|
إشكالية التحول الديمقراطي في العراق- الفصل السادس
عبدالوهاب حميد رشيد
الحوار المتمدن-العدد: 4144 - 2013 / 7 / 5 - 10:22
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
إشكالية التحول الديمقراطي في العراق
الفصل السادس المحددات الخارجية للتحول الديمقراطي المقصود هنا بمحددات التحول الديمقراطي مجموعات من القيود strains التي تفرز قوة تأثيرية سالبة أو مضادة لمسيرة الديمقراطية بحيث تعمل على إبطائها أو إيقافها وفشلها عند عدم اتخاذ الاستعدادات المناسبة لمواجهتها. وهي تصدر عن قوى داخلية وخارجية ناجمة عن سلوكية معينة. وهذه القيود ليست ثابتة جامدة بل متغيرة متطورة تقل أو تزداد حدة في تأثيراتها بالعلاقة مع متانة أو ضعف هذه التجربة ومدى نجاحها أو فشلها في التعامل الحضاري معها. ولأِن هذه القيود متغيرة، معنى ذلك وجود احتمالات وفرص واسعة للتعامل معها وتحييدها، بل وأيضاً تغيير طبيعتها لتتحول من عوامل سلبية معوقة إلى عوامل إيجابية داعمة مساعدة. وحيث أن الديمقراطية في جوهرها هي عملية سلمية حضارية، من هنا تكون وسائلها المستخدمة لتحييد هذه المحددات و/ أو تحويلها إلى عوامل مساعدة، كذلك وسائل سلمية توفر بيئة ملائمة لنمو السلام الداخلي (الاجتماعي) والسلام الخارجي (الدولي). خاصة، وأن هذه القيود تصرفات اعتيادية ناجمة عن عوامل محددة سواء كانت مرتبطة بالبيئة الاجتماعية في حالة القيود الداخلية أو بالعلاقات (المصالح) الدولية في حالة القيود الخارجية. بكلمات أخرى، إن معالجة هذه المحددات هي مهمة دائمة ومستمرة لعملية التنمية والتحول الديمقراطي. وحيث أن الفصول السابقة (ف1- ف5) انصبت على محاولة تحليل القيود الداخلية القائمة، متضمنة المواريث التاريخية- الثقافية والجوانب المؤسسية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فإن مهمة هذا الفصل هي محاولة تحليل القيود الخارجية- الدولية/ الإقليمية/ العربية بالتركيز على تحليل السياسة الخارجية، وضرورة بناء مؤسسات حديثة تقوم على التعامل مع الخارج وفق سياسة حضارية تعتمد الواقعية المبدئية لخدمة جهود التنمية والمسيرة الديمقراطية في الداخل، أي وضع السياسة الخارجية والعلاقات الدولية في خدمة التنمية والتحول الديمقراطي في العراق. 1- المحددات الدولية (1) العلاقات العراقية- الأمريكية يعتبر العراق دولياً، وخاصة من وجهة نظر الستراتيجية الغربية بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، ذو أهمية عظيمة لسياستها في الشرق الأوسط لأِسباب رئيسة منها جيوستراتيجية geostrategic. ذلك أن ما يحدث في العراق له أهمية ضخمة ليس على الخليج، حسب، بل كذلك على عملية التسوية (السلام) العربية- الإسرائيلية، وعلى الأوضاع في تركيا (الشريك في NATO)، وعلى طبيعة تطور علاقة الولايات المتحدة بإيران.(1) علاوة على الاعتبارات الجيوبولتيكية، إذ يشكل مخزونه الضخم من النفط عاملاً متقدما لهذه الأهمية.(2) ماذا يريد الغرب بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية من العراق؟ إن المناقشة السابقة لأِهداف الحرب والاحتلال الأمريكي للعراق (ف3/3، ف4/1) ربما توفر إجابة وافية على هذا السؤال: تأمين إمدادات النفط مسألة حيوية في الستراتيجية الغربية، وأن شرط ذلك هو أولوية استمرار هذه الإمدادات النفطية على نحو موات من حيث الكمية والسعر. وبالنسبة للولايات المتحدة: إحكام سيطرتها على النفط الخليجي في سياق لهاثها للسيطرة على النفط العالمي، وعدم السماح ببروز قوة دولية منافسة. المسألة الأخرى هي منع العراق من امتلاك أسلحة الردع وتحجيم قوته العسكرية التقليدية إلى حدود لا تسمح بتهديد المصالح الغربية. وتشكل مهمة ضمان أمن إسرائيل هدفاً ستراتيجياً غربياً آخر يمتاز بالأولوية. بل أن المطلوب من العراق الدخول في عملية التسوية "الشرق أوسطية" سواء بالمساعدة على حل بعض أهم الصعوبات التي تواجه هذه التسوية مثل توطين جزء من الاجئين الفلسطينيين في العراق،(3) و/ أو توقيع معاهدة سلام مع إسرائيل. فالغرب يدرك تماماً أن الحصول على الشرعية الحقيقية لعملية التسوية (السلام) يتطلب حضور الأطراف العربية الرئيسة، بخاصة سوريا والعراق، فبوجودهما فقط يمكن أن تتحقق "شرعية" إطلاق لفظة "السلام" وبلوغ التسوية النهائية. والهدف الستراتيجي الغربي- الأمريكي الآخر، هو أن يكون العراق موالياً لا معارضاً لهذه الستراتيجية أو على الأقل أن لا يشكل مصدر تهديد للمصالح الغربية. بل وإذعان العراق لسياستها وأن يكون في موقف يمكن إدماجه سياسياً واقتصادياً وعسكرياً بالترتيبات الأمنية والدفاعية الأمريكية في المنطقة. خاصة وأن الولايات المتحدة في ظروف مضاعفتها لقوتها في المنطقة وصعوبة إدارتها، تبقي هذه القوة معرضة للمخاطر طالما وقف العراق (وإيران) ضدها. من هنا يُشكل وجود اتفاقية دفاع عسكري وحضور أمريكي في العراق مطلباً ستراتيجياً أمريكياً.(4) وهو ما يعني أيضاً فرض السياسة الليبرالية والقبول بالعولمة وفتح أسواقه للشركات الأمريكية العملاقة وأجهزتها الإعلامية الضخمة، وتحويل عموم التوجهات العراقية من اقتصاد كان ينحو باتجاه بناء وتنويع قاعدته الإنتاجية إلى اقتصاد استهلاكي يعتاش على فتات النفط. باختصار، فإن العراق المطلوب من وجهة النظر الأمريكية هو حكومة موالية تدخل في الترتيبات الأمنية الأمريكية، بما يعنيه من حضور عسكري أمريكي في البلاد، ويقبل "السلام" مع إسرائيل على أساس الآليات الأمريكية- الغربية المطروحة، ويلتزم تحريم أسلحة الردع وتقليص قوته الدفاعية التقليدية إلى مستوى لا يشكل تهديداً للإمدادات النفطية أو لإسرائيل، علاوة على تقليص قدرته الفنية- التكنولوجية.(5) وهذه المواصفات كانت مطلوبة في حضور النظام العراقي السابق لتغيير سياسة الولايات المتحدة تجاه العراق والدخول في حوار معه يضمن تكامل حدوده الإقليمية والمساعدة على تخفيف الكارثة الاقتصادية ومساعدة العراق للعودة إلى المجتمع الدولي.(6) أما وفي ظروف استمرار رفض النظام العراقي، فإن وجهة النظر الأمريكية كما ذكرت وزيرة خارجيها السابقة في عهد كلينتون هي "أن نوايا العراق لن تكون سلمية أبداً"...". عليه استمرت قرارات مجلس الأمن الدولي نافذة بحق العراق متمثلة في المقاطعة الاقتصادية الشاملة بما في ذلك منع بيع نفطه عدا تلك الكميات المحددة حسب اتفاقية "النفط- الغذاء"، وإجبار العراق بالقوة على إبقاء منطقة حظر الطيران في شماله وجنوبه من أجل إذعانه، وضمان نزع أسلحته بتأييد جهود لجان التفتيش الدولية.(7) وبعد حوالي 13 سنة من الحصار الاقتصادي، اتضح خلال هذه السنوات الطويلة أن لعبة الحصار لا تتعلق بالديمقراطية وحقوق الإنسان في العراق ولا بحماية الكويت أو بلدان الخليج من تهديد عراقي مزعوم، بل أن أمريكا استخدمت "البعبع" العراقي ورقة رابحة لاستِغلال هذه البلدان و "استحلاب" مشايخها واستمرار هيمنتها على المنطقة وعدم السماح بإعادة بناء العراق باعتباره أكثر البلاد العربية المالكة للقدرات البشرية والمادية للنهوض والانطلاق وتشكيل مركز ضغط أو انجذاب باتجاه التحرر من الهيمنة الأجنبية. وفوق ذلك زعزعة البنية الاجتماعية وإبقاء شعب العراق بين مطحنتي الحصار الداخلي والحصار الخارجي. علاوة على دفعه نحو اليأس من أنظمة عربية عارية عاجزة وبناء قناعته للوصول إلى واشنطن حتى لو كان ذلك عن طريق إسرائيل.(8) توافرت لدى الولايات المتحدة ثلاثة خيارات للتعامل مع الأزمة العراقية في ظل نظام البعث:(9) الخيار الأول- تطبيق متواصل ومحكم لسياسة المقاطعة مع استمرار إنهاك القوة العسكرية العراقية، وممارسة سياسة الاحتواء. لكن حيوية هذه السياسة وفعاليتها أخذت بالضعف والضمور مع مرور الوقت، خاصة وأن آثارها المدمرة سببت الأذى والموت لسكان العراق وشكل انتهاكاً جماعياً فاضحاً لحقوق الإنسان، علاوة على الإضرار بمصالح دولية بضمنها أصدقاء للولايات المتحدة. من هنا استمر تآكل وضعف الحصار في ظروف تزايد وتصاعد الأصوات الدولية المطالبة بِإلغائه. الخيار الثاني- هو احتمالات تحقيق علاقات سوية normalization أو تجاذب في حالة فشل الاحتواء. وهو ما أُطلق عليه بـ "إعادة تأهيل النظام العراقي". لم يكن هذا البديل مستساغاً من وجهة النظر الأمريكية، خاصة وأنه كان سيقود إلى خسارة الولايات المتحدة لورقتها الرابحة في استخدام "البعبع" العراقي و "استحلاب" مشايخ الكويت بخاصة والخليج بعامة، ويوفر فرصة إعادة بناء العراق قوته الدفاعية، وهو أمر محرَّم في الستراتيجية الأمريكية. إلا أن بلوغ أو اقتراب مرحلة "الاستحلاب" قمتها أو نهايتها وتزايد حاجة السوق الدولية إلى النفط العراقي وضع الولايات المتحدة في موقف حرج لدراسة هذا الخيار في سياق تعديلات وشروط تضع العراق تحت السيطرة. الخيار الثالث- وتمثل في الدعوة الأمريكية التي أطلقتها في أعقاب حرب الخليج (1991) بالعمل على دعم محاولات تغيير النظام العراقي أو قيادته على الأقل باعتباره "يوفر أفضل أمل لتحقيق مصالح الولايات المتحدة البعيدة الأمد".(10) مع استعدادها تقديم المساعدات المالية والفنية لعناصر عراقية "معارضة" موالية لإنجاح الانقلاب المطلوب.(11) وأخيرا، وفَّرت أحداث 11 أيلول/سبتمبر2001, الفرصة الناضجة للتطبيق المباشر لهذا الخيار باحتلال العراق من قبل القوات الأمريكية والبريطانية وسقوط بغداد في التاسع من نيسان/ ابريل 2003. (2) الستراتيجية الأمريكية الجديدة مع مجيء الإدارة الأمريكية الجديدة "المحافظون الجدد" بانتخاب بوش الابن رئيساً للولايات المتحدة عام 2000، تشكلت هذه الإدارة لتضم تحالفاً ثلاثياً مكوناً من ثلاثة تيارات يمينية متمايزة ولكنها مناصرة لإسرائيل:(12) - تيار المسيحيين الأصوليين، يقوم على خيار مصلحي نفعي لأِسباب انتخابية وبتأثير لعبة الانتخابات. - تيار "التمامية" البروتستانتية، وهو الأكثر دعماً لإسرائيل انسجاماً مع أوهام نصوصية تقول بعدم إمكان عودة المسيح إلا بتواجد اليهود في فلسطين. وهو التيار الصهيوني غير اليهودي. - تيار اليمين الجديد، ويقوم على خيارات صهيونية وايديولوجية. والقاسم المشترك بينه وبين تيار "التمامية" البروتستانتية هو دعم إسرائيل. وهذه التيارات التي تجمع المحافظين الجدد ترتبط بدورها، كحال كل إدارات البيت الأبيض، بما يمكن وصفه بـ "المثلث الحديدي"، المتمثل بتلاقي وتقاطع مصالح قطاعات: المجتمع الصناعي- العسكري وشبكته الأخطبوطية، المجتمع النفطي، المجتمع الاستشاري- المالي. أما قاعدة هذا المثلث وضلعه الرئيس فهو المجتمع الصناعي- الحربي الذي يقف وراء التصاعد المفرط لحجم الإنفاق العسكري ولتصل ميزانيته المباشرة وغير المباشرة إلى نصف ترليون دولار سنوياً.(13). من هنا فإن فهم الستراتيجية الأمريكية الجديدة يتطلب الغور عميقا في القوى الخلفية الكامنة وراء الإدارة الحاكمة والتي تشكل قاعدة الحكم الفعلية في المجتمع الأمريكي والقوة المحركة لسياستها الخارجية المتمثلة أساساً بالعائلات الرأسمالية الكبيرة والمؤسسة العسكرية لتأتي في أسفل القائمة إدارة البيت الأبيض التي ليست أكثر من هيئة منفذة للمصالح الرأسمالية الأميركية. بكلمات أخرى أن هذه الستراتيجية لا ترتبط بفرد ممثلاً بالرئيس الأمريكي، بل بمصالح الرأسمالية التي تقبع خلف السلطة وتؤسس قاعدتها وتمسك بتلابيها. وهذا ما يدعو إلى نبذ الأوهام القائمة على تحول أو تبدل هذه السياسة مع تغير رأس إدارة البيت الأبيض في ظل انتخابات الرئاسة، بل الأصح أن تبدلات الأشخاص قد تصاحبه تغييرات في التكتيكات والأساليب دون الأهداف والستراتيجيات. عليه فإن لاِنتخابات الرئاسة الأمريكية أثر هامشي على المشهد الدولي. فبعد إعادة انتخاب الرئيس بوش، وتأكيد تحالفه مع الفريق الراهن من المحافظين الجدد، بقيت السياسة الخارجية الأمريكية على نهجها، رغم حصول بعض التعديلات التكتيكية. وعلى فرض انتخاب جون كيري- المرشح الديمقراطي للرئاسة الأمريكية، كان ينبغي أن لا يُتوقع تغييرات أساسية في السياسة الخارجية. بل "ستبقى أمريكا إمبراطورية ولن تختفي لأن إمبراطوراً آخر قد انتخب بدلاً عنه".(14) ذكر جون كيري أنه سيحاول تحسين العلاقات مع أوربا ورد اعتبار الولايات المتحدة في أعين العالم الإسلامي.. مفاوضات مباشرة مع إيران.. منح الأمم المتحدة دوراً أكبر في العراق، لكنه لم يشر إلى ما ستكون عليه سياسته تجاه العراق. ولم يوضح ماً إذا كان سيشجب مبدأ الحروب الوقائية ومسألة تغيير أنظمة "الشرق الأوسط". لقد انتقد الرئيس بوش فقط لأنه خاض الحرب على أساس تقارير مخابراتية زائفة. هذا رغم أن احتمالات حصول تغييرات في السياسات والتكتيكات الأمريكية- وليست الستراتيجيات والأهداف- باتجاه شيء من المرونة، كانت مسألة محتملة عند فوز المرشح الديمقراطي، طالما يؤمن بالعمل الجماعي المشترك ودور الأمم المتحدة والدور القيادي للولايات المتحدة دون الهيمنة، يضاف إلى ذلك أنه أقل تزمتاً من المرشح الجمهوري وأكثر ثقافة وانفتاحاً.(15) من المفيد التنبيه هنا إلى أن التاريخ الأمريكي لم يشهد أن جاء رئيس جديد وألغى قانوناً وضعه سلفه، بل أن التقليد الجاري دائما هو أن يبني الرئيس الجديد- وفق توجهاته- على ما بناه الرئيس السابق. وهو وضع معاكس تماماً لحالة العراق، بخاصة، والعالم الثالث، بعامة، في تصفية العهد السابق وبالذات في حالة الانقلابات والثورات. وعموماً وبعد أن حُسمت انتخابات الرئاسة الأمريكية في 2ت2/ نوفمبر 2004 لصالح تجديد رئاسة بوش الابن بعد أن اعترف المرشح الديمقراطي بهزيمته في اليوم التالي. فمن المتوقع ان تستمر الستراتيجية الأمريكية للمحافظين للأربع سنوات التالية، كما وقد يحدث بعض التغييرات التكتيكية دون الأهداف المرسومة. ولكن في كل الأحول فطالما تقوم هذه السياسة على الرضوخ والاستِغلال، فليس من الصواب توقع ان الولايات المتحدة تهدف بالنسبة لدول "الشرق الاوسط" لغير الليبرالية دون الديمقراطية، لأِن الديمقراطية، كما سبق الحديث، تعني ان يمتلك الشعب حق صنع قراراته وهو ما لن يكون في صالح الأهداف الاستِغلالية الأمريكية. ومع وقوع الضربة القاسية التي تلقتها في 11 أيلول والمتهم فيها العرب/ الإسلام، اتجهت الولايات المتحدة نحو إجراء تغيير جذري في سياستها، تجسدت في وثيقة ستراتيجية الأمن القومي التي صدرت في 20 أيلول/ سبتمبر2002. جاءت هذه الوثيقة في 33 صفحة تحت عنوان "الستراتيجية الأمنية الوطنية للولايات المتحدة الأمريكية". أعلن جورج بوش عن الستراتيجية العسكرية "كن أول من يضرب" وقال أن الولايات المتحدة ستطلق عملاً عسكرياً استباقياً ضد أي من أعدائها. عرض بوش ستراتيجيته الجديدة أمام الكونغرس وجاء فيها "لا يمكن للولايات المتحدة أن تعتمد على موقف التفاعل مع الحدث.. ولا يمكن أن ننتظر ليأتينا العدو بالضربة الأولى.. فمن المنطقي أن نحمي ذاتنا وأن نفعل فعلتنا تجاه أي تهديد لأمننا وقبل أن يتحول التهديد إلى فعل مدمِّر". ثم أردف بوش قائلاً "لن نتردد في تنفيذ إجراء انفرادي إذا اقتضت الضرورة، لنمارس حقنا في الدفاع عن النفس من خلال ضربة استباقية" بدأ تطبيق هذه السياسة الأمريكية الجديدة تحت ذريعة مكافحة الإرهاب في كل من أفغانسان والعراق، علاوة على التدخل السافر في شؤون دول المنطقة وتوجيهها بما يتماشى والسياسة الأمريكية الجديدة. وبذلك تمكنت شبكة المحافظين الجدد، وهي متأثرة بنفوذ مصالح الجناح اليميني الإسرائيلي، من انتهاز فرصة تاريخية لفرض جدول أعمالها الراديكالي. وهكذا ابتعدت الولايات المتحدة عن موقفها التقليدي، موقف التمسك بالأمر الواقع الإقليمي نحو سياسة تدخل نشط، مدفوعة بأمرين أولهما الأمن في حقبة ما بعد 11 أيلول وثانيها الزعم الايديولوجي برسالة أخلاقية يمكن الرجوع بِأصولها إلى البدايات الأولى للجمهورية الأميريكية. كما أن تفسير ما حدث من سهولة إعلان حروب متعددة للولايات المتحدة ضد إفغانستان، الإرهاب، العراق، يرتبط بصدمة 11 أيلول التي مكنت الإدارة الإمريكية حرق واختزال معظم العمليات الهيكلية في كيفية صنع قرارات السياسة الخارجية وهيمنة الإدارة المذكورة عليها.(16) تصر ستراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة على العمل الاستباقي- إن لم يكن الوقائي- الانفرادي، ليحل محل المذاهب (المبادئ) التي توالت خلال القرنين التاسع عشر والعشرين: العزل والاحتواء والردع. لكن الإعداد لهذه السياسة أو الثورة "المحافظة الجديدة" استغرقت عقوداً يمكن اقتفاء أساسها الفكري منذ الحرب الباردة، بينما برزت تطبيقاتها الأولية في ثمانينات القرن الماضي مع عهد ريغان، واستمرت في عهد بوش الأب، ونضجت ثمارها في عهد بوش الابن.(17) بل أن الستراتيجية الأمريكية الراهنة ليست جديدة تماماً على الفكر السياسي الأمريكي والممارسات الأمريكية. فالفكر الإمبراطوري الأمريكي موجود وناشط في النظام السياسي الأمريكي منذ قرنين أو أكثر على الأقل. بينما بدأ تطبيق "السلام الأمريكي" PAX AMERICANA مع أفول الإمبراطورية البريطانية بعد الحرب العالمية الثانية.(18) ويعتبر "الشرق الأوسط الكبير" هو حقل اختبار للمشروع الأمريكي الجديد، والعالم العربي في إطاره هو "قاعدة الانطلاق"، بينما يشكل العراق بوابة هذا الانطلاق. والمطلوب ليس اجتثاث الإرهاب من جذورها، حسب، بل "نزح المستنقع". كما أن المهمة الجديدة للسياسة الخارجية الأمريكية ليست مجرد استخدام القوة لتصفية الإرهاب، بل أيضاً إعادة تشكيل البيئة الداخلية للعديد من "الدول الفاشلة" في "الشرق الأوسط". وتتضمن سياسة المحافظين الجدد بعدين: القصير الأمد بإقامة "عمارة أمنية" قابلة للبقاء في المنطقة، والهدف الأكبر- الطويل الأمد- هو إعادة تشكيل السياسات والاقتصاديات والثقافات الداخلية في المنطقة على طريق إصلاحات ليبرالية لـ "نزح مستنقع" العناصر الإسلامية المتطرفة والمعادية لأِمريكا. وبذلك ففي ظل الإدارة الأمريكية الحالية أصبحت نزعة الانفراد بالعمل وشن الحروب الوقائية وعمليات تغيير الأنظمة جزءاً من العقيدة الرسمية.(19) وهذا التوجه قد يفسر إصرار الرئيس الأمريكي على أن الولايات المتحدة لن تترك العراق قبل إزالة "الإرهاب" وإقامة نظام سياسي "صديق مستقر وديمقراطي".(20) يزعم المحافظون الجدد "تغيير العالم" ليصبح متماهياً مع نموذج الحكم والديمقراطية الأمريكية. وهذا ما انطوت عليه الستراتيجية الأمريكية الجديدة. ومن نص يقول: إن القيم السياسية الأمريكية قد باتت قيماً كونية، ولهذا يجب أن تنتقل إلى المجتمعات والأنظمة السياسية. ومع اعتماد هذه الستراتيجية على قواتها المسلحة، عليها أن تعتمد أيضاً على الدبلوماسية، ولكن بالدرجة الثانية، وعلى أساس قاعدة تقول "السياسة امتداد للحرب وإن بوسائل أخرى". والسياسة عند هذا التيار ليست دبلوماسية، والتي تعطل قدرة السياسة الأمريكية على "تنميط" الآخرين بالقيم الديمقراطية، بل هي أداة تغيير، الأمر الذي يكسب هذا التيار صفة "العنف الثوري" التي تنتفض على الأوضاع الراهنة السكونية باستخدام القوة العسكرية.(21) وهكذا، فإن سياسة الهراوة هي الأساس الذي يعتمده هذا التيار في العمل السياسي، وهذا الميل "الثوري" في السياسة الخارجية الأمريكية يتناغم بشكل كبير مع سياسة التدخل الانتقائي. وهو يميل كتيار إلى الدعوة لـ "العالمية"، أو بكلمات أدق إلى "العولمة الأمريكية" ولدور أكبر للولايات المتحدة في الكرة الأرضية. مؤكداً على أن طبيعة الأنظمة المحافظة والإسلامية غير الديمقراطية والتي يحكمها طغاة تشكل خطراً على المصالح الأمريكية، وهي التي تنتج ظواهر مماثلة لما حدث في 11 أيلول. ولا يرى هذا التيار أي إمكانية لنشر الديمقراطية إلا بالقوة معتبرين أن الديمقراطية هي التي ستغير طبيعة الأنظمة وبالتالي طبيعة المجتمعات، أي أن تغيير ثقافات المجتمعات الأخرى التي باتت تهدد الولايات المتحدة، يأتي من "فوق" من خلال الديمقراطية التي وحدها تستطيع أن تفسح المجال أمام التغيرات الاجتماعية بدلاً من أن تجد الولايات المتحدة نفسها أمام أعداء ينبتون من رحم الأنظمة ذاتها المتحالفة معها. من هنا يؤكد المحافظون الجدد على مسألتين: استخدام القوة في نقل الديمقراطية إلى العالم، ومخاطر العنصرية بالعلاقة مع الدول غير الديمقراطية. ويعتبرون أن نظام الولايات المتحدة الأمريكية هو مثال الخير الذي يتطلب استخدام كل وسائل القوة لفعل ذلك الخير للآخرين!(22) إن الأكثر تشددا بين صقور المحافظين يعتقدون أن أمريكا، بفضل قوتها العسكرية الساحقة (وما يعتبرونه رسالتها الأخلاقية التي لا تُنازع) هي في مركز يؤهلها لأن تكون المعماري الوحيد للأمن الإقليمي. وهذا ما يتجاهل الأفكار المحلية أو جاهلاً بها. أما البعد الثاني في مشروع المحافظين الجدد لـ "تفعيل الهيمنة الأمريكية عملياً"، فهو كسب معركة القلوب والعقول في "الشرق الأوسط"، رغم أن عملية دمقرطة أفغانستان والعراق برهنت على أنها اشد صعوبة بكثير مما كان متوقعاً.(23) ولكن كيف يكسبون القلوب والعقول أمام القصف وتدمير المدن والقتل اليومي للمدنيين وقتل الجرحى والممارسات المهينة للمواطنين والخروج على قيمهم وارتكابهم أشنع أشكال التعذيب مع المعتلقين لتصل إلى القتل وإحداث العجز، إضافة إلى الاغتصاب الجنسي للنساء والرجال!؟ ومتى كانت الديمقراطية منشأة يمكن نقلها على طائرة حربية أو دبابة عسكرية!؟ ويبدو أن صناع القرار من المحافظين الجدد يفترضون أن المجتمعات العربية بلغت درجة من الركود والفشل السياسي والاقتصادي بحيث أصبحوا منقادين كالماشية من قبل رعاة يخدمون أنفسهم، وأنهم معرضون لإسلام حُرِّف عن طُهره الأصلي الذي ربما يستطيع الخبراء الغربيون وحدهم أن يفهموه حقاً.(24) وهو ما يتجاهل دور القوى الخارجية، ومنها الأمريكية ذاتها، في إفراغ هذه الأنظمة، بعد أن قدمت لها الدعم، وما زالت، على حساب شعوبها، طالما بقيت تصدع لأِوامر واشنطن. ويلاحظ أن وثيقة الستراتيجية الأمريكية الجديدة هي من بنات أفكار جماعة "مشروع القرن الأمريكي الجديد"... انتهز المحافظون الجدد اليمينيون المتطرفون الفرصة للترويج لأيديولوجيتهم بشأن (السلام الأمريكي) التي صاغوها في التقرير الصادر عام 1997 على مجموعة من المفكرين ضمن مشروع القرن الأمريكي الجديد. Project for the New American Century-PNAC.. وجاء في البيان الحكومي الرسمي الصادر في أيلول/ سبتمبر 2000 تحت عنوان "إعادة بناء وسائل الدفاع الأمريكي الستراتيجية والقوات والموارد للقرن الجديد".(25) المفارقة هنا أنه بدلاً من انبثاق ايديولوجيا جديدة تدفع الشعوب المغلوبة محاولة إيجاد مكان لها تحت الشمس، تنبثق هذه الايديولوجيا من الولايات المتحدة حصراً! والأكثر مفارقة ففي حين يزعم هذا التيار المحافظ إنقاذ تلك الشعوب فإنه ينكر عليها حقها في أن تغير محيطها بطريقتها وأن تضع مستقبلها على أساس تراثها وليس تراث الآخرين. المفارقة الأخرى أن إعلان هذا التيار أنه جاء من أجل الحرية، فهو نفسه لا يجد فسحة من الحرية تسمح أن يتمسك الناس بمعتقداتهم، إذ المطلوب من الدول العربية والإسلامية خصوصاً أن يربي جيلاً على طريقة هذا التيار. وهنا بدأ التدخل والضغط الأمريكي على الأنظمة العربية- الإسلامية لإعادة النظر في مناهج التربية والتعليم والثقافة. والهدف سياسي هو عدم نمو أي تيار ايديولوجي متشدد في مواجهة الولايات المتحدة لاحقاً.(26) اعتبر بعض القادة الأمريكيين الستراتيجية الجديدة كونه يحسم نقطة انعطاف بين سياستين: الأولى سياسة الاحتواء والردع، والثانية سياسة القضاء على الأعداء. ونقرأ ما نصه: "أن الولايات المتحدة الأمريكية أصبحت تتمتع بوضع لم يسبق له مثيل في التاريخ، عسكرياً واقتصادياً وسياسياً، تجد الآن نفسها أمام واجب أخلاقي ومسؤولية تاريخية". وهنا يلاحظ أن الستراتيجية الجديدة تفضل السيطرة بدلاً من الإدارة. ومن عناوين الستراتيجية الجديدة الإطاحة بالأمم المتحدة والعمل الانفرادي، والطلب من الدول الأخرى التأييد واللحاق. وهذا يفسر خلفية انتقاد الرئيس الأمريكي السابق "بيل كلنتون" للرئيس جورج بوش في ستراتيجيته الجديدة عندما قال "ثمة فرق بين أن تدير العالم وأن تسيطر عليه".(27) تعكس محور عمليات سياسة التدخل الانتقائي بالقول: إن الحرب ضد الإرهاب لا تقوم على صراع حضارات، ولكنها صراع على مستقبل العالم الإسلامي، أي أن منطقة "الشرق الأوسط"، والعالم الإسلامي هو حقلها. ولتبريرها فقد غُلِّفت بأيديولوجية أخلاقية "الآن تجد الولايات المتحدة نفسها أمام واجب أخلاقي ومسؤولية تاريخية في نقل الدستور الأمريكي للعالم...".(28) وتقوم أدوات الستراتيجية الجديدة على التعاون مع الدول الديمقراطية للضغط على الدول غير الديمقراطية والتركيز على حرية الأديان وحرية الفكر، والتصويت في المنظمات الدولية لنشر الحرية والديمقراطية. لكن سيرورة هذه الستراتيجية تتمثل في الحرب التي تشكل هذه الستراتيجية. والحرب على الإرهاب هي البداية. ولأول مرة يعرف الأمريكيون الإرهاب على أنه "العنف المخطط مسبقاً لتحقيق أهداف سياسية ولقتل الأبرياء والمدنيين". وإذا قُبل هذا التفسير، عندئذ ماذا تُسمي الحرب على العراق وقتل عشرات اللآلاف من المدنيين وسرقة كنوزه وتخريب مؤسساته!؟ تدعو الستراتيجية الجديدة الانتصار على الإرهاب بالطرق التالية: تدمير المنظمات الإرهابية وقياداتها وإمكاناتها، التعاون مع حلفاء الولايات المتحدة لتحديد الإرهابين والقضاء عليهم، التركيز على الإمكانات المادية للإرهابيين وتجميد أموالهم، الرغبة في إجراء تغييرات ستعمل الولايات المتحدة على رسمها في الأنظمة الدينية في العالم الإسلامي: القضاء على الظروف والعقائد التي تشجع الإرهاب، مواجهة "الدول المارقة" التي ليس لها تعريف بل أوصاف مطاطة: حكامها يضطهدون شعوبهم ويسرقون ثرواتهم، لا يحترمون القوانين الدولية ويهددون جيرانهم، يؤيدون الإرهاب (وطبعاً بما فيه دفاع الشعوب عن أراضيها ومقاومة الاحتلال). وهذا يفسر الدعوة إلى تحقيق زيادة كبيرة في تمويل البنتاغون من أجل "نظام جديد وحمايته" من احتمال ظهور قوة عظمى منافسة. إذن هذه الستراتيجية هي رزمة واحدة: الديمقراطية على الحاملة العسكرية وفرض القيم الأمريكية، تجاوز المجتمع الدولي والركوب فوقه، الانقضاض على مبدأ السيادة لصالح الاستباق الذي يعمل على النوايا وليس القرائن والبراهين.(29) والسؤال الدائر على نحو واسع بشأن مستقبل هذه السياسة هو: هل يشكل التحول النشط الانفرادي المحافظ الجديد في السياسة الأمريكية "الشرق أوسطية" "ثورة" أصيلة باتجاه تحقيق واشنطن "سلاماً أمريكياً" ليبرالياً دائماً في هذه المنطقة المضطربة؟ أم أن حكمهم سيمثل انحرافاً قصير الأمد نفذته شبكة من العقائديين الراديكاليين من المحافظين الجدد الذين تبخر نفوذهم بفعل النفور الشعبي المتزايد من سياساتهم والقوى المضادة في النظام السياسي الأمريكي؟ هل سينظر إليها ثورة أو على أنها مجرد انقلاب؟(30) أكثر من رأي يرى أنه يمكن أن تكون المعارضة الداخلية الأمريكية هي العامل الرئيس- وربما العامل الوحيد- الذي قد ينهي ثورة السياسة الخارجية للمحافظين الجدد في "الشرق الأوسط". لكن قوة المعارضة الداخلية هي بدرجة كبيرة دالة المقاومة المحلية "الشرق أوسطية" للمشروع الأمريكي.(31) كما أن هذه النزعة ستصطدم مع ميراث السياسة المؤسساتية في الولايات المتحدة الأمريكية ومع مأزق الديمقراطية الغربية التي ستواجه بمحاولة كشف وتعرية مخاطرها من قبل الحزب الديمقراطي. كما أن هذا التيار لا يستطيع أن يستمر طويلاً بالنظر إلى نزعة التغيير في المجتمع الأمريكي من ناحية، والرغبة العميقة لدى أطراف في الحزب الجمهوري عدم الذهاب بعيداً إلى الايديولوجيا في عصر كان المفكرون يتنبأون بنهايتها دفعة واحدة.(32) بينما يرى البعض الآخر أن ثمة متغيرات مفرطة الكثرة عند محاولة وضع سيناريوهات للمستقبل: التطورات داخل الاتحاد الأوربي قد تغير علامات القوة بين مؤيدي النزعة الانفرادية الأمريكية وخصومها، انتخابات الرئاسة الأمريكية، سلوك الشعب العراقي الذي سيكون له تأثير حاسم في تشكيل السياسات الأمريكية والأوربية. فإذا اشتدت حدة المقاومة العراقية للاحتلال الأمريكي- سواء المقاومية المسلَّحة و/ أو السياسية- ستقع واشنطن تحت الضغوط المشتركة للحكومات الأوربية والعربية. وعندئذ ستضطر إلى التوجه نحو خيارات أخرى، أحدها نقل أكبر قدر من السلطة إلى الأمم المتحدة، رغم أنه سيكون من الصعب اختيار هذا القرار الذي سيفسر على نطاق العالم باعتباره هزيمة للدولة الوحيدة الأعظم Superpower. أما إذا ضعفت المقاومة العراقية- من ناحية أخرى- وإذا قبل القادة الجدد في بغداد بأن يتفقوا مع واشنطن، وإذا ما وافقوا مثلاً على منح قواعد عسكرية لقوات الاحتلال، فإن الأوربيين (وبالمثل العرب) لن يجدوا خياراً سوى قبول الأمر الواقع. وعموماً سوف تبقى منطقة "الشرق الأوسط" ميدان اختبار لتطبيق هذا السلام الأمريكي.(33) إضافة إلى أهمية التأكيد مرة أخرى على أن السياسة العامة للولايات المتحدة تقوم على الواقعية (البراغماتية) وحسابات الربح من بقائها والخسارة البشرية التي تواجهها، فكلما زادت الأخيرة اتجهت نحو الهروب والعكس صحيح.(34) وأخيراً، فإن سياسة القطب الأوحد يصعب استمرارها وحركتها بحرية بمعزل عن القوى الأخرى، بخاصة القوة الأوربية- الاتحاد الأوربي- المستمرة في التوسع، وفي سياق خط ستراتيجي ليس في وفاق دائم مع الخط الستراتيجي الأمريكي. فليس من قبيل العبث أن يؤسس الاتحاد الأوربي عملة مشتركة (اليورو) عام 1991 في نفس سنة انهيار الاتحاد السوفيتي. وكان الدافع هو خلق وزن مضاد في مواجهة الدولار الأعظم. والآن ينظر إلى اليورو على أنه التحدي الأكبر للهيمنة الاقتصادية وبالتالي السياسية للولايات المتحدة. وهذا ما يفسر، جزئياً، الموقف الأوربي المعارض من الحرب الأمريكية واحتلال العراق.(35) 2- المحددات الإقليمية لم يتمتع العراق بعلاقة صداقة مع جيرانه. وفي أفضل الأحوال دفع ثمناً لتعاونه معهم.(36) وهذا الأمر واضح في علاقات الجوار العراقية، بعامةً. ويرتبط بذلك تعرض الأمن الإقليمي العراقي إلى الخطر منذ إقحام نوري السعيد البلاد في حلف بغداد (1955) بما رتب عليها من التزامات ثقيلة. ومما زاد الأمر خطورة خروج العراق فجأة من هذا الحلف (1959) دون إجراء ترتيبات تضمن له الحماية والاستقرار الإقليمي. فكانت شؤونه الداخلية عرضة للتدخل الأجنبي بمساعدة أطراف جوار وغيرها من حلف بغداد، خاصة وأن العراق المتميز بموارده الضخمة كانت قدراته الدفاعية ضعيفة. ساعد على ذلك أيضا غياب أو ضعف الإجماع العام الداخلي في غياب الدستور الدائم واحتكار السلطة. فمنذ تأسيس الجمهورية العراقية (1958) ولغاية منتصف السبعينات كان العراق (لاعباً هامشياً) في المنطقة لأِسباب عديدة: جغرافياً لم يكن موقع العراق قريباً من "حكومات المواجهة"، لم يمتلك جيشاً قوياً، والأكثر من ذلك كان الجيش العراقي متورطاً لمعظم الستينات في المواجهة العسكرية المستمرة ضد الأطراف المسلَّحة الكردية، وكانت السياسة الداخلية العراقية وبدرجة عالية غير مستقرة في سياق الصراع على السلطة. ومع مجيء البعث (1968) وتأميم النفط، بدأت مرحلة إعادة بناء القوة العسكرية العراقية. وخلال الفترة 1975- 1980 نهض العراق ليصبح قوة مؤثرة في المنطقة. حقق ذلك من خلال سيطرته على نفطه وحل مشكلاته مع جارته وعدوته الدائمة (إيران) وضمان الحل المؤقت للمعضلة القومية الكردية. وخلال الفترة 1978- 1980 حاول العراق من خلال قوته المالية والعسكرية ممارسة دور قيادي في الوطن العربي بعد دخول مصر اتفاقية التسوية (السلام) مع إسرائيل.(37) وفي أعقاب نجاح الثورة الإسلامية في إيران، قرر النظام العراقي وبتشجيع أطراف من دول الجوار خاصة الكويت والسعودية علاوة على أطراف دولية تتقدمها الولايات المتحدة، الهجوم على إيران في تصور يقوم على تحقيق نصر عسكري سريع ومن ثم ترسيخ موقع العراق في البلاد العربية كقوة رئيسة. فشلت هذه المغامرة لأِسباب دولية وإقليمية. ومع حلول عام 1988، وفي ضوء رفض إيران إيقاف الحرب، نجح العراق بمساعدة أطراف دولية غربية، بناء قوة عسكرية ضخمة استطاعت تدمير القوة العسكرية الإيرانية في سلسلة معارك بين نيسان/ إبريل- تموز/ يوليو نفس العام. إن الفترة 1988- 1990 تشكل المناسبة الثانية عندما حاول العراق إعادة بناء قوته ومكانته الإقليمية. ورغم ذلك كانت القوة العسكرية العراقية هشة brittle، خاصة في ظروف ضعف البنية الاقتصادية العراقية وضعف قدرته على الاستمرارية الذاتية في غياب علاقاته الخارجية. إحدى مشكلات علاقات الجوار في المنطقة، والتي تعمل على عدم استقرارها، ليست قاصرة على صفة التنافس القائمة بين العراق وبين بلدان الجوار غير العربية، حسب، بل أن المعضلة تتعدى تلك إلى البلدان العربية ذاتها لكونها متنافسة متنافرة وليست متكاملة متقاربة. وهذه المعضلة تمتد جذورها إلى التبعية الخارجية لهذه البلدان عموما بما لها من انعكاسات سلبية على علاقاتها السياسية التي أصبحت خاضعة إلى الكثير من القيود والحدود، وتحولت تعاملاتها في العديد من الأمور الحيوية من علاقات مباشرة إلى علاقات غير مباشرة عِبر قنوات دولية مؤثرة في مواقفها وقراراتها.
(1) العلاقات العراقية- الإيرانية تميزت العلاقة بين العراق وإيران بالتوتر والعداء المتواصل منذ فترة تاريخية غائرة في القدم ولغاية العصر الحديث، حتى العداء الأمريكي تجاه البلدين لم ينجح لدفعهما إلى المصالحة والتعاون. فالاختلافات بينهما عميقة: ايديولوجية، سياسية، إقليمية جيوسياسية. لقد اعتبر حكام إيران أنفسهم منذ القرن السادس عشر حُماة "الأقليات الشيعية" في العالم الإسلامي، ومنهم الغالبية الشيعية في العراق، رغم أن "شيعة العراق" قاوموا محاولات إيران التدخل في شؤونهم. علاوة على أنهم كانوا، ولا زالوا، من أقوى المدافعين عن هوية العراق العربية.(38) كانت العلاقة بين البلدين في الخليج العربي تنافسية بصورة دائمة. ولم تكن العلاقات بينهما أبداً دافئة أو اعتيادية سواء في عهد الشاه أو النظام الإسلامي. حاولت إيران في عهد الشاه من خلال التراكم المكثف لقوتها المسلحة أن تلعب دور الشرطي في الخليج العربي. وأن تفرض تهديداً مستمراً للبلاد العربية المطلة عليه، وتوجد نوعاً من "السلام الإيراني" في المنطقة يكون لها فيه دور القيادة. وخلال الفترة 1971-1976 قُدِّر ما أشترته إيران من السلاح بـ 12 بليون دولار. برز هذا التوجه الإيراني في عدد من الممارسات مثل استيلائها عسكرياً على ثلاث جزر عربية في مدخل الخليج عام 1971(طنب الكبرى، طنب الصغرى، أبو موسى)، وفي الوجود العسكري الإيراني في عُمان، وكذلك احتجاجاتها المتعددة على استخدام دول ومؤسسات عربية تعبير "الخليج العربي" بدلاً من "الخليج الفارسي"، علاوة على علاقاتها الخاصة بإسرائيل. من هنا بقيت العلاقات الإيرانية العربية هامشية، رغم أن الثورة الإيرانية التي أطاحت بنظام الشاه، أحدثت تغييراً في معادلات القوة بالعلاقة مع الصراع العربي الإسرائيلي.(39) من جهة أخرى، قدَّم النظام الإيراني الجديد نفسه كعاصفة موجهة نحو اقتلاع الأنظمة العربية في سياق دعوته لتصدير الثورة. إن شعور النظام العراقي بخطر محاولة إيران تصدير الثورة للعراق، وقيام إيران باستفزازات متكررة، وتشجيع بعض بلدان الخليج علاوة على التشجيع الغربي- الأمريكي للعراق، وطموح رأس النظام العراقي تحقيق هدف جيوسياسي على حساب إيران بعد انهيار قوتها العسكرية، كانت من الأسباب الرئيسة لانفجار حرب الثماني سنوات بينهما.(40) بقيت العلاقات الحدودية الإيرانية العراقية، حيث تمتد حدودهما المشتركة 1200كم، إحدى البؤر الرئيسة الملتهبة التي فجرت حرب الثماني سنوات بينهما. فاتفاقية عام 1936 التي رسمت الحدود المائية بين الطرفين، ضمَّت طرفي شط العرب للحدود العراقية، مقابل الاعتراف لإيران بضم الأحواز (عربستان). استمر الشاه الضغط على العراق، وبلغ هذا الضغط ذروته باتفاقه مع إدارة المخابرات المركزية الأمريكية CIA لإثارة الحركة الكردية المسلحة وإجبار العراق توقيع اتفاقية الجزائر التي تضمنت إنهاء دعم الشاه للحركة المذكورة مقابل موافقة بغداد على إعادة ترسيم الحدود بين البلدين من منتصف مجرى شط العرب. وبقيت العلاقات العراقية الإيرانية في شكلها الحالي تحرم العراق إلى حد كبير من منفذ بحري في حين يعتمد اقتصاده على تصدير نفطه عبر مياه الخليج علاوة على خطوط الضخ التي تمر بالدول المجاورة. وينطبق هذا الأمر أيضاَ على شط العرب، حيث ظلّ العراق يعاني عقدة الحصار بإطلالته على هذا الممر المائي والذي لا يتجاوز خمسة عشر كيلومترا، في حين أن إيران تمتلك آلاف الكيلومترات من الحدود المائية. وبالنتيجة، قادت الأسباب الثلاثة التالية الرئيسة إلى تفجير هذه الحرب الكارثية، التي انتهت إلى العودة لنقطة البداية دون أي حل للمشكلات العالقة:(41) أولها- السبب الحدودي، حكمت علاقة البلدين على الدوام التوازن بين عناصر القوة وعناصر الضعف النابعة من الموقع الجيوستراتيجي لكل منهما. وتمشياً مع القاعدة التاريخية التي حكمت علاقات السلام والحرب بين البلدين، متمثلة في أن بروز ظروف داخلية و/ أو خارجية توفر القوة لأِحد الطرفين وتزيد عناصر الضعف عند الآخر، كانت تعطي الضوء الأخضر للانقلاب على كل العهود والمواثيق، من هنا جاء تقويم النظام العراقي للوضع في إيران غداة اندلاع الثورة، إذ تراءى له أن ظروف الصراع الداخلي وتطهير الجيش وعزلة النظام الإيراني، قد هيأت فرصة اجتياح الأراضي الإيرانية لتحقيق نصر سهل وسريع بغية إلغاء اتفاقية الجزائر لعام 1975. ثانيها- ايديولوجي، ذلك أن تهديد النظام الثوري الإسلامي الإيراني للنظام البعثي العلماني كان من نوع التهديدات التي لم يكن بالإمكان التعايش معه لأِنه كان تهديداً وجودياً في إطار مباراة صفرية يترتب على بقاء أحد طرفيها زوال الأخر، خاصة وأن النظام الإيراني تبني بعد شهور قليلة على الثورة هدف إطاحة النظام البعثي. ثالثها- طموح رأس النظام العراقي لعب دور إقليمي أكبر بالاستفادة من ظروف عزل مصر عن محيطها العربي بعد توقيعها اتفاقية كامب ديفيد. استمرت العلاقات بين النظامين وسط الكثير من الملامح السلبية، إذ أنهما لم يتوصلا إلى معاهدة سلام دائمة تنهي حالة الحرب ومتعلقاتها، بل استمرت صلاتهما محددة باتفاق وقف إطلاق النار وفقاً لبعض بنود قرار مجلس الأمن (589) بشأن إنهاء حالة الحرب، بينما بقيت بنود جوهرية أخرى غير منفذة فيما يتعلق بالترسيم النهائي للحدود والسيادة على شط العرب والتي كانت، ولا زالت، البؤرة الملتهبة في هذه العلاقات. هذا النوع من السلام القلق المصحوب بفترات توتر أضاف عوامل جديدة لحالة الانعدام الشديد للثقة التي عانى منها الطرفان. وفي ظلِّ هذا السقف الواطئ للعلاقات الذي اختاره الطرفان، اتضح أن كلاً منهما أكثر ميلاً إلى التروي وانتظار ما ستسفر عنه التطورات الداخلية والتفاعلات الدولية والإقليمية بشأن مستقبل النظامين قبل اتخاذ أي منهما خطوة إيجابية لمد الجسور بينهما أو بالعكس قطع الخيوط الرفيعة التي كانت قائمة بينهما. ومثل هذه المساحة الضيقة من العلاقات لم توفر مجالاً كافياً لتقليص خلافاتهما بقدر ما زادت حالة الارتياب والشك ومحاولات التأثير والتدخل المتبادل في مسارات تلك التطورات المرتقبة.(42) وهكذا استمر الطرفان في احتضان المعارضة من الطرف الآخر، بل وتوفير مستلزمات القيام بِأعمال إنتقامية متبادلة. هذا علاوة على أن إيران شكلت أحد اللاعبين الفعالين في الشمال العراقي ( كردستان العرق) سواء بدعمها أطرافاً إسلامية "موالية" وتثبيت مناطق نفوذها في مواجهة الأطراف الأخرى، أو مساهمتها المالية المباشرة للأفراد والمنظمات بما في ذلك تمويل المناسبات الدينية المذهبية. علاوة على دورها المباشر في الإقتتال الكردي- الكردي. ولم يكن الهدف الستراتيجي الإيراني من هذا التدخل في الشأن العراقي عموماً، والذي سيستمر حتى بعد احتلال العراق، زعزعة وحدة العراق الجغرافية، ذلك أن إيران تهتم باستقرار الحدود السياسية للعراق ولدول المنطقة، خاصة بالعلاقة مع القضية القومية الكردية، طالما تضم داخل حدودها جزءاً من منطقة كردستان، وهي مقتنعة أن حصول سابقة يغري بتكرارها.(43) وإذا كانت سياسة الاحتواء المزدوج الأمريكية تجاه العراق وإيران لم تنجح في إزالة الخلاف بينهما وتعاونهما لمواجهة الخطر المشترك، فإن فشل هذه السياسة، وبالذات تحولها إلى غزل أمريكي مع الطرف الإيراني، علاوة على محاولات الأنظمة العربية تحسين علاقاتها مع إيران أكدت سياسة الاحتواء المنفرد تجاه العراق وعززت عوامل الشك بينهما. ومهما أعطت الأنظمة المعنية من مبررات، نظر النظام العراقي إلى أن تحسن العلاقات العربية (وبالذات الخليجية) مع إيران جاء على حسابه، خاصة في ضوء نظرته إلى إيران كونه عدواً أبدياً للعرب يواصل عدوانه على العراق. (خطاب الرئيس العراقي في تموز/ يوليو- وآب/ اغسطس 1999). ومثل هذا التقارب لم يكن ليُفهم من قبل ذاك النظام سوى محاولة زيادة عزلته وحشره في الزاوية، خاصة في ظروف عدم اتخاذ الأنظمة العربية المعنية مواقف مماثلة من العراق بكسر حصاره. وهذا ما أعطى النظام العراقي ذخيرة كبيرة لتأجيج الرأي العام العربي ضد تلك الحكومات. وعموماً، من المتوقع أن تلقي حرب الثماني سنوات بين العراق وإيران بظلالها زمناً طويلاً على العلاقات بينهما. إذ يشعر الإيرانيون من كل الاتجاهات والفئات أن بلادهم كانت ضحية بريئة للعدوان. فيما شكل الفشل في دحر تلك الدولة الأصغر والأضعف إهانة جارحة لشعورهم القومي. لكن من الصعب التكهن بالاتجاه الذي سيأخذه الوضع الداخلي في إيران لعدم حسم الصراع بين الجناحين المعتدل والمتشدد. ومع وقوع الحرب واحتلال العراق، تصاعد الدور الإيراني في الحياة السياسية والمجتمعية في العراق المحتل، بل وأصبحت إيران أهم لاعب سياسي بعد الولايات المتحدة بفضل صلاتها بالحزبين الرئيسين: الدعوة والمجلس الأعلى.(44) ويمكن القول إن موقف إيران من الوضع العراقي تداخل فيه عاملان الأول موقفها من مجلس الحكم الانتقالي والثانية محاولة تبرئة نفسها من الاتهامات التي وجهت لها حول تدخلها في الشأن العراقي. من هنا اعترفت إيران بمجلس الحكم وفقاً لتحقيق التوازنات الإقليمية، رغم معارضتها للاحتلال، وكانت أول دولة تبعث وفداً رسمياً إلى بغداد، وشاركت شكلياً في مؤتمر مدريد للدول المانحة.(45) استمرت إيران، ظاهرياً، على إعلان عدائها للولايات المتحدة، والتنديد الرسمي بسياساتها، منذ انتصار الثورة، رغم أن هذا الموقف لم يخلُ من الغزل المتبادل والرضوخ الجزئي، وعدم عرقلة الجهود الحربية الأمريكية وحتى السماح لها ببعض التسهيلات غير المعلنة، وفي الوقت نفسه بذلت جهودها في اتجاهين: الأول: إيجاد البدائل السياسية والتسليحية، بما فيها محاولاتها لتصبح دولة نووية، رغم إنكارها العلني، وذك بهدف الحد من أثر هذا الاختلال على أمنها الداخلي في ظل الاحتواء الأمريكي لها، متوجهة نحو أوربا وروسيا والصين وكوريا الشمالية. الثاني: تجنب المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة وتحاشي التورط في أية حرب إقليمية بعد كارثة الحرب العراقية- الإيرانية.(46) وهنا يلاحظ أن فترة انهيار الاتحاد السوفيتي كانت هي نفسها المناسبة التي صعدت فيها قيادة سياسية براغماتية إلى سدة الحكم في إيران (السيد هاشمي رفسنجاني). ومع أن إيران بدت حريصة أن يستمر خطابها الرسمي محافظاً على نبرته الرافضة للممارسات الأمريكية إلا أنها حرصت في الوقت نفسه على أن تضبط سياستها الخارجية بما يجنبها مواجهة مفتوحة مع القوة العظمى. وتأكد هذا المنحى باعتلاء خاتمي رئاسة إيران واستهلال حكمه بخطاب ودي إلى الشعب الأمريكي. واختارت "الحياد" في حرب الخليج (1991) والحرب على أفغانستان والعراق، ودون أن تمارس ما يعرقل الحملة الأمريكية إن لم تقدم اليها شيئا من التسهيلات.(47) وضعت إيران ستراتيجيتها تجاه الحرب على العراق وقبلها أفغانستان على هذا النحو: لا مصلحة لإيران في المواجهة مع الولايات المتحدة.. ليس باستطاعة إيران أن تمنع الحرب على الدولة المجاورة (ولا في الانضمام إلى القوة المستهدفة).. من مصلحة إيران (إذا كان ذلك سيحصل) التخلص من نظام شكّل تهديداً لأِمنها القومي. وكمحصلة لهذا التوجه فإن إيران ستعمل على عدم قيام نظام جديد معاد لها بعد سقوط النظام القديم، وإيجاد مواقع نفوذ في النظام الجديد. وهكذا صاغت إيران سياستها الخارجية في سياق أربع ستراتيجيات تالية:(48) الالتزام بالأعراف والشرعية الدولية (كما ظهرت في التزام إيران متطلبات الحصار الدولي ضد العراق)، رغم أن هذا الموقف لم يمنعها من التعاون مع النظام العراقي في مجال تهريب النفط أثناء الحصار طالما سمحت الظروف بذلك وفيها مصلحة مشتركة.. تأكيد دور إيران الإقليمي في المعادلة الآسيوية والخليجية والعربية.. إظهار إيران استقلالها عن الولايات المتحدة- الغرب من خلال التأكيد على قوتها الإقليمية، وعلى المبادئ الرئيسة للثورة.. تحقيق أعلى منفعة ممكنة من خلال المناورة السياسية. من هنا وكما حصل في أفغانستان، عمدت إيران ثانية إلى "الحياد الإيجابي" في الحرب الأمريكية على العراق. أي أنها لن تقاتل القوات الأمريكية ولن تعرقل عملياتها ضد العراق. من جهة أخرى، فإن حياد إيران في الحرب على العراق انصب في مصلحة الولايات المتحدة بتحييد أحد المصادر المحتملة لإطالة أمد الحرب الأمريكية على العراق.(49) استمرت إيران في إدانة مبدأ الحرب ودعت إلى عدم حصولها، لا حباً بالنظام العراقي الذي لم يخف الإيرانيون في مناسبات عدة سرورهم برحيله، بل قلقاً من انتشار القوات الأمريكية في العراق بعد أفغانستان، خصوصاً وأن الولايات المتحدة لم تخف أهدافها في "تغيير أنظمة المنطقة" بعد النظام العراقي. وخشية إيقاع واشنطن بها بنفس ذريعة احتلال العراق (السلاح النووي).(50) ويبدو أن "الحياد الإيجابي" في التعامل مع الحرب على العراق، محصلة تفاعل مجموع العوامل الداخلية والإقليمية أثناء الإعداد ووقوع تلك الحرب، وسوف تستمر هذه السياسة إلى حد بعيد حتى بعد سقوط النظام واحتلال العراق من جانب القوات الأمريكية والبريطانية. وهي سياسة تعكس بالدرجة الأولى مخاوف إيران من الاستهداف الأمريكي لها، وحرصها على عدم التورط في أية مواجهة مباشرة، وعلى عدم توفير الذرائع السياسية أو الأمنية التي تبرر مثل هذه المواجهة. ولهذا السبب فسياسة إيران بعد احتلال العراق ليست سياسة جديدة أو مفاجئة أو غير متوقعة، بل هي استمرار لرؤيتها السابقة في المحافظة على قدراتها ودورها الإقليمي.(51) وعلى أساس هذه القاعدة المزدوجة، امتلاك المرونة وقوتها الدفاعية، لمنع الولايات المتحدة من مهاجمة إيران، ستلتقي الاتجاهات الإيرانية لمواجهة مرحلة ما بعد احتلال العراق.(52) وبعد أربعة أشهر على الاحتلال، تدعو صحيفة (إيران اليوم) إلى مواجهة الخطر الأمريكي من خلال "عرقلة وجود إجماع عالمي ضد إيران"، بعد أن تؤكد على ترميم الانقسام بين "الحاكمين والأمة" من خلال إطلاق السجناء السياسيين ووقف إغلاق الصحف وتعديل قوانينها، ووضع ستراتيجية واضحة للحركة الإصلاحية. بينما أفصح الإصلاحيون أن الدرس البليغ من "الكارثة العراقية" ينبع من موقف المتفرج الذي وقفه الشعب العراقي أمام سقوط النظام الحاكم، وهو ما أدى إلى احتلال بلاده على يد قوى خارجية. معتبرين أن الخروج بسلام من هذه المرحلة الحرجة لا يتم الا بتنفيذ ستراتيجية الإصلاحات وخلق الثقة في الساحة الداخلية، واعتماد الدبلوماسية الفعالة لتطبيع العلاقات الدولية لإيران والتحالف من أجل السلام والديمقراطية.(53) وهكذا ستلجأ إيران إلى ستراتيجية "تفويت الفرص" على الولايات المتحدة، بعد أن تأكد مخاوف الجميع من الاستهداف بعد العراق، وفي ضوء الانتصار السريع وغير المكلف في العراق، والذي شجع مسؤولي الإدارة الأمريكية إطلاق تهديداتهم مباشرة ضد سوريا وإيران. كما ذهب السلوك الإيراني في اتجاه ينسجم مع ستراتيجية "الدفاع" من دون "استفزاز"، عملت على توسيع دائرة الحوار مع دول الجوار للعراق ومع أوربا، وعلى التأكيد المتواصل لرفض الاحتلال، وعلى حق الشعب العراقي استعادة سيادته واستقلاله ووحدته وعلى دور الأمم المتحدة. وهي دعاوي تلقى القبول والتأييد عالمياً. بل أن ما ورد من قبل العديد من وسائل الإعلام بشأن التدخلات الإيرانية في العراق من خلال مخابراتها والعناصر المؤيدة لها سواء في مجال سرقة الآثار أو تهريب المعدات أو التصفيات كانت، ولا زالت، تقع تماماً في خانة أهداف المحتل.(54) وهنا من المفيد التمييز بين أمرين: الأول أن إيران لم تشذ عن غيرها من الدول في التكيف مع واقع ما بعد الحرب الباردة وبخاصة بعد أحداث 11 أيلول بما يعنيه ذلك من تطويع الايديولوجيا للمصحلة الوطنية العليا. والثاني أن إيران أدانت كما فعل غيرها العدوان على العراق، ثم قبلت كما قبل غيرها بالأمر الواقع، وتراجعت في الملف النووي كما تراجع غيرها فقبلت بتوقيع البروتوكول النهائي للتفتيش المفاجئ على مواقعها.(55) في ضوء مصلحة أمريكا منع أية دولة تكوين "نفوذ هائل" حول النفط يمكن فهم استمرار التركيز الأمريكي على محاولات البرنامج النووي الإيراني والإصرار على توقيع البروتوكول الإضافي لانتزاع كل عناصر القوة التي تمتلكها إيران والتي قد تمكنها من بناء نفوذ غير عادي. يُضاف إلى ذلك "الكابوس اللوجستي" الذي يجعل الولايات المتحدة التفكير أكثر من مرة قبل إقدامها على غزو إيران واحتلالها: سكانها ثلاثة أضعاف سكان العراق، مساحتها أربعة أضعاف مساحة العراق، تضاريسها صعبة، سكانها عموماً يلتفون حول النظام في وجه التهديدات الأجنبية.. ومع فشل حصول تغيير في إيران مقبول لدى أمريكا، فإن أفضل ما يمكن أن يردع إيران هو الوجود الأمني، أي قوات أمريكية كبيرة منتشرة في أنحاء الخليج العربي، ومنع إيران من تشكيل أي تهديد، وأن يتواصل احتوائها.(56) وبالعلاقة مع الضغوط الأمريكية المتواصلة لانتزاع القوة الإيرانية وتهديد النظام ومستقبله، وفي ظل "الارتباط" الإقليمي الشديد الذي حصل بعد احتلال العراق، تبدو السياسة الإيرانية سياسة مواءمة دفاعية تبحث عن حماية أمنها ونظامها ولا تبحث عن التورط في المرحلة الراهنة حتى لو استمر الوجود العسكري الأمريكي على ما هو عليه بالعراق، أو انحسر إلى قواعد عسكرية محددة.(57) لا تبحث إذن إيران عن المواجهة مع الولايات المتحدة ولا تريد سوى عودة السيادة إلى العراق وفق برنامج محدد، وتدخل الأمم المتحدة، ووحدة العراق. وبالإضافة إلى انشغالها بترتيب أوضاعها الداخلية في مواجهة دعاوى "الإصلاح" التي ترفعها الولايات المتحدة سيفاً مسلطاً على حكومات المنطقة العربية والإسلامية، تبدو إيران أيضاً منشغلة بمعاركها الداخلية بين الإصلاحيين والمحافظين.(58) ووفق الأوضاع الدولية والإقليمية الراهنة، ومع ترجيح استمرار الاحتلال بصورته المباشرة أو غير المباشرة، ستتجه إيران إلى التعامل مع "الواقع" الجديد في العراق، وستفعل باقي دول المنطقة ذلك أيضاً. ولكن مع ذلك سيبقى العراق ساحة مواجهة مفتوحة داخلياً وإقليمياً. ومن المفترض أن تعمل إيران في هذه "الساحة" المضطربة التى تضم مجموعات إرهابية جاءت من الحدود المشتركة لدول الجوار بهدف تحقيق مصالح آنية وإقلاق الولايات المتحدة حتى لا يشعر المحتل الأمريكي وعلى الرغم من اختلال ميزان القوى لمصلحته، بالاطمئنان في هذه الساحة وبِأنه اللاعب الوحيد فيها.(59) ومهما قيل عن حجم "المكاسب الستراتيجية" التي حققتها إيران، فلا أقل من أنها أصبحت القوة الإقليمية الأبرز ومن دون منافس بعد غياب القوة العراقية، بالإضافة إلى أن علاقاتها الإيجابية مع "مجلس الحكم"، وكذلك علاقاتها الخاصة المتفاوتة من حيث التأثير مع الشيعة، وقدرتها على لعب أدوارٍ تحقق مصلحتها دون أن يغضب المحتل الأمريكي إن لم يصب في أهدافه، عوامل جعلت من إيران اللاعب الثاني في الساحة العرقية بعد الولايات المتحدة الأمريكية. ولكن، ورغم أن سياسة إيران في هذا المجال انطلقت من حقيقة أن احتلال العراق حقق لها ما لم تستطع ثورة خميني أن تحققه، ومع ان ممارساتها، عموماً، تصب في مصلحة الاحتلال، إلا أن الاحتمال قائم، بإن تحول الولايات المتحدة وحلفاؤها ضغوطاتها، بما في ذلك تعزيز سياسة الاحتواء-على الأقل- نحو إيران انطلاقاّ من مصلحة ستراتيجية بحتة تقوم على عدم السماح بظهور دولة قوية، وبخاصة في منطقة الخليج العربي.(60) (2) العلاقات العراقية- التركية تُعتبر تركيا بلداً آخر غير عربي مجاور للعراق. وهذا الجوار يُعطي بعداً أعمق لمفهوم "أن العراق يشكل الجناح الشرقي أو البوابة الشرقية للوطن العربي". وكانت العلاقات العراقية التركية منذ سبعينات القرن الماضي ولغاية الغزو(1990) ودية عموماً، إذ ترسخت الصلات الثنائية بينهما من واقع أن النظامين يدينان بالعلمانية secular وكونهما حكومات قومية nationalistic وملتزمة بالتنمية الاقتصادية والتحديث، في حين كانت السلفية تزداد قوة في المنطقة. الأكثر من ذلك أن البلدين تحاشيا التدخل في الشؤون الداخلية لبعضهما. هذا على خلاف الحالة في بقية بلدان المنطقة. العراق من ناحيته ليست لديه ادعاءات ايديولوجية أو إقليمية في تركيا أو مشكلات حدودية.(61) ساءت العلاقات العربية التركية بعد الاقتراب التركي- الإسرائيلي (التعاون العسكري بين تركيا واسرائيل: شباط/ فبراير 1996). ومن وجهة نظر العراق فإن ستراتيجية المشاركة التركية- الإسرائيلية منحت الأخيرة عمقاً ستراتيجياً في صراعها مع العرب، خاصة وأن تركيا طرف في حلف شمال الأطلسي NATO. وهذا ما كان يُقوي عامل الشك والخوف والقلق وضعف الثقة بين العراق وتركيا.(62) عموماً تتوسط العلاقات بين العراق وتركيا جملة قضايا تتقدمها:(63) .. منطقة الموصل- كركوك كانت ضمن خريطة تركيا. اضطر الأتراك التخلي عنها لصالح العراق بعد ضغوط بريطانية. استمرت القناعة سائدة منذ عهد أتاتورك أن استعادة المنطقة تكون ممكنة عندما تكون تركيا أقوى والظروف الدولية مناسبة. لم تغب هذه المسألة ولو- معنوياً- عن الذاكرة السياسية التركية، بل يتم "إيقاظه" تبعاً للتطورات ذات الصلة. ورغم أن أساس السياسة الخارجية التركية يكمن في شعار "سلام في الداخل سلام في الخارج" إلا أن استخدام الأقليات ذات الأصل التركي في الدول المجاورة لتركيا يمثل "سياسة تركية". ووجود كتلة تركمانية في كركوك- الغنية بالنفط أصلاً- يشكل عامل اهتمام آخر بالوضع في العراق. وتساعد حالة التفكك العراقية الراهنة على المراهنة التركية بخصوص الأقلية التركمانية كورقة ضغط تستخدمها أنقرة عند الضرورة. وهذه السياسة محكومة بالدرجة الأولى، وفيما يخص العراق، بالعلاقة بين الحكومتين التركية والعراقية دون إغفال المؤثرات الخارجية، علاوة على إرضاء الشارع التركي باظهار تركيا نفسها المناصر لهذه المجموعة التي تشكل القومية الثالثة في العراق. ناهيك عن كون موضوع "تركمان العراق" ساخن في ظروف العراق الحالية ويمكن استثماره في أكثر من منحى، وبالأخص إيجاد نوع من التوازن العرقي في الشمال العراقي.(64) تصاعد الاهتمام التركي بتركمان العراق وازدادت تدخلاتها في شؤونهم بعد حرب الخليج (1991) بدعوى حماية حقوقهم. ويُلاحظ عدم تعرض التركمان وغيرهم من التنوعات اللغوية/ القومية العراقية الى التميز أو الظلم والاضطهاد إلا بقدر ما حصل لعموم شعب العراق. عليه إذا كانت هناك مشكلة فهي تنبع من مخاوف التركمان على وضع مدينة كركوك. وهي قضية بالغة الحساسية تتطلب من العراق التعامل معها بكل ما أمكن من الحذر والعناية والمهارة الدبلوماسية توصلاً إلى حل المعادلة الصعبة التي تتلخص بتلبية مطالب العراقيين دون استثارة الأكراد أو تركيا أو تعريض وحدة البلاد إلى الخطر.(65) .. النفط: تركيا بلد غير نفطي وتُحمّل فاتورة النفط الخزينة التركية عبئاً ثقيلاً. ويوفر غنى منطقة الموصل- كركوك بالنفط حافزاً لاهتمام تركيا بهذه المنطقة،(66) خاصة وأن تركيا تشكل معبراً لنقل النفط العراقي من كركوك بواسطة الأنبوب النفطي بين البلدين.(67) .. الأكراد: أحد الهواجس المركزية لدى النظام التركي هو "هاجس التفكك". وترى في الوجود الكردي خطراً واقعياً وفعلياً حيث تضم مناطق جنوب شرق تركيا 10- 12 مليوناً، خاصة وأن الأكراد خاضوا غمار انتفضات وثورات عديدة منذ عشرينات القرن الماضي. كما أن التمرد المسلح لحزب العمال الكردستانى PPK (1984- 1999) كاد أن يقضي على وحدة الأراضي التركية. وكلّفت الخزينة التركية حوالي 8 مليار دولار سنوياً وسقوط ما لا يقل عن 30 ألف قتيل مدني وعسكري. ورغم القضاء على هذه الحركة إلا أن بقاياها تحولت إلى شمال العراق. يضاف إلى ذلك الهاجس الأكبر، وهو وجود كتلة كردية كبيرة (5 مليون تقريباً) على الجانب الآخر للحدود- شمال العراق- والخشية من هذه الكتلة تنبع من عاملين: أن المنطقة الجغرافية لتواجد أكراد العراق محاذية، بل امتداد للمنطقة الجغرافية لتواجد أكراد تركيا. وأن أكراد العراق قطعوا شوطاً كبيراً في سبيل تجسيد هويتهم الثقافية وشخصيتهم القومية لا سيما منذ مطلع السبعينات والتطورات اللاحقة على هذا التاريخ. وهذا الواقع يثير تركيا ويحرك هواجس ومخاوف تُعلن على الملأ ومن أعلى المواقع السياسية والعسكرية في تركيا. وأنها معنية، من هذه الزاوية، مباشرة بما يجري في المنطقة.(68)من هنا تشكِّل القضية القومية الكردية في شمال العراق وجنوب تركيا مشكلة مركزية في وجه العلاقات العراقية التركية، وتمثل مصدر قلق في تركيا، وتلتقي توجهات إيران والعراق وتركيا وسوريا على "رفض قيام دولة كردية مستقلة، وإحباط أية اندفاعة انفصالية لأكراد شمال العراق".(69) .. الاقتصاد: يمثل العراق أهمية كبيرة للاقتصاد التركي، إذ بلغ حجم التجارة التركية مع العراق قبل حرب الخليج (1991) نصف حجمها الكلي مع جميع الدول العربية. وتحملت خسائر تقدر بـ 35 مليار دولار جراء الحظر الاقتصادي على البلاد.(70) تعاظمت العلاقات الاقتصادية- التجارية بين العراق وتركيا خلال السبعينات والثمانينات ولعبت الشركات التركية دوراً مهماً في جهود التحديث العراقي. كما حققت الشركات التركية أرباحاً طائلة خصوصاً من تنفيذ مقاولات البناء في العراق. واتسعت سوق العمل العراقية للأيدي العاملة التركية. وبلغت العلاقات الاقتصادية بين الطرفين أوجها أثناء الحرب العراقية الإيرانية. وهذا يفسر عودة التقارب بين العراق وتركيا بعد حرب الخليج مباشرة.(71) .. القوة العسكرية: أعلنت تركيا عن قلقها من النمو المتصاعد للقوة العسكرية العراقية بعد حرب الثماني سنوات مع إيران بدعوى تهديد أمنها من خلال الأسلحة الكيمياوية والصواريخ البلاستية. كما عبَّر الجنرالات الأتراك عن ارتياحهم لتدمير المخزون العراقي لهذه الأسلحة. وأدانت تركيا الغزو العراقي للكويت وشاركت في التحالف ضد العراق بالسماح لطائرات التحالف استخدام قواعدها لضرب العراق، وسمحت لآلاف القوات الغربية التواجد على الحدود العراقية مجبرة النظام العراقي إبقاء وحدات من قواته في الحدود المشتركة. وبالمقابل زاد قلق العراق من إحياء الأطماع التركية تجاهه أثناء أزمة الخليج عندما صدرت إشارات ملتوية من عناصر رسمية ومحلية تركية بـ "خسارة الموصل". كما تزايد مخاوف العراق عندما صرَّح الرئيس التركي سليمان ديميريل في مايس 1995 بوجوب تعديل الحدود التركية مع العراق. وبالمقابل تعاظمت مخاوف تركيا بعد أن وجه رئيس النظام العراقي تهديدات رسمية مستمرة قبيل حرب الخليج بضرب تركيا عسكرياً.(72) .. المياه: إن استعمال مياه دجلة والفرات أمر حيوي بالنسبة للعراق. ويهدد احتجاز كميات كبيرة منها من جانب تركيا معيشة ملايين المواطنين.(73) لذلك يمكن أن تتطور هذه الأزمة إلى واحدة من الأزمات الساخنة في المنطقة. ففي عام 1989 أعلن رئيس النظام العراقي عن عدم الرضا العميق لموقف تركيا من مشروع خزان الأناضول لتأثيره في تقليل تدفق المياه إلى العراق.(74) وذلك بعد أن انفردت تركيا بإقامة منشآتها المائية دون التشاور مع دول الحوض الأخرى. علاوة على محاولتها الاستئثار بالمياه واستخدامها سلاحاً لفرض سياستها على هذه الدول، ورفضها توقيع اتفاق مع كل من سوريا والعراق لاقتسام مياه الفرات، رغم أنها أبدت استعدادها لبيع المياه لبلدان الخليج العربي وإسرائيل.(75) استمر الأتراك بناء مشروعات في سياق حزمة متكاملة من السدود والخزانات لتعزيز قوة تركيا وتفوقها بالاعتماد على مصادر المياه. أي أن تكون "دولة مائية" مقابل "دولة نفط" العرب، بغرض مقايضة المياه التركية بالنفط العربي. يقول الرئيس التركي السابق سليمان ديمريل: "إن المياه التي تنبع من تركيا هي ملك لتركيا، والنفط هو ملك البلدان التي ينبع فيها، ونحن لا نقول لهم أننا نريد مشاركتهم في نفطهم، كما أننا لا نريد أن يشاركونا مياهنا".(76) إذن، مشكلة المياه القائمة، بين تركيا من جهة وبين العراق وسوريا من جهة أخرى، هي مشكلة سياسية بالدرجة الأولى قبل أن تكون مسألة تقنية. فلا يوجد عجز في منسوب مياه دجلة والفرات اللذين تتواجد منابعهما في الأراضي التركية، لكن حكومة أنقرة تريد استخدام المياه سلاحاً لتحقيق مآرب سياسية. ولبلوغ هذه الغاية التقت مصالح الدولة العبرية بمصالح الدولة التركية لعقد تحالف ستراتيجي بينمها لتشكلا قوة ضاغطة على العالم العربي وعلى قوته المركزية المتمثلة في العراق وسوريا.(77) إن المشاريع المائية التركية خفضت كمية المياه التي تصل إلى العراق من 29-30 مليار م3 إلى 13- 15 مليار م3 عام 1995 ثم من المخطط تقليصها إلى 7.5 مليار م3 عام 2005 مما سيؤدي إلى خفض المساحات المزروعة في العراق بنسبة 75%. وهذا ينذر بوقوع كارثة كبيرة إذا لم يتم تفادي ذلك والتوصل إلى تفاهم حول هذه المسائل وتثبيت الحقوق المكتسبة للعراق على نهري دجلة والفرات التاريخيين. كما ويلاحظ أن مشروعات "أنابيب مياه السلام" التركية بخطيها استبعدت العراق تماماً. مما يعني أن العراق هو الضحية الرئيسة الأولى للمشاريع المائية التركية. وبعد أن كان العراق يتمتع بنعمة وفرة المياه صار من أكثر الدول التي تعاني من نقص المياه الضرورية لمشاريعه الزراعية والتنموية. ويلاحظ أن إيران وقعت بدورها اتفاقية مع قطر في ت1/اكتوبر1991 تقضي بإنشاء خط أنابيب مياه يبلغ طولة 1800 كم لنقل مياه نهر كارون إلى قطر. وهذا النهر، الذي ينبع من جنوب غرب إيران، يُشكل أحد الروافد المهمة لنهر دجلة.(78) تبنت تركيا مجموعة "ثوابت" تجاه العراق منذ تغير الخريطة العراقية بعد حرب الخليج (1991)، وشكلت جامعاً مشتركاً بين مختلف القوى السياسية والعسكرية والاقتصادية التركية، متمثلة في:(79) + الحفاظ على وحدة الأراضي العراقية، انطلاقاً من أن أي تقسيم للعراق سيفتح باب تقسيم كل الدول المجاورة بما فيها تركيا. + منع إقامة دولة كردية مستقلة في شمال العراق، لأِنها ستشجع أكراد تركيا الاحتذاء بأشقائهم في العراق. + إن التفكك السياسي والعرقي للعراق شجع تركيا على المطالبة بمنح تركمان العراق- منطقة كركوك- حقوقاً ثقافية وحكماً ذاتياً وأن لا يكونوا بأي حال تابعين لمنطقة الحكم الذاتي/ الفيدرالية الكردية، المحتملة في المستقبل، حتى يبقى التركمان جيباً تركياً داخل العراق. + منع تشكيل العراق أي تهديد مستقبلي لتركيا، وإذا كانت تركيا مع "عراق موحد" إلا أنها ضد ظهور "عراق قوي". + عدم السماح لإيران بممارسة أي نفوذ داخل العراق. طالبت الولايات المتحدة عشية الحرب على العراق مشاركة أنقرة في الحرب وفتح جبهة شمالية آخذة بعين الاعتبار هواجس تركيا التي ردت عليها على هذا النحو: ستحافظ أمريكا على وحدة العراق وستعارض إقامة دولة كردية مستقلة، وستساعد تركيا اقتصادياً عن أية خسائر محتملة من جراء الحرب، وستلحظ الوضع الخاص للتركمان، وعلى صعيد الوضع الدولي ستضمن أمريكا استمرار مساعدات صندوق النقد الدولي. كانت المعادلة التركية تقوم على ركيزتين: السعي لمنع نشوب الحرب، وبالتالي تحاشي حدوث تغيير جوهري في التوازنات القائمة، وفي الوقت نفسه التدرج في التعاون مع الإدارة الأمريكية تجاه العراق تبعاً لمدى احتمالات حصول الحرب، بحيث إذا وصلت الأمور إلى النقطة التي تحتم الحرب تكون تركيا داخلها. وفي سياق جهودها لمنع نشوب الحرب اتخذت المواقف التركية أشكالاً متعددة: عدم التحرك إلا ضمن الشرعية الدولية.. التنسيق الإقليمي مع دول الجوار الجغرافي للعراق في محاولة لإيجاد حل سلمي لمسألة تغيير السلطة في بغداد واستبدال رأس النظام.. تلكؤ تركيا المشاركة في الحرب باعتماد جملة تكتيكات: تمديد المفاوضات التي كانت تجريها مع الولايات المتحدة.. التأجيل المتكرر للرد النهائي على المطالبات الأمريكية.. اتخاذ قرارات ملتبسة في مجلس الأمن القومي التركي تجاه المشاركة في الحرب على العراق.. رفضْ البرلمان التركي في الأول من آذار 2003 مذكرة الحكومة بالسماح بتمركز قوات أمريكية يقارب عددها 60- 70 ألفاً على الأراضي التركية وفتح جبهة حرب شمالية تشارك فيها تركيا بِأعداد لا تقل عن مائة الف جندي.. مماطلة أنقرة بعد ذلك في الرد على المطالب الملحة من جانب الرئيس الأمريكي ونائبه ووزير خارجيته بين 11 و 15 آذار بضرورة تقديم مذكرة جديدة إلى البرلمان وفتح الجبهة الشمالية. شهد شهر شباط مفاوضات شاملة ومعقدة بين الأتراك والأمريكيين حول شروط المشاركة التركية في الحرب، توزعت هذه المفاوضات على ثلاثة محاور: اقتصادية وسياسية وعسكرية. تم الاتفاق في المحورالأول على منح تركيا قروضاً بقيمة 24 مليار دولار وهبة بقيمة 6 مليار دولار، مع شطب ديونها العسكرية (حوالي 4 مليار دولار)، لتغطية خسارتها الاقتصادية المحتملة في حالة اندلاع الحرب. وفي الشق العسكري تم الاتفاق على تمركز 60- 70 ألف جندي أمريكي على الأراضي التركية ومن ثم عبورهم إلى شمال العراق مع معداتهم، على أن يدخل شمال العراق ضعف هذا العدد من القوات التركية دون أن تشارك في العمليات العسكرية إلا إذا اضطرت الظروف. لكن الشق السياسي كان الأكثر تعقيداً، حيث أراد الأتراك عدم تسليح الأكراد بأسلحة متطورة (صواريخ ومدافع ثقيلة) وأن لا يشاركوا في العمليات العسكرية وأن لا يدخلوا مناطق آبار النفط- الموصل وكركوك (التي ستدخلها القوات الأمريكية فقط) وأن يكون التركمان، كما كان الأكراد والعرب، عنصراً مؤسساً في الدستور الجديد، وأن لا تُعتمد صيغة الفيدرالية في العراق الجديد. لكن الولايات المتحدة لم تعط جواباً واضحاً يطمئن الأتراك لجهة مستوى تسلح الأكراد وصيغة الفيدرالية، الأمر الذي ولَّد شكوكاً لدى أنقرة في نوايا واشنطن حول دور الأكراد أثناء الحرب وموقعهم في العراق الجديد. وهكذا استمرت تركيا على رهانها على أنه لا حرب من دونها إلى أن وجه الرئيس الأمريكي إنذاره في 18 آذار/ مارس 2003 إلى الرئيس العراقي بالتنحي خلال 48 ساعة وإلا فالحرب، والتي بدأت عملياً فجر الخميس 20 آذار. أدرك الأتراك أن رهانهم قد سقط، فاجتمعوا على عجل مساء نفس اليوم (رئيس الجمهورية، رئيس الحكومة، وزير الخارجية، رئيس أركان الجيش) وقرروا بالإجماع تبليغ الإدارة الأمريكية أنهم سيشاركون في الحرب ويفتحون الجبهة الشمالية، وأن مذكرة ستقدم إلى البرلمان خلال ساعات للموافقة عليها. ولكن يبدو أن ذلك قد حصل "بعد فوات الأوان" وبعد ما حسمت واشنطن قرارها بشن الحرب على العراق اعتماداً على جبهة واحدة هي الجنوبية (الكويت). فكان جواب الإدارة الأمريكية (وزير الخارجية): "شكراً، لسنا بحاجة لكم، لكن إذا كنتم تريدون المساعدة فافتحوا فقط ممراً جوياً لطائراتنا". جسَّدت الحرب على العراق محطة فاصلة بين مرحلتين بالنسبة للسياسة الخارجية التركية والأمن القومي التركي وكان لها تأثيراتها وتداعياتها المهمة على مجمل "الثوابت" التركية تجاه العراق وفي العلاقة مع الولايات المتحدة وعلى الدور التركي في "الشرق الأوسط" والعلاقة مع الاتحاد الأوربي. على الصعيد العراقي، تلاشت "الخطوط الحمراء" التركية: دخول الأكراد العراقيين مدينتي الموصل وكركوك منذ الأيام الأولى لسقوط بغداد.. وقوع الأقلية التركمانية تحت السلطة الكردية.. حصول الأكراد على أربعة مقاعد في مجلس الحكم وعدد من المناصب العليا، بما في ذلك وزارة الخارجية، وما يحمل هذا المنصب من دلالات بالنسبة للسياسة الخارجية التركية.. منع أمريكا دخول الجيش التركي إلى شمال العراق على خلاف ما كان الحال قبل الحرب.. استبعاد الشركات التركية من عقود اعمار العراق.. منح الأكراد الفيدرالية بموجب قانون إدارة الدولة العراقية المؤقت. وفي المحصلة العامة خرجت تركيا خاسرة من حرب لم تشارك فيها، ووجدت نفسها خارج المعادلة العراقية بصورة شبة كاملة. بقيت العلاقات التركية الأمريكية وثيقة منذ عضوية تركيا في حلف شمال الأطلسي (1952) وحتى عشية الحرب العراقية الأخيرة. لكن الحرب العراقية وعدم مشاركة تركيا فيها وافتراق السياستين التركية والأمريكية قد خلق وضعاً جديداً في العلاقة بين الطرفين له تأثيراته العديدة:(80) + تراجع القيمة العسكرية لتركيا بعد نجاح أمريكا خوض الحرب بدونها. + إن ابتعاد تركيا عن الولايات المتحدة في مرحلة بالغة الأهمية للمشروع الإمبراطوري الأمريكي، ترك اثراً سلبياً بالغاً في النظرة الأمريكية إلى تركيا. + ولكن، رغم التصدع الذي تركته الحرب العراقية على العلاقات التركية- الأمريكية، إلا أن إدراك الطرفين أهمية استمرار هذه العلاقات في إطار المصالح المشتركة برز في أكثر من محطة لمرحلة ما بعد انتهاء الحرب: .. تعثر العمليات العسكرية الأمريكية في الأيام الأولى للحرب دفعتها لطلب المساعدة من أنقرة وموافقة الأخيرة السماح للطائرات الأمريكية بالهبوط في تركيا في طريقها من وإلى العراق "لأسباب إنسانية" وإعلان تركيا أنها داخل التحالف. .. استمرار عمليات المقاومة العراقية ضد قوات الاحتلال الأمريكية دفعت أمريكا العودة لطلب مشاركة عسكرية من العديد من الدول من بينها تركيا. .. تبني مجلس النواب التركي في 27 ت1/اكتوبر 2003 مذكرة الحكومة التركية ومنح الحكومة صلاحية إرسال قوات عسكرية تركية إلى العراق بناء على طلب واشنطن. .. موافقة الولايات المتحدة في إطار إرسال قوات تركية إلى العراق على منح تركيا قرضاً بـ 5.8 مليار دولار. .. موافقة أمريكا على التنسيق مع أنقرة في شأن مكافحة نشاطات عناصر حزب العمال الكردستاني في شمال العراق. وهكذا فإن افتراق السياستين التركية والأمريكية في الشأن العراقي لم يقلل أو يلغي تقاطع مصالح الطرفين في أكثر من قضية وساحة. مع نقل السلطة إلى حكومة مرتبطة بالتحالف، ولا تمتلك استقلالية القرار الوطني، وبعد الاتفاق على وجود قواعد عسكرية دائمة في العراق. وهو احتمال تحقق شطره الأول، من المحتمل ان تتصرف تركيا على النحو التالي:(81) + ما دامت تركيا متحالفة بالأساس مع "الولايات المتحدة"، وما دام "العراق الجديد" سيغدو مرتبطاً بتحالف مع "واشنطن" فإن تحالفاً جديداً قد يطفو على سطح هذه المنطقة: اتفاق ثنائي "بغداد- أنقرة" أو ثلاثي " بغداد- أنقرة- إسرائيل"، وتمسك واشنطن نهايات الخيوط عملياً. وبذلك يمتد الشطر الجنوي- الشرقي لحلف الأطلسي NATO ليصل إلى مياه الخليج العربي، وأيضاً فتح الباب أمام "إسرائيل الكبرى". + في الوقت الذي ستحصل "تركيا" على مكاسب ستراتيجية عديدة سواء في العراق أو عموم "الشرق الأوسط" من جراء التحالف الجديد، فهي ستخسر مزايا سابقة: لا تستطيع التحكم بمياه دجلة والفرات وتمنعها عن "العراق" الحليف لـ "واشنطن" وقتما تشاء.. تغدو قواعدها الستة تحت السيطرة الأمريكية- الأطلسية غير ذات شأن كبير.. يصبح أنبوب النفط العراقي- التركي غير ذي أهمية ستراتيجية كبيرة ما دام نفط العراق يصدر عن طريق الخليج العربي- المسيطر عليه أمريكياً- أو عن طريق أنابيب النفط الأخرى. + وهذا التوافق المحتمل ربما يتيح لـ "أنقرة" أن يكون لها صوت مسموع أفضل حيال مسألة "الفيدرالية الكردستانية" وأوضاع "تركمان العراق". 3- العراق والبيت العربي (1) العراق والنظام العربي مع اقتراب العدوان الأمريكي على العراق، كان الوضع العربي الرسمي على قدر من التهالك والاهتراء، بحيث لم يوفَّر المناخ السياسي العربي الداخلي الملائم للحرب الأمريكية على العراق، حسب، بل وقدّم مختلف أشكال المساهمات. عليه لم تكن الحرب على العراق حرباً أمريكية فقط، بل كانت حرباً أمريكية- عربية، شاركت فيها معظم الأنظمة العربية إما بـ "السكوت" أو بـ "الخوف" أو بـ "التواطؤ المعلن"، أو بـ "التواطؤ الخفي" بدءاً من المساهمات الرمزية، صمتاً ونفاقاً، ولغاية المساهمات الفعلية التي وضعت في حوزة العدوان الأرض والمال. ولم يكن "الشارع العربي" سلبياً تماماً، لكنه، في المقابل، لم يكن إيجابياً تماماً. ومرد ضعف مساهمته إلى غياب الحياة الديمقراطية وضعف المجتمع المدني.(82) . لم تنشأ الحرب عن فراغ ، بل أن وراءها تاريخاً من السياسات العربية الخاطئة والمتخلفة المشرّبة بالقيم والعادات والثارات القبلية، علاوة على الحسابات القصيرة النظر التي شكّلت بمجموعها ظروفاً مؤاتية للغزو والاحتلال في مرحلة تالية. وهي تعود عموما إلى فترة حرب 1980- 1988 وتركزت خلال 1990- 1991 والحصار.(83) يعتبر احتلال العراق من الأحداث التاريخية الكبرى، التي لا تظهر على السطح إلا بعد أن تكون جذورها قد امتدت في أعماق الماضي، ومع حصولها عندئذ تمتد آثارها إلى المستقبل البعيد أيضاً. واحتلال العراق لا يشكل تطوراً خاصاً بالقضية العراقية في حدودها الجغرافية والسياسية، حسب، بل يمثل مرحلة في السياسة الأمريكية تجاه المنطقة كلها. إن ما نسجته هذه الأحداث قد يولد أحداثاً أخرى لا تقل خطورة عن احتلال العراق.(84) لعل نقطة البدء المركزية في الانهيار العراقي الذي اقترن بدوره بانهيار النظام العربي هو غزو الكويت (2/8/1990)، والنتائج التي ترتبت على هذا الغزو عربياً ودولياً. ويرتبط بذلك، وقبل اجتماع مؤتمر القمة غير العادي في القاهرة بأيام معدودة (9- 10 آب/اغسطس/1990) تم اجتماع مسؤولين أمريكيين بالقيادات السعودية ثم السورية ثم المصرية، وتحقق لهم ضمان موافقة هذه القيادات على ضرب العراق وتحويل الحرب من أمريكية إلى حرب أمريكية- عربية، وذلك في سياق الضغوطات والتخويف من النظام العراقي، يضاف إلى ذلك حصول مصر على ستة مليارات دولار وشطب بعض ديونها.. وهكذا كانت قرارات مؤتمر القمة المذكور معدة سلفاً، وفسحت الطريق أمام الأنظمة العربية، بخاصة تلك الدائرة في الفلك الأمريكي، لتسلك ابتداءاً وبسرعة غير اعتيادية طرقاً انتقامية بدلاً من محاولة إيجاد حلول ملائمة للمشكلة والتسويغ لإخراج القوات العراقية من الكويت. وتضمنت تلك القرارات أخطر الخطوات السياسية في تاريخها الحديث وذلك بالتسويغ للعدوان العسكري على بلد عربي باسم الشرعية الدولية والسماح للأنظمة الخليجية وفي مقدمتها الكويت والسعودية الاستعانة بالقوات الأجنبية. وتقديم المبررات والتسهيلات للحرب العدوانية على العراق: المشاركة السياسية بإسباغ الشرعية العربية الرسمية على قرار العدوان الأجنبي على العراق.. المشاركة المالية بتمويل الحرب الأمريكية بمليارات الدولارات من الموارد العربية وبالذات ثرواتها النفطية.. تقديم الدعم اللوجستي من خلال وضع الأراضي والقواعد العسكرية والمطارات والموانئ والمياه الاقليمية العربية المحيطة بالعراق تحت تصرف قوات العدوان الأمريكية- الأطلسية.. المشاركة العسكرية بجيوش عربية شكَّلت خمس جيوش التحالف. ومن ثم التنفيذ الصارم للحصار، حيث جعلت الدول الخليجية من الحصار والتعويضات قضيتها المركزية التي لا تعلو عليها قضية أخرى ولتتصدر كافة قرارات مجلس التعاون الخليجي، وفي ظروف التجويع التي عانى منها شعب العراق. وأخيراً، الموقف العربي الرسمي السلبي من حق العراق حيازة وسائل الدفاع الشرعي عن أمنه الوطني، بل والمساهمة الفعالة في الترويج لدعايات الأكاذيب الأمريكية بشأن امتلاك العراق أسلحة الدمار الشامل التي ملأت بيانات الأنظمة الخليجية ومجلسها التعاوني.(85) وهكذا بدا حال النظام العربي الرسمي عشية الحرب على العراق متهرءاً ومنقسماً على نفسه بين شريك متواطىء أو متظاهر برفضها، أو عاجز فعلاً عن دفعها، وآخر محرض على الجريمة، وبذلك كشف الحكام العرب، بعامة، عن كونهم ليسوا أكثر من أصنام عراة!(86) كما وبذلت دولاً عربية خليجية بخاصة الكويت الغالي والنفيس ولعلها أموالاً طائلة كي تخرج العراق من دائرة النظام الإقليمي العربي، وتعطل مشاركته في مؤسساته ومنها القمة العربية. علاوة على تدخلاتها المستمرة في الشؤون الداخلية العراقية. غير أن الأمانة تقتضي القول أيضاً أن النظام العراقي، بالإضافة إلى مبادرته بكارثة الغزو، قدم أيضاً مساهمته في تنمية مخاوف دول الجوار العربية، إذ لم تتوقف أجهزة إعلامه للفترة التالية عن تنظيم هجمات إعلامية مكثفة على أنظمة الخليج خاصة الكويت والسعودية، بل ووسع هجومه الإعلامي ليغطي معظم الأنظمة السياسية العربية باتجاه تحريض الجماهير والرأي العام على تلك الأنظمة.(87) يرى البعض إن إحدى النتائج المهمة التي كشفت عنها الأزمة الأخيرة تتمثل في أن دولاً هامشية في النظام العربي باتت تتطلع للعب دور كبير في هذا النظام لا يتلاءم وقدراتها الذاتية، ولم يعد لها ما يحول دون أن تعرض نفسها علناً وتبدي استعدادها للعمل كأداة لمساعدة الدولة المهيمنة على محاصرة وشل فاعلية دول القلب العربي تمهيداً لتصفية النظام العربي برمته وتعجيل وتيرة المخططات الرامية إلى دمجه في نظم إقليمية أكبر وأوسع.(88) لكن ظاهرة بروز الدول الهامشية بدأت منذ الفورة النفطية في النصف الأول من سبعينات القرن الماضي.(89) فيما يخص البدائل المتاحة أمام العالم العربي عشية الحرب وما طرحته الدول العربية المختلفة لمواجهة الأزمة وبالعلاقة بين ما كان يجب أن يكون وبين ما كان ممكناً القيام به بالفعل، هناك من يرى أن الفشل الحقيقي في منع الكارثة بدأ في قمة بيروت بفشل مساعي المصالحة العراقية- الكويتية، بينما يرى آخرون أن الفشل يعود إلى عجز العالم العربي تشكيل جبهة موحدة في مرحلة مبكرة من الأزمة للضغط على رأس النظام العراقي وإجباره على التخلي عن السلطة ونقلها بطريقة تحافظ على الدولة العراقية وعلى الشعب العراقي، ويرى فريق ثالث أن الفشل يعود إلى اختراق النظام العربي بأنظمة عميلة فاقدة مشلولة الإرادة. وهذه البدائل المختلفة- بغض النظر عن الموقف منها- تستحق تحليلاً مستقلاً، خصوصاً وأن النخبة العربية تبدو منقسمة حتى الآن إلى تيارين أحدهما يرى أن فرصة حقيقية لتجنب الحرب لاحت أمام الدول العربية، سواء بالبناء على الموقفين الألماني والفرنسي أو لتوحيد الموقف العربي الضاغط على رأس النظام العراقي للتنحي، بينما يرى تيار آخر أنه لم تكن هناك أية فرصة وأنه لم يكن بوسع أحد، سواء العالم العربي أو غيره، أن يفعل أكثر مما فعل، وأن الحرب كانت آتية لا محال.(90) وفي حين عبَّرت مشكلة اغتصاب فلسطين منذ منتصف القرن العشرين عن أخطر أزمة تواجه النظام العربي بعد فقد أحد أجزائه وقبل أن تتوفر له بناء كينونته ونيل استقلاله.. فإن أزمة احتلال العراق تشكل أخطر أزمة تواجه النظام العربي منذ انشائه عام 1945 تجاه احتلال واحد من أعضائه بعد حوالي سبعين عاماً على تجسيد كينونته ونيل استقلاله. يلاحظ على النظام العربي ممثلاً في الجامعة العربية أنه نشأ في ظل الاحتلال البريطاني للمنطقة وتحت رعايته. وإذا كانت بريطانيا حاضرة في الجامعة العربية منذ نشأتها الأولى، فإن الولايات المتحدة أصبحت كذلك تحتل المكانة الأولى فيها مع الاحتلال الأمريكي للخليج ومحاولة السيطرة على عموم المنطقة العربية. واستمرت الأنظمة العربية منذ نشوئها في ظل المحتل وحتى بعد الاستقلال الرسمي، بعامة، معتمدة في وجودها على قوى خارجية في غياب قوتها الداخلية نتيجة تغييب مشاركة القوى الشعبية الفاعلة.(91) لعلَّ واحدة من أكثر الدروس التي يمكن استخلاصها من تلك الأزمات هي أن نواحي القصور التي واجهت النظام العربي في أزماته السابقة لم تكن في الآليات التي اعتمدها، بل أن المشكلة الأخطر تجسّدت في استمرار البون الشاسع بين هذه الآليات وبين الرغبة و/ أو القدرة على تنفيذها. من هنا كمنت واحدة من نقاط الضعف القاتلة للنظام العربي الرسمي في الفجوة المتسعة بين القول والفعل، ومن ثم استمرار تآكل قدرات هذا النظام بفعل استمرار الجمود السياسي الداخلي والخضوع المتعاظم للعامل الخارجي.(92) سمة أخرى لكيفية مواجهة النظام العربي لأِزماته أنها جسدت ردود فعل، أي أنها لم تقم على أساليب منهجية تسبق الحدث/ الأزمة، بل جاءت دوما كخطوة تالية عليها، بهدف التكيف معها وليس تغييرها والعودة إلى نقطة البداية على الأقل. من هنا صاحبت نتائج هذه الأزمات سلسة من التراجعات لتبلغ أسفل درجاتها في مرحلتها الحالية، ولتؤول الأوضاع العربية إلى فرض أوامر خارجية واجبة الطاعة والتنفيذ على هذه الأنظمة التي لا تملك من الغطاء وشروط البقاء سوى القوة الخارجية ذاتها. وقعت الأزمة العراقية في ظل ظروف تختلف عن ظروف الخمسينات والستينات حيث كانت الحركة التحررية في الوطن العربي في تصاعد وتحت مظلة قيادات كارزمية مؤثرة في حركة الجماهير. كما وقعت الأزمة في ظل انقسام عربي قادت آثاره إلى شلل النظام العربي في مواجهته. ويكمن هذا الانقسام في المواقف العربية بالعلاقة مع أربع مشكلات محورية، أولاها عالمية ترتبط بالولايات المتحدة وسياستها، وثانيتها محلية/ قطرية تتعلق بهشاشة الأنظمة العربية أمنياً وسياسياً واقتصادياً، وثالثتها عربية- عربية تتجسد في الوضع المتهالك للعلاقات البينية العربية، ورابعتها الأكثر أهمية, الفجوة المتسعة القائمة بين الأنظمة الحاكمة وبين جماهير الناس في ظروف العلاقة المتردية بين الحاكمين وبين المحكومين. من هنا كان النظام العربي في أسوأ حالاته عندما نشبت الأزمة بين الولايات المتحدة الأمريكية وبين العراق في أعقاب أحداث 11 أيلول. ويمكن القول أيضاً أن أزمة غزو الكويت التي بقيت حية في آثارها وتداعياتها التي غذتها قيم الثأر القبلية للسلطات المعنية، لعبت أخطر الأدوار في استمرار تحريك الأزمة العراقية لغاية وقوع العدوان والاحتلال.(93) ويرتبط بمشكلة عجز النظام العربي حيال الأزمة العراقية أن الأنظمة العربية أصبحت موزعة بين فئة تعتمد مباشرة على الولايات المتحدة للحفاظ على أمنها وفق اتفاقات معروفة ومعلنة، وفئة ثانية معتمدة أيضاً على الولايات المتحدة في الحصول على قدر من المساعدات المالية والعسكرية، وفئة ثالثة، رغم أنها لا تعتمد على القوة العظمى من الناحيتين العسكرية والاقتصادية، إلا أنها لا تختلف عن البقية في هشاشة قدراتها السياسية الداخلية بفعل احتكار السلطة وتهميش القوى الوطنية الفاعلة، وشيوع حالة الخوف من مصير مشابه في حال الاعتراض على السياسة الأمريكية.(94) كما أن واقعة الاحتلال أوجدت وضعاً جديداً وآثاراً واضحة على النظام العربي، بحيث يمكن أن يفضي إلى نفي فكرة وجود نظام إقليمي عربي أساساً، لأن وجود قوة عظمى داخل المنظمة الإقليمية ينفي عنها صفة "النظام الإقليمي". كما أن غياب إحدى الدول الرئيسة في هذا النظام (العراق) في ظروف انتقال سيادته للقوة المحتلة يمكن أن يهز من الأساس فكرة النظام الإقليمي العربي. وهو ما يؤكده المسؤولون في الإدارة الأمريكية، حيث أخذوا بعد احتلال العراق يروجون بِأن وضعاً جديداً قد نشأ في المنطقة وعلى الدول العربية أن تتكيف مع هذا الوضع، وذلك باتجاه زيادة إخضاعها لأِوامر واشنطن. وهكذا تداعت "مبادرات" التغيير على الحكام العرب من الإدارة الأمريكية وغيرها، وآخرها مشروع "الشرق الأوسط الكبير"- في فكرته القديمة ولفظته الجديدة- مما يضع المنطقة العربية بين خيارين: إطار خارجي "شرق أوسطي" بما يعنيه من إلغاء النظام العربي وفرض إصلاحات تحقق مصلحة الخارج.. أو نهضة عربية داخلية إصلاحية شاملة من فكرية- ثقافية وسياسية- اجتماعية واقتصادية تتطلب انطلاقها من القاعدة- القوى الوطنية. وهكذا يمكن الافتراض أن صفة الرخاوة لازمت النظام العربي منذ نشوئه ومهّدت للأزمات والكوارث التالية ليصل إلى أدنى درجات ضعفه بتعبيد الطريق أمام محاولات التدخل الأمريكي المباشر لتقود بسهولة إلى "اختفاء" أو "تآكل" النظام العربي في زمن ليس بالطويل وبالتالي تصبح تداعيات احتلال العراق على النظام العربي مرادفة لاختفائه وتآكله كإطار للتفاعلات بين الدول العربية.(95) وعموما، إذا قبلنا بالرأي القائل أن القوة العظمى متمثلة في المملكة المتحدة في المرحلة الأولى والولايات المتحدة في المرحلة التالية اختصت بالمقعد الأول في الجامعة العربية منذ نشأتها ومن خلال وكلائها من أنظمة عربية مرتبطة بها، عندئذ جاز القول أن النظام العربي لم يكن له وجود إلا في سياق تسميته الشكلية. (2) العراق ودول الجوار العربي تتسم العلاقات العربية- العربية عموماً بالضعف والتنافس والتدخل في شؤون بعضها البعض. علاوة على مشكلة التبعية التي تؤثر في قرارات ومواقف هذه البلدان وتحد كثيراً من قدراتها على بلوغ مستوى مرْضٍ من التعاون بينها. كما أن حصيلة حرب الخليج (1991) قادت إلى تشتيت البقية الباقية من جهود التضامن العربي مقابل ضمان الحضور الأمريكي المكثف في المنطقة. تعتبر مصر وسوريا من البلدان العربية الفاعلة في السياسة الإقليمية للمنطقة. حاول النظام العراقي- في أعقاب دخول مصر اتفاقية كامب ديفيد والاعتراف بإسرائيل- احتلال موقع مصر وقيادة القرار العربي. إن حالة التنافس تُفسر كثيراً من المواقف والقرارات التي اتخذت ضد العراق خاصة منذ غزو الكويت. بينما اتسمت العلاقات العراقية السورية بالقطيعة والعداء لأِسباب تتعلق بمواقف شخصية وايديولوجية وسياسية أدت إلى تدهورهذه العلاقات وإيقاف ضخ النفط العراقي عبر الخط الممتد إلى سوريا وإغلاق الحدود بينهما قرابة عقدين من الزمن. في حين بقيت العلاقات السياسية العراقية الأردنية متقلبة رغم استمرار العلاقات الاقتصادية.(96) العلاقات العراقية السعودية اتسمت بالجفاء منذ ظهور المملكة العربية السعودية التي قامت بعد سيطرة آل سعود على الحجاز وطرد حسين والد فيصل ملك العراق. وشكلت السعودية وحركتها الوهابية تهديداً مباشراً للبلاد بعد هجماتها على بعض المدن العراقية المقدسة. استمرت هذه العلاقات في حالة جفاء لغاية نهاية العهد الملكي العراقي. كما أن الحكومات الجمهورية في العراق اتخذت طريقاً معاكساً للطريق السعودي الذي عُرف عنه تعميق ارتباطه بالحليف الغربي. ورغم محاولات نظام البعث تحسين موقعه بالعلاقة مع بلدان الخليج العربي وفي مقدمتها السعودية منذ منتصف السبعينات- هذه المحاولات التي كانت أحد أسباب تخريب الجبهة الوطنية- إلا أن النظرة السعودية والخليجية، بعامة، إلى العراق بقيت تقوم على الريبة والشك. وكانت السعودية إحدى البلدان الخليجية الرئيسة التي شجعت العراق الدخول في حرب الثماني سنوات مع إيران بُغية انهاك الطرفين. كما أنها لعبت دوراً محورياً في أزمة الخليج بسرعة دعوتها لـ "الأصدقاء"- التحالف الغربي. وتشكل السعودية كذلك أحد الأطراف الفاعلة في التدخل في الشأن العراقي الداخلي، حيث أن النقود تدفقت من السعودية لتمويل الأطراف المذهبية المناصرة وتجنيد الأتباع، بخاصة، في المنطقة الآمنة الكردية ودفع مبالغ إلى العوائل والمنظمات المؤيدة للدعوة الوهابية.(97) اتسمت العلاقات العراقية الكويتية في أفضل مستوياتها بالشك والريبة وعدم الثقة.(98) فالطرف العراقي نظر إلى الممارسات والمواقف الكويتية كونها موجهة بدعم خارجي وعلى نحو دائم لإلحاق الأذى بالعراق، بينما قامت نظرة الكويت باستمرار على الخوف وعدم الثقة. أما القضايا الفعلية الرئيسة التي تتحكم في هذه العلاقات فتتلخص في: الحدود، النفط، التبعات المالية. فالحدود القائمة تعمل على خنق العراق وعدم وصوله إلى مياه الخليج. من هنا كانت مطالبة العراق باستمرار ضرورة حصوله على منفذ للبحر. أما قضية النفط فتتمثل في احتياطي العراق من نفط الرميلة حيث يقع أكثر من 90% منه في الأراضي العراقية. وهناك ادعاءات لا تخلو من الحقيقة بأن الكويت قامت بسرقة النفط من هذا الحقل أثناء الحرب العراقية الإيرانية.(99) بل أن الكويت باشرت محاولاتها بعد حرب الخليج بناء مشروعاتها المستقبلية لاستِغلال هذا النفط بطاقات إنتاجية ضخمة. يُضاف إلى ذلك أن ترسيم الحدود في أعقاب حرب الخليج زاد من القنابل الموقوتة مستقبلا في وجه العلاقات العراقية الكويتية. وحسب خبير مستقل: إن لجنة الأمم المتحدة بمنحها فائدة الشك في التفسير التاريخي للخصم في مسألة الحدود أشعلت نيران توترات سياسية أخرى في المستقبل. كما أن القبول بالقرار العقابي الأمريكي الصادر باسم الأمم المتحدة في رسم الحدود بين البلدين أساء النظام الكويتي كثيراً للعلاقات المستقبلية مع العراق.(100) والحصيلة الأخرى التي ترتبت على هذه العلاقات هي المطالبة الكويتية باسترداد المعونات المالية التي قدمها النظام الكويتي للنظام العراقي أثناء حرب الثماني سنوات مقابل مطالبة الأخير بإلغائها لأِسباب ترتبط بدوافع الحرب ذاتها (ف3)، علاوة على مطالبته بتعويضات عن سرقة نفط الرملية. المفارقة أن مواقف الكويت والسعودية لم تتغير تجاه شعب العراق بعد الاحتلال وزوال النظام العراقي، حيث استمر البلدان متمسكين بالحصول على تعويضات حرب الخليج رغم الأوضاع المزرية التي تواجه العراق والعراقيين! 4- السياسة الخارجية المنشودة لا تقل أهمية بناء علاقات خارجية مستقرة عن أهمية بناء الاستقرار الداخلي. فالسلام الداخلي يصعب فصله عن السلام الخارجي. كما أن قيم الديمقراطية في ذاتها تقوم على مبادئ العدل والسلام ولن تستقر في غياب سياسة خارجية سوية. وهذا يتطلب دراسة كيفية إعادة صياغة الخطاب السياسي الخارجي للعراق على نحو سلمي وهادئ بعيداً عن الصراخ والتحديات وفي سياق ثلاث قنوات هي: العلاقات الدولية، العلاقات العربية، وعلاقات الجوار. تتطلب إدارة العلاقات الدولية أن تستند إلى قبول والتزام دقيق بالمواثيق الدولية والعمل من أجل تعزيز السلام وعدم التعرض للأمور التي تشكل شأناً داخلياً للدول الأخرى. كما أن التعامل الناجع مع الأوضاع الدولية وهذا الانفتاح العالمي لا يتحقق بالانغلاق عليها، بل من خلال فهمها والتعامل معها من منظور ستراتيجي مرن يقوم على أساس الواقعية المبدئية بالعلاقة مع الأهداف العامة المرسومة وفي سياق الاستفادة المتبادلة من هذه العلاقات لصالح التوجه الداخلي. ويرتبط بذلك بناء العلاقات الخارجية وفق دبلوماسية القناعة والاقناع وحسب القدرات الإنتاجية لاقتصاد البلاد من منظور ينسجم مع التنمية الموجهة نحو الداخل ويتحاشى الانغلاق على الخارج ويمنع الانفتاح غير المنضبط والتوجهات الاستهلاكية التبذيرية أو الانفتاح غير المرتبط بِأهداف مسيرة التنمية. ومع تطور القاعدة الإنتاجية للاقتصاد الوطني تتطور كذلك التعاملات الخارجية للبلاد على نحو متزايد ومتصاعد وبما يحقق المزيد من المنفعة لصالحها ولصالح الأطراف المعنية وعلى نحو أقرب إلى التكافؤ. بكلمات أكثر دقة، تتطلب مهمة دعم السياسة الخارجية، أن تسير معها وبخطوات أسرع عملية التنمية الاقتصادية وتنويع هيكل الاقتصاد العراقي لتحسين وتطوير موقع العراق في الساحة الدولية، ذلك أن التعامل سواء كان فردياً على مستوى أشخاص أو دولياً يقوم عادة على مركز الشخص في مجتمعه ومركز الدولة في مجتمعها. وهذا المركز يتحقق من خلال العلم- التنمية الذي يولد القدرة والقوة، وعندما لا تساوي قيمتنا وقدراتنا أكثر مما كانت في ماضينا السحيق وحضاراتنا الأولى عندئذ نكون أمام كارثة حقيقية كما نحن بالفعل، وهذا ما أكده الكاتب العربي المصري محمد حسنين هيكل.(101) من المهمات الأولى للعلاقات العراقية الدولية هي العمل باتجاه إلغاء آثار حرب الخليج والالتزامات الثقيلة التي فُرضت على البلاد، علاوة على أعمال التدمير التي الحقتها دول التحالف في البنية التحتية العراقية. وذلك بالعمل على خلق بيئة دولية موائمة توفر تربة صالحة لمساعدة العراق على النهوض وإعادة بنائه. يُضاف إلى ذلك امتناع العراق استقطاع جزء من عوائده النفطية إلى صندوق التعويضات، وقيام الحكومة العراقية بالإعلان عن عدم شرعية قرار التعويضات التي صدرت عن مجلس الأمن، لأِن القرار مشوب بالبطلان وأن المجلس غير مخَّول أصلاً إصدار قرارات من هذا النوع، لكونها ليست من واجباته أو اختصاصاته. واستصدار قرار قضائي من محكمة عراقية مختصة أو إصدار تشريع يقضي ببطلان هذه الاستقطاعات. يُضاف إلى ذلك المطالبة بدفع تعويضات إلى العراق عن الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية والمنشآت الاقتصادية الحيوية والتراث والآثار العراقية، إضافة إلى الخسائر البشرية، بما لا علاقة به بالعمليات العسكرية من جانب دول التحالف بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية.(102) ورغم العوائق العميقة الجذور في النفس العراقية- العربية، ومشاعر الكراهية والعداء القائمة تجاه الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة، خاصة السنين الطويلة من الدعم الأمريكي غير المشروط لإسرائيل على حساب حقوق شعب فلسطين. علاوة على قناعة العراقيين بعامة أن حرب الخليج التي قادتها واشنطن وما أعقبها من الحصار استهدفت تدمير القدرات الاجتماعية- الاقتصادية لشعب العراق، يضاف إلى ذلك المآسي التي جرتها الحرب الأمريكية واحتلالها للبلاد على المجتمع العراقي من تخريب ودمار وفضائح المعتقلات وقتل المدنيين.. إلا أن الولايات المتحدة- باعتبارها الدولة العظمى الوحيدة في العالم في الأمد المنظور، وكونها الأكثر تفوقاً في مجال التكنولوجيا والثورة المعلوماتية وزعيمة العالم الغربي والطرف الأقوى في الأزمة العراقية- هذه الاعتبارات تضع بدرجة عالية مفاتيح حلول هذه الأزمة بيدها أو الطرف الأكثر تأثيراً في حلها بطريقة سلمية توفر ظروف الصداقة بدلاً من العنف والكراهية. وبذلك يكون من الصعب تجاهلها والاستمرار في تحديها، رغم أن العلاقات العراقية- الأمريكية في الفترة اللاحقة ستعتمد وإلى درجة واسعة على مدى التزام أمريكا إعادة السلطة والسيادة للعراقيين بصورة كاملة والمساعدة على بناء نظام دستوري وانتخابات نزيهة توفر وتسهل السير على طريق التحول الديمقراطي، علاوة على جدية محاولاتها تخليص العراق من أعباء حرب الخليج والحرب الأخيرة وإعادة بنائه، بل والمساعدة على حل المشكلات القائمة مع جيرانه . وفي غير ذلك فإن طريق العنف سيستمر والمقاومة بكافة أشكالها بما في ذلك المقاومة المسلّحة ستتواصل والكراهية العالية للعراقيين تجاه الولايات المتحدة ستبقى متصاعدة، والأخطر من ذلك أن الاستقرار السياسي في العراق ، بل والمنطقة عموماً، سيكون مطلباً نادراً. وفي غياب الاستقرار تزول أو تضعف القدرة على مواصلة عملية التنمية وإعادة الاعمار وتبتعد مهمة بناء السلام الاجتماعي، وتصبح المسيرة الدستورية والتحول الديمقراطي أكذوبة على لسان العراقيين، كما هو حاصل حالياً. إن الأهمية الاقتصادية والجيوسياسية للعراق في المنطقة المشرقية والعربية من جهة وحاجته لقطع الحبال التي تشده إلى آثار تلك الحروب وتوفير فرص إعادة بنائه من جهة أخرى، يمكن أن تدفع الولايات المتحدة والعراق إلى الالتقاء. ولا يعني هذا الالتقاء بالضرورة تنازل أمريكي أو خضوع عراقي، بل رغبة مشتركة لإيجاد نقاط التقاء مشتركة تحققان عندها مصالحهما المشتركة. ولكن سيبقى هذا الاحتمال معتمداً، ضمن أمور أخرى، على عدد من العناصر الرئيسة المحركة تتقدمها حرص الولايات المتحدة والعالم الغربي عموماً على المساعدة في بناء الاستقلال الفعلي للعراق وسيادته بعيداً عن فرض زُمر موالية وانتخابات مزيفة كما حصل في العهد الملكي ويحصل الآن. وبالمقابل فالعراق الجديد مطالب بتطوير خطاب سياسي متحضر لنظام دستوري ديمقراطي يحترم حقوق الإنسان ومبادئ العلاقات الدولية باتجاه التعاون والمنفعة المتبادلة والسلام العالمي. والعراق باعتباره جزءاً من الوطن العربي، له أهدافه في التعاون والتكامل والوحدة. إلا أن التجارب الماضية دلَّت على أن الوحدة حتى وإن تحققت من قبل أكثر الأطراف صدقاُ وموثوقية، تبقى مكشوفة في غياب المشاركة الحقيقية وفي غياب مسيرة التنمية المشتركة وبناء المصالح المتبادلة والمتشابكة اقتصادياً واجتماعياً. إذن فالديمقراطية وبناء المصالح الاقتصادية المشتركة (المشروعات العربية المشتركة) لا بد وأن تكون محور سياسة العراق العربية الجديدة وخطابه الوحدوي. وهذا كله في ظلِّ الاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشؤون الداخلية ورفض استخدام القوة في حل المشكلات العالقة لصالح التعامل السلمي. وهكذا يتطلب الدور الجديد للعراق تجاه الوطن العربي التوجه وفق مبادئ جديدة تقوم على تعزيز القدرات الإنتاجية المشتركة بكل قنواتها، تتقدمها الاحتياجات الأساسية الاقتصادية والاجتماعية في مجالات: الغذاء والكساء والسكن والصحة والتعليم.. يضاف إلى ذلك المشروعات العربية المشتركة في القطاعات الزراعية- الصناعية ذات الآثار التكاملية الاقتصادية- الاجتماعية الواسعة. علاوة على دعم المؤسسات المشتركة العربية الرسمية والخاصة الهادفة إلى بناء ثقافة ديمقراطية، بخاصة منظمات المجتمع المدني وتعزيز علاقاتها في شكل اتحادات محلية وعربية. والمسألة الأخرى التي لا تقل أهمية هي تشجيع ودعم مسيرة التحديث الفكري-الحضاري وإعادة بناء الإنسان في الوطن العربي المشارك في عملية التنمية وثمارها. علاقات الجوار هي الأكثر تعقيداً في صلات العراق الخارجية والأخطر آثاراً. فهذه العلاقات شهدت حربين كارثيتين أنهكت البلاد وأعادت قضية التحرر في المنطقة العربية إلى الوراء عقوداً عديدة. ورغم أن الحرب الأمريكية الأخيرة واحتلال البلاد انطلقت من معظم دول الجوار وغير الجوار العربية و/ أو بمشاركتها، فإن هذه العلاقات تنتظر من العراق الجديد التعامل معها على أساس احترام علاقات الجوار وممارسة دبلوماسية هادئة طويلة النفس لتعزيز أسس سليمة لهذه العلاقات وإزالة آثار الجروح- التي ستستمر فترة غير قصيرة- باتجاه بناء الثقة المتبادلة. مشكلة المياه وآثارها الخطيرة في الزراعة والناس وتنمية البلاد تشكل أخف هذه المشكلات، رغم الأهمية العظيمة لهذا المورد الحيوي باعتباره شريان حياة البلاد. ذلك لأِن العلاقات العراقية التركية تميزت بدرجة طيبة من النمو والاستقرار النسبي علاوة على المصالح الاقتصادية المتبادلة التي يمكن أن تساعد على إيجاد حلول مناسبة لهذه المشكلة. يضاف إلى ذلك أن هذه المشكلة تواجه بلداً عربياً آخر (سوريا) مما يساعد على تنسيق مواقف البلدين لصالح تعميق علاقات الجوار مع تركيا والاتفاق على حصص المياه بينها مع أهمية ضمان أسباب الأمن والاستقرار في الحدود المشتركة. كما أن تصحيح العلاقات الأمريكية- العراقية ستساعد مباشرة على إيجاد حلول دائمة لهذه المشكلة الخطيرة بحيث يضمن حاجة العراق وحقوقه من مياه دجلة والفرات. تعاني علاقات الجوار مع إيران من نقاط اختناق شديدة بسبب حرب الثماني سنوات التي عمقت المشكلات القائمة بينهما، إلا أن حاجتهما معاً إلى البناء الاقتصادي والاستقرار السياسي والاجتماعي، توفر نقاط ارتكاز عديدة من أجل الوصول إلى حلول مناسبة لمشكلاتهما من حدودية ومائية وبما يقود إلى ضمان السلام وتحقيق المصالح المتبادلة والمتكافئة بين الطرفين. علاقات الجوار بين العراق والكويت استمرت قلقة غير مستقرة، عبَّرت في جانبها الكويتي عن الحذر وعدم الثقة واللهاث وراء الحماية الخارجية، وقامت في جانبها العراقي على القناعة بالإساءة والضرر. إن المشكلة المحورية في هذه العلاقات هي أنها أخفت على الدوام نقاط اختناق قابلة للانفجار. وفي غياب الديمقراطية التي تسمح على الأقل بإجراء المناقشات العامة التي تتطلبها معضلة العلاقة بين الطرفين، استمرت هذه المشكلات في التضخم مع مرور الزمن دون إيلائها حقها من الدراسة والمعالجة الكلية والشاملة، ولتصبح ساحة مكشوفة للتدخلات الاجنبية. وكما كانت الحماية الخارجية وسيلة النظام الكويتي في مواجهة هذه المعضلة، فإن القناعة بالإساءة والضرر، بضمنها الشعور العراقي بالتهديد الخارجي، ساهمت في تصعيد هذه المشكلات لغاية انفجارها. والأكثر من ذلك أن مسألة الحدود جزء من المشكلة وليست كلها، علاوة على أن الترسيم الإجباري للحدود بين الطرفين بموجب قرار المنظمة الدولية وفي سياق الضغط الأمريكي، قُصِدَ منه كل شيء إلا الحل الذي يحقق صالح الطرفين. وهكذا تزايدت القوة التفجيرية المستقبلية لهذه القنابل الموقوتة في علاقاتهما. لم يكتف النظام الكويتي المشاركة الفاعلة في تمويل حرب الخليج (1991) بمليارات الدولارات النفطية بما سببتها من قتل وتدمير وما آلت إليه حالة الشعب العراقي من حصار لغذائه ودوائه، بل استمر وبشكل مكشوف العمل تحت العباة الأمريكية سواء في مجال تشديد الحصار أو مزاعم أسلحة الدمار الشامل أو التدخل المستمر في الشأن العراقي، ولغاية المشاركة الفاعلة مرة أخرى في تسهيل ظروف الحرب على العراق. إذ ساهم النظام الكويتي بكل قواه السياسية والمالية في دفع الولايات المتحدة شن الحرب مرة أخرى على العراق واحتلاله. وتجاوزت مشاركة النظام الكويتي تمويل تكاليف الحرب بمليارات الدولارات إلى تعويض عوائل الجنود الأمريكيين القتلى بمبالغ سخية، شكلت ثمنا للمرتزقة في قتل عشرات الآلاف من العراقيين- عسكريين ومدنيين. كما تجاوزت هذه المساهمة وضع المطارات وتوفير التسهيلات اللوجستية للقوات الغازية إلى أن تصبح أرض الكويت نقطة ارتكاز لتجمع هذه القوات وانطلاقها نحو احتلال البلاد. ولقد لوحظ العديد من العناصر الرسمية الكويتية وهم يرافقون القوات المحتلة كأدلاء ومساهمين فعليين. وشاركوا في تخريب مؤسسات الدولة ونهب ممتلكاتها وسرقة آثارها، وتخريب البنية التحتية للصناعة النفطية وسرقة النفط بخاصة في المناطق الجنوبية. يضاف إلى ذلك انتشار الأخبار عن الدور الكويتي الاصطفاف مع المخابرات الأمريكية والصهيونية في تصفية علماء العراق. وأيضاً المشاركة الفعالة في تعذيب وإهانة المعتقلين العراقيين والفضائح التي تم الكشف عن جزء صغير منها في معتقل أبو غريب. وأخيراً، فقد شاهد الكثيرون من على شاشات بعض الفضائيات الملصقات والكتابات الجدراية في أم قصر وهي تعبر عن الحقد والثأر القبلي من قبيل "اليوم ثارك يا كويت"!! وحتى بعد زوال النظام العراقي واحتلال البلاد أصرّ النظام الكويتي، كما سبقت الإشارة، على تعويضاته من قوت الشعب العراقي. وهذا التوجه يفسر بوضوح إن هدف النظام الكويتي كان وما يزال تدمير شعب العراق. في ندوة "العراق ودول الجوار"، التي نظمها "مركز الخليج للأبحاث" في دبي. كشف استطلاع مشترك بين "مركز الدراسات الدولية" في جامعة بغداد و"مركز دراسات الشرق الاوسط" في ديترويت بالولايات المتحدة، شمل عيّنات من مختلف مناطق العراق، من البصرة حتى الموصل، أن أكثر من 90 في المائة من المستطلع آراءهم، يعتبرون "دور الكويت في تدمير العراق وايذائه يأتي في المرتبة الثانية بعد أميركا، تليها اسرائيل ثم ايران".(103) قد يتواصل النظامان العراقي والكويتي في ظل تبعيتهما المشتركة، ولكن من الواضح أن تصرفات النظام الكويتي على مدى ثلاث عشرة سنة وحربين مدمرتين، قد رتبت اسحقاقات ضخمة للشعب العراقي على النظام الكويتي.(104) وختاماً، وفيما يخص العلاقات العربية- العربية، بعامة، فإنها أكثر ثباتاً ومنعة وديمومة معالجة المشكلات البينية بطريقة تمكن كل طرف من أن يكون عضداً وسنداً للطرف الآخر وعوناً له لا عليه. كما أن فكرة تحويل المناطق الحدودية المتنازع عليها إلى مناطق إدارة مشتركة (المشروعات المشتركة)، مسألة تستحق الدراسة على مستوى كافة المشكلات القائمة في المنطقة العربية. "إن قضايا النفط والمال والأرض والحدود والتسهيلات قابلة للحل في وجود النوايا الصادقة بين الأطراف المعنية. فإِذا كانت التسهيلات النفطية والمالية وتسهيلات القواعد البحرية والبرية ممكنة بين عرب وغرب فلماذا لا تكون ممكنة بين عرب وعرب؟!".(105) هوامش الفصل السادس 1-AndrewT.Parasititi,”Foreword”,TheFutureof Iraq,.,p.1..,BruceO. Riedel,”The Futuire of Iraq”,The Future of Iraq,p.127. 2.Madelin K.Albright,”Preserving Principle and Saveguarding Stability:United States Policy towrdsIraq”The Future of Iraq,p.124.., Bruce O. Riedel,, p.128. (3) صدرت مقالات عديدة بخصوص مشروع استيعاب مليون لاجئ فاسطيني في العراق لتصفية مشكلة اللاجئين الفلسطينيين..، انظر على سبيل المثال: * سامي ذبيان، "مساومة العراق لحل مشكلته مقابل توطين مليون لاجئ فلسطيني" الحياة، العدد 13329، تاريخ 5/9/1999. * فاطمة المحسن، "قذف الفلسطينيين في المضطرب العراقي.. أو سلام إسرائيل المنتظر"، الحياة، 13619، تاريخ 25/6/2000. * نوري جعفر (أستاذ القانون الدولي العام- كلية كزنغتون الجامعية- لندن)، "مشروع بين التصريح والتلميح: التوطين في العراق.. تسوية قسرية للقضية الفلسطينية في القانون الدولي المعاصر"، الحياة، العدد 13769، تاريخ 22/11/2000. 4-Giandomenico Picco,”The Battle For Iraq”,The Future of Iraq,p.85-86. 5-, Bruce O. Riedel,p.130. 6- Madeline K. Albright,p.125.., Bruce,O. Rieedel,p.131. 7-AndrewT.Parasiliti,p.1..,Madeline K.Albright,p.124..,Bruce O. Riedel,p.127.., لمزيد من التفصيل بشأن مناطق حظير الطيران والإجراءات الأخرى التي فرضتها الولايات المتحدة وبريطانيا على العراق في فترة الحصار، أنظر، هانز كريستوف فون سبونيك، ص237-271 8.Giandomenco Picco,p.86. 9. Paul Wolfowitz,”The United States and Iraq”,The Future of Iraq,p.110-113. 10. Ibid.,p.110-113. (11) أزمة الخليج وتداعياتها، ص230،233،263..،عبدالوهاب حميد رشيد، مستقبل العراق، ص93. (12) عماد فوزي شعيبي، "الصورة النمطية للعالم.. "، ندوة احتلال العراق، ص85- 91(و)85-91. (13) منذر سليمان، تعقيب على ورقتي، "الاستراتيجية الأمريكية الجديدة"، ندوة احتلال العراق، ص141. (14) ايريك رولو، ص476. (15) نفسه، ص477..، خيرالدين حسيب، مستقبل العراق، ص199- 200 (و)233..، نفسه، "المشاهد (السيناريوهات.."، ندوة احتلال العراق، 983- 984. (16) مايكل هدسون، ص67- 68..، ضياء جعفر (و) نعمان النعيمي، الأعتراف الأخير- حقيقة البرنامج النووي العراقي، ص 249. (17) نفسه، ص66..، عماد فوزي شعيبي، ص89. (18) جميل مطر، تعقيب على ورقتي "الرؤية الاستراتيجية الأمريكية"، ندوة احتلال العراق، ص123، عماد فوزي شعيب، ص106. (19) ايريك رولو، ص66. (20) مايكل هدسون، ص79. (21) قارن: عماد فوزي شعيبي، ص88 (و) 104- 105. (22) نفسه، ص88- 90، ص94- 95. (23) مايكل هدسون، 74- 75. (24) نفسه، ص76. (25) صلاح الدين سالم (لواء)، "تعقيب على ورقتي "الرؤية الاستراتيجية الأمريكية ، ندوة احتلال العراق، ص133..، ضياء جعفر (و) نعمان النعيمي، ص217. (26) عماد فوزي شعيبي، ص100- 101. (27) نفسه، ص104- 105. (28) نفسه، ص109- 110. (29) نفسه، ص111- 115. (30) مايكل هدسون، ص79- 80. (31) نفسه، ص80..، ايريك رولو، ص476..، جميل مطر، ص123. (32) عماد فوزي شعيبي، ص91، ص100. (33) ايريك رولو، ص476. (34) خيرالدين حسيب، مستقبل العراق، ص148. (35) ايريك رولو، ص475. 36.Giandomenico Picco,p.85. 37.Ahmad S. Hashim,p.99-100,103-104. (38) عدنان الباجه جي (وزير خارجية سابق في العراق)، "آمال العراق سنة 2020، الحياة، العدد 13350- تاريخ 26/9/1999. (39) جميل مطر، علي الدين هلال، النظام الأقليمي العربي 1979، ص142- 143. 40. Ahmad S. Hashim,Op.cit,p.100. (41) نيفين عبدالمنعم مسعد، صنع القرار في ايران والعلاقات العربية الإيرانية، 2002، ص211-212..، للباحث، مستقبل العراق، ص86- 90. (42) صلاح الدين النصراوي،"هل تقع حرب عراقية جديدة"، الحياة، العدد 13680- تاريخ25/8/2000. (43) نيفين عبدالمنعم مسعد، ص18. (44) ندوة احتلال العراق: فاضل الربيعي، ص288..، علي محافظة، ص467..، ضاري رشيد الياسين، ص469- 470. (45) جاسم يونس الحريري، ندوة احتلال العراق، ص641- 642. (46) طلال عتريس، "النتائج والتداعيات ايرانياً"، ندوة احتلال العراق، ص441- 442. (47) نيفين عبدالمنعم مسعد، تعقيب على ورقة "النتائج والتداعيات ايرانياً"، ندوة احتلال العراق، ص462. (48) طلال عتريس، ص443- 445، ص447- 448. (49) نفسه، ص449. (50) نفسه، ص451. (51) نيفي عبدالمنعم مسعد، ندوة احتلال العراق، ص462- 463. (52) طلال عتريس، ص453- 454. (53) نفسه، ص454. (54) نفسه، ص455- 456..، نيفين عبدالمنعم مسعد، ندوة احتلال العراق، ص463- 464. (55) نيفين عبدالمنعم مسعد، ص463. (56) طلال عتريس، ص457- 458. (57) نفسه، ص458. (58) نفسه، ص459- 460. (59) نفسه،ص460. (60) ندوة احتلال العراق: مايكل هدسون، ص470..، محمد جمال باروت، ص468. 61. Ahmad S. Hashim.p.99. (62) Ibid.,p.102...، معوض، جلال عبدالله، صناعة القرار في تركيا والعلاقات العربية- التركية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1998، ص201. (63) نضال الليثي، "العلاقات الاقتصادية بين أنقرة وبغداد تتأرجح بين المصالح والقرارات الدولية"، الحياة، العدد 12466بتاريخ 16/4/1997..، عدنان الباجه جي..، Ahmad S. Hashim,p.100-101. (64) قارن، محمد جواد على، تعقيب على ورقة "النتائج والتداعيات تركياً"، ندوة احتلال العراق، ص427- 428. 65.Ahmad S. Hashim,p.100-101. 66.Ibid.,p.101-102. (67) محمد نور الدين، "النتائج والتداعيات تركيا"، ندوة احتلال العراق، ص406. (68) معوض، جلال عبدالله، ص150..،Ahmad S. Hashim,p.96-97. (69)محمد نورالدين، ص406- 407. (70) هيثم كيلاني، "تركيا والعرب: العلاقات العربية- التركية"، مركز الامارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، ابوظبي1996، ص61.., مقتبسة من: عقيل سعيد محفوض، النهج، العدد59، ص254. (71) معوض، جلال عبدالله، ص136..، محمد نورالدين، ص407- 408. (72) معوض، جلال عبدالله، ص182..، نضال الليثي..، Ahmad S. Hashim,p.99-102. (73) جواد بشارة، "عقدة المياه التركية- العراقية بين السياسة والقانون الدولي، النهج (58)، دار المدى، دمشق 2002، ص181. 74.,Ahmad S. Hashim,p.101. (75) معوض، جلال عبدالله، ص95-96 (و) ص193..، صاحب الربيعي، أزمة حوض دجلة والفرات وجدلية التناقض بين المياه والتصحير، دمشق، ص12- 32. (76) معوض، جلال عبدالله، ص213- 214..، عوض عقيل سعيد محفوظ، "ملاحظات حول: العلاقات الاقتصادية العربية- التركية"، النهج (23)2000، ص258. (77) معوض، جلال عبدالله، ص197- 198..، عوني السبعاوي، "تركيا والعرب: دراسات في العلاقات العربية- التركية"، مركز الامارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، ابوظبي، 1997، ص39..، مقتبسة من: عقيل سعيد محفوض، النهج، السنة 16، العدد 59، دار المدى، دمشق، ص258. (78) معوض، جلال عبدالله، ص210- 211..، جواد بشارة، ص177. (79) محمد نورالدين، ص408- 409. (80) نفسه، ص410- 416. (81) محمد جواد علي، ص429.. (82) عبدلإله بلقزيز، "الوضع العربي عشية الحرب"، ندوة احتلال العراق، ص241- 242..، خير الدين حسيب، "حوار حول مستقبل العراق"، ص 8-9. (83) عبدالحميد مهري، تعقيب على ورقة "الوضع العربي عشية الحرب"، ص260. (84) نفسه، ندوة احتلال العراق، ص260. (85) عبدالإله بلقزيز، ندوة احتلال العراق، ص245..، خيرالدين جسيب، مستقبل العراق، ص58. (86) نفسه، ندوة احتلال العراق، ص257.. (87) نفسه، ص248. (88) حسن نافعة، تعقيب على ورقة "الوضع العربي عشية الحرب"، ص267. (89) للباحث، التجارة الخارجية وتفاقم التبعية العربية، ص115- 143. (90) حسن نافعة، ندوة اجتلال العراق، ص268. (91) قارن، عبدالحميد مهري، ندوة احتلال العراق، ص261- 262..، احمد يوسف، "النتائج والتداعيات على الوطن العربي"، ندوة احتلال العراق، ص319..، خير الدين حسيب، "حوار حول مستقبل العراق"، ص8. (92) أحمد يوسف احمد، ندوة احتلال العراق، ص326- 328. (93) قارن، نفسه، ص328- 329. (94) نفسه، ص330. (95) نفسه، ص334- 335. (96) ندوة احتلال العراق: عبدلإله بلقزيز، ص243- 245..، احمد يوسف، ص330- 331 (و) 324- 325. (97) عبدالعزيز بن عثمان بن صقر (كاتب سعودي)، "السياسة العراقية السعودية"، الحياة، العدد13800- تاريخ 23/12/2000. (98) لمزيد من الاطلاع على عدد من الدراسات المنشورة فيما يخص العلاقات العراقية الكويتية، انظر على سبيل المثال: مصطفى الفقي، (كاتب قومي ودبلوماسي مصري)، "نحو منظور جديد لمستقبل العلاقات العراقية- الكويتية"، الحياة، العدد 13698- تاريخ 12/9/2000..، محمد الرميحي، "نحو فهم حقيقي لمستقبل العلاقات العراقية- الكويتية"، الحياة، العدد 13706- تاريخ 20/9/2000..، عبدالله الاشعل، "مقترحات لمستقبل العلاقة بين الكويت والعراق"، الحياة، العدد 13715بتاريخ 29/9/2000. (99) ازمة الخليج وتداعياتها (تعقيبات): خيرالدين حسيب، ص 168 (و) 198..، برهان غليون، ص247. 100.ahmad S. Hashim,p.94. (101) قناة الجزيرة، مقابلة مع الكاتب المصري محمد حسنين هيكل، تموز/ يوليو 2004. (102) عبدالأمير الأنباري، "التعويضات"، ندوة احتلال العراق 2004، ص947- 948..، نفسه "التعويضات"، ندوة مستقبل العراق 2005..، وكذلك توصيات لجنة التعويضات في إطار نفس الندوة..، نفسه، "التعويضات"، المستقبل العربي- ملف: العراق..إلى أين؟، العدد 305، 7/2004، ص133..، هانز كريستوف فون سبونيك، ص231- 233. (103) محمد عارف، "الفكر الأكاديمي العراقي يعيد اكتشاف الدولة"، نشرة اسبوعية، نيسان/ ابريل2005 (104) المعلومات الواردة بشأن مساهمة النظام الكويتي في الحرب الأخيرة وردت في العديد من الصحف والفضائيات المعنية. أما مشاركة عناصر رسمية كويتية في تعذيب المعتقلين العراقيين، فانظر، " شهود يؤكدون مشاركة كويتيين في تعذيب المعتقليتن وتدمير المؤسسات"، شبكة أخبار العراق للجميع، 5/7/2004. (105) للباحث، مستقبل العراق، مرجع سابق، ص159.
#عبدالوهاب_حميد_رشيد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
إشكالية التحول الديمقراطي في العراق- الفصل الخامس
-
إشكالية التحول الديمقراطي في العراق- الفصل الرابع
-
إشكالية التحول الديمقراطي في العراق- الفصل الثالث
-
إشكالية التحول الديمقراطي في العراق- الفصل الثاني
-
إشكالية التحول الديمقراطي في العراق- الفصل الأول
-
العراق المعاصر: أنظمة الحكم والأحزاب السياسية- الخاتمة: الخل
...
-
العراق المعاصر: أنظمة الحكم والأحزاب السياسية- ق3/ ف3
-
العراق المعاصر: أنظمة الحكم والأحزاب السياسية- ق3/ ف2
-
العراق المعاصر: أنظمة الحكم والأحزاب السياسية- ق3/ ف1
-
العراق المعاصر: أنظمة الحكم والأحزاب السياسية- ق2/ ف2
-
العراق المعاصر: أنظمة الحكم والأحزاب السياسية- ق2/ ف1
-
العراق المعاصر: أنظمة الحكم والأحزاب السياسية- ق1/ف2
-
العراق المعاصر: أنظمة الحكم والأحزاب السياسية- ق1/ف1
-
العراق المعاصر: أنظمة الحكم والأحزاب السياسية
-
الأحوال الاجتماعية للجالية العربية في السويد- الخاتمة
-
الأحوال الاجتماعية للجالية العربية في السويد- القسم الثاني/ا
...
-
الأحوال الاجتماعية للجالية العربية في السويد- القسم الثاني/ا
...
-
الأحوال الاجتماعية للجالية العربية في السويد- القسم الثاني/ا
...
-
الأحوال الاجتماعية للجالية العربية في السويد- القسم الثاني/ا
...
-
الأحوال الاجتماعية للجالية العربية في السويد- القسم الثاني/ا
...
المزيد.....
-
كيف يمكن إقناع بوتين بقضية أوكرانيا؟.. قائد الناتو الأسبق يب
...
-
شاهد ما رصدته طائرة عندما حلقت فوق بركان أيسلندا لحظة ثورانه
...
-
الأردن: إطلاق نار على دورية أمنية في منطقة الرابية والأمن يع
...
-
حولته لحفرة عملاقة.. شاهد ما حدث لمبنى في وسط بيروت قصفته مق
...
-
بعد 23 عاما.. الولايات المتحدة تعيد زمردة -ملعونة- إلى البرا
...
-
وسط احتجاجات عنيفة في مسقط رأسه.. رقص جاستين ترودو خلال حفل
...
-
الأمن الأردني: تصفية مسلح أطلق النار على رجال الأمن بمنطقة ا
...
-
وصول طائرة شحن روسية إلى ميانمار تحمل 33 طنا من المساعدات
-
مقتل مسلح وإصابة ثلاثة رجال أمن بعد إطلاق نار على دورية أمني
...
-
تأثير الشخير على سلوك المراهقين
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|