أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - منير العبيدي - دور اللغة في التاريخ















المزيد.....


دور اللغة في التاريخ


منير العبيدي

الحوار المتمدن-العدد: 1193 - 2005 / 5 / 10 - 11:17
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


صنمية المفاهيم ودورها المعرقل للتطور
في خاتمة القسم الاول من موضوع "الديمقراطية اللبرالية وتيارات الفكر السياسي العراقي المعاصر" , وعدتُ القارئ بكتابة الحلقة الثانية عمّا أسميته " صنمية المفاهيم " و " والموقف من الشعارات " وقد أوردتُ في نهاية الحلقة الاولى من الموضوع العبارة التالية : " ان الامر يتطلب أيضا اعادة تقييم المفاهيم التي اكتسبت صنميتها إرتباطا بالادلجة وكذلك تقييم الشعارات التي لاتحظى بأي تفهم من الجيل الجديد , وعن هذا ستكون الحلقة الثانية من هذه الدراسة".
وها أنا اكتب فيما يلي الحلقة الثانية.

* * * *

قبل الخوض في هذا الموضوع , أي موضوع نشأة المفاهيم كأحد الاشكال العليا لتطور اللغة , ومن ثم إنفصالها عن الواقع أولا , ثم عن ذاتها ثانيا , سأعرج على نقاط مهمة أثارها بعض الاصدقاء والقرّاء وهي في نهاية المطاف ليست معزولة عن الموضوع الذي نحن بصدده أي موضوع اللغة و المفاهيم وهذه النقاط هي :
اولا : الصعوبة التي واجهت البعض في فهم الموضوع السابق دفعتهم الى الاعتقاد بان بإمكان الموضوع أن يكون أكثر سلاسة وسهولة باللجوء الى المزيد من التبسيط . والحقيقة أن الصعوبة الناشئة في أية كتابة مرتبطة بالدرجة الاولى بصعوبة الموضوع نفسه والذي يتيح قدرا محدودا من التبسيط , فالموضوع السابق الذي تناول بالشرح ما تم اعتباره من قبل مُفلسفيهِ : "المفهوم الطبقي للديمقراطية " , والذي نشأ في مطلع القرن الماضي , والذي كان مُؤَسسا على أفكار عميقة لتتبع ما هو غير" مرئي أو معلن " عن الديمقراطية اللبرالية وكذلك شكل ومحتوى الديمقراطية البديلة في تلك الحقبة كما يراها المدافعون عنها . كما انه ينطوي , على قدر لايستهان به , من الفلسفة أومن محاولة الرؤية المستقبلية , وان حدا معينا من الصعوبة هو امرٌ لايمكن تجنبه في كل الاحوال , ان بعض الصعوبات في الكتابة , لا ينسجم ولايتماشى مع المسعى الذي يقوم به بعض الكتاب في تعمد الصعوبة والتعقيد , والذين يرون , خطأً , ان الصعوبة هي معيار الجودة . وكما سنرى بالتفصيل فيما سيأتي من ان اللغة ترفع الوعي ويقوم الوعي برفع اللغة.
ثانيا : انني من الذين يرون أن الكتابة يجب ان تحاول أن تأتي بما هو جديد , أو أن تسلط الضوء , بدون مورابة أو مجاملة , على القضايا التي تكتسب راهنية وإلحاح في الظرف الحالي , ولاشك ان هناك الكثير من المواضيع السريعة والمكرورة التي تزخر بها , للاسف , العديد من الصحف والمجلات وصفحات الانترنت , والتي لاتقدم اية معلومة جديدة للقارئ , مما يُمكّن العديدَ من ( الكتّاب ) من الكتابة والنشر كل يوم , بل وربما كتابة ونشر اكثر من موضوع في اليوم الواحد , والتي لاتقدم أي شئ سواء التكرار والتسطيح . ان الغوص الى ما تحت السطح الظاهر للافكار وعدم الاكتراث لما هو معلن فقط , بل تقصي ما هو غير معلن , ومحاولة الاتيان بما هو جديد , هو أحد اهم الاهداف التي يجب أن يضعها الكاتب أمامه . كما ان التعود على التفكير بطريقة آلية وعدم إعادة النظر في الافكار والمواقف , بعين النقد والشك الايجابي , يعرقل , كما سنرى , إعادة التقييم في الوقت المناسب , فيما يجعل بعض أنماط التفكير تشبه العادة السيئة التي تتكرر بآلية والتي ينبغي الاقلاع عنها , عاجلا وليس آجلا , امرا مهما . تتقدم البشرية ليس من خلال التكرار الممل للوقائع والحقائق وانما عن طريق استخدام الحقائق وسيلة للوصول الى حقائق جديدة اكثر رفعة في عملية لا نهائية.
ثالثا : وبما أن الموضوع الذي نحن بصدده يتعلق بـ ( المفاهيم ) والتي هي احد الاشكال العليا لتطور اللغة , باعتبار ان اللغة هي ( أم ) المفاهيم , وان المفاهيم هي اللغة في اقصى درجات تطورها وتجريدها , فانه سيكون من المناسب تناول الموقف من اللغة المستعملة في الكتابة والتي , للاسف , لا تحظى , لدى الكثيرين , بالاهتمام الذي تستحقه . فاللغة , أية لغة , هي الحامل الوحيد للافكار , وان اللغة السيئة الفقيرة لايمكن لها , وليس بمستطاعها أن تعبر , أو ان تكون حاملا للأفكار الصحيحة والدقيقة , وتقع على عاتق الكاتب مهمة التطوير المستمر ليس لأفكاره فحسب , وانما للغة التي يكتب بها , والسعي الى الجديد من البدائل اللغوية المتاحة للوصول الى اكثر طرق التعبير دقة , وسنرى لاحقا عند الحديث عن اللغة والمفاهيم كيف انه حتى التفكير لايمكن أن يتم بدون اللغة , وان لغة مرتبكة وغير واضحة ينتج عنها لامحالة تفكير مشوش وغير دقيق , والعكس صحيح . و من الغريب أن نرى ان (كُتابا) لايزالون منذ عقود يكتبون بنفس اللغة القديمة بدون أي محاولة تذكر لتطويرها او اغنائها اما بمفردات او طرق تفكير وتحليل مبتكرة , فاللغة بحاجة الى تحديث مستمر وبدون ذلك ليس بوسع الكاتب أو المفكر الا ان يدور في حلقة مفرغة من الكلام المكرور. اني أرى انه ينبغي على الكاتب ان يعطي اللغة التي يكتب بها كامل الاهتمام والاحترام اللائق , وأرى أيضا ان اللغة العربية ذات طاقات تعبيرية كبيرة , وهي قادرة , إذا ما أعطيت كامل انطلاقتها , ان تعبر عن أدق الافكار أسوة بلغات العالم المتطورة والحية , وأن من واجب الكاتب ان يسعى دائما الى البلورة المستمرة لمستوى لائق من اللغة قادر على التعبير عن أدق الافكار ويحتاج النص المكتوب الى اعادة قراءة ولمرات عديدة وبمستويات متعددة بحيث يصار في كل قراءة الى التركيز على مستوى ما من اعادة الصياغة والتقديم والتأخير ...الخ للخروج بنص متماسك.

اللغة وإفتراق الانسان عن المملكة الحيوانية

ان نشوء الانسان ككائن اجتماعي , وليس مجرد كائن بايولوجي , مرتبط بنشوء اللغة لدية وقدرته على الكلام . وليس من الصحيح القول ان الانسان نشأ بنشوء اللغة , بل ان الصحيح إنهما , أي الانسان واللغة , قد تناشئا , أي نشئا وتطورا في وقت واحد , ان اللغة انشأت الانسان , وان الانسان قد انشأ اللغة في وقت واحد , وكما ذكرنا فإن نشوء اللغة هو البداية لنشوء الكائن المفكر , فبدون اللغة يتعذر التفكير. كان نشوء اللغة في بواكيرها ينصب على تسمية الاشياء الملموسة من اجل تلبية الحاجات الاولية للانسان البدائي , ولم تشتمل اللغة بادئ ذي بدء على مفردات التعبير عن المشاعر والاحاسيس وكذلك فان ( المفاهيم ) لم تنشأ الا في مرحلة متأخرة من تطور اللغة . فما هو (المفهوم ) إذن ؟ وما المقصود به ؟

انفصال المفهوم وممارسته السلطة على الاشياء

المفهوم هو : كلمة تمثل الجوهري والعام في شئ ما , وذلك بتجريده من الشكل الملموس والصفات الثانوية الملازمة , والابقاء على ما هو جوهري أو وظيفي . ولا وجود للاشياء في الحياة الواقعية الا بشكلها الملموس مع صفاتها , ولكن المفهوم هو الوجود الذهني للشئ معبرا عنه بكلمة . فكلمة " بيت " لاتعني بيتا محددا بعينه وانما أي بيت بغض النظر عن الصفات التفصيلية التي يتصف بها. فحين تقول : "هذا بيت " فانك تعني بقولك هذا : مُنشأ يقوم بوظيفة إيواء الناس و بغض النظر عن كونه كبيرا أو صغيرا ابيضا أو اصفرا ... الخ , وفي عملية صياغة المفهوم يتم تجريد الشئ من شكله ولونه وحجمه ..الخ والابقاء على ما هو جوهري , وهنا , ايضا ما هو وظيفي.
ولعب نشوء المفاهيم دورا هاما , بل وحاسما في تطور الفكر الانساني ودفعه الى الامام واتاح امام الفكر البشري امكانيات واسعة مكنتّهُ من نقل التجربة بدقة اكبر الى الاجيال بدون اضطرارها الى التكرار والبدء دائما من الصفر.
والماء , أي ماء , يتمتع بمزايا كثيرة , فعدا كونه ضروريا للحياة بكافة اشكالها فان له خاصية إطفاء الحرائق , على سبيل المثال . وحين تم تدريب احد القرود على اطفاء النار بمجرد رؤيتها بواسطة استعمال ماء كان موجودا في برميل , اضطرب القرد ولم يعرف ماذا يفعل حين تم اشعال النار ولم يكن الماء موجودا في برميل بل كان موجودا في أوعية و أوانٍ كثيرة أخرى ليس لها شكل برميل , ولا يعرف القرد ان الماء مهما كان شكل وجوده قادر على اطفاء الحرائق لان القرد غير قادر على تكوين المفاهيم , في حين استطاع الانسان على الضد من ذلك تكوين المفاهيم من خلال التجريدات سابقة الذكر والتي ترشده الى ان الكلمة ـ المفهوم ( ماء ) سوف يتمتع بصفة ثابتة وهي قدرته على اطفاء الحرائق بغض النظر عن الهيئة والشكل الذي يتلبسه , بل الاكثر انه استطاع بواسطة هذه الكلمة ـ المفهوم ان ينقل الخصائص والمعلومات من جيل الى آخر بدون الحاجة الى تكرار التجربة البشرية والبدئ من الصفر.
ثبات المفاهيم وحركة الواقع
ان المفاهيم ذات الدلالات الفيزياوية الملموسة هي ثابتة بشكل عام فالماء سوف يبقى ماءاً في كل الاحوال , ولكن المعرفة لم تكتف بصياغة مفاهيم عن الاشياء الملموسة وانما ايضا ايجاد المفاهيم المناسبة لكافة مجالات المعرفة وحقولها , فاذا كان مفهوم ( ماء ) والعديد من الاشياء المادية قد رافقت الانسان منذ بداية الوعي وحافظت على دلالاتها دائما , فأن مفاهيم اخرى قد نشأت في سياق التطور البشري والحضاري لم تكن موجودة سابقا لان البشرية لم تكن بحاجة اليها أو ان الظاهرة التي تعبر عنها لم تكن قد ظهرت الى الوجود بعد , كما ان حقول المعرفة المختلفة كالفلسفة والسياسة والادب قد اوجدت جملة من المفاهيم الخاصة بها والتي تكون اما غير موجودة في الحقول المعرفية الاخرى أو انها ذات دلالات مختلفة وذات مغزى آخر.
فمفاهيم عامة مثل : الديمقراطية , الاشتراكية , الرأسمالية , العولمة , الراديكالية , ...الخ هي مفاهيم قد نشأت في مجرى التطور المعرفي , وهي لم تكن موجودة دائما كما انها لا يمكن ان تبقى الى الابد. والاهم انها ذات محتوى ودلالات متحركة ومتغيرة تبعا لتغير الواقع , وهذا النوع من المفاهيم العامة المتحركة والتي تتضمن محتوىً يغتني باستمرار من الواقع هو ما نهتم به .
ان العملية المعرفية تقوم على :
1 ـ التجريد وعزل العوامل والظواهر عن بعضها البعض بطريقة ميكانيكية مدرسية من اجل دراستها .
2 ـ اعطاءها سكونية وثباتا .
ان هذه العملية يجب ان تكون متبوعة باعادة تركيب العوامل والظواهر مرة اخرى ضمن اطار علاقتها الطبيعية مع بقية العناصر لانها لا تعمل منفصلة , وكذلك اعادة الحركة اليها . ففصل الشئ واعطاءه سكونية لاجل دراسته هي احدى طرق المعرفة , ولكنها بنفس القدر احد مساوئها الاكثر انتشارا وضررا .
كما ان المفاهيم تكتسب ثباتا نسبيا قياسا لحركة الواقع مما يجعل هذه المفاهيم , اذا لم يتم تطويرها واعادة تقييمها وإغناءها , تلعب دورا سلبيا ومحافظا ومعرقلا للتطور.
هذه الصياغة التي تنطوي عليها الفقرة الاخيرة ستكون حجر الزاوية في ماسيأتي كما و انها ليست ذات اهمية نظرية فحسب بل , وبقدر اكبر, اهمية تطبيقية . فقد لعبت المفاهيم كأطار أولا , ومن ثم التغيير المستمر لمضمون هذا الاطار ومحتواه دورا مهما في التاريخ , فلقد تم الاكثار من الحديث عن : كيف ان اللغة هي جزء من البناء الفوقي وكيف انها انعكاس له ولكن ما لم يتم الحديث عنه بما يكفي او بما يوازي اهميته هو : الدور الذي تلعبه الافكار في الواقع , وهنا دور المفاهيم على وجه التحديد.
فاذا كان من الصائب القول ـ كما ورد سابقا من ان اللغة والانسان قد تناشئا , فان مما هو اكثر أهمية وراهنية القول : ان اللغة والوعي يترافعان ـ أي يرفع احدهما الآخر . ان واقعا جديدا يتطلب لغة اكثر رفعة للتعبير عنه , كما وانه , وبشكل موازٍ , فان لغة سامية تخلق واقعا اكثر سموا . ان اللغة في تطورها ترفع الواقع درجة اعلى في عملية تبادل متناوب ومتوازن وربما حلزوني لا تعرف له بداية فيما يشبه الظواهر الفلكية . وفي اللغة الابداعية والشعرية منها على وجه الخصوص يُشعر بذلك بشكل غامض باعث على القلق والهم وربما العدوانية احيانا في الطريق للوصول الى التعبير الغامض عما هو اكثر غموضا وسديمية. يتجاوز الحدس الابداعي القدرة التعبيرية المألوفة لحقول المعرفة الاخرى ويقودها كطليعة استكشافية في اقتحام ما هو غامض غير مطروق حتى اللحظة , ويجد طريقة عبر تهويمات تشبه السحر , فجدول مندلييف الدوري للعناصر يشبه الايقاع الشعري او الموسيقى الذي يوفر الاطار المسبق الذي ينبغي ملؤه , واكتشافات آينشتاين لنسبية المكان والزمان ذات ايقاع شعري قائم على تمهيدات ابداعية مسبقة , ويخطأ من يعتقد ان الابداع الشعري او التشكيلي أو النثري ... لم يقدم الممهدات لاكتشاف قوانين الطبيعة ذات الايقاع في علاقة بين الفن والعلم لم تأخذ حقها من الاهتمام. ومن المنصف بنفس القدر القول ان الاكتشافات العلمية بدورها قد وسعت افق الفن وقدمت له مساحات غير مطروقة .
ان دراسة لمقاطع افقية من الانجازات البشرية المتزامنة والمتعاقبة في العلم والفن وايجاد اشكال ملموسة من المقارنه بامكانها ولو بصعوبة العثور على مثل هذه التأثيرات المتبادلة .
ان كون اللغة جزاءا من البناء الفوقي هو استنتاج قديم مستهلك لا يفتح امكانيات جديدة , اما راهنية دو ر اللغة في الواقع وتأثيرها من اجل جعله اجمل واكثر عدالة واكثر سلاسة وشفافية واكثر قابلية للتغيير هو الامر الاكثر اهمية .
الانفصال على مرحلتين
ان الصور الذهنية للاشياء الملموسة وغير الملموسة والمسماة مفاهيم , أو مفاهيم عامة كما في الفلسفة , والتي تنفصل عن الواقع عن طريق تكوين صورتها الذهنية أي بالاغتراب عن الشكل الملموس الواقعي لها , لا تلبث ان تقوم برحلة الاغتراب الثانية أي الاغتراب المفهومي حين يتحرك المدلول عليه ويكتسب معاني جديدة في حين يبقى محتوى المفهوم السابق ـ الدال ـ على صيغته القديمة وبذا فان المفهوم يغترب عن ذاته ويمارس دور الضد. هنا رحلة الاغتراب عن الوجود الملموس للاشياء بتكوين المفهوم المجرد أولا , ثم تأتي الخطوة التالية : انسلاخ المفهوم عن ذاته المتحركة وابقاءها في حالة جمود , فيما يرحل المفهوم في رحلته الثانية مطورا نفسه ومغادرا ذاته كما يغادر شبح الروح الجسد عند الوفاة .
تطور مفاهيم العولمة والوطن في الاطار الذهني للرأسمالية
طورت الرأسمالية مفهوم الوطن بصيغته المعاصرة القائمة , اما فيما سبق فقد كان الحيز الذي يشغله الوطن غير ثابت ويتحرك بتحرك الجماعات العرقية والقبلية مكوّنا مجالها الحيوي الذي يجب ان تدافع عنه لكي تعيش , حينذاك لم يكن ثمة حدود ثابتة ومعترف بها للوطن وتنقلت الاقوام وتصارعت وتداخلت . وفي المرحلة التي ساد فيها نمط الانتاج الاقطاعي اقيمت دويلات او اقطاعات صغيرة ذات حدود ثابتة نسبيا من اجل تثبيت عائدية الاقنان والفلاحين لهذه المقاطعة الاقطاعية أو تلك , وكذلك بما يتناسب مع حجم السوق السائد حينذاك . والمثال الكلاسيكي على ذلك المانيا قبل 1870 أي قبل الحرب البروسية الفرنسية والتي كانت مقسمة بموجتها الى العشرات من الولايات الاقطاعية ذات الانظمة والقوانين والجيوش والسجون الخاصة .
ادى النمو المطرد للرأسمالية لاحقا الى حاجتها الى سوق اوسع واصبحت الامتيازات الاقطاعية وصعوبة حركة البضائع ورأس المال عائقا امام التطور, وقد سعت الرأسمالية الى تكوين مساحة أوسع للسوق والتي هي مساحة الوطن , وذلك بازالة الامتيازات الاقطاعية من جهة وتكوين حدود للحماية الكمركية للحماية من المنافسة من قبل الجيران من جهة اخرى .
وبتوطد نمط الانتاج الرأسمالي في مرحلته الاولى اكتسب مفهوم الوطن والمواطنة رسوخا , وسيق الالاف والملايين من الناس باعتبارهم مواطنين الى حروب متعاقبة تحت شعار حماية الوطن الذي هو على وجه التحديد وطن رأس المال , ومن اجل اقتسام المنافع العالمية بين اوساط راس المال ( الوطني ) على ضوء التطور غير المتكافئ .
ولكن راسمال في مرحلة تطور الثانية و بازدياده توسعا وثراءا وحاجته المتفاقمة الى سوق اوسع انتقل الى المرحلة القارية التي شكلت فيه القارات وحدات اقتصادية رأسمالية ضخمة على غرار السوق الاوربية المشتركة , ومن ثم انتقل الى المرحلة العولمية : والتي هي تطور موضوعي لنمو القوى المنتجة الى مرحلة اعلى بكثير بغض النظر عن شكل علاقات الانتاج والذي تنشأ بموجبه الحاجة الى سوق واسع يشمل كامل الكوكب , وما نقصده بالقول "ان ذلك مرتبط بتطور القوى المنتجة" هو : ان الحاجة الى العولمة كانت ستنشأ كحاجة موضوعية حتى في ظروف سيادة شكل الاقتصاد الاشتراكي أو أي شكل آخر وتحقيقة تطورا مطردا , وهذا على سبيل الافتراض , ولكنه بالطبع كان سيصبح ذا توجهات واهداف اخرى , وما نقوله يقوم على الاستنتاج المنطقي اكثر من قيامه على التجربة الحسية , وذلك لعدم توفرها أساسا .
ان رأس المال الذي اسس مفهوم الوطن لخدمة مصالح تطوره وحماية نفسه , يترتب عليه الآن تسفيه مفهوم الوطن الذي استنفذ اغراضة وتحول من خادم لمصالح تطور راس المال في شكله البدائي الجنيني الناشئ الى معرقل لانطلاقته الى النطاق العالمي بدون معوقات وعراقيل في مرحلة تطوره الحالي .
وبذا فان مفهوم الوطن قد اكتسب كما رأينا مغزى متغيراً حسب المرحلة , كما ان دوره قد اختلف من مرحلة الى اخرى .
الايديولوجية والحشد الجامد للمفاهيم
الايديولوجية هي منظومة من الافكار متناغمة مع ذاتها , ـ وليس بالضرورة مع الواقع ـ بما يعطيها برجا عاجيا , ولها منطقها الخاص الذي تسعى فيه , الى تكوين مفهوم عن العالم وقواعد للسلوك والتصرف . وتكتسب الايديولوجة المعتمدة على حشد من المفاهيم المضفى عليها قدسية وثباتا الى محاولة تغيير العالم استنادا الى كاتالوج مرسوم سابقا ( دوغما ) , وبموجبها ينبغي على الواقع ان يكون مطيعا للافكار ومطابقا لها وليس العكس فيما يفترض فيه ان تكون الحياة الواقعية والتجربةالانسانية هي صاحبة الصلاحية في تعديل النظريات أو حتى تفنيدها , يسعى الانسان المؤدلج الى اضافة قدسية وصنمية على القواعد التي يعطيها ثباتا ازليا وتمارس الكلمات التي ترتدي رداء المفاهيم سلطة على الواقع وتحشد احيانا اوساطا واسعة من الناس في سبيل العمل على تحقيقها في عملية تجعل الفكر السياسي اقرب الى الاحكام الدينية الازلية غير القابلة للنقاش وبذا تتحول احد اهم الانجازات المعرفية الانسانية التي هي ايجابية في جوهرها الى اضدادها وتلعب دورا رجعيا .
فاذا كان رأس المال براغماتيا بطبيعته , واسس مرونته على هذا الاساس المنفعي , بما يتناسب مع الحالة الملموسة المتغيرة بشكل متسارع لا تستوعبه اية ايديولوجية ونظريات , فان اضداده الاشتراكيون تجاهلوا الواقع من اجل كرامة النظرية وقدسية المفاهيم التي اقتربت من الاخلاقيات الساذجة والنوايا الحسنة , يقترب التقديس والتكريس للقواعد النظرية للمؤدلجين من الاجواء الطقوسية التي تتغنى بما لديها على عطر بخور المعابدالقديمة بالتمسك المتفاخر بالقيم التي لم يعد لها وجود , وتلعن العولمة باعتبارها مفاجئة لم تكن محسوبة ظهرت فجأة من احد المنعطفات وافسدت التحليق الحالم في اجواء الغد الزاهي الموجود في الذهن وليس في الواقع بأي حال من الاحوال .
المفاهيم والتتبع الشائك لتفريخاتها غير المنظورة
قد يصار الى اقصاء المفاهيم بسبب الظهور السريع لتناقضها مع الواقع ,. ولكن الخطير ان التفرعات الفكرية والسلوكية لهذه المفاهيم المهيمنة والتي سيطرت على الاذهان ربما لعقود تكون قد فرخت بالضرورة تفرعات سرطانية تستدعي التتبع والاستئصال من اجل اقصاء الضرر بمجمله . فاقصاء مفاهيم الواحدية واحتكار الحقيقة , واحلال التعديدية وقبول الرأي الآخر لا يعني بالضرورة ان المهمة قد انجزت , وان الحزب أو الجماعة التي اتخذت القرار قد اصبحت بقرار واحد وبضربة واحدة تعددية حقا وانقلب اتباعها كما بفعل السحر الى اناس ديمقراطيين يقبلون بالرأي الآخر ويفتحون قلوبهم وعقولهم لكل انواع النقد برحابة صدر ويستمعون بهدوء وصبر الى صيحات النقد . ان تغيير المفاهيم والتخلي عن بعضها وتبني اخرى بديلة اكثر معاصرة هو الخطوة الاولى في نضال ضار من اجل القبول اليومي بما هو جديد وتحويله الى سلوك يومي , كما ان التفرعات الفكرية للمفاهيم الخاطئة يستدعي عملا آركيولوجيا لكشط الطبقات المتراكمة من السلوك الاحتكاري والتي تراكمت وتحولت الى آلية اوتوماتيكية , وان تنحيتها تتطلب ايضا عمليات فرز مؤلمة وخسارات مؤقتة ولكنها نافعة على المدى البعيد.



#منير_العبيدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المرأة ومشاكلها الوجودية , لدى التشكيليات العراقيات
- إتحاد الشعب تسمية ملائمة لحزب ذي إرث نضالي مجيد
- الديمقراطية الليبرالية وتيارات الفكر السياسي العراقي المعاصر


المزيد.....




- رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن ...
- وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني ...
- الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
- وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ ...
- -بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله- ...
- كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ ...
- فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
- نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
- طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
- أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق


المزيد.....

- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي
- فلسفات تسائل حياتنا / محمد الهلالي
- المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر / ياسين الحاج صالح
- الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع / كريمة سلام
- سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري - / الحسن علاج


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - منير العبيدي - دور اللغة في التاريخ