|
القضاء الاسلامي في الميزان
أحمد القبانجي
الحوار المتمدن-العدد: 4155 - 2013 / 7 / 16 - 14:07
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
اعداد: حيان الخياط
يقرر الفقهاء أن دية الكتابي لا تتجاوز الـ (800) درهماً، بينما دية الرجل المسلم (1000 دينار ذهباً). مع ان هذا الحكم يتقاطع تماماً مع الاجواء الثقافية والسياسية الحاكمة على العالم المعاصر، فإذا قلنا بأن هذا الحكم الشرعي هو من قبيل الاحكام الحكومية كالجزية مثلاً والتي يمكن للحاكم الشرعي أن يتصرف بمقدارها بملاحظة الظروف والمستجدات، وأن غير المسلمين يشتركون مع المسلمين بحقوق متساوية في البلد الاسلامي، كما هو حال الاقليات المسلمة في البلدان غير الاسلامية، فلا تبقى مشكلة في البين، اما لو قلنا بمقولة الفقه التقليدي الذي يتحرك من موقع التمسك بأهداب النصوص دون ملاحظة المتغيرات الزمانية والمكانية فسنواجه إشكالية التوفيق بين المباديء الاسلامية العالمية، التي تشمل كل تطلعات الانسانية وطموحاتها، وبين هذه الأطر الضيقة التي تخاطب الاخرين بمنطق آيديولوجي مغلق يسعي إلى إلغاء الآخر لا الانفتاح معه في عملية صياغة مفاهيم جديدة عن العدالة والحرية والانسانية والقيم الاخلاقية. اما بالنسبة إلى (المنهج) فكذلك نحتاج إلى إجراء بعض التعديلات على ما ورد في الموروث الفقهي. على سبيل المثال يؤكد الفقه تبعاً للنصوص الشريفة بأن القضاء يقوم على البينة واليمين، أي أنّ البيّنة على من ادّعى (وهي شاهدان عادلان) واليمين على من أنكر، ومن الواضح أنّ القضاء بهذه البساطة في الاُسلوب كان موافقاً تماماً لمقتضيات العدالة في تلك المجتمعات البسيطة التركيب، في مقابل تعسف الحكومات الجائرة من فراعنة وقياصرة وأكاسرة الذين كانوا يحكمون بما تملي عليهم أهواهم وبما يحقق مصالحهم ويحفظ لهم عروشهم ولم يكن أحد من الناس يتصور أنّ بالأمكان ايجاد وسائل وآليات لأثبات الحكم وحل الخصومات أفضل من ذلك. إلاّ أنه بعد تطور المجتمع البشري وابتكار مناهج جديدة في القضاء بإمكانها تحقيق العدالة بصورة أفضل من قبيل المحامي وهيئة المحلفين والمدعي العام ومحكمة الاستئناف وفرز أنواع الجرائم ووضع مقدار العقوبة على أيدي خبراء متخصصين وعلماء نفس وغير ذلك، فلا داعي للتمسك بالمنهج القديم بحجة أنّه من الدين وأنه حكم إلهي لا يجوز تخطّبه بحال ... وبعبارة اُخرى: ينبغي علينا أن نتحرك باتجاه الهدف من الشريعة وأحكامها، وهو تحقيق العدالة، ولا نتجمد على الوسائل والآليات، لأن لكل مجتمع ولكل زمان وسائله الخاصة المنسجمة مع ثقافته وتاريخه في مسألة القضاء والحكومة، ولا يعقل أن يتعبدنا الشارع بالأهداف والوسائل معاً، أي حتى لو وجد المسلمون وسائل أفضل لتحقيق النصر على أعداء الدين أو لنشر الأسلام في العالم فلا يعقل أن يتعبدنا الشارع باستخدام الوسائل القديمة من السيف والرمح وبناء الخنادق وأمثال ذلك، فالهدف هو المقصود، واختيار الوسيلة متروك للإنسان والمجتمع وثقافته وظروفه الخاصة، ولما كنا نعلم أنّ الغاية من ارسال الرسل هي: (لِيقومَ الناس بالقسط...) كما يقول القرآن الكريم، فالمفروض الأخذ بكل وسيلة لتحقيق هذا الهدف وعلى رأسها الاستفادة من الخبرات البشرية والطرق المجربة والإمكانات التي يوفرها التطور العلمي في المجتمعات المتقدمة، دون الانغلاق على الذات والتراث ورفض كل جديد بحجة أنه قانون بشري ومستورد من بلاد الكفر ولا ينبغي للمسلم استخدام هذه المناهج البشرية في تطبيق العدالة، فتكون النتيجة تخلف المجتمع الإسلامي حضارياً وثقافياً واقتصادياً عن المجتمعات البشرية الاُخري، وهذا يعني تكريس التبعية وكبت الطاقات وايقاف عملية التنمية الاجتماعية والترشيد السياسي لافراد الامة، ومعلوم أنّ المجتمعات في عالمنا الجديد تعيش في حالة من الصعود والتقدم العلمي والحضاري على جميع المستويات، ولا يمكن لشعب من الشعوب أن يعيش في معزل عن العالم ويوصد أبوابه ونوافذه بوجه الثقافة الجديدة وخاصة إذا إدّعي أنه يمتلك ثقافة أقوى وأفضل من الآخرين كما ندعي نحن المسلمون ذلك. وكنموذج لضرورة التغيير في المناهج المتداولة في القضاء مسأله الشهادة وعدد الشهود وأنها لابد وأن يكون رجلين أو اربع نساء أو اليمين في حال انعدام الشهود، فنحن نعلم أنّ هذه هي الوسيلة الفضلى لإثبات المطلوب في العصور الغابرة،أي أفضل من أخذ الناس بالظنة والتهمة في جريمة من الجرائم كالقتل، ولا تمثل غرضاً بحد ذاته وليس لها موضوعية غير التوصل بها إلى كشف القاتل، ولكن في النظم العلمية الحديثة وبسبب تطور الوسائل والأدوات والتجارب العلمية فانّ علم الجريمة والقضاء الجنائي استطاع أن يخطو خطوات كبيرة في هذا المجال مما يقلل الخطأ في عملية الكشف عن المجرم إلى الحدّ الأدنى، من بصمات الأصابع إلى أجهزة الكشف عن الكذب إلى استنطاق كل من له علاقة بالحدث وكذلك دور المحامي والمدعي العام والمعاونين وخبراء الطب العدلي إلى غير ذلك، فهل بعد هذا نبقى نستخدم تلك الوسائل القديمة التي لا تورث القاضي في أحسن الاحوال سوى الظن؟ وإذا كان الهدف هو العثور على القاتل فلماذا اشتراط الإسلام في الشاهد، رجلين أو أربع نسوة؟ وعلى فرض أن الجريمة وقعت في مكان يقطنه غير المسلمين وشهد الواقعة عشرة منهم. أو لم تشهد الحدث سوى إمراة واحدة أو امرأتين فهل يذهب دم المقتول هدراً؟ إن القضاء الجنائي الحديث يستخدم المنهج الاستقرائي وتجميع القرائن للوصول إلى النتيجة وهي علم القاضي بصدور الجريمة من المتهم وعليه فامرأة واحدة أو حتى طفل صغير يشكل قرينة تضاف إلى القرائن الموجودة، وقد يدلي الفاسق بشهدته ويكون صادقاً، وقد يدلي العادل بشهادته ويكون كاذباً أو يكون قد اختلط عليه الحال. ويقول السيد الموسوي الاردبيلي الذي كان يرأس مجلس القضاء الأعلى في الجمهورية الإسلامية لمدة 8 سنوات (وهو الآن أحد مراجع الدين في قم) في حديثه لمجلة ((نقد ونظر)): إنني طيلة هذه المدة ورغم كثرة المراجعات في حوادث القتل والجرائم المهمة من قبل المحاكم الفرعية إلاّ أنني لم أعثر على مورد واحد منها تمت من خلال المنهج الفقهي القديم، أي استخدام شاهدين عدلين أو يمين. وبالنسبة إلى محكمة الاستئناف التي تعدّ من مستحدثات القضاء الغربي الجديد يقول (مهرپور) أحد أعضاء مجلس القضاء الأعلى في ايران: ((كان هدفنا هو أسلمة القوانين القضائية والجزائية في ايران وفق مباني الفقه الإسلامي واخراج الفقه وقوانينه من العزلة، فعملنا لعدّة سنوات على أن تكون القوانين منظمة على أساس القوانين الإسلامية وتم الانتهاء من قانون المجازات ووضعناه قيد التنفيذ، إلاّ أنا واجهنا مشكلة، وهي أنّ الموجود في الفقه لا يتجاوز 10 ـ 15 فقرة ذكر الفقهاء حكمها الشرعي وبقيت الكثير من الموارد لم يذكر لها حكماً شرعياً، فاضطررنا إلى العودة إلى القانون السابق (في زمان الشاه) للعمل على طبقه))... ثم ذكر عدة موارد من هذا القبيل وقال: ((النموذج الواضح جداً لذلك هو مسألة ((محاكم الاستئناف)) ـ تجديد النظر ـ حيث يصرح الفقهاء بان حكم القاضي الأول نافذ المفعول ولا يجوز لأي قاضٍ آخر الحكم بخلافه فلا معنى لإجراء محاكمة ثانية للنظر في حكم القاضي الاول، وكانت هذه المحاكم على الاُصول مخالفة للشرع ولذلك تقرر أن تلغى محاكم الاستئناف وأن يكون حكم القاضي قطعياً بدون حاجة إلى محكمة تجديد النظر، وتم العمل على طبق هذا القانون في محالكم الثورة والمحاكم المدنية، وكان في ذلك تسريع في الأعمال القضائية من جهة، إلاّ أننا واجهنا مشكلة بدأت تتضخم يوماً بعد آخر وأدركنا أن المجلس القضائي الأعلى قد تسرع في إلغاء محاكم الاستئناف والاكتفاء بالمحاكمة الاُولى.. ولما تكاثرت المشكلات رأينا ضرورة الرجوع إلى القانون الذي كان يعمل به في السابق، أي أنّ القضية تطرح أولاً على المحاكمة الابتدائية فيرى القاضي رأيه فيها ثم ترفع إلى المجلس القضائي الأعلى لتجديد النظر فيها، ورأينا أنّ الفقهاء القدماء كانوا يمارسون عملية الاستنباط بما يتناسب مع ذلك الزمان ولم يكونوا يأخذون بنظر الاعتبار متغيرات الزمان والمكان، ولكن في هذا الزمان نجد ضرورة لاجتهاد جديد يأخذ بنظر الاعتبار تغير الزمان والمكان وحتى أن مجلس صيانة الدستور اضطر أخيراً إلى تغيير نظرته السابقة واضطررنا إلى وضع مجلس أعلى منه هو مجلس تشخيص المصلحة)) . هذا وقد استغرق هذا التحول سنتين أو ثلاثاً، فاذا علمنا أنّ نصف الأحكام الصادرة بالاعدام عندما ترفع إلى مجلس القضاء الأعلى يتم إلغاؤها واستبدالها بالسجن لعدّة سنوات (كما رأينا في حكم الشيخ اليوسفي والسيد هاشم آغاجري من رجال تيار الإصلاح في ايران) لعلمنا كم من الأشخاص تم اعدامهم في تلك السنوات وهم لا يستحقوق الأعدام!! إنّ كون القاضي عادلاً لا يعني بالضرورة عدم وقوعه في الخطاً والاشتباه، وهكذا حال الشاهدين، ولا سيما أن أكثر المعدومين في محاكم الثورة من المخالفين السياسيين، أي لا لجريمة قتل اقترفوها ليحكم عليهم السياسيون، بالقصاص، ومعلوم أنّ هذا العنوان (عدو الثورة) عنوان ضبابي تختلف فيه النظريات والآراء، فقد يكون الشخص قد قال كلمة ضد ولاية الفقيه فيحسبه القاضي (ضد الانقلاب) أو ينتقد الإمام الخميني، فيحكم عليه بالاعدام وهو من المخلصين للإسلام والثورة، وقد رأينا وسمعنا أن الكثير من القضاة تم فصلهم عن جهاز القضاء لممارسات خاطئة من هذا القبيل ذهب ضحيتها ناس أبرياء!!
#أحمد_القبانجي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حكم المرتد في الشريعة الاسلامية
-
مالك الحزين والضفدع
-
القمار مع الله!
-
الغزو السماوي
-
المنهج الاجتماعي والأخلاقي للسيد المسيح
-
الفتاوى والروايات المتعارضة مع العقل
-
هل بقي التوحيد الاسلامي سالماً من التحريف؟
-
المجتمع المدني وحقوق الانسان
-
ضلع ادم ... خلق المرأة في التراث الديني
-
مهزلة نذر عبد المطلب
-
نقد كتب الدعاء والزيارة
-
من أدلة عدم وجود الله ... دليل وجود الشر
-
التفسير التاريخي لظاهرة الايمان بالله
-
حقيقة الوحي
-
دور المرجعية في عصر الحداثة
-
العقلانية في الفقه
-
محاضرة العقلانية في عصر الحداثة
-
محاضرة العقلانية في الاخلاق
-
محاضرة اعرف نفسك
-
نقد الحر العاملي ومصنفاته
المزيد.....
-
الولائي يهنئ بانتصار لبنان والمقاومة الاسلامية على العدو الا
...
-
شيخ الأزهر يوجه رسالة حول الدراما الغربية و-الغزو الفكري-
-
هل انتهى دور المؤسسات الدينية الرسمية؟
-
استقبلها الان.. تردد قناة طيور الجنة بيبي الجديد 2024 على ال
...
-
الكشف عن خفايا واقعة مقتل الحاخام اليهودي في الإمارات
-
الجهاد الاسلامي:الاتفاق أحبط مسعى ايجاد شرق اوسط حسب اوهام ا
...
-
الجهاد الاسلامي:نؤكد على وحدة الدماء وصلابة الارادة التي تجم
...
-
الجهاد الاسلامي:نثمن البطولات التي قدمتها المقاومة بلبنان اس
...
-
الجهاد الاسلامي:اتفاق وقف اطلاق النار انجاز مهم يكسر مسار عن
...
-
حماس تشيد بالدور المحوري للمقاومة الإسلامية في لبنان
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|