مرتكزات النص الحديث في قصيدة -هناءة المحابس-

محمد رشيد السعيدي

الحوار المتمدن-العدد: 4152 - 2013 / 7 / 13 - 21:57
المحور: الادب والفن
    

اذا كانت "قراءة نص بقصد حل شفرة معناه أو معانيه، هي فعل اختزالي وتفرض على النص نوعا من التحديد بمعنى الغلق"(مقتبس)؛ فإن قراءة النص بقصد حل شفرة مبناه، هي فعل انفتاحي تمنح النص سمات التجدد والتمدد.
تقوم النصوص الحديثة، المكتوبة نثرا بطريقة عمودية ـ تلك التي خرجت تماما من أنظمة الشعر: الوزن والقافية والتفعيلة.. الخ ـ على أنظمة جديدة، لم يزل بعضها قيد التشكل، أو انها ماتزال في طور التجريب. كما إن النقد العربي الحديث لم ينتهِ بعد من وضع أنظمة عامة لها، خصوصا اذا تذكرنا أنها تقليد لنمط غربي، اطلع عليه بعض شعرائنا بلغاته، والآخرون اطلعوا عليه مترجما.. وظلت ترجمة الدراسات النقدية والتنظيرية له قليلة.
وعلى الرغم من المحاولات النقدية، في التصنيف والتنظيم، والقولبة، يبقى الشعر منفلتا، لاعتماده على الإحساس والمشاعر.. تلك التي تصعب على القواعد، ولا تلتزم بالتماثل في المواقف المتشابهة.
لذا فإن مقاربة نص (هناءة المحابس) للشاعر ابراهيم الخياط، سوف تعتمد الوصف الخارجي، باستنطاق الشكل الذي خرج به النص، المتخذ من لعبة الثنائيات أسلوبا تعبيريا، لا يظهر في قراءته/ انعكاساته فحسب، بل من خلال تكراراته في المتن، في الأسطر الشعرية. إذ تظهر أولا في المحاورة: "قالت"، و(قلت) غير الظاهرة في النص، والمستبدلة بالشرطة (-). كما ستؤطر هذه اللعبة بعض المرتكزات الأساسية، التي سيقرأ بواسطتها، والتي هي بعض من أنظمة قصيدة النثر، وهي:
1. التضاد والتناظر:
يقوم النص على محاورة، يختلف فيها جنس المتحاورَين: أنثى وذكر؛ هي التجلي الأول للتضاد. يعززه التضاد المعنوي: مات النهر، مات النسغ الصاعد"، وصولا الى التناقض المنطقي، بعدم ظهور النتائج من الأسباب: "دق الجرس/ ولكن التلاميذ لم يغادروا الصفوف.."، مؤكدَة بحرف (لكن) الاستدراكي. كما يؤكده، استخدام المفردات لدلالات مختلفة، في سطر شعري واحد: "استباحه الأخوة اللدودون".
أما التناظر، القائم على ثنائية أو أكثر، فهو فضلا عن كونه معاكسا للتضاد، فقد ورد بما يوازيه عدديا، وتعبيريا. وإذ يأتي التناظر، في السطر الشعري الواحد، توكيديا: "مات البحر الميت"، وباستخدام مفردات من جذر واحد، فقد يأتي من خلال استخدام المفردات/ الأشياء، والأسطر الشعرية، المشترِكة [اسم فاعل] بعامل واحد: "مات البرج المائي، مات العنصر الأول، مات الضباب الميت، مات الدلو، مات الطست، مات المد، مات الجزر"، التي يربط بينها كلها الماء.
ويتجلى التضاد والتناظر، مجتمعين، باستخدام الجغرافيا اللغوية: "ففي حفرة بأقصى البسيطة أنت، وفي حفرة في أقصاها الآخر بيتي".
2. الترميز والإفصاح:
يستخدم الشاعر المفردات السهلة، المفهومة لوحدها، لكنها تفتقد تلك الميزة حين ترتبط بمفردة أخرى، تؤدي العلاقة بينهما الى إنتاج معان بعيدة عن معانيها المفردة/ الأولية، مما يجعل السطر الشعري رمزيا: "دولة الثلج، وطفلنا الطائر، ونجمتي المطفأة"؛ يحتاج الى التأويل لا التفسير. كما إن الصياغة، أو طريقة التعبير، المتكررة في النص، قائمة على الترميز: "مات النهر، مات النسغ الصاعد، مات المطر الشحيح". بينما تفصح أسطر أخرى: "هاك قصيدتي تحمل فرات الماء"، أو يتضح المعنى أكثر، كما في: "ومات الطل الرطيب في لسان الحسين"، وصولا الى اعتماد النظريات العلمية لتأكيد وضوحه: "فلو صدق غاليلو وأمست الأرض كروية فإنّا اذن لمتجاوران".
وقد يكون النص معتمدا على الترميز أكثر من اعتماده على الإفصاح: "مات النهر"، كما إنه يستخدم رموزا واضحة مثل: "العنصر الأول"، وأخرى غير واضحة، تحتاج الى التأويل: "وقد أدارت اللئيمة الجبلية ظهرها لي"، أو: "دولة الثلج". لكن مفتتح النص: "قالت: أريد ماءً"، القائم على طلب صريح وواضح ومفصح، هو عينه رمز مهم، ومتناوَل كثيرا، وذو دلالات مفهومة.
3. الغموض والوضوح:
لابد من تذكر أن "الغموض هو أبرز مزايا النصوص الحديثة، بمبررات الضرورة الفنية"(مقتبس)، كما أكد الناقد حاتم الصكر في كتابه (في غيبوبة الذكرى)، وهو من الأهمية بمكان، في كونه خروجا على نظام الوضوح السائد في أنماط الشعر العربي، ولأنه صفة جديدة، فضلا عن قَدْر واضح من جمال يضفيه على النص، مع الانتباه الى عدم الإسراف، الذي يجعله من عيوب النص، إلا في حالات نادرة. وإذ يبدو نص (هناءة المحابس) بكامله ملفعا بغموض شفيف، فإن بعض أبياته، فقط، تتشح به، أيضا، مثل: "مات الأزرق الباهر.. مات الشريان المرتق.."، وتميل كثير من أبيات النص الى الوضوح: "ولم يتبق في المجرة الجافة سوى قطرات من ماء الشعر وسأكتبك بها".
وما استخدام مصطلح (الغموض والوضوح) إلا للتعبير عن ميزة (التمنع) في النص؛ إذ بقدر وضوح مفرداته وتعبيراته، هي بعيدة عن الفهم السهل، متخلصة من المباشرة، باعثة على التأمل والتفكير، والقراءة المتأنية.
4. التأويل:
يرتبط التأويل بعلاقة سببية بالرمز وبالغموض؛ قدر ارتباطه بالنصوص الحديثة، الشعرية أو النثرية، واهتمام المناهج النقدية ما بعد الحداثية به، لأنه يمنح القارئ، قطب هذه المناهج النقدية، أفقا وحرية أوسع، بل يمنحه احتراما أكبر.
وهو هنا، في نص (هناءة المحابس)، جزء لا يتجزأ من بناء شكلي ـ موضوعي رصين، لأنه يكمِّل أو يتكامل مع المرتكزين (2، 3) السابقين. فنلاحظ أن البيت الشعري: "مات الأزرق الباهر"، المتعلق بالماء لونا، والقريب منه صفة، قابل لدلالة أخرى، أقل من البيت: "فخاصمتني بجريرة دار الندوة". لكنه يتمدد أكثر في: "ما بيننا سوى ذرات من الرمل العسكري وعلامة سؤال شنقوا استفهامه الجريء". على معرفة بأن تصنيف (أقل، أكثر) التي رأتها هذه القراءة، هو أيضا قابل للتغيير، ببساطة، في قراءات أخرى؛ وتلك هي ميزة التأويل، التي اعتمدها الشاعر للخروج بدلالات متعددة من قراءة نصه: "والأرض خالية من المترفين الفسقة كي ترميهم السماء بوفر وفير".
5. التكرار:
والتكرار هو استخدام شكلي لغايات دلالية/ معنوية، ظهر في النص، كالعوامل السابقة، بطرق متعددة. منها: تكرار مفتتح المقطع: "قالت:"، وأدت ـ هذه الطريقة ـ الى تكرار/ استمرار المحاورة. كما تكررت كلمة (مات) اثنتين وعشرين مرة في المقطع الأول من النص. لكن المقطع الثاني قدّم لنا طريقة جديدة من خلال تكرار السؤال: "ومن أين لي به"، ثلاث مرات.
وبالعودة الى عتبات النص، ومن منظار بعض تلك المرتكزات، وبالتمعن في العنوان، العتبة الأولى: (هناءة المحابس)، نراه واقعا تحت رحمة الأربعة الأولى منها؛ فينطبق عليه (التضاد)، (الترميز والإفصاح)، (الغموض والوضوح)، و(التأويل).
فضلا عن قدرته على إعطاء معان ودلالات متعددة، عن قصد أو عفو، لما تتطلبه حرية التأويل وتعدد القراءات، التي بعضها: هناءة: اسم أنثى، أصله هناء، وتأتي تاء التأنيث تعبيرا عن الثقافة الشعبية، عن الهامش الاجتماعي العراقي. أو: تأنيث المؤنث، تأكيدا للأنوثة واعتزازا بها، أو لغاية مجهولة. المحابس: جمع مَحبس: الذي هو الموضع الذي يُحبس فيه من الفعل حبس الذي يعني عكس التخلية (المعاجم)؛ أي السجن. فيعطي العنوان دلالة تناقضية. والمحابس: جمع مِحبس، وهو التعبير الشعبي عن الخاتم؛ لينضح بدلالة متناقضة مع الأولى بأملها وفرحها.
والعتبة الأخرى هي الصورة المرفقة مع النص، وتتمثل بعض تلك المرتكزات من حيث هي: 1ـ صورة حقيقة. 2ـ لـ ...، أو لـ ... . 3ـ لا علاقة واضحة لها بالنص، مما يفتح بابا للرمز وللتأويل. 4ـ اختيار إخراجي غير دقيق، أو اختيار دقيق قائم على التناقض.

#محمد_رشيد_السعيدي (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات