|
مرض عضال اسمه الغباء الخطابي العربي
أحلام طرايرة
الحوار المتمدن-العدد: 4171 - 2013 / 8 / 1 - 16:28
المحور:
القضية الفلسطينية
قد نفهم أسباب التجاهل غير العربي للقضية الفلسطينية ولروايتها الفردية على وجه الخصوص ولكنه من الصعب أن نفهم استمرار الغباء الخطابي العربي بنفس وتيرته والذي نلمسه في التغطية الإعلامية والأعمال الفنية لقضايانا، والقضية الفلسطينية تحديداً. ففي الوقت الذي تستثمر فيه إسرائيل حدثاً كسقوط ماسورة صرف صحي تم حشوها بمواد متفجرة في حديقة منزل بمستوطنة اسرائيلية لتروي عشرات القصص الفردية "المؤثرة" على شاشات التلفزة العالمية كهلع امرأة حامل كانت تعدّ وجبة غداء لأطفالها الذين كانوا على وشك العودة من مدارسهم، أو حالة الإنطواء التي تعانيها قطة العائلة منذ حادثة سقوط الماسورة التي يسمونها صاروخاً، فيما تسقط صواريخ حقيقية تزن آلاف الأطنان لتسوّي بيوتا بالكامل بالأرض في قطاع غزة وتقتل جميع سكانها بما فيهم من أطفال ونساء فتكون روايتنا الإعلامية اليتيمة هي: "استشهاد عشرة/اربعة عشر/عشرين/ثلاثين في غارة اسرائيلية" ويمر الخبر لنتحمّس لخبر آخر يتغيّر فيه عدد القتلى فقط وكأننا في سباق محموم نتوق فيه لسقوط عدد أكبر من الناس لنقول ونثبت (لا أعرف لمن) أن اسرائيل متوحشة. ودون أن نفكّر ولو لجزء من الثانية، ماذا كان اسم تلك الفتاة الصغيرة القتيلة ذات الشعر البني؟ ماذا كانت تفعل قبل سقوط الصاروخ بلحظات؟ بماذا كانت تفكّر؟ بماذا كانت تحلم؟
نعم، لا زال الخطاب الإعلامي العربي يجهل وباستحقاق كيفية مخاطبة الضمير الإنساني في شعوب الأرض. فلقد اعتاد العربي أن يكابر ويفاخر وأن يظهر قوة وبأسا حتى ولو كذبا، ولكنه ينسى أن هذا النمط الحياتي الذي ينجح محليا ليس صالحا خارج حدود بلاده، وأن عليه أن يفهم لغة الأقوام الأخرى حتى يفهم أبجديات مخاطبتهم. والمقصود باللغة هنا هو العامل المؤثر الذي يجذب من أمامك ليستمع لك ويقتنع بروايتك ومن ثم أن يسردها للآخرين بروحٍ داعمة ومؤيدة. الاسرائيليون ناجحون جداً في ذلك، يعرفون مفاتيح الوصول لقلوب الناس خلف الشاشات مع أنهم الأقوى على الأرض والأكثر عدّة وعتادا وعنجهية وتدميرا. فقد يجعلك تقرير اسرائيلي إخباري صغير أن تتعاطف مع جندي إسرائيلي أبعدته حرب غزة عن حبيبته، فيما تتلطخ يديّ هذا الجندي ورفاقه بأيدي الآف الأطفال الفلسطينيين الذين لم يكن لهم في هذه الحرب لا ناقة ولا جمل، سوى أن شيئا ما قدّر لهم أن يكونوا في هذه البقعة من الأرض في هذا الوقت تحديداً!
وتعرض شاشاتنا العربية صور جثث هؤلاء الأطفال مع التشديد الشديد على عددهم، دون أن يخطر ببالهم حتى أن يذكروا ولو اسما واحدا لأحدهم... فلا زلتُ أذكر ذلك اليوم الذي عرضت فيه قناة عربية لامعة في مجال التغطية الإخبارية تقريرا لسقوط 4 أخوات صغيرات في غارة جوية اسرائيلية على غزة، فركز تقرير القناة على عدد الشقيقات وعلى الصورة العامة للمشهد، أناس كثيرين منهم من يبكي ومنهم من يصرخ ويتوعد وسط الدمار والجثث؛ هو المشهد عينه الذي حرصت هذه القناة أن نألفه جيدا حتى هذه اللحظة. لكن بالمقابل عرضت القصة ذاتها قناة بريطانية ناطقة بالعربية بطريقة مختلفة تماما فبدأ التقرير بأسماء الشقيقات مع وقفة حذرة بين كل اسم واسم وعرض لوجه الطفلة التي تحمله فيدرك المشاهد – الذي ضاع تركيزه وسط كثرة مشاهد الدماء والدمار- وفي فرصة زمنية لأقل من جزء من الثانية أن هناك اسم، أي إنسان من لحم ودم وراء كل رقم. أتذكر كم هالني الفرق بين التقريرين، والهوة الكبيرة التي تفصل بين الخطابين.
وتنطبق النظرية على معظم الأعمال السينمائية والمسرحية والتلفزيونية العربية على ضآلة عددها، والتي كانت ضئيلة وجدانيّا وفكرياً أيضا ولم تهتم سوى بسرد التواريخ والأرقام والأحداث التي طالت الناس كجماعة واحدة دون التطرق ولو من بعيد للبعد الإنساني الفردي الذي من شأنه أن يسرد كل ذلك من خلال نثريات القصة الدقيقة التي تشدّ انتباه الناس وتحتفظ به حتى آخر مشهد. لم تعرض الدراما العربية طوال سنوات المعاناة الفلسطينية سوى الأرقام والتواريخ الدقيقة للأشياء ونسيت أن وراء كل رقم من هذه الأرقام اسم وقصة إنسانية فريدة لا تشبهها أي قصة أخرى... ولم يتنبهوا أن المحرقة اليهودية تحوّلت لقضية ضمير إنساني لأنها نجحت أن تخاطب الضمير الإنساني الفردي بعيدا عن هوية المزعوم حرقهم أو دينهم، لكنها في ذات الوقت كانت تعود بهذا الضمير الإنساني الفردي إلى حيث حقيقة أن هذا الاسم وهذه القصة هي ليهودي. نحن العرب فشلنا في فهم الدروس وحرصنا أن نخاطب العالم باللغة التي لا يفهمها أحد غيرنا، لغة المكابرة. ولم يستوقفنا أن القصص الفلسطينية التي ضربت جذورها في الضمير الإنساني كانت تحمل أسماءً. ونسينا وسط هوسنا الرقمي أن وراء كل رقم كانت هناك حياة كاملة، كان هناك إنسان مثلنا، وظلمنا كل قتلانا وجرحانا ومعوّقي حروبنا بجهلنا وجعجعتنا ولم نسرد قصصهم لأحد أبدا... لم نفلح إلا بأن نحولهم لرقم ليس إلا. ولنتذكر أن القصة الفلسطينية للصراع العربي الصهيوني بدأت تصل للعالم على لسان غير العرب من الأجانب الذين جاؤوا لفلسطين لسبب أو لآخر وصدموا بالواقع فسردوها بلغتهم، اللغة التي تفهمها شعوبهم وكانوا يعودون بشعوبهم لحقيقة أن هذه القصة الإنسانية هي لفلسطيني. والشكر لوسائل الإعلام البديلة ومواقع التواصل وليس للإعلام العربي ولا للأعمال الدرامية العربية.
لكن يجدر بالذكر أن من الأعمال العربية النادرة كان "التغريبة الفلسطينية" وقد كنت تحدثت عن هذا المسلسل في سياقٍ آخر في مقالة سابقة، لكني هنا أتطرق لخصوصية هذا العمل الفني وتميّزه الفريد عن بقية الأعمال التي تناولت القضية الفلسطينية كحصة مدرسية في التاريخ، وحصص التاريخ عادة ما تكون مجردة مملة خالية من أي حس إنساني كان من الممكن أن يجذبك لسماع القصة لو كان موجودا. فوسط ذهولنا جميعاً، صغيرنا قبل كبيرنا، جاءت "التغريبة الفلسطينية" على شكل مسلسل سرد تفاصيل صغيرة جدا للبعد الإنساني للنكبة الفلسطينية. تفاصيل جعلتنا نعيش الألم كأنه حدث للتو. حتى نحنُ- الجيل الذي لم يعش تجربة التهجير الكبيرة عام 48- استحضرنا ذاكرتنا الجمعية مع حاضرنا المنكوب لنبكي كل لقطة كانت تروي ألما ما لشخصية ما. كلنا، حتى أولئك الذين لم يعيشوا تجربة اللجوء، تابعنا المسلسل وعشناه كقضية فردية بامتياز تمسّنا نحن شخصياً. لهذا رسخ هذا العمل عميقا في وجداننا، ولهذا لا يزال موجعا، فقد مسّ الإنسان الفلسطيني فينا، وليس الفلسطيني وحده!
نحن بحاجة للغة تشبه لغة التغريبة، ولفلسطينيين وعرب يتحدثون لغة الضمير الإنساني العالمية، ويفهمون جيدا أن مخاطبته هي جزء مهم جدا من النضال ضد الاحتلال الصهيوني لفلسطين وضد سياساته التعسفية. نعم، مهم أن نذكر أن ما يزيد عن ال1300 فلسطيني مهددين بالترحيل من بيوتهم وأرضهم التي يسكنوها منذ 33 عاما في جنوب الضفة الغربية لأن الجيش الاسرائيلي قرّر إعلانها منطقة عسكرية مغلقة، لكنه مهم جدا أن نبدأ القصة بالحديث عن تفاصيل حياة طفل صغير يسكن هناك في خضم هذه التهديدات وأثر التدريبات العسكرية على حياته ونموّه النفسي وشخصيته وماذا يعني أن يُهجّر هذا الطفل قصرا من بيته وماذا تعني تجربة كهذه بالنسبة له هو كطفل صغير. نحن ببساطة بحاجة أن نؤنسن قصصنا.
#أحلام_طرايرة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أنا زلمة!
-
حسن وجميلة، حيث وُلدت النكبة
-
الإخوان المتخفّين بقناع (حماكِ الله يا مصر!)
-
بلاد الموت قهراً هي بلادي
-
سّحل الجثث يدوم ما دام القتل شرعياً
-
مع براعم وضدّ طيور الجنة.. أطفالنا بين الحياة و الموت
-
كذبة الفقر والفقراء.. إحدى أكبر كذبات التاريخ!
-
هناك مدّعين بيننا فاحذروهم!
-
أن تكون فلسطينياً- اسرائيلياً !!
-
هذه الأرض المقدسة، هل هي حقاً مقدسة؟
-
أيّ خلافة إسلامية ينتظرون؟؟
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
الحوار الوطني الفلسطيني 2020-2024
/ فهد سليمانفهد سليمان
-
تلخيص مكثف لمخطط -“إسرائيل” في عام 2020-
/ غازي الصوراني
-
(إعادة) تسمية المشهد المكاني: تشكيل الخارطة العبرية لإسرائيل
...
/ محمود الصباغ
-
عن الحرب في الشرق الأوسط
/ الحزب الشيوعي اليوناني
-
حول استراتيجية وتكتيكات النضال التحريري الفلسطيني
/ أحزاب اليسار و الشيوعية في اوروبا
-
الشرق الأوسط الإسرائيلي: وجهة نظر صهيونية
/ محمود الصباغ
-
إستراتيجيات التحرير: جدالاتٌ قديمة وحديثة في اليسار الفلسطين
...
/ رمسيس كيلاني
-
اعمار قطاع غزة خطة وطنية وليست شرعنة للاحتلال
/ غازي الصوراني
-
القضية الفلسطينية بين المسألة اليهودية والحركة الصهيونية ال
...
/ موقع 30 عشت
-
معركة الذاكرة الفلسطينية: تحولات المكان وتأصيل الهويات بمحو
...
/ محمود الصباغ
المزيد.....
|