|
إشكالية التحول الديمقراطي في العراق- الفصل الخامس
عبدالوهاب حميد رشيد
الحوار المتمدن-العدد: 4143 - 2013 / 7 / 4 - 12:08
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
إشكالية التحول الديمقراطي في العراق الفصل الخامس البنية الاجتماعية تشكل المؤسسة الاجتماعية ثالث المحاور البنوية للعملية الديمقراطية، نظراً لدورها في بناء نظام اجتماعي يؤكد على إعادة بناء الإنسان العراقي ويوفر الخدمات الأساسية: التعليم، الصحة، السكن، النقل والمواصلات.. ويقوم على المساواة في الحقوق والواجبات بين الفئات الاجتماعية المختلفة من لغوية/ قومية ودينية ومذهبية وطائفية وعشائرية ومدى قدرتها على دعم حركة الوحدة الاجتماعية في سياق احترام الحقوق الثقافية لكل فئة من جهة وتأكيد معيار الوطنية من جهة ثانية وخلق التلاحم الاجتماعي من جهة ثالثة. 1- البنية الاجتماعية والتغيير الاجتماعي (مناقشة فكرية) (1) Social Structure and Social Change (1) البنية الاجتماعية وعلم الاجتماع إن دراسة واستكشاف المجتمع الذي نعيش فيه تمر عبر العلاقات المتداخلة التي تتخلله. وهي مهمة علم الاجتماع. وهذه العلاقات أكثر تعقيداً مما يظهر في بادئ الأمر. ورغم أن فكرة المجتمعات كتنظيم كلي يمكن اقتفاء آثارها لدى افلاطون وارسطو. لكنها لم تتطور في العلوم الطبيعية قبل القرن السابع عشر والقرن الثامن عشر لتصبح طريقة مألوفة لفحص خصائص المحيط الاجتماعي. وبذلك فإن أصل نظرية علم الاجتماع يعود إلى العصر الصناعي وانتقال مجتمعات أوربا الغربية من المرحلة التقليدية إلى المرحلة الحضارية (عصر التنوير)، وليستمر في نضوجه وتطوره لما بعد العصر الصناعي- عصر ما بعد الحداثة- في أوربا وأمريكا. يشكل المجتمع ويحدد حياة أعضائه، فكراً وممارسة. كما أن تواصل الأفكار والممارسات بين الناس تجسد التداخل المؤسسي بكل توافقاتها وتعارضاتها. وتشير إلى أن البنية الاجتماعية هي مولّدة هذه الأفكار والممارسات التي تعبر بدورها عن طبيعة ومستوى تطور المجتمع. بمعنى أن البنية الاجتماعية تعتمد على الجنس البشري الذي يمارس فعالياته الفردية والجمعية في سياق محيطه الاجتماعي. وفي نفس الوقت تقوم الأفعال دائماً وبالضرورة على أسس بنيوية في محيط المجتمع وتنبثق في إطاره. فلا يمكن أن يكون هناك فعل في غياب البنية الاجتماعية، باعتبارها مقررة لأِفكار وممارسات الناس. والمجتمع قائم بذاته خارج الفردية, ويتطلب من علم الاجتماع شرح وتفسير السلوكيات والأحداث التي تتولد عنها. من هنا تكمن أهمية فهم البنية الاجتماعية كونها الوعاء الذي يساعد على ملاحظة وشرح ما يحدث في المجتمع. عليه، فإن تحليل شبكة العلاقات الاجتماعية يعتمد على مقدمة منطقية تتمثل في أن التصرف الاجتماعي للفرد، عملية اتخاذه القرار، ممارساته السلوكية، تتطلب الفحص والتحليل في ضوء شبكة علاقاته الاجتماعية القائمة في محيطه الاجتماعي. أكد عالم الاجتماع دركهايم على المجتمع ككل بدلاً من الفرد، لأِن السلوك والممارسات هي محصلة تأثيرات المجتمع. وحتى السلوكية الفردية العميقة، مثل الاعتقاد بالله، هي متجذرة في حياة- ثقافة المجتمع ذاته الذي يحتضن هذا الفرد. معنى ذلك أن الإنسان نتاج مجتمعه وخاضع لمؤثراته ويتفاعل معه. وهذا صحيح حتى عندما يتمرد الفرد أو يثور على مجتمعه. إن إحدى المسائل المثيرة في نظرية دركهايم افتراضها أن كل جوانب المجتمع أو الثقافة الاجتماعية تعمل بانتظام ضمن توازن كلي للبنية الاجتماعية. وأن قوة هذه البنية تتجلى في تكامل أجزائها، من هنا تفترض هذه النظرية غياب التناقض أو الصراع الاجتماعي. رفض ماركس سكونية المجتمع وتوازن أجزائه وتكاملها المستمر، ورأى أن أجزاء المجتمع تقوم على التناقضات والصراعات التي تتولد عنها عناصر التغيير. إن ما يميز المجتمع البشري هو أنهم منتجون، عليهم أن ينتجوا حتى يعيشوا، مهما كانت أدوات الإنتاج التي يستخدمونها بسيطة وبدائية. من هنا تمتلك كافة المجتمعات- حسب ماركس- بنية مادية (حقيقية) تعتمد على الطريقة التي يتم من خلالها تنظيم عملية الإنتاج (نمط الإنتاج). هذا النمط الذي يحدد بدوره نمط التوزيع في المجتمع. والبنية الاقتصادية وفق نظريته هي أساس قاعدة المجتمع الذي يقرر بشكل واسع بنيته الاجتماعية، وأن هذه القاعدة تقرر، بعامة، بقية سمات المجتمع. وهو ما أطلق عليه البنية الفوقية. إن شكل العلاقة، النظام السياسي- القانوني، والثقافة بكل مكوناتها: الدين والمعتقدات والقيم والنواميس والعادات والتقاليد.. هي انعكاس وتجليات للعلاقات الاجتماعية- المادية، وتمثل القوة والمصالح المتجذرة في العمليات الإنتاجية. واستنادا إلى هذه النظرية تتغير المجتمعات تاريخياً بالعلاقة مع تغير هياكلها المادية. من هنا تتغير بالتبعية نظمهم الايديولوجية التي تعكس بدورها الأساس الاقتصادي، وهذا ما يشار اليه بـالمادية التاريخية. وعموما، أياً كان عدم الاتفاق بين مختلف المنظرين والعلماء بشأن أساس الطبقة الاجتماعية،هناك شيء من الاجماع على أن القاعدة أو الأساس هي السلوكية الاقتصادية, وأن الطبقة عامل مقرر هام تجاه الأفراد والجماعات. (2) مفهوم البنية الاجتماعية البنية أو الهيكل الاجتماعي مفهوم معنوي لتحديد المحيط الاجتماعي باعتباره يضم أنماطاً وقواعد وقيماً وقوانين ومؤسسات تشكل نظاماً عاماً له تأثير تقريري في الفعاليات الاجتماعية للناس. ويشير إلى المكونات الاجتماعية الأساسية الثابتة نسبياً التي يعمل الناس في ظلها، بينما ينصب مفهوم التغير الاجتماعي على العوامل التي تقود إلى إحداث تغييرات في الهيكل الاجتماعي، رغم أن هذه التغييرات ليست متماثلة. كانت البنية الاجتماعية دائماً أحد المفاهيم المركزية لعلم الاجتماع، وأصبح مألوفاً ملاحظة الاختلاف الرئيس حول ثنائية كل من البنية الاجتماعية والفعل (التغيير) الاجتماعي. كما أن مفهوم البنية الاجتماعية عومل دائماً كمسألة معطاة، رغم أن الواقع يشير إلى أن الاختلاف ظاهر في استخداماته. وبالنتيجة هناك القليل من الاتفاق بشأن مفهوم البنية الاجتماعية. الكلمة الانكليزية التي تشير إلى لفظة هيكل أو بنية structure مشتقة من الكلمة اليونانية struere بمعنى "يبني". بينما نهاية الكلمة ure استخدمت في الانكليزية لتشكيل الأسماء. وهي تؤشر هنا لـ "الفعل" أو "العملية" أو حصيلة الفعل "البناء". عليه فالبنية يمكن أن تعني "بناء" building شيء ما، وكذلك حصيلة عملية البناء. لذلك ارتبط المعنى الجوهري للبنية بتلك الكلمات. واستخدمت هذه اللفظة على نطاق واسع في سياق هذا المعنى في القرن الخامس عشر لتشير حقيقة إلى البناء المادي (بيت، كاتدرائية، قصر)، بينما استخدمت لفظة البنية خلال الفترة التالية في مجالات متعددة من هندسية وبيولوجية وجيولوجية. وجاءت استعارة لفظة (البناء) واضحة في أعمال ماركس بقوله: إن البنية الاقتصادية للمجتمع هو الأساس الفعلي الذي يقوم عليه البناء الفوقي ويحدد أشكال الوعي الاجتماعي. يمكن تعريف الهيكل الاجتماعي، بشكل عام كونه: مجموعة سمات متداخلة للكينونة الاجتماعية ككل وفعاليات أعضائها. وهذا المفهوم يشير إلى أمور عديدة منها: أن الكائن البشري لا يشكل علاقاته الاجتماعية بطريقة اعتباطية أو مصادفة بل وفق أسس قياسية- قاعدية، المثابرة- التواصل. وتكون الحياة الاجتماعية متبلورة ومتميزة على أساس: الجماعات، المواقع والأدوار الوظيفية، المنزلة الاجتماعية، والمؤسسات ذات العلاقة. وهذه العلاقات تتحدد من خلال البيئة الاجتماعية. هذا يعني أن مفهوم البنية الاجتماعية يتضمن أن أفراد المجتمع ليسوا تماما متحررين ومستقلين في اختياراتهم وأفعالهم أو في سلوكياتهم بل أنهم مقيدون بمحيطهم الاجتماعي الذي يعيشون في ظلِّه والعلاقات الاجتماعية التي يقيمونها فيما بينهم. وبغض النظر عن اختلاف الآراء النظرية، هناك حاجة إلى إبداء الملاحظات الأولية العامة التالية بشأن جوانب البنية الاجتماعية للمجتمع، بعامة:(2) .. تمأسست structured الحياة الاجتماعية بالارتباط مع السرعة الزمنية والأبعاد المكانية. بمعنى أن فعاليات معينة تتحقق في أزمان محددة وفي سياق حدود إقليمية. وتتحدد هذه الحدود وفق القواعد التنظيمية للمِلكية، وفي إطار شكل من أشكال تقسيم العمل الاجتماعي أكثر أو أقل تطوراً. .. يشكل نظام العنف سمة هيكلية أخرى مكتسبة للمجتمعات البشرية، نشأت بفعل علاقات الإنتاج والشحة والمنافسة. ورغم أن استخدام العنف، بعامة، يجسد قوة احتمالية تمزيقية، إلا أنه في نفس الوقت وسيلة لضمان الإذعان والتعاون في مجال الفعاليات الاجتماعية. .. تتواجد في كل مجتمع ترتيبات متميزة في سياق البنية الاجتماعية لإعادة إنتاج الجنس والرعاية وتعليم الصغار، وهذه الترتيبات تأخذ شكل العلاقات القرابية والزواج. .. كما أن أنظمة الاتصالات، بخاصة اللغة، هي عامل بناء التداخلات بين أعضاء المجتمع. .. وأخيراً، يمكن إضافة "التثاقف" acculturation، أي الاختلاط- الامتزاج الثقافي بين مجموعات ثقافية مختلفة، عوامل مؤثرة باتجاه تعزيز البنية الاجتماعية. من وجهة نظر أخرى، فإن البنية الاجتماعية مفهوم معياري يتضمن أنماطاً مؤسسية للثقافة المعيارية. فالسلوكية الاجتماعية تشكلت لتتطابق مع النواميس "المعتقدات والقيم والتقاليد والعادات" عموماً. وهذه القواعد تختلف باختلاف المواقع والأدوار الوظيفية. كذلك تختلف النواميس بالعلاقة مع نمط الفعاليات أو ظروف الحياة الاجتماعية. وتقود إلى بناء تشكيلات عنقودية من المؤسسات الاجتماعية. وهذه السمات: النواميس، المواقع الوظيفية والمنزلة الاجتماعية والمؤسسات.. هي عناصر في البنية الاجتماعية على مستويات مختلفة ومعقدة. لكن البنية الاجتماعية لا تتضمن فقط أنماطاً معيارية بل كذلك سوء توزيع: القوة- السلطة، الامتيازات المادية، والتي تمنح أعضاء المجتمع فرصاً وبدائل متفاوتة على نحو واسع. ففي المجتمعات المتقدمة، التي تتميز عادة بالتعقيد، تحدد ظاهرة عدم المساواة مختلف الفئات والطبقات التي تشكل نظام الفئات الاجتماعية أو البنية الطبقية للمجتمع. وهذه الظاهرة تقود إلى خلق تناقضات تمييزية في الوظائف البنيوية. وقد تنشأ نواميس محددة في المجتمع لا بسبب أي شكل من الإجماع العام بشأن قيمهم الأخلاقية بل بسبب خضوعهم إلى القوة المفروضة من قبل هؤلاء الذين يحتكرون السلطة والثروة. إن أكثر نظرية في هذا المجال كانت محل اهتمام واسع هي النظرية الماركسية أو المادية التاريخية. وتُلخص الفقرة التالية وجهة النظر الماركسية على نحو مُحكم: إن أفكار الطبقة الحاكمة هي أفكار الحكم في كل مرحلة. أي أنها انعكاس لمصالح الطبقة الحاكمة. وهي مرتبطة ببنية القوة- السلطة التي تتطابق مع بنية الطبقة.(3) عليه، فالبنية الاجتماعية هي حصيلة ممارسات أعضاء المجتمع، وتشير على نحو مجرد إلى العملية الديناميكية التي تتشكل منها البنى المتعددة والمتداخلة التي تقترن بممارسات سلوكية تتحقق في ظل النواميس التي تتولد من وعي النظام الاجتماعي. إن الممارسات المرتبطة بنمط الإنتاج والاتصالات والسلوكيات، القوة والهيمنة.. هي عناصر مترابطة تساهم في استمرارية النظام الاجتماعي نفسه. ويشكل نظام القيم من أفكار وقناعات ومعتقدات وطموحات جزءاً مهماً من البنية الاجتماعية التي توجه الممارسات. كما أن المؤسسات الاجتماعية تقوم على الأساس الثقافي وتضم كافة أعضاء المجتمع، ويشكلون قلب الظاهرة الثقافية. وهي تقدم صورة كلية لما يشارك فيها الناس، باعتبارها نظاماً نمطياً للرموز القيمية التي تحتل مركز الاتصالات والعلاقات البشرية المنظمة في محيطها الاجتماعي. وتشمل كافة مجالات المعرفة التي يتمسك الناس بها عادة ومختلف القيم والأفكار التي تزودهم بالمبادئ العامة للفعل والشرعية والمعتقدات. إن شخصية الفرد تتشكل من خلال تداخل الأفكار الثقافية بصورة ذاتية، وأن الاستيعاب الذاتي للثقافة يخلق مستوى من الاتساق uniformit في ذات الفرد وتمنحه شخصيته واعتباره. ومن الصعب تغييره في الأمد القصير دون أن تؤثر في توازنه. والثقافة ليست شيئاً مادياً ملموساً بل قيمة معنوية تتواجد في عقل الفرد باعتبارها عملية ذهنية تؤطر أفعاله وممارساته. وحيث أن البنية الاجتماعية ومؤسساتها الفرعية تؤطر العلاقات الاجتماعية. لذلك فهي تشير إلى مجموعة علاقات نمطية مستقرة نسبياً. وهذه الأنماط من العلاقات هي أنماط معيارية كمثل المؤسسات الاجتماعية التي تقوم في إطار بنية المجتمع، وهي كثيرة ومتفرعة. كما أن المؤسسات الاجتماعية هي كمثل المؤسسات الثقافية ليست لها وجود مادي، بل تقبع في عقول وأذهان الناس. لكن المسألة الرئيسة هنا في التحليل الاجتماعي هي لماذا يتكيف أو يطيع الأفراد القيم الثقافية؟ والجواب يرتبط باستيعاب الفرد لهذه القيم منذ صغره والقناعة بها واعتبارها قيماً وجدانية يُشكل الخروج عليهاً عيباً أو ذنبا أو جريمة تمس المنزلة الاجتماعية لمرتكبه، وأن أدوات القهر الاجتماعي: النقمة والسخط والعزل والنظرة المتدنية والعنف المنظم تجاه الخارج على هذه القيم، هي قوى تصحيحية لتقويم سلوك الفرد وفق الأطر التنظيمية والقيمية القائمة. (3) قوى التغيير الاجتماعي إن البنية الاجتماعية تجعل حدوث الفعل ممكناً، لكنها تعمل في نفس الوقت على تحديد الفعل نفسه وفق ما هو مرسوم في سياقها. والبنية لا تتغير من تلقاء نفسها بل تتغير من خلال تصرفات الناس وأفعالهم المتداخلة. وتنطلق الحوافز باتجاه التغيير من أفكار وممارسات الناس وسلوكياتهم الموضوعية المترابطة باتجاه خلق واقع جديد. وكما أن كل فعل يتأثر بعوامل بنيوية فإن هذا التداخل من الأفعال لتغيير البنية لا يتحقق في ظروف مقررة من خلال الأفعال المجردة، بل من خلال أفعال ديناميكية موجهة مستمرة لا وقتية متقطعة متراجعة. كما أن أعضاء المجتمع، بعامة، يحبذون دوماً التغيير نحو الأفضل، لكن ذلك يتطلب ربط الطموحات بالأفعال من خلال حركات إصلاحية. وأن التغيير هو عملية بناء نمطية سلمية مستمرة من القاعدة إلى القمة، من هنا فإن عمليات التغيير العنيفة أو المفاجئة أو الانقلابية التي تقود بدءاً إلى التغيير الفوقي قد تنتهي إلى التراجع. كما أن العمليات العسكرية التي تنتهي بالاحتلال الخارجي تكون لها آثاراً تراجعية وتخريبية أكثر قوة وديمومة عادة. تواجه كل مجموعة اجتماعية، بغض النظر عن مستواها الثقافي، وتحاول أن تتعامل مع مسألتين مترابطتين: أولاهما درجة الرضاء المادي، وثانيتهما الحفاظ على التعاون الذاتي المتبادل في إطار الجماعة. وترتبط مسألة الرضاء المادي بنظرية العدل في التوزيع التي تهتم بطريقة التقييم الاجتماعي للدخول. وهنا من المفيد إبداء ملاحظتين: الأولى لأِعضاء المجتمع طموحاتهم المشروعة بشأن ممارسة العدل في تخصيص الدخول والمكافآت للعاملين، الثانية أن انتهاك قواعد العدل تلك يمكن أن تخلق التوترات والضغوط باتجاه التغيير الاجتماعي. كما تقود مشكلة سوء توزيع الدخل والثروة والحرمان السياسي وتصاعد البطالة إلى تزايد عدد من يتم تهميشهم من الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والحد من قوة وفعالية المجتمع المدني، وبما يقود إلى خلق أزمة محورية تؤدي إلى ظهور مخاطر تصاعد شمولية السلطة باتجاه المزيد من القمع والكبت. كما أن أعمال القهر والاغتيالات والضغوط على الحريات ومحاربة الأفكار الجديدة واستخدام العنف في فرض العقائد الدينية والأفكار السياسية وممارسة التطهير العرقي يمكن أن تقود إلى الانفجارات الشعبية أو ظهور حركات إصلاحية ترنو إلى تغيير البنية الاجتماعية. كذلك فإن ظاهرة التهميش لفئات اجتماعية معينة قد تشجع على نشوء حركة انبعاث، باعتبارها جهوداً منظمة واعية بغرض بناء ثقافة أكثر قبولاً، مثال هذه الحركات، طائفة المسلمين السود في أمريكا المعاصرة. كما أن الحركات النسوية التي ظهرت في الغرب، تكشف كيف أن الوعي الاجتماعي في هذا المجال والممارسات الموضوعية، قادت إلى إلغاء ظاهرة العائلة الأبوية في تلك المجتمعات. أن عملية التغيير هذه تأخذ وقتاً زمنياً طويل الأمد لظهور بنية اجتماعية جديدة متكاملة ومتينة. كذلك فإن الإلغاء التدريجي للبنية القديمة تمر عبر صراع طويل ومعقد بين القوى التقليدية وبين القوى العقلانية الحديثة. يضاف إلى ذلك أن الحركة المستمرة للبيئة الاجتماعية باتجاه إزالة البنية القديمة ستخلق تناقضات جديدة على السطح وتغيير في علاقات القوة. إن نهاية الحرب الباردة تكشف عن مثال واضح في هذا المجال على المستوى الدولي، بِأن هذه العملية هي مفتاح بدء الحركة لخلق مزيد من فرص التغيير في البنى القائمة. ويعبر "التغيير الاجتماعي" بمعناه الواسع، عن ظاهرة تدريجية مستمرة للعلاقات الاجتماعية، وسمة عامة للمجتمعات البشرية، ويعتمد أولاً على الكينونة الاجتماعية: حجم المجتمع ومرحلة تطوره، المسافة الزمنية، تغير التقاليد والنواميس، حصول المخترعات وتطبيقاتها، التغيرات البيئية باتجاه تطبيقات فكرية قيمية جديدة، التناقضات والصراعات المؤدية إلى إعادة توزيع الدخل- الثروة والقوة- السلطة. ومع أن هذه القدرة الاحتمالية البشرية نحو التغيير الاجتماعي تعود بجذورها إلى الأساس البيولوجي: المرونة والقابلية البشرية على التطبيق التكنولوجي، القدرة الضخمة على التعلم، البراعة، الإبداع.. إلا أن الجوانب الاجتماعية تساهم بفعالية أيضاً في إحداث هذا التغيير. بكلمات أخرى، أن التغيير الاجتماعي محتمل بتأثير السمات البيولوجية للكائن البشري، إلا أن تأثيرات التغيرات أو التطورات أو التعقيدات الاجتماعية تتجاوز العوامل البيولوجية. تم تطوير العديد من الأفكار المتعلقة بالتغيير الاجتماعي من بينها ثلاث محاولات متميزة تالية: الأولى فكرة التدهور أو الانحلال/ التفسخ.. الثانية فكرة دورية التغيير، وهي نمط ظهور حالات متلاحقة ومتكررة من النمو والانحلال.. والثالثة فكرة استمرار التقدم. هذه الأفكار الثلاث كانت سائدة في العصور القديمة للأغريق والرومان وميزت الأفكار الاجتماعية للغرب منذ ذلك الوقت. وأصبح مفهوم التقدم الفكرة الأكثر تأثيراً، خاصة منذ عصر التنوير في القرن الثامن عشر، وخضعت للتطوير من قبل علماء الاجتماع في المرحلة التالية، وأصبحت الفكرة المركزية في التطور/ الارتقاء الاجتماعي لنظريات القرن التاسع عشر، واقترنت بفكرة الحتمية. وتم ابتكار "قانون المراحل الثلاث" التي تقول أن تقدم الجنس البشري مرَّ بثلاث مراحل هي: اللاهوتية وكانت السيطرة فيها للدين.. الميتافيزيقية/ ما وراء الطبيعة وسادت فيها الأفكار التأملية/ المثالية/ الوعظية.. والمرحلة الإيجابية متمثلة في انتشار النظريات العلمية المستندة إلى الأفكار المادية/ الدنيوية والعقلانية المعتمدة على المناهج العلمية الحديثة والأبحاث التطبيقية. شكلت فكرة الارتقاء الاجتماعي محور نظريات علم الاجتماع في هذه الفترة. وتأثر بها ماركس وساهم في تطويرها. إن أصالة النظرية الماركسية للتطوير الاجتماعي تقبع في ربطها بين منطق الجدلية وبين التدريجية (التغيير التدريجي). ومن وجهة نظر ماركس، فإِن عملية التطور/ الارتقاء هي عملية ديالكتيكية: الانتقال من مرحلة تصاعد أثناءها التفسخ في المجتمع إلى مرحلة أخرى عبر التحول الثوري في سياق الصراع الطبقي. وهذا التطور المتوالي شكل أكثر من مرحلة تطور تدريجي لقوى الإنتاج (تكنولوجية وتنظيم العمل). منذ الخمسينات وعلى نحو متزايد خلال الستينات والسبعينات من القرن العشرين، انتعش الاهتمام بفكرة التغيير الاجتماعي باعتماد فكرة الارتقاء الاجتماعي لتطور الجنس البشري في الأمد الطويل وإعطاء انتباه أكبر للاختلافات بين المجتمعات وكذلك لعلاقات التبادل بينها. كما أصبح مفهوم الارتقاء الاجتماعي من وجهة النظر الحديثة ليس أمراً حتمياً بل صار التعامل معه على أساس الاحتمالات. وأخيراً، لم يعد مفهوم التطور الارتقائي مماثلاً لمفهوم التقدم.(4) جاء الاهتمام باحياء فكرة التغيير الاجتماعي الطويل الأمد بالارتباط- جزئياً- مع مشكلات دول "العالم الثالث"، إذ طوَّر علماء الاجتماع خلال فترة الخمسينات والستينات من القرن العشرين نظريات الحداثة- المعاصرة. وتضمنت مركزية نمط التطور الغربي وحصر قدرة دول "العالم الثالث" على التطور باتجاه هذا النمط. إلا أن هذه النظريات واجهت الانتقادات لإهمالها علاقات القوة الدولية التي تفرض الدول الغنية من خلالها سيطرتها على الدول الفقيرة. وهذه العلاقات أخذت تحتل بشكل متزايد مكانتها في النظريات الحديثة. ومن الآثار الخارجية المتعاظمة في مجال تغيير البنية الاجتماعية ظاهرة العولمة التي أخذت تزداد قوة بتأثير الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية. تساهم عوامل كثيرة في التغيير الاجتماعي، وهي، بعامة، ليست حتمية، تتقدمها: البيئة الطبيعية، الاختراعات التكنولوجية، عمليات التقدم الاقتصادي، الأفكار والحركات الاجتماعية، العمليات السياسية, التغييرات في نظام العنف وطبيعة المنظمة الحكومية والعلاقات الدولية، التناقض والتنافس والتعاون، التوتر والتكيف، انتشار المخترعات، تخطيط ومأسسة التغيير، العمليات الديموغرافية.(5) وبالنتيجة يمكن تلخيص العوامل الكثيرة الفاعلة في التغيير الاجتماعي في ثلاث مجموعات متداخلة: القدرات الاقتصادية المتباينة، الأفكار والثقافات، القوى الاجتماعية والمؤسسية بما في ذلك المجتمع المدني. فالبنية الاجتماعية تتعرض لضغوط التغيير مع تزايد التفاوت المادي واتساع تباين مصالح النخب الاجتماعية لتقود إلى تعاظم التوترات والتناقضات والصراعات التي تحفز على خلق أسس اقتصادية جديدة. بينما الأفكار تؤطر التناقضات والتوترات المجتمعية وتنير طريق التغيير وأهدافه. أكد غرامشي (ف7/1) في هذا المجال على دور المفكرين أو المثقفين العضويين في ظلِّ المجتمع المدني لتأطير التناقضات والصراعات المجتمعية القائمة لإطلاق "حرب المواقع" وإحداث التغيير الاجتماعي.(6) خلاصة الاستنتاج هي أن البنية الاجتماعية والتغيير الاجتماعي من المفاهيم النظرية المحورية في علم الاجتماع، وتشير إلى الخصائص الرئيسة والمتكاملة للحياة الاجتماعية في: الاستمرارية العامة، الديمومة، التكرار، الديناميكية، والقدرة على التغيير. إن كلا المفهومين متداخلان. فالبنية الاجتماعية- التي تشكل المحيط الاجتماعي وتتصف بالديمومة والاستمرار- ليس بعيداً عن التغيير الاجتماعي. كما لا يمكن تصور ظاهرة التغيير الاجتماعي بدون الاستمرارية إلى حدود تكون فيها عمليات التغيير منتظمة ومتداخلة. عليه فإن الفصل بين استمرارية البنية والتغيير الديناميكي للمجتمع يكون مضللاً. وأخيراً، وبقدر ما يهم موضوع البحث، المطلوب طرح السؤال التالي: أين يقع المجتمع العراقي بالعلاقة مع المراحل الثلاث التي مرت بها البشرية في حركتها المتواصلة تغيير بُناها الاجتماعية نحو مراحل أكثر تقدما في بيئتها الاجتماعية؟ هل لا زلنا في المرحلة الأولى اللاهوتية، أم المرحلة الثانية الميتافيرزيقية، أم مرحلة الحداثة- المعاصرة؟ المبحثان التاليان محاولة لإلقاء الضوء على بنية المجتمع العراقي بالعلاقة مع المراحل الثلاث المذكورة. 2- البنية الاجتماعية في العراق (1) التباينات الاجتماعية رغم الأشكال العديدة من التنوعات القومية- الثقافية التي تسود المجتمعات عموماً، ومنها المجتمع العراقي، إلا أن هذا المبحث ينحصر في متابعة المسألة الاثنية التي تجد تعبيرها في التعددية اللغوية- القومية و الطائفية- القبلية. ويلاحظ أن القبيلة والطائفة وجهان لشيء واحد. فالطائفة نوع من الانتماء القبلي يقوم على الانتماء لجماعة والولاء لها قبل الولاء للمجتمع. والطائفية، كما في القبلية، ينشأ عليها الفرد منذ طفولته ويتشرب بقيمها وطقوسها ليصل ولاءه لها إلى درجة العقيدة الدينية المطلقة. وبهذا المعنى لا تختلف الطائفية عن المذهب الديني من حيث اعتقاد الفرد.(7) إن الظاهرة الاثنية معروفة في كافة انحاء العالم، فمن الصعب وجود دولة حديثة تضم شعباً متجانساً كأسنان المشط. وكانت نظرة الازدراء والصراعات التناحرية بين الأغلبية والأقلية سمة المراحل التاريخية السابقة. ولعبت الدولة الحديثة في الغرب دورها الحضاري في الانفتاح على كافة تنوعاتها اللغوية لممارسة قيمها الثقافية مع تشجيعها ودعمها، بحيث تكيفت أفكارها ومعتقداتها المتنوعة لتصبح قيماً تراثية محل احترام كافة المشارب تحت مظلة الوطن الواحد.(8) أما في دول "العالم الثالث" حيث لا زالت التمايزات الاجتماعية فيها تقوم على العصبية والتعصب والولاءات الفرعية، فقد استمرت قيم وممارسات رفض الآخر. وسادت اطروحات الخيانة للاقليات الخارجة على إجماع الأغلبية في سياق المطالبة بحقوقها على أساس المساواة. وهذه الظروف هيأت الفرصة لتدخلات القوى الخارجية وتوجيهها لصالحها. ويرتبط ذلك بسيادة قيم البيئة الاجتماعية التقليدية في هذه الدول المغلقة فكرياً والقائمة على الشمولية بدعوى الوحدة الوطنية. لذلك مورست، ولا زالت، سياسة الانصهار الثقافي والاضطهاد الاثني في ظروف التفسير المتعصب لشعار "مجتمع واحد ووطن واحد". كان الصراع الطائفي موجوداً منذ صدر الإسلام. فقد شهدت بغداد في العصر العباسي معارك مذهبية وانتهاك حرمات المراقد المقدسة. وبلغ هذا الصراع ذروته في فترة الحروب المتقطعة بين الدولتين الفارسية والعثمانية للسيطرة على العراق. وفي الوقت الحاضر وبالعلاقة مع المنطقة العربية، تشير بعض الأرقام المتاحة إلى أن ما يسمى بالنزاعات الاثنية تسببت في مقتل عدد (1.2 مليون نسمة) يماثل ستة أضعاف من قتلوا في الحروب العربية الاسرائيلية (200 الف نسمة).(9) علاوة على التعددية الاثنية التي غطت الثقافة العراقية، شكلت القبيلة في مواجهة المدينة ولسنوات عديدة مشكلات كبيرة للحكومة المركزية. وبقيت القيم والممارسات القبلية قائمة رغم محاولات التحديث. وخلال أكثر من نصف قرن لما بعد نشوء المَلكية حاولت مختلف الحكومات تخطي هذه المشكلة بتطبيق سياسيات استهدفت كسر شوكة الولاء للقبيلة لصالح الولاء للدولة- الوطن بالتأكيد على التعليم والقيم المدنية secular وتوسيع الجيش وجعله المؤسسة الاجتماعية المركزية للوطنية العراقية. بالإضافة إلى نشر الايديولوجية القومية وفكرة الوحدة العربية. تعتبر القضية الاثنية سلاحاً ذو حدين، لكونها تمارس تأثيرها في اتجاهين بالعلاقة مع قيم التحضر. فقد تكون عامل تفتيت لمنظمات المجتمع المدني الحديثة، خاصة في بداية مرحلة التحضر أو المرحلة الانتقالية، لرفضها، بالعلاقة مع أفكارها وقيمها المتعصبة، الأفكار والقيم السياسية الحديثة. من جهة أخرى، فإن التعددية الاجتماعية يمكن ان تخلق عامل موازاة وقوة بمنع سيطرة الجزء على الكل باتجاه توافق المصالح الجزئية تحت مظلَّة المصلحة العامة. كذلك تجد هذه الخاصية الاجتماعية ترجمتها في أحد بديلين بالعلاقة مع كيفية التعامل معها: ففي حالة الانغلاق عليها تختفي من الحياة السياسية وتنزوي في بيئتها العصبية أو تتفجر في عصبية عنيفة. وعند الانفتاح عليها فهي قد تميل إلى بناء منظماتها السياسية عادة على الأساس العمودي التقليدي. وإذا كانت حصيلة الحالة الأولى هي شلل جزئي للمجتمع السياسي، فإن الحالة الثانية يمكن أن تعمق مشكلة الولاءات الفرعية. يضاف إلى ذلك فإن احتمالات دخول أعضاء من هذه المجموعات للأحزاب السياسية- التي تقوم فيها العضوية على أساس الفكرة الوطنية- يمكن أن تحمل في طياتها مخاطر نقل أفكارها وممارساتها العصبية، وقد تعمل على استِغلال هذه المنظمات وفرض عصبيتها على الآخرين وبما يؤدي إلى تدليس العملية السياسية. من هنا تتطلب هذه المسألة معالجة حضارية طويلة النفس بدءاً بقبول فكرة المواطنة المساواتية والمشاركة في السلطة والثروة ولغاية بناء ستراتيجية تعليمية- ثقافية وطنية علمانية- باتجاه تخفيف معضلات العصبية والشوفينية وتهذيبها وتحويلها تدريجياً لتتطور إلى عامل تماسك اجتماعي. ولكن، هل أن معضلة البنية الاجتماعية العراقية تكمن في التنوعات الاثنية أم في البيئة الاجتماعية التقليدية؟ ظروف الصراعات والعنف في أعقاب ثورة تموز 1958 والمراحل التالية وما رافقتها من تجاوزات ومؤآمرات وانقلابات، والتي انتهت إلى تشكيل خمسة أنظمة حكم في حدود عشر سنوات، وفي سياق اتساع لغة العنف بين الحاكمين والمحكومين وفي داخل كل منهما، خلقت فرصاً ملائمة لتجديد القيم البدوية والطائفية التي لم تقتصر على فئة اجتماعية معينة بل امتدت إلى معظم الأطراف والجماعات العراقية بأحزابها ومنظماتها ومؤسساتها، ومع أن مختلف الأطياف العراقية أعلنت باستمرار رفض التعامل الفئوي ونبذ قيم التعصب والعصبية، إلا أنها في الواقع انغمست فيها أحياناً وانجرفت معها أحياناً أخرى بغض النظر عن مواقفها داخل الحكم وخارجه. وجاءت الحروب لتضيف عاملا آخر لإنتعاش هذه القيم والممارسات. ففي أثناء الحرب العراقية- الإيرانية ركزت الدعاية الإعلامية على إثارة المسألة المذهبية، ونفخت في بوق الطائفية. بينما قادت ظروف ما بعد حرب الخليج (1991) إلى مزيد من التعديل والتكييف في مفاهيم وطرق الحكم وسياساته، بخاصة الاعتماد المتزايد على المؤسسات التقليدية: القبيلة- العشيرة. عبّرت السياسة الجديدة عن طريقة أكثر عملية لضبط الشارع السياسي بِأقل جهد ممكن. ويرتبط بذلك أن النظام القبلي يقوم على هيكل هرمي لا يتطلب لكسب ولائه سوى دعم عدد محدود من أعضاء القبيلة المتربعين على قمته.(10) وهكذا شهدت مرحلة ما بعد حرب الخليج سياسة رسمية أعلنها رئيس النظام العراقي صراحة من خلال تأكيده على أهمية ومركزية الدور القبلي في هيكل المجتمع العراقي وضرورة احترام وصيانة القيم القبلية، رغم مخاطر هذه السياسة في إضعاف هيكل الدولة وهيبتها. فمن أجل حفظ ولاء العشائر غظت السلطة النظر عن التجاوزات القبلية للنظام القانوني في البلاد بتطبيقها الإجراءات (الفصل) العشائرية.(11) كما وتفاقمت مسألة التمايزات الاجتماعية بعد أن تحولت الدولة نفسها إلى مجرد عصبية منافسة لبقية العصبيات. ذلك أن الدولة، باعتبارها الحق العام في العصر الحديث، يُفترض أن تقدم نفسها وعاء حاوياً لكافة المجموعات العراقية، وتتعامل معها بحيادية وعلى أساس المساواة. وهذا يتطلب أن تكون الكلمة الأولى والأخيرة لدستور الدولة وقانونها لا لدستور العشيرة- العائلة وأعرافها. وعندما تنحاز الدولة إلى جماعة معينة تتحول عندئذ إلى غنيمة تستفرد بها تلك الجماعة سواء كانت طائفة أم عشيرة أم عائلة، وبما "ينذر بتقنين التفكك الاجتماعي وجعله شرعية الأمر الواقع...".(12) من العوامل الأخرى لانتعاش التمايزات الاجتماعية وتصاعد ظاهرة التشظي في المجتمع العراقي هي نزعة الوحدانية للدولة الشمولية "الثورية". هذه النزعة لم تقتصر على رفض التعددية الاجتماعية للفئات اللغوية/ القومية، حسب، بل امتدت إلى رفض التعددية السياسية والإصرار على الانصهار السياسي في ظروف الاحتكار السياسي وعبادة الشخصية. كما أن اتساع البطالة والعوز في ظل الحصار، ساهمت في تعزيز الولاءات الفرعية على حساب الولاء للدولة. وفي مثل هذه الظروف تتعزز القيم التقليدية لدى المواطن من عائلية وعشائرية وطائفية بحثاُ عن الحماية. بل امتدت هذه الظاهرة إلى العديد من الكتابات والدراسات الاجتماعية في توجهاتها المنهجية العمودية- التقليدية عند دراستها للتنوعات اللغوية- القومية العراقية بدلاً من المنهجية الأفقية- الحضارية التي كان رائدها عالم الاجتماع العراقي المرحوم الدكتور علي الوردي. كذلك ساهمت ظاهرة ضعف المؤسسة الحزبية العراقية إلى أن تصبح عامل تغذية للبيئة الاجتماعية التقليدية. ذلك أن غياب الديمقراطية في مؤسساتها وتنظيماتها الداخلية وشيوع العنف والاحتماء بالباطنية، قاد إلى التعتيم على ظروف الفساد الإداري والشخصي والعجز الفكري وتدني الوعي والقسوة في حياتها الداخلية بما ولدتها من كثرة الانشقاقات. وفي مثل هذه الظروف أصبحت أحزابنا متصارعة متنافسة بعيدة عن التعاون والتكامل، وثقافتها السياسية محدودة وقديمة، ودائرة علاقاتها ضيقة، ونظرتها إلى الواقع السياسي أحادية. بل وتتجنب المشاركة الثقافية للفئة الفكرية عموما وللرأي الآخر بخاصة، وكما يذكر سعد البزاز "عندما لا نجد أبناء للمفكرين في السياسة العراقية… ستبدو معضلة العراق هي أن النظام السياسي الحكومي والمعارض… خرج من مخاض الشوارع لا من حاضنات المفكرين".(13) إذن، مسألة التمايزات الاجتماعية لا تقبع في التنوعات الاجتماعية في حد ذاتها، بل في قيم وممارسات البيئة الاجتماعية التقليدية، وذلك ارتباطاً بغياب نظام سياسي يحظى بالقبول العام لبناء السلام الاجتماعي ودفع عملية التحضر نحو النمو النمطي المتصاعد. وهذه الظروف تفرز سمومها باتجاه إضعاف فرص ظهور كتلة تاريخية كبيرة متآلفة في سياق تحالف المصالح ونيل القبول العام لبرامجها. وهذا يؤخر فرص بناء مجتمع مدني دستوري نابض بالحياة لإعادة بناء العراق الحديث. من هنا فالسؤال الآخر المطلوب مناقشته هو: كيف يمكن معالجة التمايزات الاجتماعية، خاصة أزمة القبلية- الطائفية والنعرات القومية الشوفنية بعد أن انتعشت وتعمقت في ظروف القهر والحصار والاحتلال؟ من المعروف أن ولادة الإنسان: لونه، لغته، دينه، مذهبه، نسبه، ملامحه.. لا دخل له في اختيارها. عشرات السمات والتمايزات والاختلافات بين البشر ليس للإنسان دور فيها ومن ثم فهي تفقد شرعيتها كقاعدة للتميز سواء بتحقيق مزايا من خلالها أو القمع بسببها. عليه فإن الركون إليها مصدر تميز بين الناس يقود إلى مظالم اجتماعية.(14) خلقت الحضارة المعاصرة انتماءات أكثر إنسانية ووطنية من تلك الانتماءات البشرية التقليدية. وهي انتماءات مكتسبة، أي يختارها الإنسان بِإرادته ووعيه، وتقوم على أسس المصالح المشتركة، ومن منطلق النظرة إلى الوطن لا على أساس مجرد أولوية الأرض وقدسية ترابه، حسب، بل أولوية الإنسان وقدسية حقه في الحياة الكريمة، وفي ظل الحرية والحقوق والواجبات المتماثلة. وتقوم على قاعدة بناء منظمات المجتمع المدني باعتبارها البديل الأرقى الذي ابتدعته الحضارة الإنسانية محل الانتماءات التقليدية الموروثة المتعصبة والغبية. إن خلق مناخ "قبول الآخر" بدلا من الانصهار الثقافي هو البديل للقهر السياسي. وهذا يتطلب القبول بالفكرة القائلة: إن "الحوار" يصبح أكثر ثراء ودفئاً، وأن "الوحدة" تكون أكثر تماسكاً وقوة من خلال "التنوع". والتنوع يعني سماع الرأي الآخر "الرأي المخالف" باعتبار أن الاختلافات أمر طبيعي في المجتمع البشري، بل هو عامل إيجابي في توسيع المدارك العقلية للوصول إلى الرأي الأكثر نضوجاً. المحاور الإصلاحية الثلاثة التالية لمعالجة ظاهرة التشظي في المجتمع العراقي، تتطلب المزيد من الدراسات:
المحور الأول: إصلاح الأحزاب السياسية تتطلب المرحلة الحالية، حيث تتصاعد الدعوات لإعاة بناء المجتمع العراقي على أساس حضاري، مبادرة المؤسسة الحزبية العراقية (والمنظمات الاجتماعية بعامة)- التي تشكل مركز القلب في التحول الديمقراطي- إلى إصلاح ذاتها: أفكارها وفلسفاتها، مبادئها وأهدافها، هياكلها التنظيمية وعلاقاتها الداخلية والخارجية، وذلك بإعادة بنائها وفق مواصفات المنظمة الحزبية الحديثة، بما في ذلك بناء سلطاتها الثلاث على أساس التوازن والرقابة المتبادلة. وتأتي أولوية التركيز على الأحزاب العراقية، بخاصة، لكونها منظمات طليعية تتعامل مع السياسة، ويُفترض أنها تضم عناصر فكرية- ثقافية واعية ترنو إلى التغيير الجذري والتجديد الحضاري. المحور الثاني: اشاعة مبدأ التنوير ايقاد شمعة لإزالة الظلام تقود إلى التعرف على الآخر وحصول مزيد من الحوار والتفاهم والاحترام المتبادل. وهذا يدعو إلى نشر واسع وعميق وطويل النفس للتعليم والتربية والثقافة، والتعريف الثقافي الاجتماعي التاريخي المستمر بالتنوعات الاجتماعية العراقية، سواء عن طريق المدرسة والمنظمة والحزب أو وسائل الإعلام المختلفة. ودعم تطبيق أسلوب الاجتماعات والمؤتمرات بين المجوعات الفئوية العراقية المتنوعة، وتعزيز الثقة فيما بينها نحو فتح الحدود المغلقة مع بعضها قيادة وأعضاء، والسماح بالزيارات واللقاءات الفردية وبما يؤدي إلى بناء علاقات إنسانية دافئة لصالح النظرة المساواتية. وهذا مطلوب أيضا بين الأحزاب والمنظمات العراقية. وبذلك تتحول هذه العلاقات تدريجياً من شكلها العمودي التجزيئي إلى علاقات أفقية تكاملية. وذلك كله في إطار نشر الوعي الثقافي بحضارات وادي الرافدين (والمنطقة العربية) والتعريف بمختلف الديانات والمذاهب والقوميات والطوائف العراقية (والعربية) التي تشكل عائلة واحدة، وتعود في أصولها الأولى إلى الحضارة السومرية وبما يقود إلى تعميق معرفة الناس بالتراث الحضاري العراقي- العربي واعتزاز الفرد بمواطنته ووطنه. هذا الوطن (الذي علّم الإنسان ما لم يعلم!). أليس هو أول من اكتشف أسرار القراءة والكتابة وحوَّل الظلمات إلى النور وأهدى العالم أول قانون وضعي لتنظيم حياته الاجتماعية!؟
المحور الثالث: تشجيع التحول من الطائفية- العشائرية إلى الوحدات/ التجمعات الاقتصادية/ الكوميونات المقترح الحالي هو محاولة لطرح حل آخر متكامل غير مباشر، بغية التحويل التدريجي للعلاقات القائمة على الولاءات التقليدية إلى علاقات حضارية تقوم على المنافع الاقتصادية باتجاه تعميق تشابك المصالح بين أبناء الوطن الواحد. وهنا يمكن دراسة كيفية تشجيع ودعم إقامة نمط من التجمعات ذاتية التمويل والتنظيم بتوفير فرص بناء (الكوميونات) بعامة، ولصالح الطائفة، القبيلة- العشيرة بخاصة، مع إذكاء روح المنافسة الاقتصادية بينها بغية تحسين مستويات معيشتها والتي تصب في تسريع التغيير الاجتماعي والتحضر وتعزيز الولاء الوطني. (2) مظاهر الوعي السياسي ترتبط أزمة الديمقراطية بِأزمة الوعي السياسي. ولا يتولد هذا الوعي من الفراغ، بل هو حصيلة الوعي الاجتماعي- الحضاري، بما في ذلك توحد الولاءات المتناثرة نحو وحدة الولاء للوطن. من هنا يشكل الوعي السياسي جزءاً متكاملاً من الوعي الاجتماعي. ومع ذلك يلزم التنبيه إلى تحاشي الربط العفوي بين نمو الوعي السياسي وبين نمو الوعي الديمقراطي. فقد تصل الحركة الوطنية إلى الذروة في نموها واتساعها دون أن ترتبط بالوعي الديمقراطي. وهذا يعني أن مظلة الديمقراطية لا تتعلق فقط بنمو الوعي السياسي أفقياً (الانتشار العددي بين الناس)، بل كذلك بنموه عمودياً (المضمون والمحتوى). وهذا يتطلب أن يقوم الوعي السياسي على فهم واستيعاب فكري وممارسة فعلية للعملية السياسية- بمفهومها الشامل- منظوراً اليها طريقة سلمية لإدارة الحكم والتعامل الاجتماعي. يُقصد بـ "الوعي" لغوياً: الحفظ، الفهم، الاستيعاب، الإدراك. وعى الحديث: حفظه وفهمه وقبله، وعى الأمر: أدركه على حقيقته. وهو الفعل الظاهر أو الشعور الظاهر على عكس "اللاوعي" بمعنى العقل الباطن أو الشعور الباطن. إذن مفهوم الوعي هو الإدراك الشعوري للفرد نحو شيء مقصود. أما الوعي الاجتماعي فهو إدراكه الشعوري الشامل لمجتمه- وطنه وذلك في سياق من التكامل المطلوب بين الجزء (المواطن) وبين الكل (المجتمع- الوطن). ويغذي هذا الارتباط، إيجاباً أو سلباً، البنية المؤسسية للدولة بما توفره من الأمن والحماية وسبل العيش الكريم للمواطن. فكلما عبَّرت مؤسسات الدولة عن المساواة في الحقوق والواجبات وهيأت الفرص المتكافئة للناس والتزمت بالحريات العامة ووفرت قيم المشاركة والعدل، تعزز شعور المواطن وولائه لمجتمه- وطنه. وفي خلاف ذلك قد يُصيب هذا الشعور الوهن والضعف ليتجه داخلياً نحو نمو الولاءات الفرعية على حساب أولوية الولاء للدولة. بل وقد تزداد الأمور سوءا إلى الدرجة التي تشكل عوامل طاردة وتدفعه إلى طلب الأمان خارج وطنه. قامت الحضارة السومرية على أساس المواطنة في ظل نظام سياسي (دولة المدينة) يضم مجتمعاً زراعياً متكاملاً موحداً مبنياً على حاضنة دينية شكلت قاعدة محورية لوعي المواطن تجاه مجتمعه ووطنه (ف1). ورغم تعدد دول المدن السومرية، كان الوعي الوطني سومرياً شاملاً يغطي كافة بلاد سومر. يتبين ذلك من النضال التضامني الذي بدأ ينمو وينتشر في بلاد سومر للتحرر من حكم الكوتيين- أفاعي الجبال- حسب التسمية السومرية، والذي استمر احتلالهم قرابة قرن من الزمن. ومع نهوض عدد من المدن السومرية وبروز قيادات وطنية، تحقق للسومريين الانتصار وتحرير أرض القصب. سجلت هذه الحركة التحررية الأولى في التاريخ التي وقعت في الرابع عشر من تموز البابلي "أول ثورة تموزية في العالم".(15) واجهت الحضارة العربية الإسلامية مجتمعات متفرقة بين أقلية حضرية وأكثرية بدوية صحراوية. وحَّد الدين الجديد بين هذه المجتمعات وركز على مفهوم الأمة باتجاه صهر القبائل البدوية. لكن هذا الوعي، الذي قام على حاضنة دينية أيضا، تعرض للانقسام منذ مراحله المبكرة، بما اعترتها من منازعات واستمرار الصراعات والحروب الأهلية. وبعد زوال الحضارة العباسية، شهدت البلاد مختلف الغزوات التي قادت إلى تخريب بنيتها الحضارية الزراعية من سدود وقنوات، وانكمشت المدن والحياة الحضرية. (ف2). كانت ظاهرة ضعف المدن تعني قوة شوكة القبائل، من هنا اتصفت هذه الفترة بسيادة سلطة العشائر، وشاعت قيم البداوة. وأصبحت الظاهرة السائدة في المجتمع العراقي هي النزاع المتكرر بين حضارة المدن وحضارة البادية. ومن الممكن فهم الكثير من تاريخ ما قبل المَلكية في العراق في سياق هذا النزاع التاريخي المزدوج بين العشائر والمدن النهرية من جهة وفيما بين العشائر نفسها من جهة ثانية حول الأراضي السهلية المنتجة للغذاء على ضفتي دجلة والفرات.(16) استمرت العداوة التقليدية بين الحضر والريف العشائري لتشكل واحدة من حقائق الحياة الاجتماعية. نبه الدكتور الوردي إلى تلك الأزمة بين الحضر والبادية، حيث ظلّ المجتمع واقعاً بين نظامين من القيم الاجتماعية: قيم البداوة الآتية من الصحراء المجاورة وقيم الحضارة المنبعثة من التراث الحضاري القديم. تجاوزت الانقسامات الاجتماعية في العراق تلك التي لازمته تاريخياً بين الحضارة والبداوة إلى انقسامات اجتماعية داخل المدن نفسها والتي وجدت صورتها الأكثر وضوحاً في الحي المديني "المحلة"، نتيجة غياب سلطة الحكومة (القانون). كتب نائب بغدادي في البرلمان العثماني عام 1910 يقول "أسلم للمرء ألف مرة أن يعتمد على العشيرة من أن يعتمد على الحكومة، ففي حين أن هذه الأخيرة تجهل أو تتجاهل الأوضاع، نجد أن العشيرة، ومهما كانت ضعيفة، ما أن تعلم بِأن ظلماً قد وقع ضد أحد أعضائها حتى تعد نفسها للأخذ بثأره".(17) ويرتبط بذلك شيوع الوعي الجمعي، أي تعصب الناس للعشيرة- الطائفة. وبذلك ترسخت العلاقات الاجتماعية على أساس عمودي تقليدي في غياب علاقات أفقية حضارية. ومثل هذه القيم والممارسات سادت حتى بين محلات المدن الكبيرة، كما في ظاهرة الأشقياء (الفتوة) لحماية المحلة من الأغراب والاعتداءات الخارجية. وكان يقف على رأس كل محلّة "مختار" مثلما يقف على رأس القبيلة/ الطائفة "شيخ/ نقيب".(18) من هنا غاب الوعي الوطني في أفكار وممارسات العراقيين لغاية مطلع القرن العشرين، ولم يشعروا بانتمائهم إلى مجتمع واحد في ضوء الانتماءات الفرعية التي كانت سائدة بينهم. وكانت الروابط المادية بين المدن ضعيفة بسبب صعوبة ومخاطر المواصلات. ولم يكن هنا حتى ذلك الحين مجتمع طبيعي متماسك بِأي شكل من الأشكال يمكن تشخيصه بِأنه مجتمع عراقي. بل كان المألوف تشخيص الأفراد- جغرافياً- بمدنهم، كأن يُقال هذا بغدادي أو بصراوي، وهكذا.. لأِن كلمة عراقي لم يكن لها مدلول اجتماعي مفهوم أو مقبول.(19) أخذت هذه الولاءات الفرعية بالتآكل بفعل ثلاث قوى رئيسة (العثمانيون، الانكليز، الملك)، حيث ساهمت كل منها في سياق توجهاتها وممارساتها- التي انطلقت من مصالحها ومواقفها- في تعزيز تماسك المجتمع العراقي ونشوء الدولة العراقية الحديثة، رغم أن إجراءاتها لم تخلو من ممارسات معوقة لهذه الحركة الاندماجية. بادرت الحكومة العثمانية إلى إصلاح حالها نتيجة ضغوط داخلية وخارجية بغية إصدار الدستور (المشروطية) وتنظيم الإدارة والجيش وتوسيع التعليم ومحاولة حصر السلطة في أقاليمها بيدها وكسر شوكة القبائل وعثمنة سكان المدن خلال الفترة 1831-1914. فجاءت إحدى النتائج الجانبية لهذه التطورات بولادة قوة اجتماعية عراقية جنينية من أهل الفكر الحديث inteligentsia شكَّلت نواة الولاء الجديد والوعي الجديد لفكرة الوطنية- القومية.(20) بدأت رياح الحضارة من الغرب تهب على البلاد، خاصة منذ منتصف القرن التاسع عشر، وساهمت في خلق قوة دفع حضارية، تمثلت في إنتشار ظاهرة اجتماعية جديدة. فبعد أن كان الصراع الطائفي- الطائفي يسطير على أذهان الناس وأحاديثهم، ظهرت بوادر صراع جديدة بين الفكر القديم وبين الفكر الحديث، أي بداية التحول الفكري من الصراعات بين طائفة وأخرى إلى صراعات داخل الجماعة ذاتها. رغم أن هذه المحاولات الجنينية ظلّت مغلّفة بالمرجعية الدينية والجدلية الطوباوية، فمثلاً لم تتسع المناقشات التي كانت تدور بين أنصار المشروطية وبين أنصار الاستبداد لأِمور الحكم ومصالح العامة، بل اهتمت أساساً فيما إذا كان الدستور حلالاً أم حراماً.(21) تركزت جهود الولاة العثمانيين الإصلاحيين وجماعة تركيا الفتاة (1908) على كسر شوكة القبائل (ف2/2). إلا أن نظام التعليم العثماني ساهم في تعميق الانقسام المذهبي بين الطائفتين الإسلاميتين الرئيستين. ورغم أن هذا التعليم كان تقسيمياً منذ البداية متجسداً في "الكتاتيب" للسنة و "الملا" للشيعة التي كانت متواجدة في المساجد والجوامع، فإن نظام التعليم العثماني عزز هذا التقسيم ليبلغ مستوى التقسيم الاقتصادي الطبقي أو الفئوي. ففي حين سُمح لخريجي "الكتاتيب" دخول المدارس العليا المدنية والعسكرية العثمانية، لم يكن أمام خريجي "الملا" سوى مواصلة علومهم اللغوية- الدينية في الحوزات العلمية بالمدن المقدسة في العراق وإيران. فكانت الحصيلة استحواذ المجموعة الأولى على الوظائف الحكومية المدنية والعسكرية والاحتكاك بالحياة المدنية, مقابل انشغال المجموعة الثانية في أمور التجارة والدين والقيم المثالية، والانطواء على الذات بعيداً عن أمور السياسة.(22) ومع أن الفكرة الوطنية الجديدة لم تزح الولاءات القديمة، إلا أن الوعي الوطني- القومي أخذ بالانتشار بفعل تزايد عدد المتعلمين منذ أواخر العهد العثماني، إضافة إلى الغزو البريطاني للعراق 1914- 1918 نتيجة المقاومة التي أثارها هذا الغزو ووصلت الذروة في انتفاضة عام 1920 التي شهدت لأِول مرة تلاحم المذهبين الإسلاميين الرئيسين وانضمام عشائر من الفرات الاوسط إلى سكان بغداد والمدن المقدسة. ورغم أن هذا الغليان لم يصل إلى مستوى الثورة الوطنية لأِنها كانت شأناً عشائرياً حرّكه الكثير من الأهواء والمصالح المحلية، إلا أنها جسّدت جزءاً من الميثولوجيا الوطنية، وشكَّلت عاملاً في انتشار الوعي الوطني/ القومي. من هنا شكلت فترة الحرب العالمية الأولى بداية دخول المجتمع العراقي إلى المرحلة الحضارية الانتقالية التي تتميز بتصاعد صراع الأفكار بين القديم والحديث.(23) وبدافع تجنب الكلفة الباهظة للإبقاء على قوات احتلال كبيرة في البلاد، وجد الانكليز مصلحتهم في موازنة العشائر ضد أهل المدن ضماناً لاستمرار سلطتهم، فأوقفوا عملية الانحلال العشائري, وصانوا سلطة رؤساء العشائر، واعترفوا رسمياً بالقيم العشائرية، بحيث أصبح يتواجد في العراق قانونين طيلة العهد الملكي، أحدهما حديث خاص بالمدن والآخر تقليدي خاص بالعشائر. لكن مساهمة الانكليز في نفس الوقت على شكل أفكار وخبرات في مجالات الإدارة والري وغيرها، التي قدموها لخدمة الإمبراطورية، ساهمت في تقدم العراقيين باتجاه إقامة دولة قابلة للحياة. "وقد يكون صحيحاً أيضاً أن الوجود البريطاني في العراق خلال العشرينات كان له أثر حاسم كذلك في المحافظة على وحدة العراقيين".(24) يُضاف إلى ذلك أن عملية الاستفتاء التي أطلقتها سلطة الاحتلال البريطانية (1918) لأِخذ آراء العراقيين بشأن تأسيس مملكة عراقية دستورية وتسمية الملك القادم، خلقت موجة جديدة من النشاط السياسي. وحسب الوردي، كان الاستفتاء حافزاً على ولادة "الحركة الوطنية" في العراق. وهي الحركة التي تبنّاها المعارضون للحكم البريطاني واتخذوا من فكرة "الاستقلال" شعاراً.(25) العامل الأخير الذي ساعد على نمو الوعي الوطني/ القومي هو الملك. فالمَلكية بحكم بناء مؤسساتها وتثبيت وجودها، ساهمت في تعزيز الوعي باتجاه وحدة المجتمع- الوطن، وبخاصة خلال الفترة 1921- 1939. فرغم أن المَلكية كانت من صنع الانكليز إلا أنها اتجهت منذ بدايتها وبخطوات حثيثة لإقامة الأسس البنيوية الحديثة للدولة. وهكذا، ففي تلك الفترة كان للملك مغزى اجتماعي متعارض، عملياً، مع أوضاع شيوخ العشائر الذين كانوا الحكام الفعليين لجزء كبير من الريف العراقي. فالمشايخ كانو حماة "العرق" العشائري التقسيمي, بينما كان الملك يمثل القانون الوطني الموحد. لكن هذا المعنى الاجتماعي للمَلكية تغير بعد حركة مايس/1941 التي سحقها الانكليز لصالح إعادة تنصيب الوصي المطرود. ومنذ تلك اللحظة انقطعت الخيوط الرفيعة التي كانت تصل المَلكية بالعراقيين.(26) وفي السنوات التي تلت حركة مايس تغيرت أوجه السياسة المَلكية كلياً باتجاه تعميق تحالفها مع المشايخ والانكليز. ووجد التحالف المَلكي- البريطاني تعبيره الأخير في "حلف بغداد"/1955. كما أن تحالف المَلكية مع العشائر وإلتزامها بنية عشائرية متخلفة، قاد إلى توقفها عن أداء دور الساعي إلى التوحيد الاجتماعي.(27) وهكذا، رغم نشوء الدولة العراقية وسرعة مظاهر التحديث، فإنها لم تؤد إلى إزاحة الولاءات الفرعية. من هنا استمر الوعي الوطني ضعيفاً عندما أندلعت أحداث انقلاب- ثورة تموز 1958.(28) ورغم أن الفترة التي أعقبت هذه الأحداث شهدت قمة تصاعد الحركة الشعبية وتحرك الفئات الدنيا واندماجها في الحياة السياسية، إلا أن الوعي الاجتماعي بمغزاه الحضاري استمر في ضعفه وأثَّر بدوره في الوعي السياسي. بل أن أحداث الصراعات التناحرية بين الأطراف الوطنية- القومية، التي رفعت راية الثورة، أطلقت العنان لقيم البداوة والمعتقدية المطلقة والوحدانية والغيبية والعنف، التحرك على نحو أسرع من الفترة السابقة، ولتشكل المظلّة الاجتماعية الفعلية في الساحة السياسية العراقية بِأفرادها ومنظماتها ومؤسساتها. إن المرحلة التي أعقبت ثورة تموز بما أفرزتها من أحداث العنف والعنف المضاد في سياق سلسلة الانقلابات والمؤامرات والدسائس التي طبعتها كطريق وحيد لكسر جمود انتقال السلطة واحتكارها، شكلت تراجعا حضاريا خطيراً وانحداراً عميقا لمحتوى الوعي السياسي ولتنتهي في فتراتها التالية إلى الحروب والكوارث والمقاطعة، وأخيراً الاحتلال والخراب. من محصلات هذه المرحلة تصاعد الشعارات والدعوات المثالية القائمة على تبني المطلقات، والادعاء بامتلاك الحقيقة، والنظرة الأحادية لمظاهر الحياة الاجتماعية، وإهمال فكرة النسبية، والطلاق بين النظرية والواقع، والحط من مبدأ الواقعية والخلط بينها وبين النفعية الذاتية والانتهازية، وتضخيم الشعارات المنطلقة من الأفكار الافلاطونية المثالية ودون الالتفات إلى طبيعة الإنسان- المجتمع وكشف رغباته وقدراته ورسم الأهداف وفق متطلباته وإمكاناته، والتربية الحزبية القائمة على تقديم المزيد من التضحيات والضحايا في ضوء النظرة المتدنية لقيمة الإنسان ووجوده والإصرار على هدر الإمكانات البشرية والموارد المجتمعية والتغافل عن حسابات العوائد والتكاليف الاجتماعية، ولتتحول الأهداف المعلنة إلى مجرد شعارات معلقة. من المحصلات الأخرى لهذه المرحلة بالعلاقة مع تخلف الوعي السياسي في محتواه الحضاري، ولعلها الأكثر خطورة، هي ما أحدثتها ثورة تموز من قطيعة تكاد تكون تامة مع البنية السابقة للدولة والمجتمع.(29) ظاهرة الطلاق هذه مع الفترة السابقة "العهد المباد" تكررت في سياق سلسلة الانقلابات التي اخترقت السلطة. وهكذا مع كل نظام حكم جديد حدث طلاق وقطيعة مع الفترة السابقة. وربما كانت هذه الممارسات واحدة من النقاط المحورية القاتلة في السياسة العراقية للمرحلة الشمولية. إذ أنها مثلت تراجعاً حضارياً مع كل انقلاب جديد. وجسدت عقلية متصلبة تقوم على النظرة الأحادية المثالية لوقائع الحياة الدنيوية النسبية، واعتبار الفترة السابقة شراً على إطلاقها. وشكلت مع كل مرحلة إهدراً فكرياً وإدارياً وبشرياً ومادياً في مواجهة جهود التنمية المجتمعية. وذلك نتيجة ما رافقتها من تصفيات أو عزل أو تهجير الكفاءات والخبرات وإحلال عناصر جديدة حتى وإن كانت غير مدربة من منطلق الولاء قبل الكفاءة، وإلغاء الأفكار والمشروعات والخطط السابقة وانتظار فترات زمنية مهدرة حتى تتضح معالم السياسة الجديدة ليكون بالإمكان رسم خطط وأفكار ومشروعات جديدة، وليتم إلغاؤها أيضا مع كل دورة انقلابية آتية عاتية، ولتستمر الدوامة في ضوء استمرار الهدر البشري والمادي المجتمعي لغاية حكومة الاحتلال.(30) وفي ضوء هذه الأحداث التي ولّدت الكثير من الآلام والأحقاد، ليس غريباً أن تتحول محاولات إزالة النظام العراقي في ضوء عجز معارضيه، وبالذات أصحاب الدكاكين السياسية، تحقيق هذا الهدف على الطريقة القبلية بحيث انضمت إلى "القبائل الأمريكية" التي عصفت، ليس بالنظام، حسب، بل وبالدولة العراقية بكل مرتكزاتها، ولتتحول دعواتها للحرية إلى الثأر والتصفيات القبلية تحت شعارات ممجوجة قلبت الاحتلال إلى تحرير والفوضى إلى حرية!! هوامش الفصل الخامس (1) يعتمد هذا المبحث بشكل رئيس على المرجع التالي( صفحات متعددة): Britannica Encyclpaedia,Marco,1993. (2) للباحث، الديمقراطية والتحول الديمقراطي، "مناقشة فكرية وأمثلة لتجارب دولية"، ISBN:91-630-9332-4,SWEDEN,p.16-19. (3) ج. شومبيتر، عشرة اقتصاديين عظام، ترجمة: د. رشاد البراوي، الطبعة الأولى، دار النهضة العربية، القاهرة 1968، ص16-37.
(4) للباحث، مستقبل العراق، ص108. (5) الانسكلوبيديا البريطانية، مرجع سابق. (6) للباحث، التحول الديمقراطي والمجتمع المدني، دار المدى للثقافة والنشر، دمشق 2003، ص74-77. (7) علي الوردي، ج2، ص4. (8) عبدالحميد بكوش، "انطلاقاً من الجزائر وأمكنة أخرى، لماذا نستنكر ظاهرة الأقليات وحقوقها في العالم العربي"، الحياة، العدد 13008-15ت1/ أكتوبر1998. (9) نبيل ياسين، "التعددية الثقافية والحداثة وشروط الديمقراطية"، الحياة، العدد 13437- 22ك1/ ديسمبر/1999. (10) جاد عبدالكريم جياعي، "الديمقراطية والماركسية"، النهج، العدد36، دار المدى، دمشق، شتاء2002. 11.Dawisha,Adeed,”Iraqi Politics:The Past and Present Context for the Future”, The Future of Iraq, P8-12,13-15. وللتوسع، انظر، Faleh A. Jabar,”Sheiks and Ideologues:Deconstruction and Reconstruction of Tribes under Patrimonial Totalitarianism in Iraq,1968-1998”Tribes and Power-Nationalism and Ethnicity in the Middle East,Conference, Ed.,Faleh Abdul-Jabar and Hosham Dawod,Saqi,London,2003.., Hosham Dawod,”The (State-1zation) of the Tribe and the Tribalization of the State:The Case of Iraq”, Tribes and Power.., Thair Karim,”Tribes and Nationalism:tribal political culture and behavior in Iraq,1914-20,Tribes and Power. (12) سعد البزاز، مقدمة كتاب الدكتور علي الوردي، في الطبيعة البشرية، عمان، الأردن1996، ص18. (13) نفسه، ص15. (14) ميلاد حنا، حديث مرسل عن (قبول الآخر) بين الفطرة الإنسانية والإنتماءات الموروثة، الحياة، العدد13301- 10 آب/ أغسطس1999، ص18. (15) طه باقر، مقدمة في تاريخ.. ، ص381. (16) حنا بطاطو، ج1، ص40. (17) نفسه، ج1، ص36- 37، ص40..،علي الوردي، ج1, ص401- 402. (18) علي الوردي، في الطبيعة البشرية، ص151- 152..، ج1، ص9، ص28- 29..، ج2، ص6..، ج6، ص306. (19) حنا بطاطو، ج1، ص31- 32. (20) نفسه، ج1، ص41- 42. (21) علي الوردي، ج2، ص3- 4..، ج3، ص302- 303..، ج4، ص402. (22) خالد التميمي، دراسة في الزعامة السياسية العراقية- محمد جعفر ابو التمن، ص26- 27. (23) علي الوردي، ج5، ق1، صفحات مختلفة..، علي الوردي، ج3، ص110- 181..، حنا بطاطو، ج1، ص41. (24) حنا بطاطو، ج1، ص42- 43. (25) علي الوردي، ج5، ق1، ص92. (26) حنا بطاطو، ج1، ص43- 48. (27) نفسه، ص50. (28) نفسه، ج1، ص54- 55. (29) عباس النصراوي، الاقتصاد العراقي، ص75، ص173، ص183- 184..، سليم مطر، ص358- 359. (30) للباحث، العراق المعاصر، ص284-285.
#عبدالوهاب_حميد_رشيد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
إشكالية التحول الديمقراطي في العراق- الفصل الرابع
-
إشكالية التحول الديمقراطي في العراق- الفصل الثالث
-
إشكالية التحول الديمقراطي في العراق- الفصل الثاني
-
إشكالية التحول الديمقراطي في العراق- الفصل الأول
-
العراق المعاصر: أنظمة الحكم والأحزاب السياسية- الخاتمة: الخل
...
-
العراق المعاصر: أنظمة الحكم والأحزاب السياسية- ق3/ ف3
-
العراق المعاصر: أنظمة الحكم والأحزاب السياسية- ق3/ ف2
-
العراق المعاصر: أنظمة الحكم والأحزاب السياسية- ق3/ ف1
-
العراق المعاصر: أنظمة الحكم والأحزاب السياسية- ق2/ ف2
-
العراق المعاصر: أنظمة الحكم والأحزاب السياسية- ق2/ ف1
-
العراق المعاصر: أنظمة الحكم والأحزاب السياسية- ق1/ف2
-
العراق المعاصر: أنظمة الحكم والأحزاب السياسية- ق1/ف1
-
العراق المعاصر: أنظمة الحكم والأحزاب السياسية
-
الأحوال الاجتماعية للجالية العربية في السويد- الخاتمة
-
الأحوال الاجتماعية للجالية العربية في السويد- القسم الثاني/ا
...
-
الأحوال الاجتماعية للجالية العربية في السويد- القسم الثاني/ا
...
-
الأحوال الاجتماعية للجالية العربية في السويد- القسم الثاني/ا
...
-
الأحوال الاجتماعية للجالية العربية في السويد- القسم الثاني/ا
...
-
الأحوال الاجتماعية للجالية العربية في السويد- القسم الثاني/ا
...
-
الأحوال الاجتماعية للجالية العربية في السويد- القسم الثاني/ا
...
المزيد.....
-
-عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
-
خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
-
الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
-
71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل
...
-
20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ
...
-
الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على
...
-
الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية
...
-
روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر
...
-
هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
-
عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|