كاظم حبيب
(Kadhim Habib)
الحوار المتمدن-العدد: 1193 - 2005 / 5 / 10 - 14:38
المحور:
القضية الكردية
هل من جديد في اتحادية كردستان العراق وفي حياة الشعب الكردي؟
الحلقة الأولى (1-3)
زرت كردستان في ربيع عام 2002 وزرتها في ربيع عام 2005. وتسنى لي في الزيارتين أن أقضي أكثر من أسبوعين في ربوعها وبين شعب كردستان. التقيت بعدد من المسئولين في الأحزاب السياسية وبعدد أكبر بكثير من المواطنين, ولكن بعدد محدود من المواطنات وعن طريق الصدفة. وإذا كانت زيارتي الأولى قد شملت أربيل والسليمانية ودهوك وعلى مقربة من كركوك, فزيارتي الثانية تركزت في أربيل وسفرة قصيرة جداً إلى السليمانية, ولم يتسن لي زيارة دهوك إلا مروراً بها دخولاً وخروجاً. سأحاول في هذه السلسلة من المقالات أن أطرح انطباعاتي الشخصية التي تكونت لي عبر المشاهدة والمعايشة والحوار مع عدد كبير من المواطنين المستقلين والحزبيين من أحزاب سياسية مختلفة. فما هو الجديد في عملية التطور الجارية في كردستان العراق؟ وقبل الإجابة عن هذا السؤال يفترض أن أشير إلى المبادئ الأساسية التي اعتمدها في النظر إلى القضية الكردية في العراق:
1. كنت وما زالت وسأبقى مقتنعاً كل الاقتناع بحق الشعب الكردي في كردستان العراق في تقرير مصيره بنفسه بما في ذلك حقه في الانفصال وتشكيل دولته الوطنية المستقلة, كما احترم كل الاحترام قرار برلمانه المنتخب باختيار الفيدرالية الكردستانية في إطار الجمهورية العراقية الفيدرالية الديمقراطية باعتباره ممارسة لحق الشعب الكردي في تقرير مصيره بنفسه.
2. والشعب الكردي في كردستان العراق يشكل جزءاً من الأمة الكردية, وأرض كردستان العراق تشكل جزءاً من كردستان الكبرى الموزعة على أربع دول هي إيران والعراق وتركيا وسوريا. وأن حلمه وأمله في إقامة الدولة الكردية الوطنية الموحدة حقاً مشروعاً وطموحاً طبيعياً.
3. وأن لهذه الأمة الكردية تراث حضاري وتاريخ مشترك وثقافة مشتركة وأرض مشتركة ولغة مشتركة مع تعدد اللهجات, كما لدى بقية الشعوب, ونفسية وتقاليد وعادات مشتركة, إضافة إلى طموحات مشتركة صوب التحرر والوحدة القومية.
4. ويمتلك الشعب الكردي في كردستان العراق كباقي شعوب العالم الحيوية والقدرة على البناء والتقدم وتغيير الواقع القائم صوب الأفضل, وله آفاق رحبة في مجال التنمية الاقتصادية والاجتماعية على نطاق الاتحادية أم مع القسم العربي من العراق, أو على نطاق كردستان مستقبلاً.
5. تشكل فيدرالية كردستان ضمانة أكيدة لتكريس الحياة الديمقراطية والمجتمع المدني وممارسة حقوق الإنسان والقوميات في العراق, في حين توفر سيادة الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والقوميات في العراق إمكانية فعلية لتوطيد مبدأ حق تقرير المصير للشعب الكردي وممارسة الفيدرالية في إطار الجمهورية العراقية والتعايش السلمي الديمقراطي بين الشعبين العربي والكردي وباقي القوميات. وتلعب في المرحلة الراهنة دوراً أساسياً في مواجهة غلواء الأحزاب السياسية الإسلامية التي تتحدث عن الدولة الدينية أو اعتبار الإسلام المصدر الرئيسي أو حتى الوحيد لصياغة الدستور, إذ أن ذلك يعني نسف الفيدرالية من الأساس والتجاوز على كل التضحيات التي قدمها الشعب الكردي في سبيل ممارسته لحقه في تقرير المصير في كردستان العراق, وتضحيات الشعب العراقي كله من أجل سيادة الديمقراطية في العراق.
ومن منطلق الحرص على التجربة الكردستانية ومن موقع المؤيد الصادق للمبادئ التي سجلتها في أعلاه, سأجيب عن السؤال السابق, وأتمنى على الأخوات والأخوة الكرد أن يفهموا ما يحركني لإثارة هذا الموضوع في هذه الفترة الحرجة من حياة كردستان العراق وشعبها, إذ يحدوني الأمل في أن أجد الشعب الكردي وبقية القوميات في كردستان العراق يحققون آمالهم وتطلعاتهم بعد أن عشت بعض سني تجربة النضال الشاقة التي خاضوها طوال عقود من السنين والتضحيات الغالية التي قدموها على هذا الطريق.
لقد كان بالإمكان السكوت عن الكثير من المظاهر السلبية في الفترة التي سبقت سقوط صدام حسين, إذ أن الفيدرالية كانت في بداية تكوينها وكانت الصراعات الداخلية ضاربة أطنابها بين الأحزاب والقوى السياسية الكردية وتجد صداها في المجتمع بدرجة أضعف, وتجابه أعداءً في الداخل ومن الخارج, وكانت الظروف معقدة جداً والحاجة إلى التضامن وإبراز الإيجابيات أكثر أهمية وضرورة من إبراز السلبيات. ولكن الآن وقد تحقق الكثير, فلا بد من مراجعة عامة وشاملة للتجربة الكردستانية من جانب الأحزاب والقوى السياسية الكردستانية التي يهمها قبل غيرها مصير ومستقبل الشعب الكردي والفيدرالية وحق تقرير المصير, ولكن هذا لا يمنع أن يتحدث أصدقاء الشعب الكردي عن هذه التجربة, إذ أنهم ينظرون إليها من منظار آخر وموقع آخر, كما يمكنهم أن يكونوا أكثر حيادية وموضوعية في رؤية الجانبين السلبي والإيجابي من العملية الجارية. وهنا ينطبق المثل القائل: عندما ينظر الإنسان إلى صورته في المرآة لا يرى سوى جمال وجهه, ولكن تغيب عن ناظريه عيوبه.
من هذا المنطلق أضع أمام الأخوات والأخوة الكرد من مسؤولين وغير مسؤولين ملاحظاتي التي حاولت فيها أن تكون بعيدة عن استفزاز وإثارة أي إنسان في كردستان, إذ ليس هذا هو هدفي بأي حال, بل سعيت وما أزال أسعى إلى إسماع الأصدقاء حقيقة المنجزات والإخفاقات أو ما يجري اليوم في كردستان العراق, وهي النموذج الذي يراد إقامته ويتحدث عنه الكرد بحيوية.
إجابتي عن السؤال السابق تتضمن جانبين مهمين أرى ضرورة التطرق لهما لمعرفة حقيقة ما يجري وما يفترض أن يتغير لصالح مستقبل أفضل للشعب الكردي والقوميات الأخرى ولصالح تقديم النموذج المنشود لكل الأمة الكردية وللعراق والمنطقة بأسرها, وأعني بذلك الجوانب الإيجابية والجوانب السلبية. وبسبب حساسية هذه المسألة وأهميتها وجدت لزاماً عليَّ كصديق للشعب الكردي, كما أدعي وأرجو ذلك, أن أتحدث بشفافية ومجاهرة صريحة, إذ أن الصديق هو من يطرح الحقيقة والواقع كما يراهما, والعدو أو الانتهازي هما وحدهما يطرحان ما يناهض الواقع والحقيقة تماماً!
أولاً: الجوانب الإيجابية, ويمكن تلخيصها في النقاط التالية:
1. لم تعد الفيدرالية حالة قلقة, بل حالة قائمة ومكرسة يتمتع بها الشعب الكردي وتتعزز باستمرار, تكرست في قانون إدارة الدولة في الفترة الانتقالية وستجد تعبيرها في الدستور الجديد. ولا شك في أن الفيدرالية الكردستانية الراهنة هي اقرب إلى الكونفيدرالية منها إلى الفيدرالية. ومن المؤسف حقاً أن يلغي رئيس الوزراء في القسم الذي أداه أغلب الوزراء في الجمعية الوطنية ما يخص الجمهورية الفيدرالية أو الاتحادية العراقية, وهو القسم المتفق عليه, إلا أن وزيرين كرديين أديا القسم بشكله الصائب والمتفق عليه, وهما الدكتور برهم صالح والسيد عبد اللطيف رشيد. إن على العرب في العراق وكذلك عرب البلدان العربية, أن يدركوا أن الوحدة المنشودة للعراق لا تتم حقاً وصدقاً إلا عبر حصول شعب كردستان على حقه في تقرير مصيره وحقه في الاتحاد الاختياري (الفيدرالية) في إطار الجمهورية العراقية.
2. البدء ببناء المؤسسات والإدارات الحكومية الجديدة بعد الاتفاق بين الحزبين الرئيسيين وبناء جهاز القضاء الموحد والمحكمة الدستورية والتقريب أو التوحيد في المناهج التعليمية في الجامعات والمعاهد العلمية والفنية في مختلف محافظات كردستان مع صيانة الحرية الأكاديمية.
3. يشعر الإنسان الكردي, سواء أكانت امرأة أم كان رجلاً, بالكرامة التامة والمساواة في المواطنة التي حاولت النظم السابقة تهميش شخصيته وجعله في المرتبة الثانية, وهي نظم شوفينية وعنصرية رجعية معادية للحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق القوميات. وأن هذا الشعور الجديد, الذي وجد تعبيره في انتخاب مواطن كردي هو الأستاذ جلال طالباني رئيساً للجمهورية العراقية وبتوافق واتفاق بين الأحزاب الكردستانية باقتراح وتأييد من جانب الأستاذ مسعود بارزاني, رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني, يساهم في تعزيز التآخي بين الشعبين وبقية القوميات في العراق.
4. انتخب الشعب برلماناً جديداً تعترف به كل الأحزاب السياسية الكردستانية ويعبر عن تحالف بينها, ووجود حزبين يشكلان الأكثرية في البرلمان الكردستاني ويتقاسمان المقاعد التي خصصت لهم والتي تبلغ 82% من مجموع المقاعد. وينتظر أن يجتمع في كل لحظة حال إنهاء الخلافات القائمة بين الحزبين الحاكمين في كل من أربيل ودهوك من جهة والسليمانية من جهة أخرى. وسيتم في حالة اجتماعه انتخاب رئيس المجلس ورئيس الإقليم وريس الحكومة والحكومة الفيدرالية. ومن المفيد أن نشير إلى أن هناك اتفاقاً عقلانياً بين الحزبين الرئيسيين بضرورة مشاركة جميع الأحزاب المؤتلفة في قائمة التحالف الكردستاني في الحكومة الجديدة الموحدة, وهو أمر له جوانبه الإيجابية في المرحلة الراهنة ويساهم في إيجاد توازن معين ومناسب بين الحزبين الرئيسيين الحاكمين. رغم أن هذه الصيغة ليست المناسبة على المدى البعيد, إذ أنها لا تحقق المعارضة الضرورية القادرة على اكتشاف النواقص وانتقادها وإنارة الطريق أمام الحكام ليمارسوا سياسة أفضل. فالنظم الديمقراطية عموماً تستوجب حقاً وجود حزب أو أحزاب حاكمة من جهة, ووجود حزب أو أحزاب معارضة من جهة ثانية. وهو ما يفترض أن يكون في المستقبل.
5. تحسن نسبي في العلاقات بين الحزبين الرئيسيين في كردستان العراق, الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني, إذ يمكن للمشكلات العالقة أو المستجدة أن تفجر صراعات تؤذي العملية السياسية الجارية. إنه التحالف المحفوف بمخاطر الصراعات. ولا يمكن أن تعالج تلك المشكلات إلا من خلال سيادة الديمقراطية والحياة المدنية الدستورية القائمة على أساس المؤسسات الدستورية, وهو ما ينتظره الشعب الكردي ويتطلع إليه ويدفع باتجاهه.
6. يتمتع السكان في كردستان بحرية واسعة في التعبير والنشر والصحافة والتنظيم. فهناك الكثير من الأحزاب السياسية والمنظمات غير الحكومية والكثير من الصحف والمجلات والإذاعات وقنوات التلفزة المحلية والخارجية. كما تساهم دور النشر في إصدار الكثير من الكتب القيمة. وقد رفضت حكومتا الإقليم السماح للكتب المتطرفة, وخاصة الكتب التي لا تدعو إلى التسامح الديني والمذهبي, عن الإصدار والنشر في كردستان العراق. وهو أمر إيجابي ومدني سليم.
7. يتمتع السكان بالأمان الاستقرار الذي لا تتمتع به مناطق العراق الأخرى, رغم حصول ضربات قاسية بين فترة وأخرى, كما حصل أخيراً في أربيل, أو كما حصل في شتاء عام 2004. وهذا الأمر يعود إلى ثلاث مسائل, وهي:
أ?. إن الملف الأمني بيد مؤسسات أمنية كردية مباشرة وليس بأيدي القوات الأجنبية.
ب?. إن قوات الأمن والشرطة لها تجربتها الغنية في مكافحة الإرهابيين خلال السنوات المنصرمة, كما أن هناك تعاوناً نسبياً جيداً بين الحكومتين في هذا الصدد.
ت?. إن الجماهير الشعبية في كردستان ترفض الإرهاب وتساهم في متابعة الإرهابيين.
إن هذا لا يعني بأي حال عدم وجود نواقص وأخطاء سنشير إليها في الحلقة الثانية من هذه السلسلة من المقالات.
8. وجود حركة عمرانية واسعة في أرجاء كردستان, وخاصة عمليات بناء دور السكن ودور المؤسسات المختلفة وفتح الشوارع الجديدة والأحياء الجديدة. وقد أدى ذلك إلى استيراد عدد كبير من العمال الهنود وغيرهم لتغطية الحاجة لهم, رغم وجود بطالة وبطالة مقنعة في البلاد, وهي إشكالية بحاجة إلى معالجة أيضاً.
9. تأسيس عدد آخر من الجامعات العلمية في مدن كردستانية أخرى, رغم وجود صعوبات حقيقية في توفير الكوادر العلمية والفنية والأجهزة الضرورية للدراسة العلمية الموفقة وضمان مستوى علمي لائق ومطلوب.
10. تحسين وتطوير وتشغيل المطار القديم في أربيل للسفرات الخارجية, والبدء ببناء مطار دولي جديد فيها. وهذه الخطوة تحتل أهمية كبيرة لتنمية السياحة وتطوير الحركة من وإلى كردستان على الصعيدين العراقي والإقليمي والدولي. كما أنها ستكون مصدر عمل ورزق لعدد متزايد من العاطلين عن العمل.
11. تحسن عام في أوضاع السكان المعيشية وحركة السوق الداخلية وتحسن السيولة النقدية, مع بروز تحسن نسبي في عدد العاطلين عن العمل, سنتحدث عنه في الجانب الآخر من القضية. ومن الجدير بالإشارة إلى أن الفئات الاجتماعية المستفيدة من تحسن الأوضاع المعيشية هي الفئات الوسطية أو الطبقة الوسطى وكبار موظفي الدولة وكبار المسؤولين في الحزبين الحاكمين وبعض الأحزاب المتحالفة في قائمة التحالف الكردستاني.
12. زيادة الموارد المالية الداخلة في خزينة الفيدرالية الموزعة حتى الآن على حكومتين في أربيل والسليمانية, وهما في حقيقة الأمر بيد الحزبين الحاكمين. إذ بدأ الأخذ منذ تشكيل الحكومة السابقة بمبدأ توزيع الموارد على أساس نسبة السكان في كردستان إلى مجموع سكان العراق. كما أن هناك مساعدات مالية وقروض دولية تصل إلى الدولة العراقية ويفترض أن توزع على نفس الأسس, إضافة إلى مساعدات مباشرة تصل إلى حكومتي كردستان العراق من الخارج.
13. لا بد من الإشارة إلى وجود حركة إعلامية واسعة وطيبة, ولكنها ما تزال بعيدة عن ممارسة الدور المطلوب منها في عملية التوعية الجماهيرية واستخدام سبل جديدة في هذه التوعية, إضافة إلى ممارسة النقد لما هو سلبي في العملية الجارية. وهي رؤية لا تساعد على تطوير الرؤية النقدية لدى الناس وفي صفوف المتعلمين من السكان.
14. يبدو لي أن موقف الحزبين الحاكمين وكذلك موقف الحكومتين إيجابياً ومتقدماً في التعامل مع القوميات الأخرى والأديان والمذاهب المختلفة. وهو أمر إيجابي وضروري من أجل العيش في ظل التآخي والسلام والاحترام المتبادل وحرية ممارسة الطقوس الدينية والمذهبية بكل حرية. ومن الضروري أن يتضمن الدستور الكردستاني وكذا العراقي, مادة خاصة تنظم حقوق وواجبات ومصالح القوميات الأخرى في المجتمع الكردستاني وأن يصدر بها قانون خاص أيضاً.
لا شك في وجود إمكانية فعلية لتطوير هذه الجوانب الإيجابية وتوسيعها وتحسينها وتعميق مضامينها لصالح المجتمع وبناء المؤسسات الديمقراطية للفيدرالية الكردستانية. ولا شك في وجود جوانب إيجابية أخرى في العملية الجارية, بما في ذلك تأثيرها الإيجابي على القسم العربي من العراق.
برلين في 9/5/2005 كاظم حبيب
يتبع: الحلقة الثانية (2-3)
******************
هل من جديد في اتحادية كردستان العراق وفي حياة الشعب الكردي؟
الحلقة الثانية (2-3)
زرت كردستان في ربيع عام 2002 وزرتها في ربيع عام 2005. وتسنى لي في الزيارتين أن أقضي أكثر من أسبوعين في ربوعها وبين شعب كردستان. التقيت بعدد من المسئولين في الأحزاب السياسية وبعدد أكبر بكثير من المواطنين, ولكن بعدد محدود من المواطنات وعن طريق الصدفة. وإذا كانت زيارتي الأولى قد شملت أربيل والسليمانية ودهوك وعلى مقربة من كركوك, فزيارتي الثانية تركزت على أربيل وسفرة قصيرة جداً إلى السليمانية, ولم يتسن لي زيارة دهوك إلا مروراً بها دخولاً وخروجاً. سأحاول في هذه السلسلة من المقالات أن أطرح انطباعاتي الشخصية التي تكونت لي عبر المشاهدة والمعايشة والحوار مع عدد كبير من المواطنين المستقلين والحزبيين من أحزاب سياسية مختلفة. فما هو الجديد في عملية التطور الجارية في كردستان العراق؟
لا يمكن لأي تجربة أن تكون خالية من النواقص والهنّات أو السلبيات. كما لا يمكن أن تكون هناك تجربة كلها إيجابيات ونجاحات, إذ أن ذلك لن يكون إلا في خيال الحالمين من الناس. لهذا كنت أدرك بأن تجربة كردستان, حتى قبل زيارتي إليها بأني سأرى ما يفرح وما يحزن في آن واحد. وهو ما قد تحقق فعلاً. وإذ كنت في الحلقة الأولى قد كتبت عن الجوانب الإيجابية, فهذه الحلقة تليها ستبحث في الجوانب السلبية, في حين ستكون الحلقة الثالثة مخصصة لما أراه مناسباً لتغيير الوضع القائم وتطوير الفيدرالية. فما هي الجوانب السلبية التي شخصتها؟ لا أدعي في إجابتي أني امتلكت ناصية الصواب في ما أقول, بل هي وجهة نظر قابلة للتدقيق والنقد والتصحيح والحوار العقلاني لصالح المسيرة ذاتها.
ثانياً: الجوانب السلبية, ويمكن تلخيصها فيما يلي:
1. تراجع دور الحكومة لصالح دور الحزبين إلى حد قول البعض بغياب الدور الأول للحكومة, ونشوء تشابك في غير صالح الحياة والمؤسسات الديمقراطية التي يراد إقامتها في كردستان العراق.
2. وجود محاولات غير سليمة ومضرة بالمجتمع وبالحياة الديمقراطية وبالأشخاص أنفسهم في كردستان العراق تدعو إلى تكريس مرجعية سياسية مماثلة للمرجعية الدينية التي تحاول بعض الأحزاب الشيعية فرضها على المجتمع العراقي عموماً. وأملي أن يرفض هؤلاء الأشخاص أنفسهم مثل هذه المحاولات, إذ أنها تكرس الفردية في الحكم والشللية وتقود إلى الدكتاتورية من طرق مختلفة, كما أنها تحمل الفرد الذي يراد جعله مرجعية سياسية الأخطاء التي ترتكب منه أو من آخرين وتكون على حساب المؤسسات الديمقراطية التي يفترض إقامتها.
3. غياب الثقة المتبادلة الضرورية بين الحزبين الحاكمين الرئيسيين وتأثير ذلك على مجمل الوضع في كردستان العراق وعلى حركة وعمل الناس والمؤسسات والتنمية في الفيدرالية. وإذا كانت قد برزت مظاهر إيجابية لتحسين العلاقات بين القيادتين والحزبين, فأن أسلوب ممارسة الإعلام من جانب الاتحاد الوطني الكردستاني والتركيز على الأستاذ جلال طالباني لا في كونه رئيساً لكل العراقيين, بل في كونه رئيساً للاتحاد الوطني الكردستاني ورفع الأعلام الخضر التي تمثل الاتحاد الوطني قد وتر الأجواء وسمح بمزيد من التراجع في العلاقات التي تقدمت خطوات نحو الأمام, كما أن رد فعل قوى الحزب الديمقراطي الكردستاني لم تكن بمستوى الحدث, إذ أن انتخاب الأستاذ جلال طالباني جاء باتفاق بين القيادتين وبترشيح وموافقة الأستاذ مسعود بارزاني من جهة, إذ أن هذا الانتخاب كان له مغزى أساسياً هو المساواة في المواطنة الكاملة بين العرب والكرد وبقية القوميات, وهي النقطة الجوهرية للمجتمع المدني الديمقراطي من جهة ثانية. إن النظرة الحزبية الضيقة لهذا الانتخاب ليست في صالح القضية الكردية ذاتها وهو الخطأ الذي كان يفترض تجنبه. وحسب علمي بذل السيد رئيس الجمهورية جهداً مناسباً لتصحيح الوضعية التي نشأت من قبل الإعلام أو من غير الإعلام.
4. ومنذ انتهاء الانتخابات حتى الآن لم يتوصل الحزبان الحاكمان في إقليم كردستان إلى اتفاق بينهما ومن ثم تفعيل البرلمان وتشكيل الحكومة الموحدة ومؤسسات الفيدرالية الديمقراطية الموحدة واستمرار الازدواجية في وجود المؤسسات وفي الحكم والإدارة العامة, وما تعنيه من إشكاليات وصراعات لا أول لها ولا آخر. إن المسائل المطروحة يمكن معالجتها من خلال تكثيف اللقاءات وإبداء الاستعداد للمساومة في ما بين الحزبين, خاصة وأن الأحزاب الأخرى قد أبعدت حقاً عن المفاوضات وحصرت فيهما فقط. وهي حالة غير صحية بطبيعة الحال. إن الطريق الوحيد لمعالجة هذه المشكلات التزام المبادئ الديمقراطية والآليات الديمقراطية لمعالجة ما هو قائم من خلافات بين الحزبين الحاكمين.
5. غياب التخطيط أو البرمجة وضعف الإدارة السليمة لمؤسسات الحكم الفيدرالي. إذ يلاحظ الإنسان غياب التصور الواضح عن الوجهة الأساسية في التطور الاقتصادي للبلاد, ما عدا تأكيد وجهة اقتصاد السوق الحر. إلا أن هذا لا يعني أبداً أي وجهة يفترض في السياسة الاقتصادية أن تتوجه إليها, ومدى سعيها لتغيير علاقات الإنتاج السائدة حالياً وسبل تطوير العلاقات الرأسمالية والبناء الصناعي والتحديث الزراعي من أجل تحقيق التغيير المنشود في البنية الاجتماعية لتساهم بدورها في تغيير الوعي الاجتماعي والاقتصادي والسياسي باتجاه مدني ديمقراطي. وإذا كان صائباً الحديث عن الاقتصاد الحر, فأن من الأصوب لكردستان العراق والعراق كله الحديث عن اقتصاد السوق الحر الاجتماعي الذي يأخذ بنظر الاعتبار واقع المجتمع وتخلفه والفقر الذي يسود فئات اجتماعية واسعة جداً, إضافة إلى ضرورات تأمين جملة من الخدمات الاجتماعية للسكان في هذه المرحلة, كما يفترض تأمين مستلزمات ممارسة سياسات اقتصاد السوق الحر.
6. غياب السياسة والبرمجة المالية, باعتبارها الأداة التنفيذية للسياسة الاقتصادية, فغياب السياسة الاقتصادية غيب معه السياسة المالية, إضافة إلى تخلف الجهاز المصرفي وغياب مؤسسات التأمين وإعادة التأمين, التي تشكل أهمية بالغة كاحتياطي مالي في أوقات الكوارث أو للاستثمار الاقتصادي. إن هذا الواقع يقود, شاء الإنسان أم أبى, إلى استخدام غير عقلاني وسيء للموارد المالية ويسمح للاستخدام الفردي أو غير الشرعي أيضاً.
7. تفاقم الفساد الوظيفي, الإداري والمالي وشموله جميع المستويات وتحوله, كما هو الحال في باقي إرجاء العراق, إلى نظام كامل معمول به في مؤسسات الحكم والمجتمع, يساهم في إضعاف القدرة المالية والتراكمية للبلاد والثقة بالنظام القائم والقدرة على تعزيز الثقة بين المجتمع والقيادات السياسية والحكم. إذ أن التهم توجه لهم قبل غيرهم. والناس يتحدثون عن ذلك ويضربون الأمثلة الصارخة والمقنعة أحياناً والمبالغ بها أحياناً أخرى, سواء أكان المتحدث مسؤولاً في الحكم أم في الحزب أم مواطناً اعتيادياً. وخطورة نمو الفساد الوظيفي تكمن في قدرته على مساعدة الإرهابيين في الولوج إلى كردستان ثانية وتنفيذ عملياتهم الإجرامية ضد الشعب ومؤسساته وأحزابه ومناضليه. كما أنه عملاً تخريبياً كبيراً يؤثر بقوة على المواطن الاعتيادي كثيراً ويرهقه.
8. ويبدو لي ضرورياً أن أشير إلى مسألة هامة هي ضرورة اعتماد المناقصات في إعطاء المشاريع الاقتصادية الإنتاجية منها والخدمية, لكي يتم تجنب ما يشاع اليوم من غياب المناقصات وسيطرة البعض على تلك المقاولات وتحقيقهم أرباحاً خيالية أو احتكار جملة من النشاطات الاقتصادية لصالح هذا الشخص أو ذاك من المسؤولين أو المقربين منهم. والذين يحققون أربحاً طائلة تذكر الناس بعهد يفترض أنه مضى وانقضى.
9. ومما يزيد في الطين بلَّة العمل وفق قاعدة التراتبية الحزبية في التوظيف والاستخدام عملياً, كما هو الحال في بقية أنحاء العراق, إذ في مثل هذه الحالة يبقى المواطن الاعتيادي المستقل والأحزاب الضعيفة خارج إطار اللعبة. فالمحسوبية والمنسوبية والعلاقات العائلية وربما العشائرية والوساطة وليس الكفاءة, وربما الرشوة أو الطبطبة على الكتف والتزلف, هي الطريق للوصول إلى الوظائف والاستخدام أو حتى العقود وما إلى ذلك.
10. تنامي غنى الأغنياء وكبار المسؤولين الحزبيين وكبار الموظفين واستمرار الفقر على حاله أو تفاقمه, إضافة إلى استمرار تطور الأحياء الغنية وتوسعها واستمرار البؤس والقذارة والتخلف في المناطق الفقيرة التي لم ينتبه لها أحد حتى الآن. ويمكن إلقاء نظرة على موقع خلف فندق شيراتون في أربيل سيرى الإنسان مثلاً أن أطفال كردستان الصغار الحلوين, وهم كالورود, يلعبون في القذارة المليئة بالميكروبات وبأزقة خانقة ومتموجة ومخربة جداً يمكن أن يعثر بها الطفل ويسقط في الوحل أو تكسر ساقه أو يده في كل لحظة. وقد فوجئت بهذه الحالة عند تجوالي مع بعض الأصدقاء في هذه المنطقة وهي في وسط المدينة. كم أتمنى على الرؤساء زيارة تلك المناطق لأن سكنة تلك المناطق هم مواطنون تماماً, كما هي منطقة صلاح الدين والسليمانية وغيرها, ولهم حق على المسؤولين أكثر من الأغنياء والميسورين.
11. إن تنامي الثقة بالنفس مسألة مهمة جداً, ولكن يفترض فيها أن لا تصل إلى حد المغالاة والتعالي لتقود إلى إشكاليات جديدة, بما فيها مسألة حفظ الأمن التي تضعف اليقظة والحذر وتقود إلى تسرب الإرهابيين وبناء البنية التحتية لهم في كردستان العراق ثانية وتنفيذ عمليات إجرامية جديدة كما حصل أخيراً أمام مديرية الأمن المدني في أربيل. وإذا كانت كردستان قد حققت نجاحات كبيرة في صيانة الأمن وحفظ الاستقرار وإحساس الإنسان بالطمأنينة والسير في الشوارع دون خشية من اختطاف أو قتل, فأن هذه الحالة تستوجب عدم النوم على أكليل الغار, بل العمل من أجل تثقيف العاملات والعاملين في الأمن والشرطة والأمن الخاص بالجديد من المعارف, كما يفترض أن يعي الجندي أو الشرطي بأنه مستهدف وعليه أن يكون حذراً ويقظاً وأن يراقب بصورة جيدة دون أن يثير حفيظة الناس. وهي عملية معقدة ذات جانبين. ويبدو لي ضرورياً تقديم هؤلاء المجرمين إلى العدالة وإجراء المحاكمات العلنية لمساعدة الناس على معرفة أفعال المجرمين وطرق وأساليب وأدوات عملهم, كما أن فيها ردعاً مباشراً لمن يفكر بالالتحاق بهم. إن نجاحات كردستان في مكافحة الإرهاب يفترض أن تتعزز وتتطور وتنتقل التجربة على باقي أنحاء العراق, وأي إضعاف لها يساهم في تمادي الإرهابيين وتأمين بناء شبكات لهم يصعب تحكيمها.
12. إن إحدى الإشكاليات البارزة في كردستان تبرز في قلة الكوادر العلمية الراغبة في العمل في كردستان. وعندما يحضر البعض يجد في البداية عناية واهتمام مناسبين, ولكنه سرعان ما ينسى حالما يدخل نظام العمل هناك وينتهي إلى الرغبة في إنهاء العقد والعودة إلى الخارج. ويواجه صعوبات ومنافسات حادة ورفض باعتباره قادماً من الخارج. يفترض أن تعالج هذه الحالة إن كان المسؤولون راغبين في الحصول على المزيد من الكوادر العلمية, علماً بأنها تشكل جزءاً من الوضع العام الذي يحتاج إلى معالجة.
13. إحدى أبرز الإشكاليات التي تعاني منها البلدان النامية, ومنها كردستان العراق والعراق كله, هي التي تمس الموقف من العمل, إذ نجد ما يلي:
أ?. وجود بطالة كبيرة
ب?. وجود بطالة مقنعة واسعة.
ت?. ضعف الوعي العام بأهمية العمل ودوره في البناء الاقتصادي والاجتماعي ونمو ثروة المجتمع.
ث?. ضعف الوعي بالوقت وأهميته وقانون اقتصاد الوقت لضمان التنمية الاقتصادية المعجلة. إذ أن الوقت يعني من طرف آخر الموقف من إنتاجية العمل والتكاليف والقيمة والسعر وفائض القيمة والقدرة على تأمين المزيد من التراكمات والاستثمارات ...الخ.
ج?. ضعف الانضباط إزاء العمل والوقت وإزاء المسؤولين, رغم إبداء الاحترام الشكلي لهم, إذ أن جملة من المسؤولين يتميزون بذات السمات وذات الطبيعة أو العقلية.
وهذه المظاهر السلبية ذات تأثيرات حادة على العملية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وتقود إلى عواقب مضرة جداً على الإنتاج والخدمات والثروة الاجتماعية, وهي مرتبطة بالجهل وضعف التربية ونقص التثقيف العام. وهي حالة تستوجب وضع البرامج الفعلية لمعالجتها. أؤكد ثانية إنها ليست حالة كردستانية راهنة, بل هي حالة عراقية عامة.
14. غياب الحياة الثقافية كالمسرح والسينمات المناسبة والحركة الأدبية الفعالة والمكتبات العامة ومشاركة المثقفين وزيادة تأثيرهم في البناء الاقتصادي والاجتماعي والسياسي في البلاد وفي رفع مستوى الوعي لدى الإنسان الكردستاني, إضافة إلى زيادة دور المثقفين في الإعلام المسموع والمرئي والمقروء. إن دور النشر تقوم بإصدار الكثير من الكتب الجيدة التي يفترض عرض بعضها وإثارة الحوارات حولها في الصحف والمجلات وفي الإذاعة والتلفزة ووضع برامج لهذا الغرض وتبسيط مفاهيم بعض الكتاب للمشاهدين والمستمعين ...الخ.
أدرك جيداً صعوبات التغيير الاقتصادي والاجتماعي, كما أدرك جيداً الفترة الزمنية الطويلة نسبياً التي يحتاجها أي تغيير من هذا النوع, ولكني أدرك أيضاً بأن استمرار تلك الظواهر السلبية سيقود إلى تنامي الفجوة الراهنة بين القيادات السياسية الحزبية والحكومية وبين المجتمع وخاصة الفئات الكادحة التي لم تستفد كثيراً من التحولات الجارية في كردستان العراق. إن هذه الفجوة يمكن أن نراها في نتائج الانتخابات الأخيرة في المحافظات الكردستانية والتي يفترض أن تعتبر مؤشراً دالاً على مزاج الجماهير الشعبية الكادحة وعلى عدم ارتياحها من الوضع العام, وأن لا تعتبر نتائج الانتخابات العامة على نطاق العراق كله هي المحك لمعرفة مزاج الجماهير ومواقفها من الوضع السائد في كردستان ومن مستوى معيشتها ومدى رضاها عن المسؤولين في هذه المحافظة أو تلك ونطاق كردستان, إذ أن الأولى تمس الوضع والموقف في كردستان, في حين أن الانتخابات العامة تمس الموقف من حق تقرير المصير والفيدرالية وتأثير الكرد في العملية السياسية على صعيد العراق كله.
أعتقد جازماً بأن من واجب المسؤولين في أعلى المستويات القيام بين فترات قصيرة بزيارة المناطق الفقيرة والكادحة والإطلاع على أوضاعهم السكنية وشوارع محلاتهم وأزقتهم والاحتكاك بهم والاستماع لشكاواهم والتعرف على مدى التغييرات التي حصلت على كل ذلك بين زيارتين, إذ أنها الطريق الوحيد الصائب للوصول إلى الناس ومعرفة أوضاعهم ومعالجة مشكلاتهم وكسب رضاهم وتأييدهم من خلال تحقيق مصالحهم.
برلين في 9/5/2005 كاظم حبيب
يتبع: الحلقة الثالثة (3-3)
#كاظم_حبيب (هاشتاغ)
Kadhim_Habib#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟