عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني
(Abbas Ali Al Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 4166 - 2013 / 7 / 27 - 22:50
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
العقل المصنوع والنفس الإنسانية
هذا الموضوع يشكل حجر الزاوية في فهم الإنسان ذلك الكائن الذي وصفه الله تعالى بأنه المثير للجدل{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً}الكهف54,الجدل يسجل صفة إيجابية للعقل وللإنسان بل لا يمثل مثلبة عليه لأن الله تعالى لا يلوم من كونه وجعله في كينونته مجادلا لأنها من عدله ومن إنصافه له, وبهذا يشير لحالة الصراع الذي يتمخض فيه العقل للوصول للكمالات الحميدة.
هذا الجدل ليس ابتكار من النص ولا زعم لا أساس له بل هو يمثل حقيقة مكونات الإنسان ككل وجودي شيئي ففيه قوى متنافرة ومتناقضة ذاتيا وليس قيم متضادة هي قوى النفس بتدرجاتها من النباتية للحيوانية للناطقة وصولا للنفس الكلية التي هي من الله وإليه تعود, بهذه الكيفية تنشأ حالة الجدل وتتأسس أسسه لتنقل الإنسان من مرحلة الوعي الفطري الذاتي العمومي إلى الوعي العقلي الذي يريده الخالق دليلا إليه وطريقا لفهم محورية الإنسان في النظام القيمي الشمولي.
لا ينكر عاقل أن الصراع الأساسي في الإنسان هو بين عقله بالوصف الثاني وبين النفس وقواها وما ترتقي أو تتسافل بها تلك النفس, وما تتطلبه من حاجات ونزوع نحو الدعة والسكون والبساطة كون الإنسان بذاته ضعيف بالتكوين والتسليم لهذا الضعف وعدم تجاوزه هو من ضمن قيود العبودية التي تحبط انطلاقته وثورته على واقعه وعلى صورة التكييف الأولى, والله تعالى لم يدع الإنسان لضعفه وسكونه بل أمره أن يكون بالضد من خلال تفعيل قوة العقل المبدع(فَاعْقِلْ عَقْلَكَ، وَامْلِكْ أَمْرَكَ، وَخُذْ نَصِيبَكَ وَحَظَّكَ) ,إن امتلاك الإنسان لأمره يعني في فكر نهج البلاغة أول مصادر القوة العقلية التي تخرجه من ضعفه, وتخرج مكنونات القوة الإنسانية.
للنفس الإنسانية أربع حالات تتطور وتتداول في عملها ولا تنفك في صراع بيني بفاعلية كل نفس وقواها, فالنفس النباتية النامية في صراع دائمي لأجل تأمين البقاء الشيئي للموجود الكوني سواء أكان نبات أو حيوان بما نسميه الحاجات الأساسية للنمو وضمان استمرارية الحياة للكائن الحي, والنفس الحيوانية تتصارع لتأمين حاجاتها الحسية الحيوانية لأنها هي المسئولة عن التعامل بين الكائن الحيواني ومنه الإنسان مع الغرائز والمثيرات الخارجية وهي الأداة التي بها الكائن الوجودي الشيئي بحيوانيته عن سائر الأحياء.
هذه النفس هي محل الصراع وأداته من خلال سعيها الدائم لتأمين متطلبات تفعيل قواها التي لها قوانينها وإدراكاتها الذاتية التي تميل دوما نحو الغرائز الفطرية الشهوية, إنها القوة الرئيسية المنافسة للقوة العقلية والتي تشكل الضد لها حين ترك قواها تتفاعل خارج نطاق الإنسانية المثلى التي يمثل العقل فيها القوة الكابحة والمنظمة لكل ما هو متلائم مع الطبيعة الإنسانية التي تعلو في كل قيمها ومقاساتها عن الحيوان.
ببساطة القول أن للعقل ميل نحو الفطرية الإنسانية التي تمثل الحد الابتدائي للاستواء والتوازن بين القوى الفاعلة ذاتيا والتي تحرك وتصنع سلوكياته نحو الداخل والخارج, هذا القانون الأساسي يتمثل في قول للإمام علي عليه السلام في بيان حالة ضبط القوى النفسية في مقابل عدم خسران الإنسان لآدميته الطبيعية التي شعارها العلم والعمل فيقول((مَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ رَبِحَ، وَمَنْ غَفَلَ عَنْهَا خَسِرَ، وَمَنْ خَافَ أَمِنَ، وَمَنِ اعْتَبَرَ أَبْصَرَ، مَنْ أَبْصَرَ فَهِمَ، وَمَنْ فَهِمَ عَلِمَ)) .
إن مهمة ضبط النفس وقواها من أن تميل به إلى مهاوي البهيمية ليست مهمة العقل فقط ولكنها نتيجة للصراع الذاتي بين ما هو منضبط وبين ما هو متروك لانفعالات وغلبة القوى المتصارعة, ووظيفة العقل الطبيعية هي تأطير للعوامل والمقدمات التي تساعد في تقويم وتعديل السلوكيات الحسية النفسية وأن يجعل من نظامه العملي الرقيب والحاكم عليها, وهذه الوظيفة ليست ابتدائية فيه وإن كانت طبيعية ولكن هناك الفيما حوليات المؤثرة على جعل العقل حاكما وضابطا للسلوك النفسي الحسي الحيواني من خلال التربية والتعليم والتهذيب والاعتبار بها وفهم هذا الاعتبار.
العقل الفطري ميال نحو الدعة والسكونية وإلى كل ما هو متوافق مع قانون التكوين بينما النفس الفطرية التكوينية تمثل القوة الجامحة المتحركة الثائرة التي تبحث عن متطلباتها ونزوات تلك المتطلبات دون أن تمنعها قيود, والتي تمثل الخروج الحقيقي عن إطار القانون الكينوني في طبيعتها ولكن لها في نفس الوقت استعداد فطري أيضا أن تتحول هذه الحرية الجامحة نحو الخير وأن تنفعل وتتفاعل مع قوانين العقل ,وإلا لما شهدنا ذلك التوافق بين العقل وقواه والنفس وقواها عند الكثير من الناس الذين يمثلون شكل ما من أشكال ودرجات الإنسان الآدمي.
لو تأمل كل واحد منا في دوافعه الفطرية، وميول قواه النفسية، سوف يلاحظ أن أنانيته والتخندق وراء شخصيته المميزة بالماهية الخاصة هي الدافع في الرغبة في الكمال المطلق إن أمكن أو النسبي بالمقارنة مع الأغيار، ولكن لا نجد إنسانا يرغب في النقص في وجوده بصورة ما أو بشكل كلي وإلا بالقول بعكس ذلك يخرجه من إنسانيته نحو الحيوانية المطلقة التي لا تدرك ولا تفهم معنى الكمالات، ونراه يسعى جاهدا وبحسب ما أمكنه من الإستفادة من التسخير الفوقي والحولي لإزالة كل النقائص والعيوب عن نفسه، ليبلغ كماله بما كونه بالكيف الذاتي وحسب ما تفرضه قوانين القوة لديه، بل يحاول إن بقى على حاله الأول إخفاءه عن الآخرين.
وإذا وقع هذا الدافع في مساره الفطري السليم تحت حاكمية العقل ووفق منظومة حسية أخلاقية ترتبط بالمكنون الأول وتستمد صورته منه أي من خالق الكينونة فإنه سيؤدي إلى رقيه وتكامله الروحي و المادي، ولكن إن وقع في مسار منحرف نتيجة لبعض العوامل والظروف ومنها تغلب القوى الحسية الحيوانية الخمسة على المنظومة العقلية والأخلاقية التي تكلمنا عنها، فإنه سيؤدي إلى الكثير من الصفات السيئة أمثال الاستعلاء والتكبر والرياء والتهالك على السمعة والظهور وكلها تمثل الجانب السيئ من الأنانية وتقديس الذات والإنزواء تحت ميل الشهوانية والنرجسية.
لذلك يرى بعض المهتمين بالدراسات النفسية إن مسألة الكمال الإنساني ليست من المسائل الافتراضية بل أن النواقص النفسية والاختلالات موجودة بشكل طبيعي عند الإنسان ولا تخلو نفس منها ولكن التفسير الذي يشير إليها يعطي انطباعا خاطئا ولا علمي عنها (وعندما تُطرَح قضية العقد النفسية بأنواعها، نجد أن مفهوم هذه العقد يحتمل تفسيراً مختلفاً فالشعور بالنقص لا يشير، في نظر الحكمة وعلم نفس الأعماق، إلى خطر انقسام النفس أو خطر الإخلال بتوازن الطاقة الحيوية فعلى غير ذلك تُقِرُّ الحكمة بأن الإنسان كلَّ إنسان، مهما تكن منزلته ثروته أو فقره ،حسن طلعته أو غير ذلك لا يخلو من شعور بالنقص كلُّ إنسان، على اختلاف جنسه ولونه واختلاف قيمه ومفاهيمه يشعر بالنقص ومع ذلك لا يُرَدُّ الشعور بالنقص إلى اختلال الشخصية، إنما يُعَدُّ دافعاً إلى الكمال هو دافع من الدوافع المبدعة الخلاقة هو، في نظر علم النفس التأليفي، مختلف عما هو في نظر التحليل النفسي الفرويدي) .
ومما يؤكد هذا المنحى في فهم الدوافع المبدعة السيد محمد باقر الصدر في مبحثه في الكمالات الإنسانية وعلاقة هذه الكمالات بقوة العقل فيقول((أما الإنسان، فبالإضافة إلى ما يملكه من الخصائص النباتية والحيوانية فإنه يختص بميزتين روحيتين فهو من جهة لا تتحدد رغباته الفطرية بحدود الحاجات الطبيعية، ومن جهة أخرى يملك قوة العقل، حيث يمكنه من خلالها أن يوسع في معلوماته إلى مالا نهاية ،ولأجل هذه الميزات تتجاوز إرادته حدود الطبيعة الضيقة، وتتجه باتجاه اللانهاية))الفيلسوف الصدر إنما يؤكد حقيقة ليست من نوع البديهيات المتسالم بها بل يؤكد حقيقة علمية ثابتة تكشف حقيقة الإنسان الآدمية وليست حقيقته الوجودية الحيوانية.
ويستطرد السيد الصدر ليبين أن((الفضائل الأخلاقية والكمالات الروحية والأبدية والقرب والرضوان الإلهي، يعرض عن الرغبات الحيوانية المنحطة الوضيعة، وكل عمل يمارسه الإنسان وفق اختيار ووعي أكثر، هو أكثر تأثيرا في تكامله الروحي والمعنوي، أو هبوطه وانحطاطه وأكثر استحقاقا للثواب والعقاب ومن الواضح أن القدرة على مواجهة الرغبات النفسية، ليست بدرجة واحدة في جميع الأفراد وبالنسبة لكل شئ ولكن كل إنسان يملك هذه الموهبة الإلهية الإرادة الحرة، قليلا أم كثيرا، ويمكن له بالتدريب والتمرين تقويتها وتنميتها أكثر فأكثر)) .
هنا يتبين لنا أن العقل المصنوع هو صاحب قضية الصراع مع النفس وقواها وليس العقل الفطري فهو كما قلنا يتألف مع كل ما هو فطري والنفس الإنسانية الحسية ما لم تشتد قواها وتستفحل هي فطرية بالتأكيد, ولكن العقل الثاني المستولد من رحم التجربة الحسية والتعليم والوحي وكل المؤثرات الخارجية وتفاعلاتها مع العقل الفطري هو الذي يخوض الصراع مع قوى النفس الحسية وتكون قيمة الصراع بالشدة والتفاوت تتبع المسافة الفاصلة بين قيم العقل المصنوع وقيم النفس ذاتها.
الشخصية المتكاملة هي الإنسان الذي يتكامل فيه العقل والنفس دون وجود تناقض بل صراع بينهما على أساس الخيار بين القدرة على المطاوعة والقيادة وإن أي اختلال في سيطرة قوى النفس الحسية فقط يؤدي إلى زعزعة النظام العملي للعقل إذن فالعقل قاصر عن بلوغ النتائج الفكرية المتسقة إلا في نفس هادئة تنزع إلى قواها القدسية الثالثة في أطار طاقة حيوية متوازنة وبالفعل، نخطئ إذ نضفي صفة الجنون أو الهوس على العقل، ذلك أنه لا يوجد عقل مجنون أو مهووس بل ثمة نفس حسية مضطربة لوامة خاطئة في تقصيرها عن بلوغ الكمالات التي تكتنزها ذاتيا في قوى النفس الناطقة, فينتج عنها اضطراب وانفعال شديد أو عن فقد توازن يبعدها حيويا عن العقل وأحكامه.
ولكي يعيد الإنسان لنفسه صفة التوازن لا بد من ممارسة الرياضات العقلية كنوع من أنواع الضبط الروحي وليس الضابط الميكانيكي الفيزيائي, وهذا رأي يشدد على قيمة العقل في حقل الرياضة كونه الممنهج لها والمستوعب لنتائجها التي تجعل من النفس أكثر استقرار وأقرب بتعاطيها العملي معه ومع نظامه العملي ,((والانفعال الذي يطيح بتوازن العقل الإنساني ويلقي به في متاهات الأنا يختلف عن العاطفة ولقد أخطأ علماء نفس السلوك إذ عجزوا عن إدراك الحدِّ الذي تتوازن فيه العاطفة ولا تتحول إلى انفعال, في العاطفة تتوازن وظائف النفس والجسم الداخلية، وتتألق الطاقة الحيوية–النفسية في غبطتها وفي هذا التوازن والتألق يعمل العقل في توازن وتكامل إن الحكماء القدامى(والحق يقال)هم من أشاروا إلى هذه الحقيقة عندما شددوا على ممارسة رياضات معينة تؤدي إلى المرونة العصبية ففي رأيهم أن المرونة العصبية، وليس قوة العضلات، هي الحقل الذي تتوازن فيه النفس)) .
ومثلما كان سيدنا إبراهيم والأنبياء العظام نوح وهود وصالح وشعيب وموسى(صلى الله عليهم وسلم)أدوا الرسالة نفسها وساروا في الطريق بعينه(مع تنوع اللون والنمط حسب تنوع الأحوال والأوضاع)،فاتبعوا المنهج الرسالي في تأكيده على مركزية العقل وفاعليته التدبرية والحض على التفكر ونشروا المعقول الفكري والمعرفي لأنه الأصلح والأصح. وعلى النقيض من صفُّ الكفر والإلحاد والشرك الذين افنوا حياتهم ووجودهم في العبودية لللا معقول في محبس الهوى والرغبات الضيقة، وأسْرِ الفهم والفكر المتوارث من الأجداد، فأهدروها في مد وجزر للشعور المنحرف والفكر الضال واشهروا اللا منطق على الدوام.
#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)
Abbas_Ali_Al_Ali#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟