|
بؤس الثقافة .....أزمة -مثقف-.
يحيى بوافي
الحوار المتمدن-العدد: 4172 - 2013 / 8 / 2 - 03:18
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
"المثقف عندي هو من يكون وفيا لمجموعة سياسية و اجتماعية، لكن من دون أن يكف عن مناهضتها."ج.ب.سارتر 1 .تفليس" المثيقف" الإبليس: بدءا ننحني اعتذارا لروح الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي عن استعارة شطر من عنوان لواحد من كتبه الغزيرة ،لأجل تعيين ظاهرة تقع على الطرف النقيض من قيم التصوف و الزهد و كل المعاني الألقة للإشراق الصوفي ؛إنها ظاهرة "المثيقف"و" المثيقف" صيغة تصغير من المثقف ، و معلوم أن التصغير يحتمل معنى التحقير و الازدراء ، كما يحتمل معنى التظريف ،ونحن في مقامنا هذا بالمعنى الأول أحوج و أولى ، في تعبيرنا عن ظاهرة طفقت ، منذ مدة ليست باليسيرة ، تستشري في واقعنا الثقافي و شرعت فيروساتها تدنس دماء الحقيقة والطهر الذي يسم الدروب الواجب ارتيادها لبلوغها ، و كل المعاني الجميلة الرائقة التي يحيل عليها وصف "الثقافي ".
وغني عن البيان القول ،بأننا لسنا هنا ، بصدد وضع تصنيف جديد لمفهوم المثقف ،فتصنيفات هذا الوصف قد فاقت عدد الرؤوس التي تستحقه في مجتمعاتنا المرصعة بأقتم أوصاف الجهل و الأمية ،مبررنا في ذلك أن ظاهرتنا (المثيقف)، ظاهرة زئبقية تستعصي على التصنيف ، بل إنها أصغر من أن تقحم في خانة المثقفين حتى تنطبق عليها بعد ذلك تصنيفاتهم ،و ظاهرتنا هذه ليست ثمرة من ثمار الخيال الجامح، و لا هي أقنوم تجريدي منفصل عن الواقع ، بل على العكس من ذلك ،نصادفها في كل زوايا لوحتنا الثقافية ، خاصة تلك الزاوية التي يغلب عليها لون المحلية ،و هي الظاهرة التي تجد تعينها في ثلة من الأشخاص المتحرشين بالثقافة ، و هم في تحرشهم بها يركبون صهوات مصالحهم الذاتية الضيقة ،ويبدلون جلودهم على الدوام كالأفاعي ،ويدثرون عري جهلهم و انعدام هويتهم برداء الألوان المتعددة تعدد مواقفهم كالحرابي ، يتخذون من النفاق خير ملة و أبهى نحلة و أجدى اعتناق ،يلوكون بألسنتهم أغرب ما جادت به عليهم صفحات المجلات من مصطلحات و هم في لوكهم لها يظلون غرباء ، فيضلون ويضلون و بئس المصير.
وهنا يحضرني قول زعيم اليسار الإسلامي المفكر المصري حسن حنفي ،و إن كان هذا القول أرقى من وصفهم حالهم المتردي :"كثر الوكلاء الحضاريون في مجتمعنا ، وتنافسوا فيما بينهم في المعروض و المنقول ...السيميوطيقا ،الاستطيقا ، الأسلوبية ، البنيوية ، الفينومينولوجيا ،الانتروبولوجيا ،الترنسندالية.....إلخ ،أصبح المثقف هو الذي يلوك بلسانه معظم أسماء الأعلام المعاصرين في علوم اللسانيات و الاجتماع و يطبق هذا المنهج أو ذاك متأثرا بهذه الدراسة أو تلك "(كتاب علم الاستغراب ص 55). و في حضن المقاهي التي تطول جلساتهم فيها ، تجيد ألسنتهم في العزف على مقام الغيبة ، و لا توقع إلا ترانيم النميمة و سقط المتاع من الكلام ،أما عقولهم فلا تبرع إلا في رسم المخططات بمختلف تنويعاتها الدنيئة ، مهدفينها في كل مرة صوب إقصاء بعضهم البعض . و في كتاباتهم كل مرة يتخندقون في الخندق الملائم لحرب مواقعهم السافلة ؛فمرة يعزفون على وتر اليسار ، وطورا يرصفون خطابهم بلبنات "الاسلاموية "، و تارة يطلون واجهته بطلاء "الليبرالوية "، فما أظنهم ، في رحلة تحرشهم بالثقافة ، ناعمين يوما بحسنها ، ملتذين بكشف الحجاب عن كنوزها ،فهي منهم بريئة براءة الذئب من دم يوسف .و منها لن يلقوا غير دوام الجفاء بدوام حالهم ،كما لاقى سوفسطائيو أثينا دوام البين من الحقيقة بدوام سفسطتهم .فهل نحن، في عصر الاستنساخ، أمام نسخ مشوهة و مزيفة لــ"جورجياس و بروتاجوراس و هيبياس ...و غيرهم من السوفسطائيين ؟ هو كذلك بكل تأكيد ،لأن أصحابنا عملة سفسطائية فقدت ختمها ، إنهم ، بكلمة واحدة ، سيمولاكرات سوفسطائية ، لماذا ؟ لأن السوفسطائيين على الأقل كانوا على بينة مما يريدون ، و كانوا يرومون تلقين فن القول و السجال و فنون الصناعة و التجارة ،هادفين من وراء ذلك إلى جعل مدينتهم أكثر رقيا و ازدهارا من الازدهار الذي كانت عليه في عهدهم ،أما نسخهم الرديئة ، أي " المثيقفون "، موضوع حديثنا ،فهم لا يتكاثرون إلا في الدنس المحايث لأزمتنا كالطفيليات ، و لا يترعرعون إلا في الظلمة كالفطريات ،فإذا كان السوفسطائيون قد جعلوا الإنسان مقياسا لكل الأشياء، فإن نسخهم الحالية ،التي لحقها التحريف ، لا تدرك الأشياء إلا بمنظار أنانيتها و ذاتيتها التي تخطت كل الحدود ،. و إذا كان بروتاجوراس هو القائل " إن الإنسان مقياس كل الأشياء ، سواء بالنسبة لتلك التي توجد بأنها توجد ،أو بالنسبة لتلك التي لا توجد بأنها لا توجد "، هذه العبارة ، ذات النفحة الديكارتية حسب هايدجر ،لم يجد سقراط بدا من مواجهتها بالقول التالي : "يجب الاعتقاد بأن بروتاجوراس العالم الحصيف لا ينطق عن الهوى ." إن كان ذلك هو حال " بروتاجوراس "، فإن لسان حال سيمولاكره يجعل مصالحه الضيقة مقياس كل المدركات، و قاعدة بناء أحلامه و ترصيصها ، و من أقوال برتاجوراس كذلك قوله :"أما بخصوص الآلهة فإني لست في وضع يسمح لي بأن أتصور شيئا عنهم ،سواء أكانوا موجودين أم لا ، و لا الصفة التي قد يكونون عليها في حالة وجودهم ، لأن الأسباب التي تمنع من الإصغاء للموجود كما هو كثيرة و متنوعة ، منها ما يتعلق بتحجب الموجود ذاته و اختفائه ومنها ما يرجع إلى قصور الإنسان و ضعفه ."أما أصحابنا فيعتبرون ذواتهم مؤهلين بالسليقة للكلام في كل شيء والإدلاء بدلوهم حتى في ما خفي و ستره حجاب الغيب ، في اللاهوت و الناسوت ...، وفي كل الحقول المعرفية التي لا تخطر لك على بال ،و لن يجود بها عليك خيال ،مرجعهم في ذلك وثوقيتهم و دوغمائيتهم الطائشة المنفلتة من كل الضوابط . يبقى من نافل القول ، التذكير بأن السوفسطائيين جاؤوا كظاهرة واكبت ازدهار أثينا في ظل حكم "بركلس " حوالي القرن الخامس قبل الميلاد ،إذ كانت المدرسة السوفسطائية إحدى صيغ الأخذ بأسباب الحضارة ، في حين نجد "سيمولاكرتهم "و نحن في مطلع الألفية الثالثة ، ظواهرا معتصرة من شحوب مدننا ، ناسجة لشعها في عتمة الفوضى التي تعمها كالعناكب . بهذا يكون " المثيقف " ظاهرة مفارقة للسوفسطائي ، فما بالك بالمثقف ،مفارقة " عالم المثل " لعالم المحسوسات بلغة أفلاطون ،وهو أبعد ما يكون عن بروتاجوراس ، أقرب و أدنى إلى شخص " بروطابوراس ". و في الختام ، تجدر الإشارة إلى أن كل حركة تطور تواكبها إفرازات جانبية ،و بهذا المعنى قد لا تعدو ظاهرة " المثيقف " كونها مجرد إفراز جانبي للحركية التي يشهدها مشهدنا الثقافي ، و التي استطاع من خلالها أن يجلب الأنظار ، سواء منها نظرات الإعجاب أو النظرات الشزراء ، فذاتنا الثقافية خطت خطوة كبيرة على درب المثول للشفاء من عقد التبعية للمشرق و أنجبت من صلبها مدرسة عقلانية تحظى بالمتابعة ، و أسماء فكرية لامعة ،لكن الموت أمعن مؤخرا في خطفهم منا الواحد تلو الآخر فقبل أن تجف دموع الحزن من المآقي على أحدهم حتى نفاجأ برحيل آخر ، فهل في مثل هؤلاء الذين تحدثنا عنهم سيكون عزاؤنا ،ما أظن ذلك أبدا ، بل الخوف كل الخوف أن تتسع رقعتهم و أن تعم أرجاء الوطن ، بعد أن أفلت نقط الضوء عنها . 2. "المثيقف" و الإدعاء الواهم للدور الرسولي. إن كان هذا الدور ملتصقا بمفهوم المثقف و مخالطا له بشكل ماهوي عموما ، فإنه لدى " المثيقف" تتضاعف مساحته ،كعرض مرضي ،أكثر من اللازم ،فمن الخواص الإبليسية لـ"المثيقف" إلباس نفسه عباءة الطهر و تعلقه إدعاء بالوظيفة النبوية ،فتجده يحسب نفسه لا كغيره من البشر ،بل يعتقد في قرارة نفسه أنه من يحمل الخلاص لهم ،و ما عليهم إلا أداء فاتورة تكليف القدر له بأداء هذه المهمة من جيوبهم ، تلك المهمة التي يحسب واهما أنها فوق العادة ،فكم من أمثال هؤلاء ما أدوا للبقال ما في ذمتهم حتى نضب ريقه وكادت روحه تغادر محراب جسده ، أو لصاحب المنزل الذي يكترونه أو حتى لأصدقائهم الذين يعينونهم على الخروج من وضعيات لا يفعلون شيئا قبالتها ، إلا صنع جروحها بأيديهم و ترك الآخرين ينزفون بدلا عنهم........، و إلى هذا تضاف المفارقة التي تطبع العلاقة بين الشعارات التي يحملونها ولا يفتئون يتغنون بها ،وبين خرقها و نسفها على مستوى أبسط سلوكياتهم اليومية ، إذ نجد الاختلاف شعارا في مقابل إقصاء المخالف و تطويقه و الإجهاز عليه سلوكا ،التسامح كلاما و كتابة و التعصب و توسل المديح و الإطراء عملا ، الترغيب في العفاف و القناعة و النزاهة خطابا و الجشع و الطمع و الشبهة و الزحف و الوصولية سيرة وفعلا . و لتأكيد التعلق الواهم لـ" المثيقف " ب الطابع النبوي لوظيفته ، لا بأس من أن نأخذ عينة خطابية ممثلة لذلك ، حتى لا ننعت بإلباس الوقائع ما لا تنضح به ،و باتهامنا الآخرين ظلما و عدونا بتهم لا بينة لنا عليها ،و بعد طول تقص ، اقترحت في خاتمة المطاف ،إشراك القارئ في قراءة ورقة نشرت من طرف أحد النقاد على صفحات الملحق الثقافي لجريدة الإتحاد الاشتراكي ع 27نونبر 1998،(وقد اخترت هذا التاريخ لأنه مفصلي بنظري ،إن بالنسبة للمغرب السياسي أو للمغرب الثقافي كما يفصح عن وجهه من خلال ما يقع في أبرز المؤسسات المعبرة عن صورة المثقف و تطلعاته .) وذلك بمناسبة الحدث الثقافي الذي ميز الساحة الثقافية الوطنية آنذاك ، والذي أسال الكثير من المداد و أفرز زخما من المواقف ،وهذا الحدث كان هو انعقاد المؤتمر الرابع عشر لاتحاد كتاب المغرب ( يوم كان اتحاد كتاب المغرب كذلك بالقوة و الفعل ،و قبل أن يأزف موعد بداية سقوطه الذي بلغ اليوم منتهاه من التردي ،بعد الحروب الصغيرة لـ"الكتاب" أو بالأحرى "الكتبة" و تعلقهم بالظرفي و بعدهم عما ينفع الناس و يمكث في الأرض و جريهم وراء الزبد و الزبد يذهب جفاء.) لقد جعل صاحب الورقة موضوعا لمساهمته وضع الكاتب في المغرب الراهن ، المغرب العالمثالثي المقبل على الألفية الثالثة في زمن " يرتهن إلى صناعة الأفكار ..." على حد تعبيره ،و هذا الوضع يستدعي من منظور صاحبنا " لفت الاهتمام إلى المكانة الاعتبارية للكاتب في المغرب ، باعتباره هو منتج الفكر (معرفة و إبداعا )"، هذا الكاتب الذي كان وضعه من منظور صاحبنا" وضع كائن شبه ملغى وموجود على الهامش ، مادام فكره و رأيه و موقفه لم يخلق السؤال الذي من شأنه تفعيل الحياة الاجتماعية و السياسية و الفكرية ". و هنا مربط الفرس يكشف عن نفسه في هيئة تساؤلية :ما سبب ذلك ؟ هل عدم خلق السؤال الثقافي الكفيل بتفعيل الحياة المغربية في مختلف مناحيها راجع إلى الكاتب و المثقف نفسه أم إلى اختيارات سياسية سابقة ؟ صاحب الورقة يرجح الاختيار الثاني في مقابل الأول ،و نحن من جهتنا نرى بأن تاريخ" اتحاد كتاب المغرب" كفيل بتكذيب ذلك ، فعندما كان تحت رئاسة كتاب و مثقفين لقنوا دروسا في نكران الذات و تنزهوا بتعال منقطع النظير عن كل هدف شخصي وضيع متحملين مهامهم كتكليف لا كتشريف ، حاملين بذلك اتحاد كتاب المغرب على أكتافهم برمزيتهم و فعلهم الجاد بدلا من أن يحملهم هو كصهوة لجواد المصالح الذي لا يشق له غبار ، وما جعلهم منخرطين في الفعل الثقافي الجاد هو إجادتهم الإنصات إلى نبض مجتمعهم و التزامهم بقضاياه .... وهكذا تصبح تفاصيل المعادلة في غاية الجلاء ؛فكلما اعتلى مثقف محبط فاشل رئاسة اتحاد كتاب المغرب ، سرعان ما يستشري الشلل في جسد هذه المؤسسة ؛فيصبح " منصب الرئيس " بالنسبة له، وسيلة لتقديم الولاءات ، و زاوية تكسبه هيبة المخاطب الذي كان إلى وقت قريب مجردا منها ، لأنه ما استطاع فرض ذلك من خلال ثقل ووزن إنتاجه ، و العكس صحيح طبعا ؛ إذ عندما ينتخب مثقف بالقوة و الفعل ، مثقف جدي مبدع و خلاق ، منزه عن كل غرض شخصي الرئاسة ،فإن هذه المؤسسة تستعيد إشراقها و إشعاعها و قوتها ، هكذا نخلص إلى أن المثقف يتحمل قسطا كبيرا فيما يطرحه صاحب الورقة . بعد هذا ينتقل صاحب الورقة إلى الحديث عن الوضع الاجتماعي للمثقف –وهنا بيت القصيد-هذا الوضع الذي يحلو لصاحب الورقة نعته بـ"الوضع الذي يعامل فيه كأيها كائن "و يتبع ذلك بعد نقطتين للحذف بما يلي :"فليس ثمة مسالك اجتماعية يفيد منها هنا وهنالك ،سواء على مستوى وظيفته ذاتها- و الأغلب في قطاع التعليم- أو في جانب المرافق اليومية المتعامل معها بشكل يومي روتيني قاتل ..." فما الذي يود ناقدنا المبجل أن يوصل إلى الأذهان؟و كيف يريد أن يعامله كل فرد أو إنسان ؟هل يريد أن تؤدى له التحية و الانحناءات على طول سبيله من قبل من كان ؟ حتى من قبل الجمادات ومن قبل الحمقى و الصبيان ؟ وهل علينا محاكمة الناس لأن لهم ما يحفلون به من أمور الدنيا وما يشغلهم،بعيدا عن الأوهام التي تخص منتجي "مصفوفات الكلام" و"مقاطع البيان"؟ و هل يريد صاحبنا أن توضع تحت تصرفه فيالق الحراس و الآلاف المؤلفة من الجواري الحسان ؟حتى يكتب و يبدع و يغذي الوجدان و يحشو الأذهان و يهدئ روع النفوس و يزرع في القلوب الإطمئنان و الآمان . إن مثل هذه الأقوال و الدعاوي ، إن كان لها مثل هذه المعاني ،و أتضرع لله أن أكون مؤولا سيئا للأقوال ،إن كان ذاك هو المراد فإني أنحاز كلية إلى الرأي الذي يجعل من "المثقف " منبعا لأزمته الأبدية نتيجة اعتناقه لتراجيدا تفوقه المؤسطر التي يؤلفها و يتقمص بطولتها بنرجسية منقطعة النظير . .... إن كان صاحبنا يريد ألا يعامل "كأيها كائن " و أن يعرفه الجميع في زمن دقة التخصصات و تناسلها ، و أن يبجله الكل ، فما عليه إلا أن يضع صدرية مرصعة باسمه و بعناوين كتبه التي لا يبلغ عددها أصابع اليد الواحدة وأن يتفرغ للمشي في الأسواق حتى يطلع عليها القاصي و الداني ممن يعرفون فك شفرة الكتابة . وفي آخر ورقته يحلو لصاحبنا إطلاق العنان للبعد المستقبلي في تفكيره ،واضعا جملة اقتراحات للمؤتمر بصيغة الوجوب ، إذ يقول في اقتراحه الثالث :"من حق الكاتب أن يعيش حياته لا أن يلبث في الظل (و الأنبياء ) في مقدمة الصفوف." في هذا الزمن زمن التواصل الذي لا يعرف حدودا و زمن المعرفة للكل، زمن التغيرات الجذرية الكاسحة و الانقلابات الوجودية التي لا تزداد إلا تعمقا ،لا زال" المثقف"أو بالأحرى " المثيقف"يريد أن يتبوأ درجة النبوة ، أو على الأقل النيابة على الآخرين في التفكير ،لقد فطن الفيلسوف الوجودي سارتر إلى ذلك منذ زمن بعيد مثله في ذلك مثل مشيل فوكو الذي يرى أن الزمن الذي كان فيه المثقف يقول الحقيقة للناس قد ولى ، لأنه لم يعد يعرفها أكثر منهم . ذاك هو رأي إثينين من " المعلمين الكبار في الزمن المعاصر " كانا بفعلهما النضالي يلهبان الآخرين ويقدمان القدوة و المثال في الالتزام ،في حين نجد " مثقفينا " ،خاصة أولئك الذين لا تكاد تسمع لهم أثرا في الالتزام بالمبادئ القيمية الكونية و لا في مضمار النضال من أجل استنباتها و تبيئتها و تأصيلها ، نجدهم رافلين في أحلام اليقظة المشوبة بسحابة فصامية ، في حلكة ظلماتها ينعمون باسترجاع فتات رأسمالهم الرمزي على ندرته التي تداني العدم ، رافضين فتح أعينهم المغمضة و تقوية بصرهم الحسير، وجلا من أن يعميهم النور الساطع من حقائق الراهن . أما أن يحيى "المثقف" حياته فما أظن أن للـ"المثقف" حياة خاصة ، تتعالى على معنى الخصوصية التي تسم حياة كل فرد وتفارقها، اللهم على سبيل المجاز و المبالغة المفرطة . أما الخروج من الظل، إلى وهج النور الكفيل بإزاحة الظلمة فيصنع بالفعل الثقافي الجاد و الإبداع الخلاق لا بترديد مقولة الفرادة و التميزالوهمية و الركون إليها ...،مع الكف عن ركوب الشخصي الضيق و التعلق بالمصلحي المبتذل و ما تتعالى عليه نفوس النزهاء و العقلاء ،و الإمعان في تأسيس الإطارات الخاوية التي لا يأتي ميلادها عاكسا لضرورة نابعة من إشكالات يعيشها المشهد الثقافي أو صيغة لتعيين و تحديد مفاصل هذه الإشكالات و العمل على حلحلتها ،بقدرما يأتي تعبيرا عن "الإخوانيات" و عن التقاء المصالح الظرفية لذلك تجدها لا تعمر طويلا ، و غالبا ما لا يسمع عنها إلا ضجيج التأسيس ؛لأن ما أوجدها هو نفس العلة التي تسرع بتقويضها و انتفائها. إن المتتبع و هو يفتح عينيه على هول الفداحة الثقافية التي نعيشها و التي يتركز محتوى تنويعاتها بأفضل ما يكون التركيز فيما ينتجه " المثقف" حول نفسه من خطابات ،هي أقرب إلى الخطاب الاستهامي منها إلى الخطاب الواقعي ، لا يملك إلى أن يعود بذاكرته إلى الماضي حيث كان المعلمون الموسوعيون الكبار قمة في التعطش إلى الاختفاء و العطاء الأصيل بعيدا عن وهج الشهرة الزائف و قد أصاب أحدهم كبد الصواب ،و هو الفيلسوف المفتتح للحداثة ديكارت ،حين نطق بحكمته الخالدة :" عاش سعيدا من أحسن الاختفاء " يضاف إليه سبينوزا الذي رفض حتى المنصب الذي أسند إليه للتدريس في جامعة هايدلبرغ سنة 1673 ، زاهدا في كل شيء ضامنا قوته من صقل البلورات ، دون أن يحيد قيد أنملة عن الهدف الأسمى أي صقل العقل و التأمل الإنسانيين من خلال كل كتبه ككتاب الأخلاق و رسالة في إصلاح العقل و رسالة في اللاهوت و السياسة ، مؤثرا بذلك الخلود البعدي لا السير خيلاء في مسارات اللحظي السريعة الزوال ، ثم كانط فيما بعد ، هذا الفيلسوف الطهري الذي ترك معينا فلسفيا لا ينضب نظريا و أخلاقيا على وجه الخصوص، و هو المعين الذي لا زالت عقول الإنسانية تنهل منه وقودا لتأملاتها فيما يستجد من إشكالات إثيقية في راهنها ، وقد صدق حين قال بعمق حكمة و نافذ تبصر : "أن يتعاطى الملوك الفلسفة ، أو أن يصبح الفلاسفة ملوكا ، هذا أمر غير متوقع ، لكنه أيضا غير مرغوب فيه :لأن امتلاك السلطة يفسد لا محالة حكم العقل الحر "، قبل أن يصبح امتهان الثقافة مجرد مطية ليس لامتلاك السلطة ، بل فقط لاستجداء رضاها في هذا الزمن المغربي الرديء. و إذا كانت قبيلة " المثيقفين " لا تحسن إلا الاستعلاء عن من يتحددون في عرفها كغوغاء و دهماء و تتفنن في تسويد الخطابات حول تفوقها عن عموم الشعب أو ما كان يسمى منذ القديم في ألفاظ لغتنا البارعة في شرعنة التراتبية بـ"السوقة و الرعاع"، فإن كانط في شق فلسفته الأخلاقي الذي لا زالت قيمته دائمة التجدد ، قد انطلق من أخلاق الرجل البسيط " أخلاق الاسكافي "؛ وهو ما يؤكده في كتابه " نقد العقل العملي" في الصفحة 52 (من الترجمة العربية التي أنجزها غانم هنا عن الأصل الألماني و الصادرة عن المنظمة العربية للترجمة سنة 2008)بقوله :"لا يقلقني بشيء (..)الاعتراض القائل بأنني أريد إدخال لغة جديدة ، ذاك أن نوعية المعرفة هنا تقترب هي ذاتها من الشعبية .........إن اختلاق كلمات جديدة حيث لا تفتقر اللغة إلى هذا الحد من التعابير لمفاهيم معطاة هو سعي سخيف وراء التميز عن الجمهور ،إن لم يكن بأفكار جديدة و صحيحة ،فعلى الأقل بخرقة جديدة تلصق على ثوب عتيق ." إن هؤلاء العظام الذين ذكرناهم لا زالت الألسن تردد أسماءهم في كل جامعات العالم وخارجها ،وما انفكت التأويلات تتناسل قبالة ما أنتجوه ، يوم كان الإنتاج الفكري إنتاجا فعلا وقوة في ظروف قاسية على أكثر من صعيد ، ومع ذلك حين ينعم عليك القدر بتصفح كتبهم فإنك تتذوق بالفعل ملح العناء في الإنتاج الفكري ،مما يدفعك كقارئ إلى بذل الجهد و يرغمك على التحمل و الصبر كي تكون جديرا بعناء القراءة ، فكتبهم هي فعلا كتب لهم من ألفها إلى يائها ،إذ لا يشوب صفاءها اقتطاعات لأقوال الغير ، و ما يكون من هوامش ،إنما يأتي لمزيد توضيح ، أو إظهارا و تصريحا بما ورد في المتن رمزا وما كان في نسيجه مضمرا ، قبل أن ينقلب التأليف في هذا الزمن الرديء إلى مجرد"قص" و " إلصاق" إلى الدرجة التي غاب فيها البعد التركيبي ووحدة الرؤية عن من يحسبون أنفسهم مؤ لفين و هم في ذلك واهمون ، فقد تجد في المؤلف الواحد ، بل حتى في الصفحة الواحدة منه ،أكثر من استشهادين متناقضين كليا ، لأن "القاص "و "اللاصق" و ليس المؤلف ينفر من العناء و يستلذ اليسر ، و يستعذب اقتراب ظهور " مؤلفه الأرخبيل " حتى ينعم بالظهور و يوزع الابتسامات و يحبر، في كامل الاعتداد بالنفس، التوقيعات على مادة أكثر من ثلثيها ليس له ،بل حتى في هذين الثلثين ، لم يأخذ وقته الكافي في تمثل وفهم مضمون محتواهما قبل أن "يقصه" و" يلصقه"،ومن استبد ت به الأشواق للمفارقات المستعصية على الحل ،و سكنت جنبات رأسه الصبابة لتجديد الوصال مع الصداع النصفي ،فما عليه إلا اقتناء ما يسميه كتاب(ـه) تجاوزا، دون أن يرف له جفن أو يغمره قليل حياء . و الأنكى من كل هذا أن تحمل سفينة "عملية القص و اللصق" نفرا من غير المسكونين بهم السؤال و هوى البحث عن الحقيقة و لا بالرغبة في إفادة الآخرين كي تحط بهم أخيرا ، وقد ألصقت بأسمائهم صفة "دكتور" ، في ميناء الجامعات المغربية ،ليتفرغوا بعدها ليس للبحث عن الجديد و تعميق مسارات الإضافة الكمية و الكيفية في ميدانهم العلمي و حقلهم المعرفي بما يعود بالنفع على طلبتهم و مجتمعهم ،بل لأشياء أخرى ، ليستحيل بذلك منصب الأستاذ الجامعي إلى عصا موسى ، بها يوجد أصحابنا في موقع حملة الخطاب العلمي و منتجيه عرضا و شكلا لا جوهرا و مضمونا ،و لهم فيها مآرب أخرى منها التفتيش عن اللذة بالنسبة لمن في قلوب مرض منهم . إن الحديث في هذا الموضوع و عنه لهو حديث ذو شجون ،مما يظهر أن الإفادة الوحيدة التي يقدمها أغلب "المثيقفين "في هذا البلد العزيز ، ليست هي الإفصاح عما يلم بذاتنا الجمعية من الآلام و ما يحركها من آمال و أحلام ، عاملين على التشخيص الواقعي للأولى ، و إضفاء القابلية للعقلنة و السترجة و من ثم الأجرأة في الأفق المنظور بالنسبة للثانية ، بقدرما هي تلك الإفادة المتعلقة بالتقديم التكثيفي و التركيزي الراشح الفاضح لكل الأدواء و الأعطاب التي يعانيها " النحن المغربي " و العمل على عرضها في مساحة مكتنزة بالمرض . مع هؤلاء و أمثالهم أصبحنا في و ضع لا تحسن التعبير عنه إلا عبارات للفيلسوف السياسي ليو ستروس حين قال : نصبح "حكماء فيما يتعلق بكل الشؤون ذات الأهمية الثانوية " "لكننا يجب أن نسلم أنفسنا للجهل الكامل فيما يتعلق بكل الشؤون الأكثر أهمية " مما يفضي إلى نتيجة متناقضة بذاتها وهي أننا"أصبحنا في موقع العقلاء و الحكماء حين ننشغل بأمور تافهة ،لكننا نقامر كالمجانين إذا واجهتنا قضايا جادة :الحكمة بالتقسيط و الجنون بالجملة.........."
#يحيى_بوافي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بيان لأجل كسر طوق الوصاية
-
من اليبرالية إلى -الروبلة-
-
نداء شبق
-
بروفيل :شاعر ليس كغيره من الشعراء
-
رحيل الجابري
-
المواطن المغربي و حلم الإشراك الجهض
-
تدريس الفلسفة بالثانوي بين لوك فيري و أ.ك.سبونفيل
-
فنون الإعراض عن التنمية
-
للضرورة أحكام
-
بياض ضد فيروس السلطة
المزيد.....
-
مزارع يجد نفسه بمواجهة نمر سيبيري عدائي.. شاهد مصيره وما فعل
...
-
متأثرا وحابسا دموعه.. السيسي يرد على نصيحة -هون على نفسك- بح
...
-
الدفاع الروسية تعلن حصيلة جديدة لخسائر قوات كييف على أطراف م
...
-
السيسي يطلب نصيحة من متحدث الجيش المصري
-
مذكرات الجنائية الدولية: -حضيض أخلاقي لإسرائيل- – هآرتس
-
فرض طوق أمني حول السفارة الأمريكية في لندن والشرطة تنفذ تفجي
...
-
الكرملين: رسالة بوتين للغرب الليلة الماضية مفادها أن أي قرار
...
-
لندن وباريس تتعهدان بمواصلة دعم أوكرانيا رغم ضربة -أوريشنيك-
...
-
-الذعر- يخيم على الصفحات الأولى للصحف الغربية
-
بيان تضامني: من أجل إطلاق سراح الناشط إسماعيل الغزاوي
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|