|
النسبية العلمانية والأصولية الدينية
عبد المجيد إسماعيل الشهاوي
الحوار المتمدن-العدد: 4156 - 2013 / 7 / 17 - 19:33
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
يعرف المفكر والفيلسوف المصري د. مراد وهبة العلمانية أن هي "التفكير في النسبي بما هو نسبي وليس بما هو مطلق"، بما يجعلها تتعارض بشكل واضح مع الأصولية التي يعرفها أيضاً أن هي "التفكير في النسبي بما هو مطلق وليس بما هو نسبي". هكذا يمكن القول أن العلمانية والأصولية حسب وجهة النظر هذه هما طريقتي تفكير مختلفتين ربما إلى حد التناقض حول نفس المسألة، بحيث لو كانت نظرة الشخص لها نسبية تتقبل الخطأ والصواب وتتحمل وجهات النظر الأخرى المختلفة كان ضمن معسكر العلمانيين، بينما لو كان الشخص من أنصار النظرة الواحدة الصحيحة التي تكفر الخارجين عنها أصبح بالضرورة ضمن معسكر الأصوليين، الذي تنتمي إليه بالطبع الحقيقة الدينية المطلقة التي لا تتحمل أي اختلاف في وجهات النظر حولها. مستحيل أن يقول أحد، مثلاً، أن "من وجهة نظري، لا يوجد إله للكون" ولا يزال يعلق الأمل في أن يظل منتمياً للمعسكر الأصولي، الديني؛ في المقابل، العلمانية تجيز مثل وجهة النظر هذه وكافة وجهات النظر المعارضة الأخرى دون استثناء، على قدم الاحترام والتسامح التام بصرف النظر عن الاختلاف والتعارض والتناقض فيما بينها.
إلى هذه "النسبية" التي يميز بها د. وهبة العلمانية عن الأصولية، قد أضيف هنا صفة أخرى هي "التخصص" التي أزعم أن طريقة التفكير العلمانية تنفرد بها عن طريقة التفكير الأصولية، المتضمنة أيضاً منهجية الفكر والفقه الديني. في السياق التاريخي، يلاحظ أن المنهجية العلمانية في التفكير قد نشأت وتطورت من رحم الصراع الطويل مع الكنيسة ونظرتها الشمولية المطلقة للكون، وهو الصراع الذي بانت فيه ملامح انتصار العلمانية بداية من القرن الخامس عشر لتتقدم فيما بعد بثبات وثقة في النفس صوب الاكتشافات الجغرافية والعلمية والابتكارات الكثيرة اللاحقة في شتى المجالات العسكرية والطبية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية والحقوقية والتكنولوجية...الخ التي لا يزال يعيش عليها العالم المعاصر إلى اليوم. في ذلك الوقت كان اعتماد "التخصص" في العلوم، الذي أدى إلى فصل اللاهوت، مثلاً، عن الفلسفة، والطب عن الفلك، ثم فيما بعد قسم حتى التخصص العام الواحد إلى العديد من التخصصات الفرعية الدقيقة، بمثابة بداية النقلة الحقيقية من "شمولية" الكنيسة وطريقتها الكلية في البحث والتفكير في الحقيقة المطلقة فيما وراء الطبيعة إلى "نسبية" العلمانية، التي منذ ذلك الانتصار التاريخي لا تزال هي السائدة بعدما طردت شمولية الأصولية الدينية إلى هامش دوائر الفكر والحياة.
حتى يستطيع النماء والتطور، كان هذا التخصص بحاجة إلى "استقلالية"؛ وهذه، كما أتصور، كانت الصفة الثالثة بعد "النسبية" و"التخصصية" التي بدونها ما كانت العلمانية تستطيع أن تترسخ وتصمد في وجه مقاومة الأصولية الدينية لكي تنتصر عليها في النهاية. هذه "الاستقلالية" تعطي للمجالات والتخصصات المختلفة إمكانية الحركة الذاتية والتطور والتقدم الذاتي داخل حدود واضحة من دون تطفل أو تدخل أو قيود تعسفية من خارجها، مثلما ظلت الشمولية الدينية تمارس وصايتها بحجة الحقيقة الإلهية المطلقة على كافة جوانب حياة المجتمع الأخرى طوال قرون سابقة، الذي كان من عواقبه إصابة التفكير والبحث العلمي ونمو المؤسسات بالتخلف والشلل وحالة موات سريري حتى أسعفتها العلمانية بعتقها من قيود الحقيقة المطلقة. في العلمانية، كل شيء هو "نسبي" يتقبل ويتحمل غيره المختلف معه، وهو "متخصص" لا يمتد نظره أبعد من حدود تخصصه الموضوعي، وهو "مستقل" لا يقبل من أي شيء آخر أن يجور أو يعتدي على خصوصيته وحدوده، بأي حجة حتى لو كانت تفويضاً إلهياً.
على هذا الأساس العلماني المشيد على أعمدة "النسبية" و"التخصص" و"الاستقلالية" الثلاثة الرئيسية أقيمت أيضاً الدولة الوطنية، التي خرجت هي الأخرى من شمولية سلطة الكنيسة المسيحية بالتزامن مع الفلسفة والعلوم. وفي المقابل، قد تأسس نظام الحكم الديمقراطي في الدولة الوطنية على أساس أن الشعب هو صاحب السيادة ومصدر كل السلطات، التي تفوض "بالتناسب" عبر الآليات الديمقراطية في ثلاث مؤسسات رئيسية "متخصصة" و"مستقلة": التشريعية والتنفيذية والقضائية. وفق هذا المعمار العلماني، يجب أن تتوزع سلطة الشعب بين هذه المؤسسات الثلاثة بنسب متوازنة تماماً لا تسمح بغلبة أي منها على الآخرين، وبتخصص يسمح لكل منها بالتركيز الكامل على نطاق العمل المخصص لها في الدستور، وباستقلالية تمنع من توغل أي منها على الصلاحيات الدستورية للآخرين.
في المقابل، الأصولية الدينية تعترف بالسيادة والحاكمية لله وحده وليس للشعب أو أي كيان آخر، ومن ثم لا ترى أي ضرورة لمثل هذا التوزيع المتناسب والمتخصص والمستقل للسلطة فيما بين مؤسسات الحكم في الدولة الوطنية. لكن على صورة الله الواحد الأحد الذي يدبر الأمر ويسير الكون وحده من دون شريك في السماء، تسعى الأصولية الدينية إلى أن تنصب حاكماً بشرياً وحيداً كظل وخليفة للإله في الأرض وتضع في يده جميع السلطات. هكذا كان الحال طوال القرون التي كانت خلالها النظرة الأصولية المسيحية هي السائدة إبان عصور الظلام في القرون الوسطى بأوروبا الغربية؛ وهي أيضاً إلى حد بعيد نفس النظرة الأصولية الإسلامية التي تبناها الإسلام السياسي بقيادة الإخوان المسلمين خلال عامهم اليتيم على سدة الحكم في مصر، التجربة التي انتهت بسقوط مدوي.
#عبد_المجيد_إسماعيل_الشهاوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أنا رب الكون
-
رهان أوباما الخاسر على الإخوان
-
وهل الرُسُل بشر أيضاً؟
-
مصر تسقط إرهاب السياسة الإسلامية
-
المصريون يخرجون على الشرعية
-
هنا القاهرة 30
-
مصر الوطنية تصارع مشروع الإسلام السياسي
-
أمريكا وإيران من داخل المنطقة العربية
-
فضفضة مصرية فوق السد
-
إسلام متقدم لمسلمين متخلفين؟!
-
في الرحلة مع تطور الآلهة
-
بحثاً عن شرعية مفقودة في عرض توقيعات -تمرد- و-تجرد-
-
سائق اللصوص الشريف!
-
هذا كلام الله مش كلامي
-
الدين الخارج عن القانون
-
في العقلية الخرفانية
-
إسلام بالقسوة
-
إيران الإسلامية في سوريا العلمانية
-
مصر- بلد .....
-
صناعة العبيد
المزيد.....
-
القوى الوطنية والاسلامية في طوباس تعلن غدا الخميس اضرابا شام
...
-
البابا فرنسيس يكتب عن العراق: من المستحيل تخيله بلا مسيحيين
...
-
حركة الجهاد الاسلامي: ندين المجزرة الوحشية التي ارتكبها العد
...
-
البوندستاغ يوافق على طلب المعارضة المسيحية حول تشديد سياسة ا
...
-
تردد قناة طيور الجنة على القمر الصناعي 2024 لضحك الأطفال
-
شولتس يحذر من ائتلاف حكومي بين التحالف المسيحي وحزب -البديل-
...
-
أبو عبيدة: الإفراج عن المحتجزة أربال يهود غدا
-
مكتب نتنياهو يعلن أسماء رهائن سيُطلق سراحهم من غزة الخميس..
...
-
ابو عبيدة: قررت القسام الافراج غدا عن الاسرى اربيل يهود وبير
...
-
المجلس المركزي لليهود في ألمانيا يوجه رسالة تحذير إلى 103 من
...
المزيد.....
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
المزيد.....
|