القرآن 5: أسباب النزول

سامي الذيب
(Sami Aldeeb)

الحوار المتمدن-العدد: 4154 - 2013 / 7 / 15 - 01:39
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    

سبب النزول هو كل قول أو فعل نزل بشأنه قرآن عند وقوعه. وتكشف لنا أسباب النزول عن الظرفين الزماني والمكاني اللذين أنزلت فيهما الآيات فتساعد على فهمها. وهناك من يرى أنه من الخطأ قول "أسباب النزول" والصواب "مناسبات النزول" لأن أحكام الله لا تعليل لها ولا أسباب.

وإن قارنا أسباب نزول آيات الأحكام بالتشريع الحديث، يمكننا وصفها بالأعمال التحضيرية التي لا غنى عنها لفهم أي تشريع. ولكن فوائد اساب النزول لا تقتصر على آيات الأحكام. ويذكر في هذا المجال أن عمر خلا ذات يوم، فجعل يحدث نفسه: كيف تختلف هذه الأمة، ونبيها واحد، وقبلتها واحدة، فقال ابن عبَّاسٍ: يا أمير المؤمنين إنا أُنزل علينا القرآن فقرأناه، وعلمنا فيم نزل، وإنه سيكون بعدنا أقوام يقرؤون القرآن، ولا يدرون فيم نزل، فيكون لهم فيه رأي، فماذا كان لهم فيه رأي اختلفوا، فإذا اختلفوا اقتتلوا. ويقول الواحدي بأنه لا يمكن "معرفة تفسير الآية دُون الوقوف على قصتها وبيان نزولها". كما أن معرفة سبب النزول وسيلة لمعرفة تاريخ الآية. فآيات القرآن، كما سبق وذكرنا، جاءت في كثير من الأوقات مجردة ومبهمة، بالإضافة إلى عدم جمعها وفقا لتاريخ النزول، مما يزيد في صعوبة فهمها. ولكن علينا ان نعرف أن ليس كل آية في القرآن يعرف سببها. فالواحدي ذكر أسباب 472 آية من مجموع 6236 آية، أي ما نسبته 7.5% من آيات القرآن، والسيوطي الذي يعرف بالاستكثار قد جمع أسباب 888 آية، أي ما نسبته نحو 14% من آيات القرآن.

ورغم الغاية المرجوة من كتب أسباب النزول، وهو ازالة الاختلاف في فهم الآيات، إلا أن من كتبوا في أسباب النزول غير متفقين فيما بينهم في تحديد السبب الذي نزلت فيه بعض الآيات. حتى أن هناك من برر هذا الاختلاف. فابن تيمية يقول أن قول أحدهم: نزلت في كذا لا ينافي قول الآخر: نزلت في كذا فيمكن صدقهما بأنْ تكون نزلتْ عَقِبَ تلك الأسباب، أو تكون نزلت مرَّتين؛ مرَّة لهذا السبب، ومرة لهذا السبب. ولكن منهم من يرى ضرورة فحص صحة إسناد كل منهما والاعتماد على الصحيح منهما. واذا استوى الإسنادان، يرجح الراوي الذي كان حاضراً القصة. وإذا لم يكن في الإمكان ترجيح رأي منهما، يحمل الاختلاف إلى تعدد النزول وتكرره. من جهة أخرى هناك آيات تتكرر في مواضع وسور مختلفة إما بصورة مماثلة، أو باختلاف ضئيل. ولا يعرف هنا بالتأكيد ما إذا كان سبب النزول مختلف من آية إلى أخرى. كما ان نفس السبب ذكر لعدد من الآيات.

ويقول الواحدي: "لا يحلُّ القول في أسباب نزول الكتاب، إلا بالرواية والسماع ممَّن شاهَدُوا التنزيل ووقَفُوا على الأسباب، وبحَثُوا عن علمها وجَدُّوا في الطلاب". ولكننا نجد في كتب أسباب النزول الغث والثمين مما حث بعضهم على غربلة ما جمعه من سبقهم مبينين ما صح منه وما فسد. وكما حدث مع الحديث، فإن بعض أسباب النزول تم اختراعها لغايات سياسية لكي تفرض فهما خاصاً لآيات القرآن بقصد اضفاء الشرعية على تيار معين ضد تيار آخر. يقول الأستاذ محمد عزة دروزة في كتابه "القرآن المجيد": "إنَّ هناك رواياتٍ كثيرةً في أسباب النزول ومناسباته، وقد حشرتْ في كتب التفسير التي كتبت في مختلف الأدوار، لا تثبت على النقد والتمحيص طويلاً، سواء بسبب ما فيها مِن تعدُّد وتناقض ومغايرة، أو مِن عدم الاتِّساق مع رُوح الآيات التي وردتْ فيها وسياقها، بل نصوصها أحيانًا، ومع آياتٍ أخرى، حتى إنَّ الناقد البصير ليرَى في كثير مِن الروايات أثرَ ما كان مِن القرون الإسلامية الثلاثة مِن خلافات سياسيَّة، ومذهبيَّة، وعنصريَّة، وفقهيَّة قوي البروز، وحتى ليقع في نفسه أن كثيرا منها منحول أو مدسوس أو محرف عن سوء نية وقصد تشويش وتشويه ودعاية ونكاية وحجاج وتشهير، او قصد تأييد رأي على رأي، وشيعة على شيعةً". ويقول أبن عاشور في تفسيره: "أَوْلَعَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ بِتَطَلُّبِ أَسْبَابِ نُزُولِ آيِ الْقُرْآنِ، وَهِيَ حَوَادِثُ يُرْوَى أَنَّ آيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ نَزَلَتْ لِأَجْلِهَا لِبَيَانِ حُكْمِهَا أَوْ لِحِكَايَتِهَا أَوْ إِنْكَارِهَا أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَأَغْرَبُوا فِي ذَلِكَ وَأَكْثَرُوا حَتَّى كَادَ بَعْضُهُمْ أَنْ يُوهِمَ النَّاسَ أَنَّ كُلَّ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ نَزَلَتْ عَلَى سَبَبٍ، وَحَتَّى رَفَعُوا الثِّقَةَ بِمَا ذَكَرُوا، بَيْدَ أَنَّا نَجِدُ فِي بَعْضِ آيِ الْقُرْآنِ إِشَارَةً إِلَى الْأَسْبَابِ الَّتِي دَعَتْ إِلَى نُزُولِهَا وَنَجِدُ لِبَعْضِ الْآيِ أَسْبَابًا ثَبَتَتْ بِالنَّقْلِ دُونَ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ رَأْيَ النَّاقِلِ، فَكَانَ أَمْرُ أَسْبَابِ نُزُولِ الْقُرْآنِ دَائِرًا بَيْنَ الْقَصْدِ وَالْإِسْرَافِ، وَكَانَ فِي غَضِّ النَّظَرِ عَنْهُ وَإِرْسَالِ حَبْلِهِ عَلَى غَارِبِهِ خَطَرٌ عَظِيمٌ فِي فَهْمِ الْقُرْآنِ".

هذا، يتبع جماهير أهل العلم القاعدة القائلة "العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب"، بمعنى أن هناك آيات وردت على أسباب معينة لو أننا حملناها على من نزلت فيهم دون غيرهم ولم يدخل فيها أحد سواهم لما استفدنا من هذه الآيات ولما انتفعنا بها. ولكن هناك من يرى أن العبرة بخصوص السبب، ويقصد من وراء ذلك استبعاد تطبيق القرآن في الحياة المعاصرة على قدر الإمكان. وهذه الفكرة مرتبطة بفكرة أعم وهي تاريخية القرآن، أي ان القرآن من القرن السابع ولا يمكن له ان ينظم مجتمعاً حديثاً. وأتباع هذه النظرية أمثال محمد سعيد العشماوي يرون أن قاعدة "العِبرة بعموم اللفظ لا بخُصوص السبب" قاعدة فقهيَّة من نتاج الفقهاء، وقد قرّرت في فترات الظلام الحضاري والانحطاط العقلي، وأن آيات الأحكام في القرآن تتعلق بحادثة بذاتها، فهي مخصصة بسبب التنزيل، وليست مطلقة، فلا يمكن تطبيقها خارج إطارها التاريخي. ولكن يتفق المسلمون على ان بعض الآيات محددة بمحمد مثل الآية التي تسمح لمحمد بالزواج بأكثر من اربع نساء (90-33 : 50) خلافا لغيره من المسلمين (92-4 : 3). ولا بد من دليل يبين ان الحكم خاص، أما إذا لم يأتِ، فلا يجوز صرفُ العام عن عمومه.

ومن الآيات التي تثير الانتباه: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (18-109 : 1-6). فهذه الآيات تفهم عامة بمعنى التسامح. ولكن اسباب النزول توضح ان معناها ليس كذلك. فهذه الآيات نـزلت في رهط من قريش قالوا: يا محمد هلم فاتبع ديننا ونتبع دينك، تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة، فإن كان الذي جئت به خيرًا مما بأيدينا كنا قد شركناك فيه وأخذنا بحظنا منه، وإن كان الذي بأيدينا خيرًا مما في يدك كنت قد شركتنا في أمرنا وأخذت بحظك، فقال: "معاذ الله أن أشرك به غيره"، فأنـزل الله تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ إلى آخر السورة، فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الحرام وفيه الملأ من قريش، فقرأها عليهم حتى فرغ من السورة، فأيسوا منه عند ذلك.
وقد كانت أسباب النزول بداية ضمن كتب الحديث وكتب السيرة والتفسير، ثم افردت لهذا العلم كتبٌ أول ما يذكر منها كتاب "تفصيل لأسباب التنزيل" لميمون بن مهران الذي توفى عام 117 هجري، وما زال مخطوطاً. ومن أشهر تلك الكتب عند السنة "أسباب نزول القرآن" للواحدي النيسابوري الذي توفى عام 468 هجري، وكتاب "أساب النزول" لأبي الفرج ابن الجوزي الذي توفى عام 597 هجري، وكتاب "اسباب النقول في أسباب النزول" لجلال الدين السيوطي الذي توفى عام 911 هجري. وهذه الكتب سنية. ويرفض أهل السنة ما يذكره الشيعة فيما يخص أسباب النزول، معتبرين أن "الرافضة أكذبُ الطوائف، والكذب فيهم قديم" وأن "الشيعة لهم منهجٌ مستقلٌّ عن سببِ النزول، بحسب اعتقادهم العام في حلِّ الكذب".

وقد اعتمدنا في كتابنا هذا على الكتب الحديثة التالية:
- خالد بن سليمان المزيني: المحرر في أسباب نزول القرآن من خلال الكتب التسعة دراسة الأسباب رواية ودراية. وقد درس فيه المؤلف أسباب النزول التي وردت في كتب الحديث التسعة: موطأ مالك ومسند احمد وسنن الدارمي وصحيح البخاري وصحيح مسلم وسنن أبي داود وسنن الترمذي وسنن النسائي وسنن ابن ماجه.
- خالد عبد الرحمن العك: تسهيل الوصول إلى معرفة أسباب النزول. وقد جمع فيه مؤلفه روايات سبب النزول من تفسير الطبري وكتاب الواحدي النيسابوري في أسباب النزول وكتاب ابن الجوزي في أسباب نزول القرآن وتفسير القرطبي وابن كثير وكتاب لباب النقول للسيوطي. وقد رتبه على ترتيب سور القرآن.
- حسن عبد المنعم شلبي: الجامع في أسباب النزول، مؤسسة الرسالة، بيروت، 2010. وقد جمع فيه مؤلفه أسباب النزول التي أوردها كل من الواحدي في كتابه أسباب نزول القرآن، والعسقلاني في كتابه العجاب في بيان الأسباب، والسيوطي في كتابه لباب النقول للسيوطي، وخالد عبد الرحمن العك في كتابه تسهيل الوصول، ومقبل الوادعي في كتابه الصحيح المسند من أسباب النزول، وابراهيم العلي في كتابه صحيح أسباب النزول.
- مجيب جواد جعفر الرفيعي: أسباب النزول في ضوء روايات أهل البيت.

هذا ويجد القارئ أسباب النزول آية بآية في الموقعين التاليين الذين يعتمدان على كتاب "أسباب نزول القرآن" للواحدي النيسابوري
- موقع مؤسسة البيت الملكية للفكر الإسلامي: http://www.altafsir.com/AsbabAlnuzol.asp?SoraName=1
- موقع مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف: http://www.qurancomplex.org/Tree.asp?section=3

وكما هو الأمر عامة مع كتب الحديث، يتم ذكر أسباب النزول مع رواتها، ولكن اختصارا على القارئ سوف نذكر الأسباب دون الرواة. من جهة أخرى، أمام تعدد الروايات وتضاربها، قمنا باختيار بعض منها بهدف المساعدة في فهم الآيات ذات الصلة.

--------------------------------------
أطلبوا كتبي: http://www.sami-aldeeb.com/sections/view.php?id=14
حملوا كتابي عن الختان http://www.sami-aldeeb.com/articles/view.php?id=131
حملوا طبعتي العربية للقرآن بالتسلسل التاريخي http://www.sami-aldeeb.com/articles/view.php?id=315
موقعي http://www.sami-aldeeb.com
مدونتي http://www.blog.sami-aldeeb.com
عنواني [email protected]

#سامي_الذيب (هاشتاغ)       Sami_Aldeeb#          

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات