصرٍ ما يُميِّزه من "المشكلات"؛ أمَّا "الحلول" فهي "بَنَات" المشكلات نفسها. لقد سعى القائلون بشعار "الإسلام هو الحل" إلى حلِّ بعض المشكلات في مصر؛ ولو نجحوا في حلها لأقاموا الدليل بأنفسهم على أنَّ "حلولهم الناجحة الناجعة" ليس فيها ما يمتُّ بصلةٍ جوهرية إلى هذا الشعار، وأنَّ كل ما فعلوه لا يتعدَّى التعبير عن هذه الحلول الواقعية (المجرَّبة والمُخْتَبَرة في أماكن أُخْرى) بلغة إسلامية. إنَّ واقع مصر الجديد، أيْ الذي خلقته ثورة الخامس والعشرين من يناير، لا يتَحَدَّاهم على "الأَسْلَمَة اللغوية" للمشكلات وحلولها، وإنَّما يَتَحَدَّاهم على قبول الحياة الديمقراطية بصفة كونها جُمْلَة من المبادئ والقِيَم التي تَتَّحِد اتِّحاداً لا انفصام فيه مع "الإجرائي" و"الشكلي" منها؛ فإنَّ "الدولة المدنية"، أو "دولة المواطَنَة"، التي هي "دولة الآخر"، في معنى من معانيها الجوهرية، هي السؤال الذي لا بدَّ لهم من إجابته اليوم، وقَبْل غدٍ. جماعات "الإخوان المسلمين"، وأحزابها السياسية، مَدْعُوَّة إلى أنْ تَقْفِز هذه القفزة الكبرى، التي تَعْدِل خروج المرء من جلده، وأنْ تتصالح أوَّلاً (أيْ قبل تصالحها مع "الديمقراطية الإجرائية") مع قِيَم ومبادئ الحياة الديمقراطية العالمية. ولعلَّ الدَّرس الأوَّل والأهم (أو العبرة الأولى والأهم) االذي نستخلصه من تجربة الثورة المصرية هو أنَّ مصر الخارجة تَوَّاً من أحشاء عهد مبارك، وبما هي عليه الآن من أحوال سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، لن تتقدَّم في ثورتها، وصولاً إلى "الدولة المدنية الديمقراطية المتصالحة مع الشعب، بحقوقه ومصالحه"، بـ "صندوق الاقتراع (الذي هو على خُلُقٍ ديمقراطي عظيم)" فحسب؛ فلا أهمية لفوز انتخابي لا يُمَكِّن صاحبه من الحُكْم، ولا أهمية لسلطة تنفيذية مُنْتَخَبَة إذا لم تكن الثورة، التي أخرجتها إلى الوجود، قد أسَّست لـ "معارَضَة" تُصارِع بطرائق وأساليب دستورية، ومن داخل مؤسَّسات النِّظام الديمقراطي. إنَّ شيئاً من "الديمقراطية التوافقية" هو ما كان يَلْزَم مصر وثورتها في عهد الرئيس المنتخَب مرسي؛ ففوزه الانتخابي كان يجب أنْ يُفْهَم على أنَّه دعوة له إلى أنْ يبتني من "الديمقراطية التوافقية (أو من شيء منها)" جسراً للعبور بمصر وثورتها من "العهد القديم" إلى "العهد الجديد"، أيْ إلى عهد "الدولة المدنية الديمقراطية (التي تلبِّي للشعب حاجاته التاريخية المختلفة)". مصر ليست السويد، ولا أي دولة توطَّدت فيها "المواطَنَة"، ومؤسَّسات المجتمع والنِّظام الديمقراطيين؛ وكان ينبغي لمبدأ "عِشْ كما تُريد، ودَعْ غيركَ يَعِشْ كما يريد، فلا يتطاول أحدكما على الآخر بنمط عيشه" أنْ يَحْكُم حياة المصريين الجديدة، وأنْ يُقوِّم كل تناقض تطرَّف طرفاه في التضاد والصراع، فيشعر كل مصري، مهما اختلف عن غيره، ومع غيره، من مواطنيه، أنَّ له مكاناً ودوراً في مصر الجديدة، ويتصرَّف، من ثمَّ، بما يُشدِّد من العزلة الشعبية والسياسية لقوى وجماعات الثورة المضادة، ويجعل مكائدها ودسائسها تنزل برداً وسلاماً على مصر، شعباً وثورةً وحُكْماً ومعارضةً. وفي الأردن، رَأَيْنا كثيرين يَقِفون ضدَّ جماعة "الإخوان المسلمين (وحزبها)"، أو يناصبونها العداء؛ وأنا لا أستثني نفسي منهم؛ لكنَّهم جميعاً يختلفون ويتباينون في الدَّافع والغاية والمصلحة والحيثية؛ وينبغي لنا، من ثمَّ، أنْ نَنْظُر في "الأهم (على ما أرى)"، ألا وهو معرفة "لمصلحة مَنْ يَقِف هذا، أو يَقِف هؤلاء، ضدَّ هذه الجماعة (على وجه الخصوص)"؛ فكل مُتَمَثِّل للمعاني والدَّوافع الحقيقية لـ "الربيع العربي" لا يُمْكِنه إلاَّ أنْ يَقِف (فكرياً وسياسياً) ضدَّ جماعة "الإخوان المسلمين (وأقربائها الأقربين والأبعدين)"؛ لكن (وهذا ما ينبغي لنا فهمه وتمييزه جيِّداً في هذا الزَّمن الرَّمادي) ليس كل مَنْ يَقِف ضدَّها يجب أنْ يكون من جِنْس "الربيع العربي"، وأنصاره. وأعداء "الربيع العربي"، مَنْ ظَهَر منهم، ومَنْ استتر، هُمْ، في الوقت نفسه، من ألد أعداء جماعة "الإخوان المسلمين"؛ أمَّا السبب (والذي فيه يكمن تَنَاقُض "الربيع العربي") فهو خشيتهم (التي لها ما يُبرِّرها في الواقع) من أنْ يتمخَّض الأخذ بخيار "الانتخابات الحقيقية"، في هذا المناخ، عن فوز وهيمنة هذه الجماعة، وغيرها من قوى "الإسلام السياسي"؛ فبين "الميدان" و"البرلمان" قليل من الشَّبَه، وكثيرٌ من الاختلاف. و"الدولة" لها سببها الخاص للحملة على جماعة "الإخوان المسلمين"؛ فهي تَنْظُر إليها، وتعاملها، على أنَّها "الابن العاق"، أو "الذي شَقَّ عصا الطاعة"، و"عصى عصيان إبليس"؛ ولقد قضى الطرفان أجمل أيام حياتهما معاً، يتعاونان على البرِّ والتقوى، أيْ على محاربة "الفكر الشيوعي (الهدَّام)" لَمَّا كان (دولياً وإقليمياً) قادراً على "الهدم". والآن افترقا افتراق زوجين استجمعا في زواجهما، وبه، كل ما يكفي من أسباب للطلاق (الذي ليس بالطلاق البائن بينونة كبرى). ولو كان لدينا من المعارضين العلمانيين والديمقراطيين الحقيقيين واليساريين الحقيقيين والقوميين الحقيقيين ما يفي بالغرض التاريخي، ألا وهو قيادة "الحراك الشعبي (الثوري الديمقراطي)"، وتحرير الطاقة الثورية الكامنة في "الربيع العربي" بما يجعل "الدولة الديمقراطية المدنية" في متناول شبابنا التَّواق إلى الحرية بكل معانيها وأشكالها، لرأينا "التَّصالُح في المصالح"، وعودة الطَّرفين إلى ما كان يجمعهما من وُدٍّ ووئام؛ فما زال لديهما من "عصبية الدَّم (بمعناها الفكري والطَّبقي)" ما يُوحِّدهما في أوقات الضيق والشدة؛ وإنَّي لأرى في استمرار افتراقهما، لا بل في تبادلهما العداء، الظاهر تارةً، والمستتر طوراً، ما يقيم الدليل على أنَّ "الربيع العربي" لم ينضج بعد بما يجعل مصالحهما المتصارعة، متصالحة. "الجماعة" تسعى في أسْلَمَة "الربيع العربي"، وفي تسيير رياحه بما تشتهي مآربها؛ ولا شيء يستبد بتفكيرها إلاَّ قَطْع الطريق على "الشباب الجديد"، وحراكهم، بما يُقصِّر الطريق بينها وبين "انتخابات"، تنتظرها، وتنتظر الفوز فيها، كانتظار الراعي طلوع الأخضر؛ أمَّا "الدولة" المتطيرة من "صندوق اقتراع يمتلئ بالصوت الإسلامي (الإخواني على وجه الخصوص)" فتتعاون الآن على البرِّ والتقوى (الجديدين) مع ما يشبه "الظِّلال التي لا أجسام لها" من جماعات يسارية وقومية وليبرالية وعلمانية، ومع "قوى اجتماعية" تُمثِّل استمرار حُكْم الأموات للأحياء؛ لعلَّها تُوفَّق في سعيها إلى الإتيان بـ "إصلاح" من كلِّ هذا "الحراك الشعبي والشبابي"، يشبه "فأراً" ولده "جَبَلٌ" أتاه الطلق. وإنَّه لخيارٌ يَصْلُح الأخذ به لجَعْل "الدولة الديمقراطية المدنية" هدفاً في غير متناول "الحراك الشعبي والشبابي"؛ وهذا "الخيار اللعين" إنَّما هو "إمَّا دولة تُحْكِم قبضتها على الشيوخ، وإمَّا شيوخ يُحْكِمون قبضتهم على الدولة". الطَّرفان يتصارعان الآن، مع أنَّ كليهما يلعب اللعبة نفسها، ألا وهي لعبة "تسييس الدِّين"؛ "الجماعة" تأخذ على "الدولة" تفريطها في "تديين السياسة"؛ و"الدولة" تأخذ على "الجماعة" إفراطها في "تسييس الدِّين"؛ أمَّا المنتمون إلى "الربيع العربي"، في دوافعه وغاياته الحقيقية، فلا يريدون إلاَّ "دولة لا يُحْكِم الشيوخ قبضتهم عليها"، و"ديناً لا تُحْكِم الدولة قبضتها عليها"؛ وهذا "الحل التاريخي" هو الذي يأتي بـ "الدولة الديمقراطية المدنية"، وهو الذي يعود، في الوقت نفسه، بالنَّفْع والفائدة على الدِّين نفسه. "الدولة" ليست زيد، ولا عمرو؛ وليست هذه الجماعة (البشرية) أو تلك؛ إنَّها "شخصية (أو هيئة) اعتبارية (أو معنوية)"؛ وأنتَ يكفي أنْ تَفْهَم "الدولة" على حقيقتها هذه، أيْ على أنَّها "شخصية اعتبارية"، حتى يَسْهُل عليكَ، ويتيسَّر، نَزْع "الصِّفة الدِّينية" عن "الدولة"، أيْ عن أيِّ دولة. إنَّكَ تستطيع أنْ تقول، وعن صواب، إنَّ الإسلام هو دين سُكَّان، أو مواطني، هذه الدولة، أو إنَّه دين "غالبية مواطنيها"، أو دين "أقلية" منهم؛ أمَّا "الدولة"، وبصفة كونها "شخصية اعتبارية"، فلا دين لها. أقول هذا، وأقول به، حتى لا يعتري مفهوم "الدولة" فساد (أو خلل) منطقي؛ فإذا كانت "المواطَنَة" هي قوام "الدولة"، وإذا كانت "المواطَنَة"، في معناها الجوهري، هي "تساوي المواطنين جميعاً في الحقوق جميعاً"، فهل يبقى من تَماسُكٍ في المنطق إذا ما قُلْنا، بعد ذلك، "إنَّ دين الدولة هو الإسلام"؟! "الدولة (كالوطن)" هي لمواطنيها جميعاً، وبصرف النَّظر عن دين المواطِن، أو قوميته، أو عرقه، أو جنسه، أو لونه، أو طبقته، أو لغته الأُم، أو مسقط رأسه؛ فصفة "المواطَنَة" لا تَعْلوها أي صفة أخرى للمواطِن في "دولة المواطَنَة"، التي لا دولة غيرها في القرن الحادي والعشرين. لا دولة لها دين، ولا دينا له دولة؛ لا دولة يحقُّ لها أنْ تدين بدينٍ، ولا دينا يحقُّ له تَمَلُّكَ دولة. "الدولة" لـ "الجميع"، أيْ لمواطنيها كافَّةً؛ والشيء يكفي أنْ يكون ملكاً للجميع حتى لا يكون ملكاً لشخصٍ بعينه؛ وليس من معنى، أو من منطق، لعبارة "الدولة لمواطنيها جميعاً" إلاَّ إذا عَنَت أنَّ أحداً من مواطني الدولة لا يملكها، ولا يحقُّ له أنْ يملكها. أمَّا "الدولة المُشوَّهَة ـ المُشَوِّهَة" فهي التي يُحْكِم رجال الدين قبضتهم عليها، أو تُحْكِم هي قبضتها على رجال الدين؛ فـ "علمانية الدولة" إنَّما تعني تحرير كلا الطرفين من قبضة الآخر، أيْ تحرير الدولة من قبضة رجال الدين، فلا تديين للسياسة؛ وتحرير رجال الدين من قبضة الدولة، فلا تسييس للدين.
#جواد_البشيتي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
طريقكَ إلى الثراء في الأردن.. جريسات مثالاً!
-
عندما أَغْمَض كيري عَيْنَيْه حتى يرى السيسي!
-
بين -رئيسَيْن سجينَيْن- يدور الصراع ويحتدم!
-
كيري يسعى لحلِّ المشكلات من طريق الاحتيال عليها!
-
أُعْلِن استقالتي من -الصحافة الأردنية- كلها!
-
فجر اليوم لفظت ثورة 25 يناير أنفاسها الأخيرة!
-
مقالة قديمة عن ثورة يناير
-
هكذا يُفْهَم الصراع في مصر الآن!
-
السيسي أشعل فتيلها!
-
-العرب اليوم-.. معانٍ كبيرة في شأنٍ صغير!
-
كيري الذي تَفرَّع من -الملف السوري- إلى -الملف الفلسطيني-!
-
نقابة الصحافيين الأردنيين -بيت أبي سفيان-.. مَنْ يَدْخُله فه
...
-
-العرب اليوم-.. أزمة صحيفة أم أزمة صحافة؟
-
لو حدثت هذه -الثورة الطبية-!
-
مصر الآن.. صراع بلا وسيط!
-
ما معنى أنَّ -الحركة- تتسبَّب في -إبطاء الزمن-؟
-
تأمُّلات مصرية!
-
إنَّها الثورة المضادة يقودها بونابرت صغير.. فالحيطة والحذر!
-
مِنْ -مرسي- إلى الأَمَرِّ منه.. -المُرْسيسي-!
-
هذا ما أتوقَّعه في الساعات المقبلة
المزيد.....
-
وجهتكم الأولى للترفيه والتعليم للأطفال.. استقبلوا قناة طيور
...
-
بابا الفاتيكان: تعرضت لمحاولة اغتيال في العراق
-
” فرح واغاني طول اليوم ” تردد قناة طيور الجنة الجديد 2025 اس
...
-
قائد الثورة الإسلامية: توهم العدو بانتهاء المقاومة خطأ كامل
...
-
نائب امين عام حركة الجهاد الاسلامي محمد الهندي: هناك تفاؤل ب
...
-
اتصالات أوروبية مع -حكام سوريا الإسلاميين- وقسد تحذر من -هجو
...
-
الرئيس التركي ينعى صاحب -روح الروح- (فيديوهات)
-
صدمة بمواقع التواصل بعد استشهاد صاحب مقولة -روح الروح-
-
بابا الفاتيكان يكشف: تعرضت لمحاولة اغتيال في العراق عام 2021
...
-
كاتدرائية نوتردام في باريس: هل تستعيد زخم السياح بعد انتهاء
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|