أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - فارس حميد أمانة - هل يستحق عبد الهادي المجبل الفرعون كل ذلك ؟















المزيد.....

هل يستحق عبد الهادي المجبل الفرعون كل ذلك ؟


فارس حميد أمانة

الحوار المتمدن-العدد: 4164 - 2013 / 7 / 25 - 14:21
المحور: سيرة ذاتية
    


رحل عبد الهادي آل مجبل آل فرعون صبيحة يوم ربيعي .. رحل كبير أهله وسيد قومه وزعيم عشيرته .. رحل السهل الممتنع في الرابع عشر من آذار عام 2013 .. رحل الرجل ولم يرحل ..وفي صبيحة اليوم التالي صحبت ولدي الاثنين وعددا من اخوتي وابناء عمي معزين في مجلس عزاءه .. فاستقبلنا أهله بوجوههم الباشة المرحبة التي لم تستطع اخفاء الأسى لفقد شيخهم .. كان مجلس العزاء احتفالا وعرسا أكثر مما كان عزاءا .. فقد تجمع أهل المشخاب آلافا مؤلفة في "عراضة" لم يسبق لها مثيل .. هزج الناس وألقو كلماتهم الشعرية المعبرة عن تقديرهم للرجل الذي ندر ان أنجبت البلدة مثله ومثل أهله .. جرى كل ذلك وسط سحابة دخان من الرصاص الذي شق عنان سماء مجلس العزاء بأزيز يصم الآذان .. سألت نفسي ان كان الرجل يستحق كل ذلك فأجبت نفسي بنفسي بفيض من ذكريات عن الرجل وأهله .. ذكريات عاصرت بعضا منها وحدثني أبي عن بعضها حيث حدثت قبل مولدي بسنوات طويلة ..
كان عام 1936 عاما متميزا لجدي الحاج أمانة رحمه الله بحادثة غيرت انتماءه وولاءه .. أهدى جدي "مكوارا" لوالدي الذي لم يكن يتجاوز سنواته الأربع .. ولمن لا يعرف ما هو "المكوار" فهو سلاح يعتبره أهل الفرات الأوسط سلاح الشجعان لكونه يختلف عن الأسلحة النارية التي تقتل أو تصيب عن بعد ويمكن حتى للجبان أن يستخدمها .. أما "المكوار" فهو سلاح الاشتباك عن قرب حيث تتلاحم الأجساد بكل ارهاصات الغضب والخوف .. وهو سلاح الشجاعة والاقدام.. ولهذا السلاح أهمية تاريخية اذ تلاحمت معه أجساد مقاتلي ثورة العشرين مع أجساد أفراد الجيش البريطاني عندما عصفت الثورة ضد المحتل قبل أقل من قرن من الزمن .. وهذا السلاح يتكون من عصا غليضة بثخن ابهام الرجل مرتين وبطول ساعده أو أطول بقليل وينتهي بكرة صلبة جدا من القار وبامكان ضربة واحدة أن تشج رأس الخصم بل وتقتله في الأغلب .. ويبدوا ان أبي رحمه الها قد أدرك ما لسلاحه الجديد من قيمة وما لبث ان اشتبك مع صبي آخر في مثل سنه وشج رأسه .. وقد تطور الأمر سريعا ليصبح نزاعا بين العائلتين .. نزاعا لم يكن يخلوا من تهديد لجدي ووالدي .. كان الصبي الجريح من عشيرة آخرى وتلك مشكلة بحد ذاتها اذ كان الأمر يستلزم حسب القوانين والأعراف السائدة دفع جدي لغرامة مالية عن ابنه وسط صلح يحضره جمع من العشيرتين .. ولم يكن من عشيرة جدي من كان يسكن المشخاب في تلك الفترة فهرع الرجل الى أكثر رؤساء العشائر مهابة هناك وهو الشيخ مجبل آل فرعون والد الشيخ عبد الهادي محور أسطري هذه .. طلب جدي الحماية من هذا الشيخ فحماه وأكرمه وقف الى جنبه رادا عنه التهديد بقوة وسطوة عشيرته .. ومضى أكثر من ثمانين عاما على هذه الحادثة ولا زال من بقي من أهلي ممن يسكنون المشخاب يهرعون كجدي الى هذه العائلة عند كل نائبة ونزاع مع أطراف آخرى ..
مرت سنوات طويلة على ذلك والعلاقة تتوطد بين العائلتين .. كان الشيخ عبد الكاظم آل مجبل عندما وقعت الحادثة التالية نهاية الستينيات شيخا لعشيرة آل فتلة .. وقد كان يتردد كثيراعلى دكان أبي الذي كان تاجر قماش اذ كانا صديقين حميمين وكنت حينها ألازم أبي في دكانه وكنت بالكاد أبلغ الخامسة عشر من عمري .. وعندما كان الشيخ عبد الكاظم يطل علينا كنت أعرف جيدا الطقوس المتوجب علي فعلها ابتداءا من تقديم كرسي له ثم الهرولة الى المقهى وما هي الا دقيقة أو اثنتين حتى يطل علينا جعوال القهوجي بدشداشته وحزامه المشدود على وسطه حاملا أقداح الشاي الثقيل وطاسة الماء النحاسية .. كان الشيخ يشتري القماش من والدي مرتين في السنة مرة في الشتاء وآخرى في الصيف .. يبدأ أولا بالاختيار لعائلته الكبيرة ثم لعائلة الخدم الذين يعيشون في بيت وهبهم اياه .. ولم يكن ينسى أحدا .. ومن الخدم المتميزين كشخصية غريبة جدا وذات ذكاء حاد وبديهة سريعة "عذاب آل كشموش" ولا بد وان أفرد له مقالة خاصة سأنشرها لاحقا ..
عندما أنهى الشيخ أحاديثه الطويلة الودية مع أبي حمل ما تبضعه وودعنا طالبا من أبي أن يضيفها الى حسابه السابق ..ثم غادرنا .. لم أطق حينها صبرا فقلت لوالدي : كيف يكون هذا الرجل شيخا وهو لا يقدر على الشراء نقدا ؟ قلتها بغرور كمن عرف شيئا فات غيره .. امتعض والدي بشدة وأجابني بسؤال متهكم : هل تعرف عايد هذا الرجل؟ فأجبت بالنفي .. فقال : ان عايده يبلغ مئة ألف دينار .. لكنك لو فتشت جيبه فلن تجد دينارا .. وهذا من جوده يابني .. أفهمت ؟ لفظ أبي حرف الجيم بكلمة جوده بالجيم الفرنسية وهي لهجة الفرات الأوسط .. ولمن لا يعرف معنى كلمة عايد فهي تعني المردود المالي لناتج الرز العنبرعند البيع نهاية كل سنة .. ولمن لم يعش فترة الخمسينيات أو الستينيات فان عائلة متوسطة لا تنفق أكثر من بضعة دنانير على معيشتها كل شهر .. ويمكن لكم تخيل قيمة مبلغ كبير كمبلغ المئة ألف دينار حينها .. ومع كل هذه الثروة فالشيخ خالي الوفاض من شدة كرمه وجوده ..
مرت على تاك المحادثة بيني وبين أبي أكثر من عشرين عاما ليقضي الشيخ عبد الكاظم رحمه الله في حادث سيارة دون ان يعرف السائق انه دهس رجلا له مكانته في المشخاب ومكانته بين عشيرته .. ارتعب كثيرا عندما عرف حجم ما فعل ثم زج بالمسكين في السجن .. ويبدوا ان حادثة كبيرة كهذه هزت المدينة الصغيرة فنسي الجميع السائق المرتجف القابع خلف قضبان الزنزانة .. ويبدوا انه نسي من قبل أهله أيضا حتى انه ترك بلا طعام طيلة اليوم .. وعند المساء فتح شرطي باب الزنزانة ليدخل رجلان يحمل أحدهما طعاما كثيرا بصينية كبيرة ويحمل الآخر فراشا نظيفا ثم خرجا بهدوء .. هجم السائق الجائع على الطعام يأكل ليسد الجوع الذي عضه بنابه فما كان من الشرطي الا ان نهره قائلا : الا يفترض بك أن تعرف الرجلين قبل ان تمد يدك للطعام ؟ فقال : اتركني فقد آلمني الجوع ؟ فرد عليه الشرطي حانقا : من حمل الطعام هو ابن الشيخ عبد الكاظم الذي قتلته .. ومن حمل الفراش هو ابن الشيخ عبد الهادي الذي سيخلف أخاه بزعامة العشيرة .. سقطت يد السائق جنبه وهو يغص بالطعام وقد انحدرت من عينيه دمعتان ..
في اليوم التالي لذلك كان تشييع الشيخ عبد الكاظم .. ومن الطقوس التي يلتزم بها أهل المشخاب حمل الجنازة من الجامع على الأكتاف والمرور بها من خلال سوق التجار ويصحب ذلك انزال أبواب المحلات أو غلقها احتراما للجنازة عندما يكون المتوفى شخصا ذا قيمة كبيرة ثم السير بها بمحاذاة الشاطيء ثم الى مرئاب السيارات وتلك مسافة تقرب من كيلومتر واحد ..وعند وصول الجنازة أمر الشيخ عبد الهادي بانزالها على الأرض ثم جلس حزينا بجانبها فوجم الجميع للموقف .. وطال جلوس الشيخ عند جسد أخيه حيث لم يعرف له موقف المتداعي أبد .. لكن أحدا لم يتكلم .. كان الوجوم والحزن والاستغراب لموقف الشيخ هذا هو السائد.. فتقدم منه أحدهم هامسا : يا شيخ .. النهار حار جدا والناس تنتظر أمرك برفع الجنازة على السيارة .. فرد الشيخ : لن ترفع الجنازة والسائق المسكين خلف القضبان .. أخرجوه حتى نرفع الجنازة .. فرد الرجل عليه : يا شيخ اليوم جمعة ولا توجد دوائر مفتوحة لاجراء التنازل فنرجو تأجيل ذلك للغد .. فرفض الشيخ ذلك قائلا بحزم شديد : خذوا سياراتكم واذهبو بسرعة لتخرجوا الرجل بأية طريقة ..
بعد ذلك بساعة رجع الرجال المكلفون باطلاق سراح السائق وأخبروا الشيخ بحتمية ارسال زوجة المتوفى الى مركز الشرطة للتوقيع على التنازل .. فأمرهم بأخذها من مجلس العزاء وارسالها الى مركز الشرطة واخبارها ان هذه رغبة الشيخ عبد الهادي .. فعل الرجال المكلفين بذلك ومنهم سرحان آل عاجل الذي رجع ليخبر الشيخ باطلاق سراح السائق .. فقال لهم : الآن توكلوا على الله وارفعوا جنازة أخي على السيارة ..
ان من عادة العشائر أن يأتي وفد من أهل القاتل "وهو هنا قاتل عن غير عمد" لأداء التعزية في مجلس العزاء مع حمل ما يسمى بالواجب وهو أكياس الرز والدقيق والسمن والخراف كذبائح .. وكان الشيخ عبد الهادي يأمر رجاله بوضع كل لحم الذبائح التي جاء بها أهل القاتل مع ذبائح آخرى أمامهم أيضا عند تناول الطعام .. وكانت رؤوس الذبائح توضع أيضا كدلالة عددية .. وكانت تلك اشارة رائعة وخفية وبمنتهى الذكاء بانهم لا يأكلون من دية قتيلهم .. والدية رغم انها لم تحدد اذ لا يتم التباحث بها الا بعد انتهاء مجلس العزاء الذي يستمر عشرة أيام أو أكثر وبعد ورود اشارة القبول من أهل القتيل وكانت الذبائح المقدمة تعتبر من الدية رغم انها لا تؤخذ بالحسبان ..
وعند الجلوس لأداء الدية طلب أهل السائق تحديد أي مبلغ وبخلاف ذلك فان السائق المرتجف فرقا ينتظر خارجا في سيارة وقد وهب أهله دمه للشيخ ..ما كان جواب الشيخ عبد الهادي لهم ؟ أجاب بأن أي رقم يذكرسيكون اهانة للشيخ عبد الكاظم .. كما ان أي رقم لن يعدله مطلقا.. ختم اجابته قائلا : اذهبو فلن نأخذ شيئا ..
هل سيسألني أحدكم ان كان الشيخ عبد الهادي يستحق كل ذلك التقدير الذي جرى لجنازته ؟



#فارس_حميد_أمانة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قوادون .. لصوص .. متسولون .. وخمارون من الزمن الجميل
- الجاسوسان
- أنا .. ومعي الآخرون


المزيد.....




- واشنطن -تشعر بقلق عميق- من تشغيل إيران أجهزة طرد مركزي
- انهيار أرضي يودي بحياة 9 أشخاص في الكونغو بينهم 7 أطفال
- العاصفة -بيرت- تتسبب في انقطاع الكهرباء وتعطل السفر في الممل ...
- 300 مليار دولار سنويًا: هل تُنقذ خطة كوب29 العالم من أزمة ال ...
- زاخاروفا ترد على تصريحات بودولياك حول صاروخ -أوريشنيك-
- خلافات داخل فريق ترامب الانتقالي تصل إلى الشتائم والاعتداء ا ...
- الخارجية الإماراتية: نتابع عن كثب قضية اختفاء المواطن المولد ...
- ظهور بحيرة حمم بركانية إثر ثوران بركان جريندافيك في إيسلندا ...
- وزارة الصحة اللبنانية تكشف حصيلة القتلى والجرحى منذ بدء -ا ...
- -فايننشال تايمز-: خطط ترامب للتقارب مع روسيا تهدد بريطانيا و ...


المزيد.....

- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي
- تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون / سعيد العليمى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - فارس حميد أمانة - هل يستحق عبد الهادي المجبل الفرعون كل ذلك ؟