فرهاد دريعي
الحوار المتمدن-العدد: 1192 - 2005 / 5 / 9 - 07:41
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
قراءة في كتاب ( عامودا تحترق )
لمؤلِّفه الأستاذ المحامي حسن دريعي
إذا استثينا مقدَّمة الأستاذ الفاضل هيثم حسين فالكتاب يبدأ من الصفحة / 17 / ليقدِّم لنا الكاتب ومن خلال /44/ صفحة عامودا كما هي وكما كانت عارية وعلى حقيقتها بكلِّ بهائها وقبحها , بآثارها ومآثرها,سكّانها وأوجه نشاطها , عاداتها , وأطيافها وحكايا شيبها ؛ ليعرِّفنا بها من كلّ جانب , داخلاً الزمان في المكان وجامعاً بين التأريخ والجغرافيا في سيرة واقع مدينة كرديّة .
فالكاتب ليس مجرّد مؤلِّفٍ فحسب لأنّه ابن هذه المدينة وأعلم بخباياها وحناياها ( وأهل مكّة أدرى بشعابها ) .
فتح كتاب المدينة في وجه القارئ وسردها مذبوحاً , فكلُّ ما حوله يشي بالذبح والنحر وأطلق مدوّياً صرخة ( هاوار ).
مستغيثاً ومحذِّراً في آنٍ معاً , فخطر ما يحيق قادم ومرّة أخرى :
هاوار ..
والصرخة هذه ما أتت عبثاً . فقد عايش كلّ مآسي التفاوت الطبقيّ في مجتمع مدينته , وهو الغيور عليها . وأولئك الذين كانوا يتحكّمون بمفاتيح الثروة ما ساهموا في إنماء مدينتهم , وما استثمروا أموالهم في رفع سويّة المدينة وإبنائها المعاشيّ باستثناء القلّة القليلة جدّاً جدّاً والتي أفاض الكاتب في الثناء عليها ..
والصرخة ما أتت عبثاً . فهو يكشف النقاب عن لصوص السلطة المحلّيّة , وآخرون من صفوف الشعب نفسه . فبات مسكوناً بالوجع وتنامى لديه وجدان مثاليّ مغنّياً في سمفونيّة رومانسيّة لا تنتمي إلى هذا الزمان .
إنّها المدينة اللغز تمزّق ساكنيها بهذا ( الخبيص ) اللا منتهي ,فهي الشيوعيّة المناضلة ,كيف لا وقد سمّوها موسكو الثانية , إنّها المدينة البلسم المغنّاة في قصائد جكر خوين وهي المعقل , المتحدّية كلّ الدكتاتوريّات ( رشيد كرد ) إنموذجاً .
وهي الزاهية والملوَّنة ( رنكين ) وما تحمله هذه الكلمة من معنىً ثرٍّ وواسع في اللغة الكرديّة .
وبالمقابل فهي مدينة المقاهي – المواخير , ومدينة الربا والفقر والتخلّف الاجتماعيّ والعادات المثقوبة .
أمام هذا التلاطم تمزّق الكاتب نفسه , وتمزَّق فكره فشطّ به الانفعال والعاطفة إلى صرخة الـ هاوار في ضعفٍ واستسلامٍ لقدرٍ محتومٍ . إنّه مؤلم والأكثر إيلاماً أن ينتهي هذا الفصل من الكتاب بقصيدة شعريّة أو شبه شعريّة قد غفل أو تغافل الكاتب عن ذكر صاحبها الذي هو مقدِّم الكتاب نفسه الأستاذ هيثم حسين , فيتوهّم القارئ بأنّ هذه القصيدة هي للمؤلّف صاحب الكتاب , ص / 66-62 / كما لم يرد تصويب أو إيضاح في نهاية الكتاب يشير إلى ذلك .
* ملامح الطفولة : ص / 102 – 73 / .
في ما يشبه سيرة ذاتيّة يمضي الأستاذ المحامي حسن دريعي في عرض شريط طفولته أو ما تيسّر منه في دلالات انتماء .
فالصور التي خزنتها الذاكرة بفعل الحدث المرئيّ الممارَس حفرت عميقاً كما الوشم أو كما الكيّ .
طفولة الحرائق التي ما كانت لتنتهي , طفولة الشقاء والفقر والتعاسة ( وشيطنة الأولاد ) والجوع الممتدّ ليس في أمعاء الطفولة فحسب بل إلى ذاكرة النضوج , يظهر ذلك بجلاء في معرض حديثه عن ( الاستوديو ) السفر برلكي بالأبيض والأسود (...هذا الاستوديو الذي تحوّل في زمن لاحقٍ إلى مطعمٍ لمختلف أنواع الكباب واللحم والفرّوج المشويّ ) ص 77.
في مرحلة أخرى من طفولته يدخل الكنيسة ويتلو صلاته باللغة السريانيّة يردّدها هكذا دون أن توحي له بأيّ معنى , ولكن هذا الوافد المهيب والعملاق المعجزة – الحزب الشيوعيّ , استطاع إدخال مفاهيم جديدة في وعي المجتمع وجمعت بين طوائفه وأعراقه ودياناته لخدمة العملية النضاليّة . والكاتب هنا يجسِّد مرحلة نضاليّة بشكلٍ ما وبنوعٍ آخر من مراحل طفولته , فدخول الكنيسة لها أكثر من دلالة اجتماعيّة ودينيّة . إنّه دخول عالمٍ آخر واجتياز مغامر لحدود ...
وهذه الحدود قائمة : شارع باتّجاه شرق غرب يقطع عامودا إلى قسمين ... جنوب مسيحيّ متحضّر وأنيق وشمال مسلم متخلّف وعفن , والكاتب بطبيعة الحال ينتمي إلى هذا القسم الأخير , ولكنّ العائلة – عائلة الكاتب – ليست متخلّفة وليست عفنة ويعزو ذلك إلى دخولها المعترك السياسيّ وتحديداً انخراطها في صفوف الحزب الشيوعيّ السوريّ .
وحيث كان لهذا الحزب الدور الأكبر فيرفع سويّة المنتمين إليه اجتماعيّاً و ثقافيّاً و نضاليّاً ويربط فيما بينهم بلحمة لا تنفصم .
ولهذا دخل المؤلّف الكنيسة بفعل الرابطة الرفاقيّة الحميميّة بين والده الشيوعي البارز وبين رفاقه الشيوعيّين المسيحيّين ..
عامودا محيّرة .. فالوالد الشيوعيّ المسلم له نفس العلاقات الحميميّة مع أبرز رجال الدين المسلمين في مدينته حتّى حدا به الأمر بأن يتبرّع بأرضٍ له لإقامة مسجدٍ عليه .
مثيرة هي هذه الزخرفة المتخلخلة في هيكليّة المدينة البائسة .
وبرغم كلّ هذا السرد الدرامكاتيكيّ فإنّ معاناة الكاتب لم تتفاقم إلاّ بعد دخوله المدرسة وانتقاله من مدرسة إلى أخرى بمحفظة الصفيح وحذاء الكاوتشوك المقطّع , وفي هول المعاناة يكبر العويل فتفوح من الجمل رائحة تمزِّق الروح .
يأتي الكاتب على حكايات صداقاته الجديدة في مقعده الدراسيّ وبإسهابٍ أكثر عن معلّماته الثلاث اللواتي تأثّر بهنّ وعلى وجه الخصوص ( نجاح ) القادمة من الساحل .. فيصفها وصفاً دقيقاً وشاملاً ..حتّى يكاد يختلط الوصف بالتغزّل,
هذه المعلّمة بنت بشكلٍ ما وفي وقتٍ لاحقٍ علاقة إلفة ومحبّة وصداقة مع والدة الكاتب , وما كانت في جوهرها سوى علاقة مصالح متبادلة .. فقط ارتضت الوالدة وبحبور أن يقيم الطفل في عهدة المعلّمة .. يأكل ويشرب ويستحمّ ويدرس وينام .... و ( يخدم أيضاً ) .. وتعلّق الطفل بها كثيراً وحتّى عندما كبر وكتب عنها بدأ يعاني تشوّشاً ذهنيّاً بمجرّد تذكّرها ووصفها : ( ...تلبس نظّارات طبّيّة (موديرن) سمراء جميلة .. ) ص 86 , ليعود إلى وصفها مرّة أخرى مناقضاً الحالة الأولى : ( ... وجهها دائريّ .. بشرتها بيضاء .. ) الخ .
وهكذا يسير بإسهابٍ واستطراد إلى الصفحة /101/ في سيرة ذاتيّة ملؤها الشقاء والألم والمعاناة .. والعويل يتصاعد ليكشف لنا الوجه الباطن لشخص الأستاذ حسن دريعي . هذا الباطن الرقيق كورق السجائر ولا نعرف تماماً عمّا إذا كان يسرد كلّ هذه الفجائع بالنيابة عن كلّ أطفال عامودا في زمنه .. والذين ما لانوا أقلّ فجيعة و بؤساً وحرماناً منه.
* أمّـي : ص / 133 – 108 / .
إنّه الفصل الأكثر مرارة في حلقوم المؤلّف.. كلّ فصول الكتاب تحمل المرارة ذاتها ولكن والدته قد اتّكأت على وجدانه
ولمّا تزل في أبهى صور القداسة .
وممّا رسّخ هذا في ضميره وروحه إنّه فجع بها وهو ما يزال فتىً طريّاً , فبقيت على ذلك البهاء ,وبقي نواحه متدفِّقاً حيث كان المرض الفتّاك ( السّل) يأكل منها على مرأى منه وما كان هذا المرض سوى بفعل جبروت الرجل وقهر الأيّام وكيد النساء ( الضّرّة ) وضنك العيش .ممـّا دفع بالكاتب أن يصبّ جام غضبه على الرجل الذكوريّ –الفحل المستهتر بالمرأة الزوجة والخائن لها .إنـّه حال المجتمع الكرديّ البائس في تخلّفه وقرفه .فوالدته قد زفّت إلى والده وهي في التاسعة من عمرها -أي أنّها كانت قاصرة حسب المفهوم الحالي -ولكن هذه الوالدة (( فاطمة حسن فندي )) كانت تتمتّع بوعيٍ استثنائيّ في مرحلة لاحقة ومع ذلك بقيت مستكينة لواقعها المؤلم .
وهل كان والد الكاتب ينتمي إلى ذلك المجتمع المتخلّف لمجرّد أنّه تزوّج للمرّة الثانية لأسباب لا نعرفها ثم لاحقاً للمرّة الثالثة وأيضاً لأسباب لا نعرفها أيضاً .
أو ليست هذه السّمة كانت تنطبق على كلّ المجتمعات الإسلاميّة في مشارق الأرض ومغاربها؟
نتساءل إذاً:لماذا كان والد المؤلّف قارئاً جيّداً (وباللغة الكرديّة )لقصائد جكرخوين , ليس هذا فحسب بل وصديقاً له . ولماذا كان في صفوف الحزب الشيوعيّ السوريّ ؟
وما كان لينتسب إليه إلاّ من كان يملك قدراً لا بأس به من الوعي الثوريّ والمؤمن بالتغيير ولماذا كان يتبرّع بأرضه لبناء
مسجد عليه – أي لجهة عامّة – ومن منظور إنسانيّ بحت :
ولماذا كان كما سنرى لاحقاً يدفع بمسدّسه إلى طاولة التبرّعات لصالح الثورة الجزائريّة وسلاح الكرديّ شرفه , وباعتراف المؤلّف ...؟!
ماتت فاطمة حسن حمو فندي وهي مغتربة في روحها . ماتت في بيروت وهي تطلب ترياقاً لسقمٍ ليس له دواء بعدما استفحل ودمّر .. ودفنت في روابي تلّ الزعتر الذي بات الآن من المناطق السكنيّة فأضفى على المكان حضارة عمرانيّة .
لم يأل الكاتب جهداً بأن يصفها بعلب السردين بينما بيوتنا ما هي غالباً إلاّ علب طين , فتغافل الكاتب عن هذه , كما تغافل في مقدّمة هذا الفصل عن ذكر اسم الفنّان محمّد سعدون صاحب لوحة المرحوم نعمت دريعي , حيث لم يظهر توقيع الفنّان بجلاء على اللوحة ولم يشر إليه مؤلّف الكتاب بدوره ليتوهّم القارئ من جديد بأنّ هذه اللوحة إنّما هي من أعمال الفنّان خضر عبد الكريم حيث أنّ الغلاف واللوحات الداخليّة له .
عامودا تحترق ∞ - 138 .
(( نيرون مات ولم تمت روما
بعينيها تقاتل
وحبوب سنبلة تجفّ ستملأ الوادي سنابل )) . محمود درويش .
القسم الذي يحمل عنوان الكتاب ومحوره وبيت القصيد فيه , الموضوع الأكثر جدلاً والأكثر وهجاً في وسط عامودا المكتوية على آخرها بلفح الحدث .
لقد تحمّل المؤلّف العناء الكبير في البحث والتدقيق والتمحيص عناءً بمستوى العمل الذي يقوم به ليقدّم للقارئ القاصي والداني حقيقة ما حدث مبتغياً التوثيق والتأريخ في أمانة ونزاهة مطلقتين , ومزيحاً عنه كلّ ما لحق به من غبن وتشويش , والكاتب يجد نفسه أهلاً لذلك , فهو أحد الناجين من أتون المحرقة , ويحمل على جسده علامات منها , وسكنت الفاجعة روحه , فبات يغنّي من الوجع معلناً انتماءه القوميّ إلى مدينته الكرديّة المتفحّمة التي هي بوّابة الانتماء إلى سائر الأصقاع الكرديّة الأخرى وامتداداً لها , فبات يعرض مسار الأمور ( دونكيشوتيّاً ) رافضاً من ينافسه في هذا المضمار , مزهوّاً بانكسارات ملكيّة الاستحواذ , ( فمن لم يكتوِ بنيران فاجعة سينما عامودا , ليس مخوَّلاً بالكلام عنها أو حتّى بالكتابة عنها ) ص 191 . ولعلّه يضمن مقولته حقّ نقض النقد أيضاً .
وككلّ أقسام / الهامشيّة / الأخرى تأخذه سطوة الانفعال والقلق , وهو الموبوء بهما , فابتعد قليلاً أو كثيراً عن نمط التوثيق الذي تبنّاه .
وهذا ليس من باب الانتقاد , فواقع الوعي المبكّر لدى المؤلّف تجاه الواقع الاجتماعيّ المزري والواقع السلطويّ العتيد والمجحف والواقع الحزبيّ الخواء أشعل في ذاته نار التمرّد فالتمست جمله النور متذمّرة وساخطة حيناً ومستغيثة بيأسٍ أحياناً أخرى . فأمام موضوع جلل كهذا لحادثة مجزرة كهذه , يتناولها محامٍ قدير كمؤلّفنا : كنّا نهفو أن نرى عبر السطور عبارات كـ : حسب المادّة رقم / كذا / و / كذا / من القانون / كذا / لعام / كذا وكذا / . ولكنّه لم يفعل ولأسباب لا نعرفها فكانت النتيجة عكسيّة وأوجد متنفَّساً لأولئك الذين كانوا يصطادون في الماء العكر لإبعاد التهمة عن أنفسهم .
لقد استهلّ القسم هذا بأسماء / 184 / طفلاً شهيداً وعلى رأسهم ( الرجل الطفل ) محمّد سعيد آغا الدقّوري الذي أضحى أسطورة جيله والأجيال التي تلي لما قام به من عملٍ جليلٍ مضحّياً ومتفانياً .
وعندما قالوا له : ولدك نجا .
أجابهم : كلّهم أولادي . واقتحم النار , وأنقذ من طالت إليه يداه إلى أن سقط الجسر الخشبيّ المحترق عليه .. ليصبح بطلاً شهيداً وليفتخر به كلّ كرديّ وليغدو مضرب المثل في الفداء .
لقد أدرج الكاتب صورته وهو طفل ضمن مجموعة صور الشهداء وكأنّنا به يعلن انتماءه إليهم بغضّ النظر عن نجاته من جهنّم ( شهرزاد ) . هذا الانتماء الذي يظهره في أكثر من مكان وبأكثر من صورة ونمط وكأنّما يزيح عن صدره صخرة ثقيلة جاثمة .. إثباتاً للوعي وللذّات وتجذّراً في الأرض المنبت , هو بالوكالة عن سجلاّت قيد النفوس للمنطقة بأسرها .
لم يأل جهداً في أن يبحث وينقّب ويستقرئ ويجتهد فألمّ بالجوانب ما استطاع , وبفكر إنسانيّ مرهف أحدث شرخاً في ذاته النبيلة , وأشار إلى ذلك بوضوح :
فالمعلوم أنّ ريع الفلم المعروض كان لصالح الشعب الجزائريّ وثورته .
وهو موضوع تحرّريّ يستحقّ وقوف جميع القوى الخيّرة معه وهناك تلاحم مصيريّ بين الشعبين الكرديّ والعربيّ , فهو يربط بين جيله وبين جيل صبرا وشاتيلا وبورسعيد أيضاً .
عمق الوشائج الإنسانيّة – الوجدانيّ- التحرّريّة دفع بالكرد أن يقدّموا جيلاً غضّاً طريّاً بأكمله قرباناً على مذبحة الثورة الجزائريّة : (( آه .. آه .. أيّها الثوريّون الجزائريّون .. أيّها الوطنيّون الجزائريّون .. أيّها الشرفاء الجزائريّون , كم أبخستم إخوتكم الكرد حقّهم في الوفاء )) . ص 215 . في إشارة مضمرة منه إلى اتّفاقيّة الجزائر المشؤومة .
وفي المزاد العلنيّ والعبارة للكاتب : (( المزاد على من سيدفع أكثر دعماً للثورة الجزائريّة )) .
يدفع الحماس بوالد المؤلّف لأن يدفع بمسدّسه إلى طاولة المزاد وإنّما هو شرف لا يضاهيه شرف فكسر المزاد وهزم الجميع : ((...ويقيناً أنّ بعض طلقات هذا المسدّس قد استقرّت في صدر أحد الغزاة الفرنسيّين أو احد عملائهم )) .ص 214 .
فمن أين جاء المؤلّف بهذا اليقين ..؟
وهو الذي يدرك ويوثّق بأنّ هذه التبرّعات كانت تشرف عليها إدارات الدولة – الحكومة – متمثّلة بسلطاتها المحلّيّة – مدير الناحية وأزلامه . وكانوا وباعتراف المؤلّف مجموعة لصوص ينهبون جيوب الشعب وأرزاقه .
فما الذي يمنعهم إذن من أن يزدانوا خاصرة أحد أولادهم بهذا المسدّس بدل من أن يرسلوا به إلى الجزائر وثورته ؟
لمَ لا والكاتب نفسه يعزو سبب الحريق إلى لصوصيّة هؤلاء :
( هناك من سرقوا ليحرقوا , ولولا سرقتهم لما احترق هذا العدد المرعب من الضحايا ) . ص 224 .
لا يقف الكاتب هنا فيقوم بتوزيع المسؤوليّات وبها يقطع الحدث المجلجل – الكارثة – إلى نتف تفقد وزنها النوعيّ وزخمها المدوّي فيختلط في ذهن القارئ الحابل بالنابل , ورغم أنّ المؤلّف يذكر بأنّ دار العرض كان مؤجّراً ومسلَّماً لمدير الناحية ودار البلديّة من قبل مالكي دار العرض وانحصر دور المالكين على تشغيل آلة العرض فقط . إلاّ أنّ الكاتب يوزّع المسؤوليّات ويشرك الكثيرين في مسؤوليّة هذا الحريق – الفاجعة :
مدير الناحية – محاسب الإدارة – مدراء ومعلّمو المدارس التي حضر تلامذتها العرض – ومسؤوليّة مالكي دار السينما-
كونها غير صالحة بطبيعة سقفيّة القشّ وديكور القماش والطلاء السريع الاشتعال وافتقارها لأنظمة الإطفاء والأمن والسلامة , ثمّ مسؤوليّة أهل المدينة نفسها حيث وقفوا يتفرّجون على النيران المضطرمة تلتهم أطفالهم وأياديهم خلف ظهورهم واجمين أو غير مكترثين .
ولعلّ القارئ سيكون مغتبطاً لأنّ المؤلّف لم يشمل الأطفال الضحايا أنفسهم المسؤوليّة كونهم حضروا عرض الفلم فأصبحوا عرضة للحريق والموت .. ولو قبعوا في بيوت ذويهم لكانوا في مأمن من كلّ هذا .
لقد كانت مادّة الفلم سريعة الاشتعال بشكل غريب ولا يختلف على ذلك اثنان وقد تابعت شخصيّاً برنامجاً وثائقيّاً على إحدى المحطّات الفضائيّة حوا هذا الموضوع وحول طبيعة الأفلام تلك , وحيث تسبّب في اشتعال الحرائق في دور السينما في مختلف أنحاء الأرض وأودى بحياة / 10000 / عشرة آلاف شخص , ولعلّما يربو عن / 18 4 / طفلاً ممّن استشهدوا في حريق سينما عامودا هم ضمن هذا الرقم الذي أورده البرنامج .
لكنّ السؤال الذي يطرح نفسه : من هم الذين كانوا يقومون باستيراد مثل هذه الأفلام الخطرة ؟
وإذا كانت دار عرض شهرزاد تفتقر إن ذاك إلى أنظمة وأجهزة حماية وإطفاء ووسائل السلامة ..
فمن كانت الجهة التي كانت تتابع مثل هذه الأمور وتراقبها ..؟
وهل كانت هناك لجان تراقبها فعلاً ..؟
وإذا كانت دار السينما نفسها غير صالحة أصلاً بسبب طبيعتها ومكوّناتها البدائيّة والخطرة فأيّ جهة أجازت لها ورخّصت لها بتقديم العروض ..؟
المسؤوليّة تقع على عاتق من إذن ؟
لن نستطيع اتّهام الربّ في كلّ الأحوال ..!!
ففي كلّ مأساة لنا يكون الربّ متغيّباً وبدون عذر , كي لا نحمّله مسؤوليّة ما حدث في أثناء دوامه الإلهيّ !!!
لقد آثر المؤلّف ألاّ يقدِّم إجابات على هذه الأسئلة أو تلك غيرها ممّا تغصّ به حناجر ذوي الشهداء الذين تقطّعت أحذيتهم على طريق المقابر وسواهم من أبناء المدينة وسواهم ..وسواهم . اللهمّ طيف محجّبات خجولات من وراء زجاج محجّر غير شفّاف . ولو كان قد تمّ ذلك لكنّا أمام عملٍ متكاملٍ يشفي غليل الكثيرين من الثكالى , ومّمن فقدوا فلذّات أكبادهم في عمرٍ يؤسَف عليه ويحزّ القلب .
لقد آثر المؤلّف الألم في ذاته معذّباً لها كونه يلتفت حوله فلا يرى سوى الخراب والخراب في كلّ شيء .. في الأرض والدور والشجر والبشر فينكفئ على نفسه ويدمّرها فاقداً بذلك رصانة رجل القانون فليس أمامه سوى التباكي على مدن الخراب متمثّلة بمدينته ( عامودا المنحورة والمحاصَرة )وهي تنتخر متهاوية تحت وطأة الحسابات الملغومة والمغلوطة , لتدفن بركامها الأماني والآلام والطموحات وكلّ الأحلام البهيجة , كما دفنت رئة المؤلّف ونصف قلبه ( عزّ الدين ), وكما دفنت طفولة المؤلّف ومحفظة الصفيح المدرسيّة , وكما دفنت رونق الحياة في والدته .... وحبّه البكر أيضاً .. وأيضاً كلّ ذلك الحشد من أزهار البنفسج الذي كان جيل المؤلّف نفسه , فهي منذورة للحرق والخراب :
( النحر هو قدرك الأبديّ , الاحتراق قضاؤك الأزليّ ) . ص 486 .
هكذا في غناء ملحميّ شجيٍّ وبلغة شاعريّة ملفّعة بالتكسّر والتصدّع يتابع :
( هل من مغيث .. ؟!
لا مغيث .. لا مغيث .. لا مغيث .. ! ) . ص 486 . مكرِّراً ( لوك ) تأكيداً لحالة اليأس التي يعيشها , هذه اللغة التي لا تنتمي إلى الطابع الوثائقيّ أو التأريخيّ , فلم يعد ممكناً تصنيف الكتاب تحت مسمّىً معيّن .
كتاب (( عامودا تحترق )) هو باكورة أعماله ولن تكون يتيمة بالتأكيد , فمؤلّفنا الأستاذ حسن دريعي قد خطا الخطوة الأولى وتصدّى لعملٍ كان ينخر في عظامه نظراً لتقاعس الآخرين وخوفاً عليه من التلاشي في ذاكرة التاريخ الصدئة ,فهبّ وسعى ما استطاع , ليستنهض ( النائمين على آذانهم ) ويغلق فواتير المتاجرات .
وعندما سمّى مؤلَّفه بـ (( عامودا تحترق )) فكأنّي بلسان حاله يقول : ( عامودا لن تحترق ) .
#فرهاد_دريعي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟