صائب خليل
الحوار المتمدن-العدد: 1190 - 2005 / 5 / 7 - 10:05
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
كثرما ينسى "الخير" نفسه, فلا يتذكر انه ليس الا خيرا نسبيا, وانه "شر" من وجهة نظر "الشر", وان هذا الشر يريد ان يجتثه, وبحماس لايقل عن حماسه هو لاجتثاث ذلك "الشر". وما موجة العنف الشديد التي تواجه الحكومة المنتخبة هذه الايام الا تذكير بتلك الحقيقة.
في مقالة سابقة لي, وقت استلام الرئيس السابق الياور منصبه, كتبت ادعوه ان لايرشح نفسه في الانتخابات القادمة وان يعلن ذلك مسبقا, لكي لايفوت الفرصة على الشعب للاحتفال لاول مرة في تأريخه بتغيير رئيسه سلميا وبالاصوات. وفي مقالة اخرى دعوت رئيس الوزراء السابق علاوي الى نفس الشيء, وكانت الفكرة تستند الى ان تغيير الرئيس اكثر تعبيرا عن الديمقراطية من اعادة انتخابه حتى ولو كان ذلك بالديمقراطية.
رغم غرابة طلبي, لكني لم اكن يائسا منه, فالرؤساء الجدد لم يدمنوا السلطة بعد, وربما, ربما يكون احدهم من الشهامة ان يسعد شعبه بتأجيل طموحاته السيادية قليلا. لكن اي منهما لم يكن كذلك, فرشحا نفسيهما لاعادة الانتخاب مرة ثانية, ولم يكن اي منهما حريصا على تثبيت مفهوم الديمقراطية في العراق والتضحية من اجله.
بل ان علاوي ذهب ابعد من ذلك بكثير, فحرص على ان يلغم الحكومة الديمقراطية القادمة بالفي لغم في وزارة الداخلية بعد ان علم انه لن يكون رئيسها القادم.
حسين الطحان عضو «هيئة اجتثاث البعث»، اتهم علاوي "بعرقلة عمل الهيئة اثناء ولاية الحكومة السابقة." وقال لـ»الحياة» ان علاوي "اعاد الكثير من البعثيين الى الدوائر المهمة من دون استشارة الهيئة او مراعاة قوانينها" وبانه اوقع حكومة الجعفري في "احراج كبير" عندما أعاد اكثر من ألفي شخص من البعثيين الى العمل في وزارة الداخلية وانهم "اصبحوا يشكلون مشكلة كبيرة للحكومة والوزير الجديد"
واضاف ان الهيئة لا تؤمن بسياسة التطهير التي ينادي بها بعض الساسة والمسؤولين، لكنها تؤمن «ان لا مكان للمجرمين في سياسة الدولة الحديثة». ثم اشار الطحان الى مطالبة بعض الاطراف السياسية بالغاء قانون اجتثاث البعث.
يكتب خالد زكي :" ان كثير من افواج الشرطة والحرس الوطني التي شكلتها وزارتي الداخلية والدفاع في الحكومة السابقة كانت على شكل مقاولات، حيث تُقدم العروض الى السيد الوزير من قبل واحد او اكثر من الضباط لقاء مبلغ معين وترسي المقاولة على من قدم عرضا اكبر مثلا احد قادة هذه الافواج قدم عرضاً ب 75 الف دولار قُبلت من قبل السيد الوزير وقد قام هذا الضابط بتجنيد المتطوعين لقاء مبلغ 300 دولارللشخص بغض النظر عن مؤهلات المتطوع او اخلاصه للعراق"
ومن ناحية اخرى قال علي فالح ماضي رئيس هيئة اجتثاث البعث في البصرة ان افواجا للمغاوير تشكل في غفلة عن الحكومة تعمل على عودة النظام السابق للسلطة، تختار عناصرها من بعثيين سابقين ومن عناصر فدائيي صدام، وتقوم باعتقال مواطنين وتعذيبهم في موقع الفوج واجبارهم على الاعتراف بانهم يعملون لصالح المخابرات الايرانية، وقد عرض على الصحافيين شابين كانت قد اعتقلتهما هذه الاجهزة بتهمة العمل مع المخابرات الايرانية وكانت آثار الضرب والتعذيب واضحة على جسديهما.
يذكر تصرف علاوي هذا بتصرف صدام باطلاق سراح مجموعة كبيرة من المجرمين الخطرين عندما تبين له انه كان على وشك ان يخسر سلطته. واوجه التشابه كثيرة: فالرجلان انتميا لنفس الحزب وعملا قريبا من بعضهما, وكان الهدف من كل من التصرفين عرقلة عمل الحكومة التالية لهم بكل طريقة ممكنة بغض النظر عن نتيجة ذلك على العراق. وان كان صدام رجل امريكا سابقا وخصمها لاحقا, فان علاوي ما يزال رجلها, على الاقل لحد الان لكن الوقت ما زال مبكرا, فعلاقة الحب بين امريكا وصدام كانت اطول واعمق.
وفي الوقت الذي يستطيع صدام تبرير عمله بشكل ما على اساس ان الحكم القادم سيأتي بواسطة قوة عسكرية اجنبية, وبالتالي فهو حكم استعماري, فلا حجة لعلاوي في تلغيم حكومة ديمقراطية جاءت عن طريق انتخابات اقيمت تحت سلطته المباشرة, وباشرافه, واكد على انه يفتخر بها كأنجاز من انجازاته. كان الاجدر بعلاوي ان يتصرف بشكل مسؤول وان لايعرض وضع العراق المتفجر الى مثل هذا الحال, حتى ان كان متأكدا من ان من وضعهم في الامن "ليسوا ممن تلطخت ايديهم بالدماء", فهل ندر في العراقيين غير الملطخين بالدماء, والذين يمكن للحكومة القادمة ان تقبلهم, الى هذه الدرجة ليجلب من يعرف مسبقا انهم مشكلة عويصة لتلك الحكومة؟
ولأن مثل هذا التصرف يجب ان يأتي فقط بعد التأكد من قرب الرحيل عن كرسي العرش, فانه يجري دائما في اللحظات الاخيرة من حكم صاحب الجلالة. هذا الاستعجال الاجباري يفضح صاحبه, لما فيه من عشوائية وتغييرات كبيرة لم يتح الوقت لدراستها وانضاجها. فاستعجل صدام اطلاق سراح المجرمين في حملة واحدة تحت شعار اطلاق المساجين السياسيين, الذي لم يخدع احدا, وكذلك فعل علاوي بتعيين الالفي بعثي سابق, وربما اكثر, في وقت قياسي.
من الواضح ان حركة علاوي تلك كانت بالتنسيق مع الامريكان, فلايشك احد ان زيارة رمسفيلد المفاجئة جاءت للضغط على الحكومة وغيرها من اجل ابقاء من عينهم علاوي في مكانهم. ورغم ان رمسفيلد انكر الضغط على الحكومة, لكنه لم يخف قلقه على رعايا علاوي. وهنا نتساءل : ان كانت الحكومة الامريكية لاتخشى من البعثيين والصداميين, فلم تم حل الجيش العراقي بهذه السرعة على اعتبار احتمال تواجد نسبة من المخلصين للنظام السابق فيه؟ ايهما اكثر احتمالا لتواجد مخلصين لصدام ومعادين للديمقراطية: في الجيش الخليط من كل الانواع ام بين البعثيين "المؤهلين" لمناصب امنية؟ ومن اي الموقعين يكون المتسلل اقدر على ممارسة الارهاب؟
ربما تفسر لنا الانانية المطلقة وحب السلطة باي ثمن واطاعة الامريكان, تلك العرقلة التي مارسها علاوي لاجهاض استلام الحكومة المنتخبة للسلطة ثم حين فشل في ذلك, تأخير ذلك الاستلام الى اقصى وقت ممكن للتمكن من ترتيب الغامه بفعالية. لكن ما لايسهل تفسيره هو تعاون اجزاء مهمة من تحالف الحكومة مع علاوي في هذا التأخير, بل ان البعض ذهب الى اشتراط مشاركة علاوي لمشاركته في الحكومة وتم تقديم ذلك الشرط في اخر لحظة قبل الاتفاق! كذلك يطرح التساؤل ان كان التأخير القياسي لاعلان نتائج الانتخابات جزأ من تلك المحاولات لاعطاء علاوي وقته الازم, يطرح نفسه بشكل منطقي.
يجب ان يكون الخطر المحدق على مستقبل العراق الذي تجلبه تلك التصرفات غير المسؤولة واضحا للجميع وان يتصدى له الجميع, بما في ذلك من لايتفق مع الحكومة برنامجا ومبدأ ما دام مؤمنا بالديمقراطية. فالديمقراطية لا تعدنا بان نحصل دائما على الحكومة التي نحب, ولكنها تعدنا بالعدالة وبفرصة اخرى لنحصل على تلك الحكومة. ومن قواعد الديمقراطية الصبر والاعتراف بالهزيمة وعدم الضرب تحت الحزام بالنسبة للخاسر في اي من جولاتها. ان حرق الحكومة المنتخبة ديمقراطيا سيشعل معها بدون اي شك, النظام الديمقراطي نفسه مهددا البلاد ببدائل خطيرة, ليست الحرب الاهلية الا احدى السيناريوهات المحتملة تماما فيها. فمن سيلوم الفائز بالانتخابات ان هو لجأ الى العنف لتثبيث حقه في السلطة ان هي منعت عنه بالمؤامرات او العنف؟ وهل العنف في الجزائر الا نتيجة لمثل ذلك؟
ليس هذا مانقوله نحن فقط فهذه "روزماري هوليس" مديرة الابحاث في المعهد الملكي للشؤون الدولية ببريطانيا تقول لرويترز "لا أظن أننا سنعرف على نحو مماثل كيف ستصمد الامور حتى هذا الوقت في العام القادم... ومن الان الى أن يحين ذلك فان البلد كله قد ينهار وينزلق الى حرب أهلية." لذلك توجب على مختلف القوى السياسية في العراق ادراك ابعاد خطورة الموقف والتصدي له بمسؤولية شديدة.
اخيرا انبه الى ان فشل الحكومة المحتمل والذي يهدد بالحرب الاهلية, قد لايأت نتيجة نشاط اعدائها وقصر نظر بقية العراقيين فقط, بل قد تلعب تصرفات الحكومة نفسها دورا اساسيا في اسقاط نفسها. ان تصرفات قد تبدوا صغيرة مثل جريمة الاعتداء على طلبة جامعة البصرة يمكن ان تشعل فتيل فتنة لن يعدم اعداء الحكومة وسيلة لتوسيعها بشكل خطير. كذلك اشير الى ان اساليب الالعاب المخاتلة مثل الوسيلة التي حاول بها البعض اقرار القرار 137 ايام مجلس الحكم, والغاء كلمات "الديمقراطية والفدرالية" من اداء القسم مؤخرا, والذي يشير الى ان الحكومة لاتحترم الديمقراطية التي اوصلتها الى الحكم, لن تخدم الحكومة, وان تكرارها يقدم لاعدائها خدمة سيعرفون كيف يستفيدون منها.
#صائب_خليل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟