|
الانطفاش الإعلاماواتي الحنكليشي
فيصل القاسم
الحوار المتمدن-العدد: 1194 - 2005 / 5 / 11 - 10:40
المحور:
الصحافة والاعلام
ابتـُليت الساحات العربية الفكرية والثقافية والإعلامية في الأعوام الماضية برهط من "المفكرين والمثقفين والإعلاميين" الذين ملأوا الدنيا ضجيجا بأفكارهم "الانحساطية" ولغتهم "الانكحاشية". وأرجوكم لا تحرجوني، فلا علم لي بمعنى أي من الكلمتين السابقتين. وإذا أردتم أن تأخذوا المعنى مباشرة من فم الفرس "الطوحاتية" عليكم الاتصال بوكلاء هذه المصطلحات "الانقصافية المرساحاطية"، فهم أدرى بمكنوناتها وانعطافاتها المنطاشاتية. كيف لا وهم الذين يصدّعون رؤوسنا بها على صفحات الجرائد والمجلات خاصة أقسامها "الثقافاتية" أو على شاشات الفضائيات العربية "المنسيفيحاتية". وإذا تجرأت واستفسرت عن أفكار ومفردات هؤلاء فهم يواجهونك مباشرة بتهمة الجهل والتحجر "والتفنفع الانعشاقي"، فعليك أن تصعد إلى مستواهم أولا قبل أن تتنطع بسؤالهم عن فحوى خطابهم "الانجعاري المتحوقش في دعسيات المرطنوشة البربرطورية الشحارية القابعة في رمز المسافاتي العشيلي". ويعتقد أصحاب هذا المذهب الإعلامي و"الثقافاتي" أنهم سابقون لعصرهم المتصدع من فرط "العشونة البلبقائية". إنهم بامتياز العلاكون في الأرض! لو اقتصر وجود هؤلاء على المجلات والجرائد والكتب لقلنا ماشي الحال، فاللغة المكتوبة لها طقوسها ووضعها الخاص، وبإمكان القارئ أن يعود إلى الجمل والمفردات العويصة المرة تلو الأخرى حتى يهضمها في النهاية، مع أنها في واقع الأمر عسيرة الهضم على العقل والمعدة على حد سواء. فهي كالحصى الصّوانية بحاجة إلى كسارة حجارة كي تفتتها وتحولها إلى "رمل مهضوم ". لكن المصيبة "العنصواسية" أن هذا النفر من "المثقفين والإعلاميين" تغلغل في وسائل الإعلام المسموعة والمرئية وخاصة في القنوات الفضائية بشكل مخيف. فهناك متحدث "سياساتاوي" شبه رسمي باسم إحدى الدول العربية يُعتبر من أركان هذه المدرسة "الإعلاماتية التشفطية". فلو أراد صاحبنا "الفلسفاتي" مثلا أن يقول لنا في نشرة أخبار ما معناه إن العلاقات قد تحسنت بين هذه الدولة أو تلك، فهو لا يرضى باللغة المفهومة التي تصل إلى الجميع بسرعة الهواء الذي تطير على جناحيه، بل يلجأ إلى ابن خلدون وماركس ونيتشه وجان جاك روسو وابن خال أفلاطون وجدة سقراط وحماة ابن رشد وجار الفارابي وابن عم خالة امبيرتو إيكو "وسلوبودان "البقلاني الذي عاش في بلاد البلقان قبل أن يخلق الرهبان في قديم الزمان"، ناهيك عن كتاب الأغاني للأصفهاني والإلياذة الإغريقية و"الاستشراق السعيدي" والشرق "البرناردي لويسي" نسبة إلى برنارد لويس و "المستشاع الشعايبي" وغيرها من المؤلفات "الطواروبية المستلهقة من وحي زوماع الابريشاني" القائل بمبدأ "إسطح ولا تشطح". ولو كانت الفكرة التي يريد أن يعبر عنها صاحبنا "الفلسوفاشاني" أعمق قليلا من تلك التي تتحدث عن تحسن العلاقات بين البلدين لغاص في أعماق أعماق التاريخ والجغرافيا وعلم النفس المنبعث من "رومازيات المقريطاشي". فإذا أراد مثلا أن يقول لنا إن الثلج أبيض، لدار حول الموضوع ولف ساعات بأكملها كي يوصل لنا فكرته "النوراناتية الثلجية". لاحظوا كيف يعبر عن بياض الثلج: " إن التحفش الماركسي القائم على دعائم البلاد المنضوية تحت لواء "السافاط" قد يبدو لنا من الناحية المرئية سائحا شبه أبرص مائلا إلى البياض الرخوي في غراب البلهاء الرطاوي، لكن النظرية الميتافيزيقية التي ترتكز على هذا العلم البيضوي قد تقول عكس ذلك تماما، فالأسود غير الأبيض والأبيض غير الأسود، مع وجود درجات ملتوية من عنفوان القارة الملتبسة في ضنايا الشائع دائما وأبدا المعروف أصلا وفصلا في بلاد الواق واق بسندوف الأبيض. إنه الثلج بلونه المتبلد من رحم الزورقة القاسعة للشتاء وما ينزل فيه من سواد غائم وثلج بائم يقوم في بدايته على الروائع المليئة بأشجار السرو التي يقيمها الانجليز أيام عيد الميلاد في زوايا منازلهم القالعة زوطا وبياضا احتفالا بميلاد السيد المسيح. باختصار مختصر، فإن الثلج لونه أبيض من نوع آخر مختلف تماما عن البيض المسلوق والمقشور في خميس البيضات الذي قد يصادف أحيانا في غير موعده، كأن يحل مثلا في يوم الثلاثاء بدلا من الخميس. وكي لا أطيل عليكم أيها المشاهدون الأكراماتيون فإن الثلج لونه أبيض بلا لف أو دوران". والغريب في الأمر أن هذا المغوار "الإعلامنجي" وأمثاله مستمرون في مهمتهم الإعلامية هذه منذ زمن، لا.. بل يزدادون قوة وجبروتا و"تقوحشا" يوما بعد يوم وكأنهم يقولون لمنتقديهم "اللي مش عاجبه يشرب من مية البحر الانحطاشي الواقع في غرب القارة المندشيفاتية الروباماتية". "وشو.. أدونيس أحسن مننا يعني؟ "
ألم يسمع أخونا وأمثاله بأن اللغة الإعلامية وخاصة التلفزيونية هي لغة خاصة وحديثة جدا، فهي لا تعود حتى إلى بدايات البث التلفزيوني، بل إلى الأعوام القليلة الماضية فقط حيث بدأ العرب يدخلون فعليا زمن التلفزيون الحقيقي. أما التلفزيونات العربية التي بدأت البث في سبعينات القرن الماضي وقبله فكانت تلفزيونات بالاسم فقط ولا تمت إلى لغة التلفزيون الحديثة بصلة. فاللغة التلفزيونية لغة بسيطة للغاية وجملها قصيرة جدا وهي أشبه بصواريخ موجهة لا تخطئ هدفها إلا فيما ندر. بعبارة أخرى فهي سهلة الهضم والوصول إلى المتلقي ولو تعقدت قليلا وتقعرت لأصبحت عديمة الفائدة والقيمة تماما، فالمشاهد أو المستمع لا يستطيع أن يعود إلى الجملة التي لم يفهمها، فهي تطير كالهواء الذي يحملها. أما القارئ، كما قلت، فبإمكانه أن يعود إلى الجمل والعبارات الغامضة وغير المفهومة. هل يُعقل أن يكون المتحدث السياسي شبه الرسمي لهذه الدولة أو تلك "أستاذ فلسفة" أو بالأحرى متفلسفا "علاكا" مثلا؟ بالطبع لا. فهذه إساءة كبرى ليس للمشاهد فحسب بل للدولة التي يتحدث باسمها. هل انقطع نسل المتحدثين القادرين على التواصل مع المشاهد والمستمع في هذا البلد العربي أو ذاك؟ لماذا لا تدرب الدول العربية عددا كبيرا من المتحدثين على مواجهة وسائل الإعلام والتواصل معها بدلا من أن يحتكرها شخص سفسطائي يفهم في الإعلام كما أفهم أنا في الطب النووي؟ إننا نعيش في عصر المعلومة السريعة وليس في عصر "الانشطاح القروسطي".
لقد تمكن شخص مثل بنيامين نتنياهو من الوصول إلى منصب رئيس الوزراء في إسرائيل ليس لأنه عبقري في السياسة، بل لأنه كان بارعا جدا في اللغة التلفزيونية. فقد أتقن فن التواصل مع وسائل الإعلام بدرجة مخيفة. وكان رهيبا جدا في استخدام ما يُعرف في اللغة الإنجليزية بالـ "Soundbite" وهي عبارة عن جملة قصيرة مرصوصة ومحبوكة جيدا ومعبأة سياسيا تنطلق كالسهم إلى المشاهد الذي يهضمها في الحال ويستوعبها ويتأثر بها حتى لو كانت ضد قناعاته، لكنها تخترقه كما يخترق الرصاص الجسد. هكذا نجح نتنياهو في الوصول إلى سدة الحكم في إسرائيل في وقت من الأوقات، فقد أسعفته مهارته الإعلامية إسعافا هائلا في ذلك إلى حد أن أحدهم علق قائلا: "إن الفضل في تبوؤ نتنياهو أعلى منصب سياسي في الدولة العبرية يعود إلى قناة "السي أن أن" الأمريكية، فهي التي قدمته للعالم وهي التي شهرته وهي التي صنعت منه نجما ومعلقا تلفزيونيا خطيرا". وبما أن فن التواصل الإعلامي هو نوع من السياسة، فقد وصل نتنياهو بموجبه إلى هدفه السياسي. فالقدرة على التأثير في الجماهير في الغرب إعلاميا كافية للوصول بصاحبها إلى أعلى المناصب. فقد وصل الممثل الأمريكي الشهير رونالد ريغان إلى منصب الرئاسة في الولايات المتحدة ليس بفضل براعته السياسية، فهو أخرق سياسيا، بل بفضل مهارته في التواصل مع الناس، حيث كان يقول دائما: "ليس المهم ما تقول، بل المهم كيف تقول ما تقول". وقد نجح بعض الصحفيين العرب في الاستفادة من هذه النظرية الإعلامية فأبلوا بلاء حسنا في الوصول إلى ملايين المشاهدين بالرغم من أنهم ليسوا عميقين أو متفلسفين بالمعنى الأكاديمي في طروحاتهم ولا تتعدى المفردات التي يستخدمونها في حواراتهم التلفزيونية بضع مئات من الكلمات، لكنهم يعرفون جيدا كيف يوظفونها.
وكم يأخذ علينا بعض المتفذلكين أننا لا نقدم دائما برامج تليفزيونية "عميقة" دون أن يعلموا أن للتلفزيون لغته الخاصة التي لا يمكن أن تكون غارقة في الغموض والعمق المصطنع. فالبرنامج التلفزيوني الناجح هو الذي يصل إلى المشاهدين بسهولة وسرعة وليس ذاك الذي يجعلهم يغطون في نوم عميق. فالتلفزيون ليس "للفلاسفة والمتفكرين الانعطاشيين"، بل للقادرين على استغلاله للوصول بأفكارهم وطروحاتهم إلى أكبر شريحة من الناس. التلفزيون ليس بحاجة إلى أدونيس أو دي أتش لورانس. بعبارة أخرى لا تنفع "الأكاديميا" مع التلفزيون. وأتحدى أي برنامج تلفزيوني من النوع الأكاديمي يستطيع أن يجذب أكثر من بضعة مشاهدين بمن فيهم عائلة مقدم البرنامج وأولاد الضيف وحرمه المصون وطبعا المخرج ومهندس الصوت.
وحتى في الكتابة لم يعد مطلوبا أن تكون متقعرا ومتفلسفا كي تكون عظيما ومتميزا، فلغة الإعلام وحتى الجامعات والبحوث في الغرب غدت لغة سهلة وبسيطة جدا. وأتذكر أنني عندما ذهبت إلى بريطانيا للتحضير لشهادة الدكتوراه في الأدب الإنجليزي قبل سنوات؛ حاولت أن أثير إعجاب المشرف على أطروحتي الجامعية بكتابة بحوثي بلغة إنجليزية متقعرة وغريبة، فكان يسخر مني دائما ويقوم بشطبها وتغييرها تماما قائلا لي: "هذا هراء! عليك أن تكتب بلغة بسيطة ومفهومة". فكنت أقول له: "لكنني أكتب رسالة دكتوراه، وهذا يتطلب لغة عميقة وجزلة"، فكان يضحك ويقول: وهل تعني الدكتوراه أن تكتب كلاما لا يفهمه القارئ أو يستصعبه؟" وفعلا وجدت نفسي بعد فترة أتخلص من مفرداتي "القرعوجاتية" المتحذلقة وبدأت أستخدم الكلمات البسيطة حتى عندما كنت أريد أن أعلق على نص شكسبيري أو فلسفي. فما الفائدة أن أعرض بضاعة ليس هناك من يشتريها بفلس واحد؟ فهل ينتبه بعض الكتاب والصحفيين والمتحدثين شبه الرسميين باسم بعض الدول العربية إلى هذه الناحية ويتوقفون عن "تفلسفهم الإعلاماواتي الحداثاوي الحنكليشي؟"..
#فيصل_القاسم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الحرس القديم .... يادادا
-
الحاكم العربي وعُقدة كوريولانوس
-
تدويل العرب!
-
بلادي وإن جارت علي لئيمة!
-
فيفا أوكرانيا...فيفا أوكرانيا!
-
الصفر الوطني والصفر الاستعماري
-
باي باي إصلاحات
-
متى نتخلص من عقدة القائد التاريخي
المزيد.....
-
الحوثيون يزعمون استهداف قاعدة جوية إسرائيلية بصاروخ باليستي
...
-
إسرائيل.. تصعيد بلبنان عقب قرار الجنايات
-
طهران تشغل المزيد من أجهزة الطرد المركزي
-
صاروخ -أوريشنيك-: من الإنذار إلى الردع
-
هولندا.. قضية قانونية ضد دعم إسرائيل
-
وزيرة الخارجية الألمانية وزوجها ينفصلان بعد زواج دام 17 عاما
...
-
حزب الله وإسرائيل.. تصعيد يؤجل الهدنة
-
مراسلتنا: اشتباكات عنيفة بين مقاتلي -حزب الله- والقوات الإسر
...
-
صافرات الانذار تدوي بشكل متواصل في نهاريا وعكا وحيفا ومناطق
...
-
يديعوت أحرونوت: انتحار 6 جنود إسرائيليين والجيش يرفض إعلان ا
...
المزيد.....
-
السوق المريضة: الصحافة في العصر الرقمي
/ كرم نعمة
-
سلاح غير مرخص: دونالد ترامب قوة إعلامية بلا مسؤولية
/ كرم نعمة
-
مجلة سماء الأمير
/ أسماء محمد مصطفى
-
إنتخابات الكنيست 25
/ محمد السهلي
-
المسؤولية الاجتماعية لوسائل الإعلام التقليدية في المجتمع.
/ غادة محمود عبد الحميد
-
داخل الكليبتوقراطية العراقية
/ يونس الخشاب
-
تقنيات وطرق حديثة في سرد القصص الصحفية
/ حسني رفعت حسني
-
فنّ السخريّة السياسيّة في الوطن العربي: الوظيفة التصحيحيّة ل
...
/ عصام بن الشيخ
-
/ زياد بوزيان
-
الإعلام و الوساطة : أدوار و معايير و فخ تمثيل الجماهير
/ مريم الحسن
المزيد.....
|