|
الثبات على المبدأ وتجمّد الرأى
داود روفائيل خشبة
الحوار المتمدن-العدد: 4144 - 2013 / 7 / 5 - 22:27
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
الثبات على المبدأ وتجمّد الرأى داود روفائيل خشبة
عمل سقراط طوال حياته على أن ينقل إلى محاوريه إدراك أن اللفظ، اى لفظ، لا يأتى حاملا معنى محدّدا ثابتا. معنى اللفظ، أو المفهوم الذى يرمز له اللفظ، يتشكـّل ويتلوّن ويتغيّر مع تغيّر السياق الذى يأتى فيه. انطلاقا من هذا المنظور، أو بعبارة أخرى، استنادا لهذه الرؤية، لا يمكن أبدا وضع خط فاصل بين مفهومين أو بين نقيضين بحيث نستطيع فى كل وقت أن نقول: هنا ينتهى هذا وهنا يبدأ ذاك. وتظهر الأهمية العملية لهذه الرؤية متى أردنا تطبيق مفهوم عام أو مبدأ عام على الواقع الفعلى، فإننا فى مواجهة مفهومين نقيضين نبحث عن الخط الفاصل فلا نجده بل نجد مساحة عائمة غائمة تختلط فيها المعانى؛ نبحث عن الخط بين الأبيض والأسود فلا نجد غير منطقة يُعتِم فيها البياض شيئا فشيئا حتى يصير سوادا ويشعشع فيها السواد شيئا فشيئا حتى يصير بياضا. هكذا نجد فى المجال العملى أنه كثيرا ما يصعب أن نرسم خطا فاصلا بين الثبات على المبدأ والتجمّد على رأى قد تكون الملابسات المحيطة به قد أفقدته مضمونه. ما استدعى هذه الخواطر إلى ذهنى هو ما ثار من جدل حول إيقاف أو منع بعض قنوات الإعلام ذات الصبغة الدينية فى أعقاب إسقاط نظام الحكم الإخوانى يوم الثالث من يولية 2013، إذ سارع بعض المدافعين عن حرية الإعلام إلى شجب هذا العمل باعتباره عدوانا على مبدأ حرية الرأى والتعبير. وقد كنت أنا دائما شديد الإيمان بحرية الفكر والتعبير وكنت وما زلت مستعدّا لأن أتحمّل كل تضحية فى سبيل إيمانى بهذا المبدأ، إلا أنى أخشى أن بعض من أعتزّ بوقوفى معهم وفى صفـّهم قد غاب عنهم أن فضيلة الثبات على المبدأ قد تختلط برذيلة تجمّد الرأى إذا لم نأخذ فى الحسبان ما يحيط بالواقع الفعلى من ملابسات.
أعرف أن قولى هذا قد تـُشـْتـَمّ منه رائحة الانتهازية والمكياڤ-;-يلية، وقد يقال أنه ينطوى على الإقرار بالنسبية الأخلاقية. أما الانتهازية والمكياڤ-;-يلية فإنى أبرأ منهما وأقدّم دفاعى فيما يلى، أما النسبية الأخلاقية فإنى أرى أنه قد أحاط بها سوء فهم كثير وقد حاولت فى كثير من كتاباتى الفلسفية أن أبين أن ثمة فهما للنسبية الأخلاقية لا يتعارض مع الإيمان بالقيم والمثاليات الأخلاقية، لكن لا مجال هنا للاستفاضة فى هذا، لكنى آمل أن يكون فى السطور التالية ما يوضـّح موقفى.
ليس هناك مطلق إلا فى مجال المفاهيم الخالصة، أما متى جئنا إلى التطبيق العملى فإن العوار المتأصّل فى كل وجود محدّد محدود يفتح المجال لتصادم وتعارض القيم المطلقة. حتى حق الحياة، فى عالمنا الفعلى، نراه يخضع لاعتبارات تستوجب التضحية ببعضه، فكم من مرّة يضطرّ الطبيب الذى يشرف على عملية وضع حرجة لأن يتحمّل مسئولية الاختيار الأليم بين الإبقاء على الأم أو الإبقاء على الجنين حين يتأكد أن الإبقاء على كليهما غير متاح. وفى صدد حرية الفكر والتعبير، كلنا نعترف بأن هناك حدودا وقيودا حين يؤدى التعبير عن الرأى، مثلا، إلى إثارة الفتن وإراقة الدماء.
هنا أعود إلى مسألة إغلاق القنوات الإعلامية ذات التوجّه الدينى. إذا قلنا إن تلك القنوات كانت تحرّض على الفتنة والقتل، وأن ما قد يترتب على ذلك التحريض لم يكن مجرّد احتمال بل كان مؤكدا بل واقعا بالفعل، عندئذ يكون إيقاف تلك القنوات ضرورة للحفاظ على حياة أبرياء. وإذا قلنا أنه كان يجب اتباع الإجراءات القانونية برفع الأمر للقضاء أمكن الردّ على ذلك بأننا بإزاء تلبّس باقتراف فعل إجرامى، وأن ذلك يبرّر للسلطات المختصّة أن تتـّخذ من الخطوات ما يمليه عليها واجب الحفاظ على حياة الناس.
إننى لا أريد الدخول فى جدل قانونى ولا فى جدل حول واقع الأمر، أكان الأمر كذلك فى الواقع أم لم يكن. إنما أردت أن أقول إن على المدافعين عن المبادئ والمثل أن يحترسوا لئلا يتحوّل الثبات على المبدأ إلى جمود على رأى أفقدته ملابسات الواقع مضمونه. ونقطة أخرى: ما دمنا قد رأينا أن المبادئ والمثل المطلقة تعتريها بالضرورة نسبية الواقع عند التطبيق العملى، مما يفتح المجال لاختلاف الرؤى ووجهات النظر، فعلى المخلصين من أصحاب وجهات النظر المختلفة أن يدركوا أنهم ومخالفيهم يجتهدون فى مجال ليس فيه صواب مطلق ولا خطأ مطلق، وأن عليهم أن يتسامحوا وأن يتفاهموا وألا يرمى بعضهم بعضا بمختلف التهم.
ما أقول به من حتمية تكيّف المبادئ بنسبية الملابسات الفعلية قد يوقعنا فى شبهة الانتهازية. هذه النسبية التى يفرضها علينا صدام المبادئ والمثل على أرض الواقع، كيف نميّزها عن الانتهازية؟ ليس هناك للأسف أى معيار موضوعى يمكن الركون إليه. المدافع عن الحق والمدافع عن الباطل لا سبيل للتمييز بينهما بعلامة ظاهرة. ما علينا إلا أن يعمل كل منا بما يمليه عليه عقله وضميره وأن يتحمّل تبعات اختياره وعواقب موقفه. وعلى المخلصين ألا يتخاصموا وأن يحترموا حق أصحابهم فى الاختلاف.
داود روفائيل خشبة القاهرة، 5 يولية 2013
#داود_روفائيل_خشبة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لنحذر الباطل المتدثر بالحق
-
فى أعقاب 30 يونية
-
فى انتظار 30 يونية
-
نوعان من الترجمة
-
توافق ما لا يتوافق
-
لقطة
-
من هم العلماء؟
-
اعتراف واعتذار
-
فى لغة القرآن (2) قصار السور
-
فى لغة القرآن (1) مقدمة
-
أين الثورة؟
-
لماذا الدين؟
-
الحرية والسلطة
-
التاريخ الإسلامى والدولة الإسلامية
-
مرجعية الأزهر
-
الإخوان والثقافة دونت ميكس!
-
وحى الشعراء ووحى الأنبياء
-
سورة الفتوى
-
حكايتى مع الدين
-
حدود احترام أحكام القضاء
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|